السبت، 21 سبتمبر 2019

الصاعقة (2).. من ملفات المخابرات العامة

الصاعقة (2)
من ملفات المخابرات العامة

انفرد بتفاصيلها وأعدها للنشر: ابراهيم نافع

جريدة الأهرام - الاثنين 19 أكتوبر 1998م - 28 جمادى الآخرة 1419هـ
(بالتزامن مع جريدة الحياة اللندنية فى نفس اليوم)

قصة هشام محجوب.. جاسوس إسرائيل الذى استخدمته مصر فى عملية الخداع الاستراتيجى قبل حرب أكتوبر
السنجاب المصرى يقع فى براثن الموساد والمخابرات العامة تبدأ عملية المطاردة فى لندن

(2) مطاردة السنجاب! 

فى إحدى حجرات مبنى المخابرات العامة، كان أفراد المجموعة التى تتابع الموضوع، قد انهمكوا فى مناقشة تفاصيل هذه العملية، التى اكتملت بداياتها، وتنبيء بأن الموساد وجد منفذا إلى عميل جديد.
وكانت كل الاحتمالات موضوعة على المائدة، أحدها أن تتم متابعة تحركات هشام فى القاهرة، فإذا ما أخذت عملية جمعه للمعلومات بعدا معينا، يتم القبض عليه متلبسا، ويواجه باتصاله بعناصر الموساد فى لندن، أما الاحتمال الثانى فكان أن يترك لينفذ كل تكليفات الموساد، ومن هذه العملية يتعرف أفراد الجهاز المصري، على نقاط اهتمام وتركيز العدو، والمعلومات المطلوب وصولها إليه أما الاحتمال الثالث فأن يتقدم هشام للإبلاغ عما حدث ويعتبر بذلك مواطنا مصريا يتمتع بالوطنية فيتم تكليفه بالعمل كعميل مزدوج.
ثم كان الاحتمال الرابع، الأكثر تعقيد، والذى يقوم على فكرة الاستخدام العكسى للجاسوس، أو معرفة طبيعة التكليفات الموكلة إليه، دون أن يدرى ثم إمداده بمعلومات مضللة، بما يربك قيادة العدو، ويشوش تفكيرها أى اعتبار الجاسوس كالقناة، كما تنقل خلالها تكليفات من جانب العدو، يتم تسريب معلومات كاذبة ـ خلالها ـ من جانبنا الى العدو.
وهشام حتى هذه المرحلة، لم يتورط فى شيء، فقد كان ما حدث هو مجرد لقاءات ووعود، وستمائة دولار دفعت بإيصال، كما لم يتلق الجانب الإسرائيلى بعد أية معلومات، بل ولم يشرع فى إعطاء هشام التكليفات الحقيقية الكبيرة اذن.. الفأر مازال طليقا حرا لم يدخل بعد إلى المصيدة، وإنما كان قد تلقى الطعم وابتلعه.
ولأن مثل هذه المساحات ليس فيها مجال للهزل، أو التراخي، فإن التحرك يحسب على احتمال الواحد فى الألف، ومن ثم فقد بدأت المراقبة المستمرة للهدف، بدءا من اتصاله بضابط الموساد الاسرائيلي، الذى حمل اسم ادوارد كوشير، وصفته رجل اعمال انجليزى مسيحى من أصل لبناني! 
كان الاسم الكودى الذى أطلق على هشام فى جهاز المخابرات العامة المصرى هو (السنجاب)، تشبيها له بذلك الحيوان الذى يمضى وقته فى جمع ثمار البندق والكستناء فى حدائق لبنان، ليخزنها ويخبئها ويستعملها فيما بعد، بالضبط مثلما يفعل الجاسوس حين يجمع المعلومات، ومن ثم فقد وضع السنجاب تحت المراقبة الكاملة، لمعرفة أى تطورات تطرأ على علاقته بالإسرائيليين.
***

