‏إظهار الرسائل ذات التسميات أبحاث أشرف السيد الشربينى. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أبحاث أشرف السيد الشربينى. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

الملك زوسر.. مؤسس الأسرة الثالثة

الملك زوسر.. مؤسس الأسرة الثالثة



إعداد الباحث: أشرف السيد الشربينى


هو الملك نترى خنت المعروف باسم (زوسر  Djoser),  ويعد زوسر هو مؤسس الأسرة الثالثة, والذى دام حكمه نحو 29 سنة, حيث حكم مصر من 2630ق.م. – 2611ق.م, وهناك أقوال عن أنه كان الملك الذى عاصره سيدنا يوسف الصديق عليه السلام وفسر له رؤياه, (ولهذا بحث آخر سيتم إعداده بإذن الله عن عصر يوسف الصديق).

 ويعد "زوسر" أول ملك بنى لنفسه مقبرتين:
المقبرة الأولى: بصفته ملكاً للوجه القبلى وكانت على شكل مصطبة ضخمة من اللبن مجهزة بمنحدر عميق وتتبعها عدة حجرات تحت الأرض وهى واقعة فى شمال العرابة المدفونة فى بيت خلاف, وفى هذه المقبرة تم بناء حجرة من الحجر الجيرى, غير أنه على ما يظهر لم يرض بأن تكون مقره الأخير فقام ببناء المقبرة الثانية (هرم زوسر المدرج).

هرم زوسر المدرج:
أما المقبرة الثانية: وهى (هرم زوسر المدرج) فقد قام المهندس المعمارى والوزير العظيم "إمحوتب" ببنائها له عام 2800ق.م بإعتباره ملكاً للوجه البحرى, وقد قام "إمحوتب" ببنائها على الهضبة التى فيها جبانة "منف" وهى المعروفة الآن "بسقارة" التى كانت تعتبر من هذا العصر مهبط العبادة والمقر الأخير لبعض الملوك كما أثبتت ذلك الكشوف الحديثة, وقد تم بنائها على شكل مصاطب مربعة ومتدرجة, وهذه المقبرة تعد أقدم هرم عرف إلى الآن فى التاريخ ويقول بعض علماء الآثار إن هذا البناء هو الحلقة المتوسطة بين المصطبة والهرم الحقيقى, هذا إلى أنها كانت على مقربة من محاجر طرة حيث كان من السهل قطع الأحجار الجميلة لبناء القبور والمعابد, وكذلك كانت قريبة من مقر حكمه.
ويتكون هرم "زوسر" من ست مصاطب وطوله 200 قدم (حوالى 60 متراً) وكل مصطبه أصغر حجماً من التى تحتها لذلك يسمى بـ (هرم زوسر المدرج), وتدل الظواهر على أنه أقام لنفسه مصطبة من الحجر الجيرى المحلى المهذب, ثم بنى فوقها ثانبة أصغر مساحة, ثم ثالثة أقل مساحة من الثانية وهكذا, حتى بلغ عدد المصاطب سبعاً بعضها فوق بعض, غير أن تغالب الدهور قد أغار على السابقة منها فمحاها من الوجود, ولم يبق منها إلا ما يدل على أثرها. وقد أطلق على هذا المبنى خطأ إسم (الهرم المدرج) إذ أن شكله لا ينطبق تماماً على مدلول الهرم الحقيقى. ولا غرابة فى أن "زوسر" رفع بنيان قبره إلى هذا الحد, لأن فى ذلك معنى عميقاً, إذ كان يريد علواً فى الممات كما كان فى الحياة. فكان غرضه أن يشرف قبره على قبور رجال بلاطه, وعظماء دولته, التى كانت حول قبره, ويكون أول بناء ترسل الشمس أشعتها عليه من كل جوانبه عندما تشرق فى الصباح, وبخاصة إذا علمنا أن الإله الأعظم لهذه المنطقة فى هذا العصر هو الإله "آتوم" الذى أصبح فيما بعد إله الشمس بكب معانيها.