وفى الاسبوع الأول من يونيو عام 1972 عاد هشام محجوب إلى القاهرة، ومعه والده الذى كان مازال يتلقى علاجا بالمواد الكيمائية وذلك لاستكمال علاجه بالقاهرة
كانت القاهرة تصطخب بمشاعر وأفكار عجيبة، إذ كانت ـ على الرغم من مرور شهور سته ـ مازالت تحت تأثير مظاهرات الطلبة والعمال الهائلة، واعتصام ميدان التحرير الشهير، وصيحات الاحتجاج، والاتهامات بالتراخي، بسبب عدم قدرة القيادة السياسية على أن تبر بوعدها فى أن يكون عام 1971 هو عام الحسم!! 
بلد بأكمله يقف على أطراف أصابعه، وتشكل مانشيتات الصحف منظر حياته اليومية، وحالته العصبية والمزاجية الجماعية!! 
الجرائد هذه الأيام كانت تعج بأخبار وأفكار ساخنة: 
محمد حسنين هيكل يكتب فى مقاله بصراحة متناولا كيف هزمنا فى عام 1967 ولماذا هزمنا، وما الذى هزم فينا، وأين الطريق لتصحيح الهزيمة؟ ويقول أن هذه الأسئلة راودته ولم يتوصل لإجابات كاملة عنها!!.

والأهرام يعلن عن أجرأ عملية فدائية فى أرض العدو.. وأن ثلاثة يابانيين من صفوف المقاومة الفلسطينية حولوا مطار اللد إلى جحيم من النيران،27 قتيلا بينهم أكبر علماء الجيش الإسرائيلي.. الجرحى أكثر من 80 نصفهم فى حالة خطرة.. عاصفة من التفجيرات تستقبل نيكسون،12 تفجيرا أصاب أحدها مستشار الرئيس الأمريكى لشئون إيران.. العراق تؤمم شركة النفط العراقية.. وسوريا هى الأخرى تؤمم شركة النفط السورية.. القذافى يعلن أن مفتاح حل مشكلة احتلال الأراضى العربية فى يد السادات الذى تتوافر لديه استعدادات للمعركة أكثر من أى وقت مضي.. مسئول مصرى يعلن أن المناورات العسكرية المصرية مستمرة منذ 6 شهور.. زلزال فى القاهرة شعر به كل السكان لقوته.. غرق معدية فى النيل تحمل 50 شخصا قرب بنها إسرائيل تهاجم لبنان بقوات برية وجوية وتأسر 5 ضباط سوريين، وآخر لبنانيا، وتتسبب فى مصرع 18 شخصا.. مجهول يلقى قنبلة على السفارة المصرية فى روما.. رئيس الأركان الاسرائيلى يشير الى حشود مصرية على الحدود، ويطالب برفع درجة الاستعداد). 
كان هذا هو شكل مصر المحروسة وقت أن عاد هشام على محجوب إليها محملا بأول تكليف لجمع المعلومات حتى وإن كان بريئا،. حتى وإن كان محدودا.، إذ أن الموضوع كله كان بالون اختبار لقدرات هشام، ولمدى التفات المخابرات المصرية إليه وإلى بدء إتصالاته بالموساد.
***

وفى الغرفة التى اجتمع فيها أفراد المجموعة المكلفة بالعملية، كانت الخطط قد وضعت لمطاردة السنجاب فى القاهرة، والوقوف على كل تفاصيل تحركاته.
فى بداية وصول هشام للقاهرة، نزل فى فندق كليوباترا فى ميدان التحرير لمدة ثلاثة أيام حتى ينتهى من مهمته، لم يكن يدرى أنه يقوم بمهمة ذات طابع سري، ولكن فقط كان يود أن ينجز بسرعة، وبكفاءة بعيدا عن ضجة البيت عند أمه وزيارات الأقارب والأصدقاء.
وفى الفندق كان أحد رجال المخابرات المصرية، يجلس فى صالة الاستقبال كواحد من موظفيه، لاستلام هشام عندما يدخل، وعندما يخرج يسلمه لزميل له على مقعد سيارة أجرة فى منطقة انتظار السيارات ليبدأ فى ملاحقته من ساعة خروجه من الفندق، وركوبه سيارته، أو أول سيارة أجرة، وكانت السيارة الأجرة الواقفة فى أول طابور انتظار التاكسى ـ نفسها ـ بقيادة أحد رجال جهاز الأمن المصري.
ولم يتركوه لحظة واحدة، وهو يتجول على مكاتب السماسرة، للسؤال عن أسعار الأراضي.، أو مكاتب موظفى التليفونات للبحث عن خط تليفونى بطرق ملتوية إبان ازمة التليفونات المستعصية بل أنهم لم يتوقفوا عن متابعته حتى إذا صعد أحد مكاتب السماسرة، حيث كان لابد أن يصعد وراءه أحد رجالنا ليعرف بالضبط أين صعد، ومع من تكلم أو تعاقد، وحتى مكتب السمسرة نفسه سوف يكون موضع تحقيق دقيق بعد انصراف الشخص المراقب! 
حتى احتمال أن يكون رجل الموساد قد درب هشام بعيدا عن أعين رجال المخابرات المصرية على فنون الهروب من مطاردة السيارات، لم يترك دون احتياط، فإذا لجأ هشام إلى إجراءات تأمينية ليعرف ما إذا كان أحد يلاحقه أم لا، كان يدخل ـ مثلا ـ فى شارع سد بالسيارة، ليعرف ما إذا كانت السيارة خلفه ستدخل هى الأخرى أم لا، أو أن يقوم باللف حول ميدان  Round about مرتين أثناء قيادته للسيارة، أو حتى بالتاكسى الذى يركبه فإذا قامت السيارة خلفه باللف مرتين عرف أنها كانت تتابعه وتطارده، وبالتالى يتجه وجهة اخرى أو يعود أدراجه، وهنا يجب أن ينسحب رجل الأمن ويتصل بسيارة أخرى من أقرب نقطة لتتولى من جهتها المراقبة والمتابعة.
وعلى الرغم من أنه ثبت أن هشام لم يدرب على تقنيات الهروب من المتابعة إلا أن المراقبة استمرت لحظة بلحظة، وكانت حصيلتها بالتحديد أن معظم الأماكن التى سأل هشام عن أسعار إيجارات المكاتب فيها والتى أخبره إدوارد أنها ستكون مناسبة لمقر الشركة، كانت تقع على طرق رئيسية التى درجت القوات المسلحة على استخدامها ليلا لنقل العتاد والجند، أثناء التحركات أو المناورات.
أما أماكن قطع الأراضى التى كلفوه بالسؤال عنها لبناء المصنع، فكانت كلها تقريبا فى دائرة واحدة، تقع حول، أو فى منطقة كوم أوشيم بمحافظة الجيزة، وهى تلك المنطقة التى توجد بها قاعدة، تدخل ضمن نطاقات الدفاع الجوى عن القاهرة الكبرى!! 
***

وبعد أن أمضى هشام محجوب ثلاثة أيام فى الفندق، ذهب إلى شقة أسرته وأمضى هناك بقية أيام الشهرين اللذين أمضاهما فى القاهرة.
فى أواخر أيام الاجازة كان هشام تواقا للعودة الى لندن، وتوصيل المعلومات المطلوبة إلى إدوارد كما يتحصل منه على دفعة مالية جديدة وبخاصة أن زوجته كانت قد اتصلت به من لندن وطلبت منه مبلغا إضافيا لمصاريف العلاج.
لم يعد هشام ملتفتا فى الكثير أو القليل، إلى عمله فى مصر للطيران، كل ذرة من تركيزه كانت منصبة على العمل مع إدوارد، وذلك الجو الفخيم، المليء بموائد العشاء الفاخر، فى أكبر الفنادق، وأهم أنواع النبيذ، ونوادى القمار، وآفاق الأهمية التى تنبيء بها.
وطوال المسافة التى قطعتها الطائرة به فى نهاية إجازته إلى لندن، لم يكن فى ذهنه شيء سوى مدى رضاء إدوارد عنه، عندما يعود اليه بالمعلومات ولم يكن فى ذهنه أن عيون رجال المخابرات المصرية تتابعه خارج وداخل البلاد.
هذه المرة حمله التاكسى من المطار إلى فندق شديد الفخامة اسمه السافوى كورت، وكان إدوارد قد اتفق معه على أن ينزل فيه لدى عودته من القاهرة، وأن (الشركة) ستقوم بدفع الحساب!! 
والحقيقة أن إدوارد كان يحرص من وراء اختياره لهذا الفندق بالذات، إلى تحقيق عدة أهداف فى وقت واحد: أولها أنه بعيد عن فندق رويال لانكستر، الذى اعتادت أفواج مصر للطيران النزول فيه فى ذلك الوقت، والذى كان هشام دائم التردد عليه للالتقاء مع أعضاء الأطقم أو اصطحابهم إلى الخارج.. ثم أنه فندق مبهر بالفعل والاقامة الملوكى فيه تدخل خطة إبهار هشام التى بدأت بكازينو البلاى بوي، وهو ـ كذلك ـ يقع أمام فندق ستراند مباشرة (وهو فندق كما سنرى له مداخل ومخارج مختلفة وعجيبة، يمكن أن تستخدم بنجاح فى عمليات تأمين اللقاءات وأخيرا فإن وجود المدخل الخاص (حارة صغيرة) فى فندق سافوى كورت يجعل أية عملية مراقبة ـ إذا أراد صاحبها ألا تنكشف ـ أن تبدأ من شارع ستراند، أى خارج الممر، وبالتالى فإن هشام أو إدوارد، يمكن أن يستقل تاكسيا من داخل هذا الممر ويمرق به إلى الشارع العمومى من دون أن يلاحظه أى مراقب!!
***