وقد أسفرت البحوث الأثرية التى قام بها علماء الآثار فى الجزء الأسفل تحت الهرم المدرج, وما حوله عن معلومات وثروة أثرية لا تقدر بقيمة. فقد عثر فى جوف الصخر الذى تحت مسطح الهرم, على حجرة الدفن العظيمة المكسوة بالجرانيت, وعلى حجرتين مرصعتين بألواح صغيرة من القاشانى الأزرق, وقد كانتا معروفتين منذ زمن بعيد. وتعد الطريقة الفنية الحاذقة التى نسقت بها هذه الألواح فى الملاط بالغة حد الإعجاب والدهشة ودالة على ما وصل إليه القوم من المهارة الفنية فى هذا العصر, وهذه الألواح كان سطحها الخارجى مقوساً بعض الشئ, وكان فى ظهر كل منها ثقبان صغيران, يوضع فيهما خيط من القنب يلصق بالملاط. وقد أمكن بالألقاب الرسمية التى وجدت منقوشة على إطارى باب الحجرتين, أن نحدد بالضبط تاريخهما, ولكن أحد ولكن أحد علماء الآثار قد شك فى لون القاشانى الأزرق, والمهارة العظيمة التى رصعت بها هذه الألواح, وكذلك إسم الملك "زوسر الحورى" "نبت معات" يرجع تاريخها إلى عصر هذا الملك. وفى إعتقاده أن هذه ترميمات, وإصلاحات عملت فى عهد الأسرة السادسة والعشرين, أى فى عهد النهضة المصرية الأخيرة. غير أن هذا الرأى قد دحض نهائياً بالكشوف الحديثة, ولم يأخذ به أحد من العلماء. وذلك لأنه فى عام 1927 عثر فى الجهة الجنوبية من الهرم فى جوف الأرض, على مقبرة أخرى تحتوى على حجرة دفن من الجرانيت, وعلى عدد عظيم من الممرات والحجر المستطيلة الشكل معظمها مزين بألواح من القاشانى مشابهة لما وجد فى المقبرة الأولى, ووجد منقوشاً على إطارات الأبواب "نترخت", وهو لقب الملك "زوسر", ووجد فى إحدى الحجر ثلاث لوحات كل منها على شكل الباب الوهمى, وعلى كل مثل الملك "زوسر". ولا نزاع إذن أن هذا القبر هو لمؤسس الأسرة الثالثة.
 وقد قام بتقليد هذا البناء ابنة زوسر الثانى وآخرون وربما كان الملك حونى آخر ملوك الأسرة الثالثة هو من حاول ان يشيد بناء شبيها فكان هرم ميدوم ثم جاء سنفرو أول ملوك الأسرة الرابعة فبنى مهندسوه هرمى دهشور وكانت عملية بناء الهرمين هى المدرسة العملية التى أهلت مهندسى ابنه خوفو لبناء هرم الجيزة الأكبر وتجنبوا هذه المرة اخطاء سابقيه ثم توالى بناء الأهرامات‏.‏
وبناء هرم زوسر يعتبر رمزاً.. فقد جاء مئات العمال من كل أنحاء مصر لبنائه تأكيداً على وحدة مصر.

زوسر وأول تعديلات دستورية:
كان "زوسر" أول حاكم يصدر ما يسمى "بتعديلات دستورية" أو "حِب ست" وهى مجموعة من التعديلات شملت 13 مادة جاءت فى المقام الأول لتحدد صلاحيات الحاكم والتنازل عن بعض هذه الصلاحيات لرئيس البلاط الملكى "رئيس ديوان رئاسة الجمهورية حالياً" وللكاهن الأعظم "رئيس الوزراء الحالى" بالإضافة إلى وضع حد أقصى لفترة الحكم والتى كانت بلا سقف إذ تنتهى بموت الحاكم، وكان هذا السقف ثلاثين عاما ويتم الاحتفال بالملك عند إتمامه هذه المدة.

الجيش فى عهد الملك زوسر:
بدأ يكون للبلاد جيشاً ثابتاً منظماً منذ أوائل الأسرة الثالثة, وليس لدينا من الآثار ما يدلنا على وجود جيش موحد لكل البلاد المصرية قبل عهد "زوسر" وذلك لقلة المصادر, ومما لا نزاع فيه أنه كان لملك الدلتا جيش, وكذلك كان لملك مصر العليا جيش, ولكن يغلب على الظن أن جنود كل جيش لم يكونوا خاضعين للملك. بل كانوا يجندون من المقاطعات, التى كانت مقسمة إليها البلاد فى هذا العصر وكان يقود جند كل مقاطعة حاكمها لمساعدة مليكه وقت الحرب.
ولما تولى "زوسر" حكم البلاد, ووطد السلطة الإدارية فى يده, كان لابد له من جيش قائم فى البلاد ليمكنه من القبض على ناصية الحال فى داخل البلاد وخارجها, وفعلاً عثر على نقوش فى عصره تثبت وجود مصلحة خاصة لإدارة شئون الجيش.
وكان أهم ما عنى به هو حماية البلاد من الغارت الأجنبية, التى كانت تجتاح البلاد من أطرافها, وبخاصة من أهل البدو. ولذلك قسم حدود البلاد إلى مناطق أطلق عليها إسم (أبواب المملكة) وجعل فى كل منها حامية, وهذ التسمية تنم عما يقصد بها أى أنها كانت المواطن التى يمكن أن ينفذ منها العدو إلى داخل القطر. وقد نصب على كل من هذه حاكم خاص يلقب (مرشد الأرض) "سشم تا" وقد كان لهؤلاء الحكام, الكلمة العليا على حكام المقاطعات, وكان فى يدهم إدارة الشرطة كل فى منطقته, ولذلك كانوا مسئولين عن النظام والأمن فى هذه المناطق التى لا يمكن البلاد أن تعيش فى أمان إلا فى ظلها.
ومن أجل ذلك وضعت حاميات ثابتة للمحافظة على الحدود تحت سلطة هؤلاء الحكام (مرشدى الأرض) مباشرة, وقد أقيمت لها المعاقل وكان لكل معقل إدارة عسكرية خاصة, فكان له مخازن غلاله الخاصة التى بها يمكنه أن يقاوم إذا حوصر.
وعلى ما يظهر أن مصر كانت تحصن النقط الضعيفة فى حدودها بإقامة أسوار ضخمة عظيمة الإمتداد, من ذلك يروى أن الملك "زوسر" أقام سوراً من أسوان إلى الفيلة يبلغ طوله نحو 12 كيلو متر ليضمن سلامة حدوده الجنوبية.
ووما يدل على حرص فراعنة هذه الأسرة على حفظ النظام فى داخل البلاد والقضاء على الخصومات التى كانت تقوم بين الوجه القبلى والوجه البحرى, ما أقامه ملوكها من الحصون لكبح جماع أى عصيان أو ثورة داخلية, ولا أدل على ذلك من القلعة التى بناها "زوسر" وأطلق عليها إسم "بطولة البحرين".

بعض آثار زوسر:
وقد عثر على تمثال جميل للملك زوسر فى سردابه, وكذلك كشف عن عدة مبان له وبخاصة معبده الجنازى ومقبرة إبنتيه, وهذه المبانى تضع المهندس الذى وضع تصميمها فى أعلى مرتبة من الشرف والعلم.
وكذلك تشهد للعمال الذين كانوا يقومون بتنفيذها بالمهارة. والواقع أننا أمام هذه المبانى نشاهد أول خطوة إنتقال فى تاريخ فن المعمار فى تصميم البناء بالأحجار فى وادى النيل, إذ نرى عمدها مضلعة تشبه العمد الدوريكية فى الفن الإغريقى ومزخرفة بزخرف نباتى, ولكننا نشك فى أن روح تلك المبانى منقولة بذاتها عن المبانى التى أقيمت بالخشب واللبن فى عهد الأسرتين الأولى والثانية, وهذا المعمار الذى يعتبر كأنه نوع من النجارة الدقيقة هو الحد الفاصل بين البناء الأولى باللبن والبناء بالأحجار الضخمة التى ساد إستعمالها وبلغت قمتها فى الأسرة الرابعة فى بناء الأهرام والمصاطب. وقد أرسل "زوسر" حملات إلى المحاجر والمناجم فى شبه جزيرة سيناء لإحضار النحاس والفيروز.
ويعد "زوسر" أول ملك توغل فى نوبيا السفلى فيما وراء الشلال إلى المحرقة فى منتصف الطريق إلى الشلال الثانى. وهو الذى ينسب إليه اليونان فتح الإقليم المعروف بإسم "دوديكاشين" أى المنطقة التى تبلغ نحو 143 كيلو متراً من الفنتين فصاعداً.
وقد عثر فى دهاليز هرمه المدرج على أوان من الأحجار الصلبة من المرمر والجرانيت والديوريت والإردواز وغيرها من أنواع الأحجار الصلبة النادرة ويبلغ عددها أكثر من ثلاثين ألفاً غير أن معظمها وجد مهشماً وربما يرجع ذلك إلى زلزال أرضى أو إلى أنها قد كسرت عمداً لأسباب جنائزية. وقد وجد بين هذه الأوانى أشكال تنم عن منتهى الرقى فى دقة الفن وحسن الذوق والأناقة والتنسيق إلى حد يعجز القلم عن وصفه, وقد وجد على بعضها أسماء الأشخاص الذين أهدوها إلى الملك مكتوبة بالمداد الأسود, ولا نكون مغالين إذ قلنا إن قطع الحجر اللازم لصنع بعض الأوانى الكبيرة وتنسيقها ربما إستغرق عاماً كاملاً من مجهود صانع واحد. وقد كان لهذا الكشف أثر عظيم فى تحويل آراء علماء الآثار إلى الأهرام الكبيرة وعما عساه أن يوجد فيها من المخلفات.