أنهت موظفة الاستقبال إجراءات تسجيل وصول هشام، بينما، هو يلقى بنفسه على أحد المقاعد المتناثرة فى الصالة على أرضية مربعات من الرخام الأبيض والأسود، تناثرت عليها سجاجيد قديمة، ورفع ناظريه إلى السقف الذى ترصعه 12 نجفة أثرية من الزجاج المصنفر والنحاس الأوكسيديه، وأخذ يسلى نفسه بمراقبة الداخل والخارج من البابين الدوارين، اللذين تعلو كل منهما من الداخل نصف دائرة من زجاج أخضر فاتح، واللذين يفضيان إلى الممر الخارجي، حيث يوجد سافوى تياترو، أو مسرح سافوى ومجموعة من المتاجر الفخيمة، وموقف لسيارات الأجرة السوداء التقليدية، يعلوه سقف شفاف من الزجاج المصنفر.
كانت التعليمات إلى هشام واضحة.. الا يتصل بإدوارد وأن ينتظر أن يتصل به إدوارد، بحجة أن رأفت دائم التردد على مكتب إدوارد ولا يجب أن يعرف شيئا عن اتصال هشام بالمكتب، حتى لا يقحم نفسه على البيزنيس الجديد.
إذن فسوف يبقى هشام أسيرا داخل هذا الفندق الجميل، إلى أن يحدث الاتصال الموعود.
***