المراجع:
موسوعة: مصر القديمة جزء1 , 2   سليم حسن  مكتبة الأسرة 2000 الهيئة العامة المصرية للكتاب
جريدة المصرى اليوم   الجمعة 23 فبراير 2007م

السبت، 21 أغسطس 2010

حصار قصر عابدين.. حادث 4 فبراير 1942

حصار قصر عابدين
حادث 4 فبراير 1942

إعداد الباحث: أشرف السيد الشربينى

نية بريطانيا لإسناد الوزارة للنحاس:
إتجهت نية الإنجليز خلال الحرب العالمية إلى إسناد الوزارة إلى النحاس أو إشتراك حزبه (الوفد) فى الوزارة, وأبلغوا هذه الرغبة إلى جلالة الملك, ولم تكتم الحكومة البريطانية الجهر بها, فقد صرح اللورد هالفكس وزير خارجية بريطانيا عقب تأليف وزارة حسن صبرى بقوله: "وقد كان يسر الحكومة البريطانية لو كان فى الإمكان  إشتراك الوفد فى الحكومة الجديدة".
وفى النصف الثانى من يناير 1942 حدث أن قام حسين حسنى (السكرتير الخاص بالملك فاروق) بمقابلة الملك فاروق فى جناحه الخاص بقصر عابدين وكان الجو مشحونا بأنباء الأزمة الوزارية وتوقع حدوث التغيير فى أى لحظة، ولذلك كان من الطبيعى جداً أن يتطرق الحديث بينه وبين الملك إلى الأزمة السياسية، وإقترح حسين حسنى بأن خير حكومة يمكن أن تتولى أمورها هى حكومة قومية، فالواجب الوطنى يحتم على زعماء الأحزاب أن يتضامنوا ويقفوا صفاً واحداً, حتى يتم تخليص البلاد من عار الاحتلال الأجنبى، وفى حالتنا بالذات، أصبحنا أشد حاجة إلى حكومة قومية لأننا أصبحنا مهددين بخطر غزو أجنبى، فإذا انتصر الحلفاء تكون البلاد صوتاً واحداً فى المطالبة بإصلاح عيوب المعاهدة وأولها الخلاص من الاحتلال الأجنبى, أما إذا كان مقدرا لمصر أن يفرض عليها إحتلال أجنبى آخر، فإن وقوف البلاد صفا واحدا لا يصدر عنها إلا صوت واحد لهو الأمل الوحيد فى تجنيب البلاد أقصى ما يمكن من ويلات الحرب، فأجاب الملك بأنه مقتنع تماماً بهذا الرأى ولكن يوجد صعاب كبيرة دون تحقيق ذلك، ثم سأله عمن يراه خير من يصلح لرئاسة الحكومة وأضاف قائلاً: وطبعا لا مجال للتفكير فى على ماهر، وإقترح حسين حسين إسم بهى الدين بركات باشا فإنه مشهود له من الجميع بالنزاهة والكفاءة، ولذلك فإنه موضع الثقة والاحترام من الكل، وبعد خروج حسين حسنى من عند الملك ذهب إلى مكتب حسنين باشا وكان فى طريقه إلى مكتبه, فرأى من واجب الأمانة فى خدمة الملك أن يفضى إلى حسنين باشا بالحديث الذى جرى بينه وبين الملك, فشكره حسنين باشا وطلب منه موافاته بما يستجد إذا هيأت له الظروف معاودة الكلام فى هذا الموضوع مع الملك.

السبت 31 يناير 1942:
حدثت فى الجامعة مجموعة من المظاهرات, والإضطرابات والشعارات المعادية للقوات الإنجليزية, وكان الملك فاروق - على حد قول السفير لامبسون فى مذكراته - على علم بما يجرى فى الساحة, ولذلك قام السفير مايلز لامبسون بإستدعاء أحمد حسنين باشا فى الحال, وقال له أحمد حسنين أنه مستعد تماماً لإخماد هذه المظاهرات فى الجامعة بشرط أن يتأكد من مساندة الملك له.
وبعد الظهر عاد حسنين ليقول لسير لامبسون أن هذا الأمر ليس له علاقة بالقصر, وأنه ينبغى على حسين سرى أن يفعل ما يريده، وقال سرى أن هذا بلاغ رسمى واضح بأن الملك لم يعد يسانده وطبقاً لذلك فقد رأى سرى بأنه من المفروض أن يقابل أحمد ماهر زعيم الحزب السعدى وهيكل زعيم حزب الأحرار كزعماء للحزبين فى حكومته لكى يخبرهم بأنه فى مثل هذه الظرف يرى أنه ليس هناك بديلاً ممكناً من الإستقالة وفى الوقت الحاضر كانوا يضغطون عليه للإستمرار فى الحكم أسبوعين آخرين وقد صرحوا بأنهم لا يستطيعون ضمان مساندة أعوانهم عند إنعقاد البرلمان، وقد أخبرهم رئيس الوزراء بأنه بات الأمر واضحاً, وأنه يؤكد بكل صراحة أنه اذا إستطاع هو وزملاؤه أن يجابهوا البرلمان فإنهم بالتأكيد سوف يضعون رؤوسهم فى الطين, وبناء على ذلك لا يرضى لنفسه أو لهم بأن يكونوا فى مثل هذا المأزق, وقرر أن ينفض يده.

الأحد 1 فبراير 1942:
وفى صباح يوم الأحد قام حسين سرى بإخبار حسنين باشا بأن موقفه غاية فى الوضوح بالنسبة لتقديم إستقالته بناء على إخطار الملك الصريح بأنه غير مسئول وسحب تأييده لحسين سرى.
فى تمام الساعة 9,15 مساء ذهب السير مايلز لامبسون إلى مقابلة سرى باشا فى منزله، وهناك إعتذر عن حضور حفل عشـاء بمنزل حسين سرى بالطابق العلوى, فنزل حسين سرى لمقابلة السفير لامبسون وكان بادياً على حسين سرى أنه فى أحسن حالته.
وأخذ حسين سرى يشرح بإسهاب أنه كان يأمل فى إجتياز الأزمات التى مر بها فى الأسبوع الماضى, كان من المفروض أن يقوم سرى باشا بدور الوسيط لإقرار أمانى البريطانيين المتبقية والتى تتعلق بعدم بقاء عبد الوهاب طلعت والإيطاليون فى القصر.
وقد طلب من سير لامبسون شخصياً عدم السعى بإلحاح لإثناؤه عن موقفه، وأدرك سير لامبسون  للوهلة الأولى بأنه لافائدة من ترجى القيام بمثل هذا المسعى, وألزم نفسه بالتعبير عن شدة أسفه حتى أصبح مقتنعاً تماماً الآن لإطلاق يده والتصرف بكل حرية وتقديم إستقالته.
وقام لامبسون بسؤال حسين سرى: من الذى قصدته ليتولى رئاسة الوزارة خلفاً لك؟
وأجابه حسين سرى بأنه لا يوجد رئيس وزارة يستقيل من منصبه ما لم تكن لديه أفكار بالنسبة لذلك. وقد إقترح على لامبسون ثلاثة من الأسماء لتولى رئاسة الوزارة: بهى الدين بركات, وهيكل, وأحمد ماهر.
فضحك لامبسون كثيراً وقال له: لابد أنك تمزح.. إن بركات يفى بالغرض, وهيكل لا قيمة له, وأحمد ماهر قدراته محدودة, وعاجز عن النهوض بمهام الحكم.
فكرر لامبسون سؤاله على سرى عن حقيقة ما يفكر فيه؟
فأجاب حسين سرى بلا تردد: أرسل إلى الوفد وكلفه بهذه المهمة.
فقال لامبسون: إن هذا يعكس سلامة التفكير بحق.
ثم تناقش لامبسون وحسين سرى بعد ذلك فى جدول بقية الموضوعات, وبناء على طلب لامبسون وافق حسين سرى على استمراره فى موقع المسئولية حتى ظهر يوم الثلاثاء.
وقال لامبسون: يجب أن أرى الملك قبل إتخاذ أى موقف.
ولكن حسين سرى طلب من لامبسون بإلحاح ألا يفعل ذلك مع الملك وإلا وضعه ذلك فى مأزق حرج, إذا ما فعل هذا. وإقترح حسين سرى على لامبسون أن يرى الملك فاروق فى الساعة الواحدة دون إعتراض على ذلك مراعاة للصداقه بين لامبسون وحسين سرى.