ومر يوم بأكمله دون أن يحصل هشام على الاتصال، وبدأ هشام يمضى معظم الوقت فى غرفته، إذا هاجمته هواجس مبررها أنه إذا جلس فى صالة الاستقبال، فقد لا يسمع النداء الصوتى إذا ما جاءته المكالمة.
وحين رن جرس التليفون فى غرفته، فى اليوم التالي، كان أجمل ما سمع هشام فى حياته، قفز من على سريره، والتقط السماعة بفرح فوار، وعلى الجانب الآخر من الخط كان صوت إدوارد، يسأله عن صحته، وهل أنجز جمع المعلومات اللازمة.. ثم يضرب له موعدا فى مطعم ريفر، ولما سأله هشام عن مكان هذا المطعم، ضحك بصوت عال، قائلا إنه تحتك يا هشام، فى نفس الفندق.
وفى الثامنه مساء (الموعد المضروب) كان هشام قد ارتدى حلة رمادية غامقة ورابطة عنق فاخرة الألوان، وهبط إلى مطعم ريفر، حيث مدخله من ردهة الاستقبال، حيث هبطت به عشر درجات سلم، إلى باب خشبى بزجاج على شكل مربعات.. وبينما على جانبى السلم درابزين من الحديد الأسود المشغول، والمجموعة كلها ـ أفضت به إلى بهو رحب جدا تتوسط سقفه نجفة اثرية ضخمة جدا، وتتناثر فيه المقاعد، والأرائك ذات الألوان الداكنة وفى الركن ساعة أثرية ايضا (تيمفوس فوجيتسل)، ووراء هذا الباب بيانو أسود حوله جدران مغطاة بورق حائط مشغول منه فيه، باللون السالمون الفاتح، وحول هذه القاعة 25 عمودا رخاميا من الجرانيت الوردى الفاتح المعروق بعروق غامقة.
وبعد هذه الردهة كان المطعم الكلاسيكى الجميل (ريفر).
حياة هشام الآن ـ أصبحت الفرجة والإستمتاع، بهذه المطاعم والفنادق، ومحاولة إرضاء إدوارد والحصول على ثقته.
وعلى مدخل المطعم كان إدوارد فى انتظاره، يرحب به على الطريقة العربية، مقبلا إياه على خديه الأيمن والايسر، بما لفت أنظار المحيطين، إذ كانت تلك التقاليد العربية غير معروفة ـ بعد ـ فى بريطانيا.
جلس الصديقان على مائدة فى مكان بارز، واستمع إدوارد إلى الحصيلة التى رجع بها هشام، ولفت نظره دقتها هذه المرة بسيل متتال من الاسئلة يغلفها بعبارات تقدير عن إنجاز هشام.
عمل عظيم ومجهود رائع.. سوف تقوم الشركة بدراسة جدوى المشروع، على ضوء المعلومات التى قدمتها.. ولكن الشركة تريد بعض المعلومات عنك، وعن شهادتك وأسرتك.
وهنا أجابه هشام.. والدى ضابط فى القوات المسلحة لواء على المعاش الآن، ولى ثلاثة أخوة من الذكور، واحد ضابط فى القوات المسلحة، والثانى مهندس، والثالث موظف وسبق له الخدمة كمجند بالقوات المسلحة.
وواصل إدوارد الضغط على هشام بالأسئلة: فى أى سلاح كان والدك يخدم.. وما هو وقت خروجه إلى المعاش، وهل مازال يلتقى زملائه القدامى وتلامذته.. وأين يخدم أخوك، وفى أى سلاح، وهل ينتظر أن يتم تجنيد أخوك المهندس كضابط احتياط. 
وكان هشام يجيب، والخاطر المسيطر عليه أن يرضى إدوارد، وأن كل هذه الأسئلة للتعرف على مستواه الاجتماعي، إذ ربما يكون للوظيفة المنتظرة جانب يحتاج الى مثل هذه المعلومات!! 
وطلب إدوارد من هشام أن يشرع فى تأجير شقة خالية فى القاهرة، وأن يزودها بجهاز تلكس، وتليفون، وأعاد عليه التأكيد استعداد الشركة لدفع الرشاوى المطلوبة، كما طلب منه أن يحاول توطيد علاقته ببعض العاملين بمصر للطيران، إذ ربما سنحتاج إلى مهندسين ميكانيكيين فى الشركة، وأخيرا فإن إدوارد لوح لهشام بأنه قد يلتقى خلال أيام بمدير الشركة البلجيكية.
وأخيرا، بينما هشام يتابع فى اهتمام لاهث، قال له إدوارد ان كل مقابلاتنا، بدءا من الآن، ستتم فى فندق ستراند المقابل لفندق سافوي، وعلل إدوارد هذا بأنه رجل معروف فى مجال البيزنيس ولا يريد أن يرصد أحد من منافسيه تحركاته، إذ ربما يؤدى ذلك إلى استنتاجهم طبيعة نشاطه المقبل.
وكان هشام قد عطل عقله تماما، وأصبح على استعداد لقبول أى اشياء تقال بسهولة حتى ولو كانت مجرد كلام فارغ.
ولكى يدعم إدوارد استقرار هشام الداخلي، وارتباطه اعطاه مرتب شهرين مرة واحدة بايصال بدون تاريخ، وابلغه أن التعيين سيتم فور مقابلته لرئيس الشركة البلجيكية. 
وخرج هشام بعد ذلك العشاء وهو يشعر أنه على أبواب أهم مراحل حياته.. على ابواب النجاح الحقيقى.
.......................