الإثنين 2 فبراير 1942:
إتصل حسين سرى تليفونياً بالسير مايلز لامبسون ليخبره بأنه أجبر على تقديم الإستقالة فى تمام الساعة 12,30 ظهر اليوم.
وحينئذ إتصل لامبسون تليفونياً بحسنين يطلب منه أن يرتب له مقابلة بعد نصف ساعة مع الملك, وحينها شعر لامبسون أن حسنين يحاول المراوغة معه مما جعل لامبسون يتحدث معه بشدة ثم أنهى معه الحوار.
ثم طلبه حسنين تليفونياً بعد ذلك لكى يعتذر له, فأكد له لامبسون بأنه إذا لم أسمع بتغيير الموقف تماماً, فإنه سوف يكون بالقصر فى تمام الساعة الواحدة تماماً من بعد ظهر اليوم.
وفى هذا الوقت كان الجنرال أوكلنك وبقية ضباط القيادة مع أوليفر ليتليتون فى مكتبه, فتحدث أوليفر ليتليتون تليفونياً بالسير مايلز لامبسون, وطلب منه عما إذا كان فى مقدوره الحضور إليهم, فذهب إليهم لامبسون وبرفقته كل من الجنرال تيرنس شون والجنرال سمارت, وجرى بينهم جدال طويل, وأظهر خلاله أوكلنك تردداً عميقاً.
ولقد كان الجنرال سمارت ممتازاً جداً, وكذلك الجنرال ستون Stone, وقام الجنرال أوليفر ليتيلتون بإتخاذ خطوة حاسمة لمساعدة مايلز لامبسون, وذلك بأن وضع القوات العسكرية على أهبة الإستعداد, وكان واضحاً - كعادة العسكريين - بأنه يريد ضمانات يتعذر على لامبسون منحها, مثل عدم حدوث إضطرابات, وردود أفعال سيئة قد تحدث فى البلد.. إلخ.
وعلى أى حال فإن أوليفر ليتيلتون كان مصمماً تماماً على موقفه, وحصلنا على كل ما نريد من هذا الإجتماع, وقد إتخذ لامبسون كل الترتيبات لكى يدبر المقابلة مع الملك فاروق الساعة الواحدة, وأن يضع أمام جلالته بعض النقاط وكانت كالآتى:
1- يجب تشكيل حكومة تكون ملتزمة بتنفيذ كل بنود المعاهدة نصاً وروحاً, وخاصة المادة الخام من المعاهدة.
2- تشكيل حكومة قوية قادرة على إدارة شئون البلاد, ومسيطرة على الشعب وتنال ثقته وعونه.
3- المقصود من هذا هو أن يبعث الملك إلى النحاس كزعيم لحزب الأغلبية فى الدولة وتكليفه بتشكيل الوزارة.
4- التأكيد على أن يتم كل هذا قبل ظهر الغد.
وكانت هناك نقطة خامسة بأن جلالته ينبغى أن يكون مسئولاً مسئولية شخصية عن أى أحداث قد تحدث فى خلال هذا الميعاد المحدد.
***
يقول حسين حسنى فى مذكراته بأنه قبل 4 فبراير بأيام قليلة رن التليفون الداخلى بمكتبه, فإذا بحسنين باشا يبلغه أن الأستاذ مصطفى أمين قادم إليه يحمل أخباراً مهمة ويطلب منه سرعة تبليغها إلى الملك.
وعندما دخل الأستاذ مصطفى أمين على حسين حسنى قال له إنه علم من مصدر يثق به كل الثقة أنه حدث إجتماع مهم فى السفارة البريطانية ضم القادة العسكريين وكبار المسئولين البريطانيين على أثر نبأ بلغ السفارة بأن الملك عازم على إنهاء الأزمة السياسية الحالية بإسناد رياسة الوزارة إلى على ماهر باشا، فأجمع الرأى فى هذا الإجتماع على منع ذلك ولو احتاج الأمر إلى استخدام القوة وعزل الملك، فرأى مصطفى من واجبه إبلاغ ذلك إلى القصر لعرضه على الملك، فقال له حسين حسنى إن الأمر لا يستدعى عرضاً, وذلك لأنه منذ أيام قليلة قابل الملك، وجاء ذكر الأزمة الوزارية وأن من الحلول التى يجرى التفكير فيها تأليف حكومة قومية، وأن الملك قال له من تلقاء نفسه إنه لا مجال للتفكير فى على ماهر، فأعاد مصطفى أمين إبلاغه ما طلبه حسنين باشا وهو وجوب إبلاغ الملك فى الحال، فدهش حسين حسنى لهذا الطلب, لأنه مادام مصطفى أمين قد أبلغ حسنين باشا الخبر مثلما أبلغه إياه فلماذا لا يتصرف حسنين باشا فى الأمر بنفسه، فذهب إلى حسنين باشا فى مكتبه وسأله، لماذا لا يذهب بنفسه لمقابلة الملك لإبلاغه ما جاء به مصطفى أمين؟ فأجابه حسنين بأنه يفضل أن يكون ذلك على يديه لأنه سبق له أن تكلم معه فى موضوع التغيير الوزارى. وكسباً للوقت ذهب حسين حسنى فى الحال إلى جناح الملك وأبلغه بما حدث، فدهش الملك وقال: أنت تعلم ما قلته لك حين جاء بيننا ذكر الوزارة القومية وأنه لا مجال للتفكير فى على ماهر، فيمكنك التأكيد لمصطفى أمين أنه ليس هناك أى تفكير فيه على الإطلاق.
***
قام الملك بإستقبال مايلز لامبسون كما يجب فى تمام الساعة الواحدة بعد الظهر, وكان الملك ودوداً للغاية فى لقائه له كما يروى لامبسون فى مذكراته.
وشرح لامبسون للملك على وجه السرعة سبب هذه الزيارة وكانت معه مذكرة قصيرة بخصوص إستقالة سرى باشا من منصبه, وبصفته ممثلاً للحليفة بريطانيا فى مصر, كان من الضرورى للامبسون أن يخبر الملك أنه من الضرورى ألا يعين خلفاً لرئيس الوزراء ممن لم تكن لديه المؤهلات اللازمة للوفاء التام, وتطبيق نصوص المعاهدة.
ثم قدم لامبسون المذكرة المدون بها النقاط الأربعة إلى الملك, ثم قرأ عليه المادة الخامسة من المعاهدة, لكى يكون حديثه أكثر وضوحاً بعد ذلك.
وقد وافق جلالته بدون تردد, وفيما يتعلق بالنقطة 1 , 2 فهما مناسبتان وضروريتان, وبالنسبة للبند 3 فقد كان على أتم إستعداد لمقابلة النحاس, وقد أشار الملك إلى أن ما يعمل من أجله هو حكومة قومية قوية يتولاها النحاس بإعتباره زعيماً للأغلبية, وقد صرح الملك أيضاً بأنه يعرف أنه لا يستطيع أحد تشكيل مثل هذه الحكومة سوى النحاس, وأن علاقته مع النحاس فى الوقت الحاضر على خير ما يرام, وبالتالى فإن النحاس لن يرفض هذا العرض على أساس التحسن الذى كان قد بدأ فى العلاقات بينه وبين الملك, كما أن أحمد ماهر لديه الحكمة فى أن يقدر المسئولية فى هذا الظرف, فالموقف الراهن لايناسبه فقد كان يتمتع بوجهة نظر معتدلة.
ورغم ذلك فلم يوضح جلالته ما إذا كان سوف يستدعى النحاس للتشاور معه قبل ظهر غد, ويرى لامبسون أنه كان حريصاً على أن يتجنب الإشارة إلى ذلك صراحة.
ثم أضاف لامبسون إلى البنود الأربعة السابقة ملاحظة على جانب من الأهمية, وهو ألا تحدث أى إضطرابات أو شغب فى خلال هذا الزمن المحدد. وقد أشار لامبسون بأنه ثمة بعض الإجراءات الوقائية سوف تتخذ, والتى تؤمن نجاح هذا المخطط, وكما أكد لامبسون على المسئولية المترتبة على أى فشل من جراء ذلك, وقد أظهر الملك موافقته على عدم إحداث أى نوع من التظاهر.
وقد أجاب جلالته بأنه لن تحدث أى إضطرابات وأنه سيقوم بالتنبيه على هؤلاء الطلبة الذين حضروا فى صباح هذا اليوم إلى القصر بأن يعودوا بكل هدوء إلى دروسهم وإلتزام الهدوء.