وفى اليومين اللذين تليا ذلك اللقاء المفصل، عاد هشام إلى انتظار مكالمة إدوارد التى سيخبره فيها بموعده مع رئيس الشركة البلجيكية.
وكالعادة مر هشام بفصول الملل كلها، وهو ينتظر مكالمة إدوارد ثم جاءه أخيرا صوت إدوارد يقول عندى خبر سار لك لقد وصل الى لندن مدير الشركة البلجيكية، وعليك بالحضور غدا صباحا لمقابلته فى فندق ستراند بالاس، حيث ينزل، وأن تكون آخر شياكة، وتلبس أفخر ما عند ملابس، وسيكون الموعد فى العاشرة، حيث ستجدنى فى انتظارك فى بهو الفندق.
***

وفندق ستراند بالاس ـ هذا ـ هو فندق عجيب يشبه بيت جحا، وقد أنشيء عام 1909، إذ أن جميع المحلات خارجه (جولد سميث للساعات والكريستال ـ ولويد بيكر للجلود ـ وهاوس أوف جيونيسكى للهدايا الإنجليزية التقليدية، لها مداخل بعتبات من الفسيفساء الأبيض والأسود، ولها مخارج تقع فى داخل الفندق نفسه، أى أن الإنسان يمكن أن يستخدم أحدها لدخول الفندق من دون أن يتوقع ذلك أى أحد يراقبه، إذ سيظل القائم بالمراقبة يتصور أن الهدف دخل إلى المحل ولم يدخل الفندق.
ومن ناحية أخرى فإن قهوة وبار جونستون فى شارع ليج ستريت الجانبى تفضى هى الأخرى إلى داخل الفندق من الجانب المقابل، أى إلى ردهة استقبال الفندق التى تقع فى المنتصف ثم يوجد مخرج جانبى يفضى بك إلى خارج الفندق من الناحية اليسري.
أى أنك يمكن أن تدخل من جونستون كافيه، وتخرج من إكسترا ستريت، أو تدخل من الباب الرئيسى وتخرج إما من جونستون كافيه، أو إكسترا ستريت، أو تدخل من أى محل، وتخرج من أى مخرج.
وكل هذا مناسب جدا للتمويه، وإجراءات تأمين المقابلات فضلا عن أن الموقع قريب جدا من الفندق الذى خطط الموساد لإقامة هشام فيه وهو سافوى كورت.
.......................

وفى الموعد المضروب عبر هشام محجوب الشارع الذى يفصل بين الفندقين، وابتاع علبه سجائر، وجريدة صباحية إنجليزية ثم دلف إلى فندق استراند من أحد المداخل الفرعية عبر قهوة جونستون.
وانتظر هشام فى بهو الاستقبال الكبير لمدة عشر دقائق، انتابه فيها قلق كبير، ولكن بظهور إدوارد انفرجت أساريره، كأنه وجد معشوقته وحبيبة قلبه!! 
وبادره إدوارد قائلا سوف نذهب الآن إلى الشقة التى ينزل بها مدير الشركة البلجيكية.
وسأل هشام باستغراب ألم تقل أنه ينزل فى فندق إستراند بالاس؟! 
فأجابه إدوارد لقد وجد بالأمس شقة مناسبة انتقل إليها لأن إقامته فى لندن سوف تطول قليلا.
وعلى باب الفندق أوقف إدوارد تاكسيا، وطلب منه الذهاب إلى هاى ستريت أوف كينزنجتون.
وما إن نزل الرجلان، من سيارة الأجرة، حتى راح إدوارد ينبه هشام الى ضرورة التحدث مع المدير بلغة إنجليزية راقية، ومراعاة أصول الاحترام واللياقة.
وانعطف إدوارد من الشارع الرئيسى ليدخل إلى حديقة كينزنجتون من بوابة بالاس جيت، كان حيث شارع بالاس جرين.. وكأنه أثناء تلك التمشية يكتسح كل شيء حوله بنظره، فيما كان هشام يستجمع نفسه قبل لقاء الرجل الذى سيمنحه الاستقرار المادي، وآفاق نجاح بلا حدود.
.......................

توقف إدوارد فجأة ـ أمام مبنى قديم عمره أكثر من مائة عام، وصعد مع هشام درجتى سلم، قبل أن يقرع الجرس، فيفتح الباب.
وما إن دخل هشام نصف خطوة إلى الداخل، حتى فوجئ بأربعة من الحراس المدججين بالسلاح يفتشونه ذاتيا، ثم يقتادونه إلى مكتب أغلقوه عليه، بينما اختفى إدوارد تماما.
وبعد ساعة كاملة حضر أدوارد ليخاطب هشام بعبارة حازمة ولهجة خشنة لم يعتدها منه، من قبل: 
أنت ـ الآن ـ يا عزيزى فى السفارة الإسرائيلية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.