وقبل مغادرة لامبسون القصر حرص على مقابلة حسنين, وأخبره بكل ما جرى فى هذا اللقاء مع الملك, وأنه يجب عليه أن يتأكد أن جلالته قد قرر ضرورة إستدعاء النحاس قبل ظهر الغد, وقد إعترض حسنين بشدة على هذا الرأى, فقد إقترح أحمد حسنين ضرورة التمهيد لتأليف هذه الوزارة القومية بوزارة إنتقالية على أساس أن الوفد سيكتسح كل الأحزاب الأخرى فى الإنتخابات مما قد يترتب عليه عدم قيام معارضة لتكون بمثابة "فرملة" متى تشكلت الوزارة فى آخر الأمر.
***
وفور عودة لامبسون إلى مكتبه إتصل به الجنرال أوليفر ليتليتون وسأله عما تم فى الموقف؟ فروى له لامبسون كل ما حدث بإختصار, وحينما حضر أوليفر ليتليتون إليه فى حوالى الساعة الخامسة مساء, جلسا سوياً ليتدبرا الأمر, وكان هناك إتفاق بينهم على ضرورة تمسكهم بقوة بإستدعاء النحاس ظهر باكر, ولذلك فقد رأوا بأن الحديث عن الحكومة المؤقتة, وما سوف يليها من تشكيل حكومة إئتلافية فإن مثل هذا الحديث لن يكون ذو جدوى إذا لم يتم إستدعاء النحاس أولاً ثم يقبل ذلك.
وبعد الظهر قام لامبسون بتكليف سمارت Smart بمقابلة أحمد حسنين لكى يستمع منه إلى ما سبق أن قاله له صباح اليوم مرة أخرى, وتحذيره من مغبة التغاضى عن مطالب بريطانيا بشأن النحاس, وألا تكون هناك أية مراوغات, إلا أن سمارت كان قد ذهب إلى فراشه لإصابته بالإنفلونزا أما تيرنس شون الذى طلب منه لامبسون أن يقوم بتلك المهمة, فقد حالت ظروفه أيضاً دون مقابلة حسنين, فطلب لامبسون من تيرنس أن يبعث بخطاب سرى وشخصى إلى حسنين بهذا المضمون.
وبعد تناول طعام العشاء ذهب لامبسون لحضور حفل الهلال الأحمر بإستوديو مصر, وكان من بين الحضور الملكة فريدة, والملكة نازلى, وبرفقتهن بعض السيدات.
عاد لامبسون بعد منتصف الليل بقليل إلى السفارة حيث وجد فى إنتظاره برقية مطولة من الخارجية البريطانية, ويبدوا أنهم قد أرسلوها قبل أن يعرفوا بإستقالة سرى, وإقترحوا فيها النهج الذى يتعين إتباعه من كل من الملك فاروق وسرى, والنحاس أيضاً.
فقام لامبسون بإعداد مسودة برقية للرد على برقية الخارجية البريطانية, أوضح فيها بأن هذه البرقية قد وصلته بعد أن قدم سرى إستقالته بالفعل, وأوضح فيها أيضاً أن قد علم منذ قليل من حسنين, أن الملك سوف يقابله فى الثالثة بعد ظهر غد, وبعد ذلك يقابل زعماء الأحزاب السياسية, وأشار لامبسون فى مسودة الرد إلى أنه ليس من الحكمة أن يقابل النحاس قبل ذلك, خاصة إذا ما حاول أن يعرف منه شروطه المسبقة لتولى الوزارة.
كما أرسل لامبسون برقية أخرى سرية وشخصية إلى أنتونى أيدن أوضح له فيها ذلك التردد الواضح الذى إتسم به موقف قادة بريطانيا العسكريين فى مصر على نحو ما أظهره أوكلنك فى الإجتماع صباح أمس مع أوليفر ليتليتون, وقد إعتقد لامبسون بأنه لا بأس من أن يحاط أنتونى أيدن بالمشاكل والمعوقات التى تواجههم فى, خاصة وأنه كان يسارع دائماً إلى تقديم المعونة والتأييد الشخصى لهم.

صباح الثلاثاء 3 فبراير 1942:
فى صباح الثلاثاء 3 فبراير إتصل أمين عثمان باشا بالسفير البريطانى ليقول له أنه قادم إليه بصفة شخصية فحدد له لامبسون ميعاداً لمقابلته فى الساعة الحادية عشر, وأخبره لامبسون بكل صراحة عن حقيقة الموقف.
وعندما حضر أمين عثمان قال أنه قادم بموافقة النحاس باشا وأن النحاس باشا مستعد تماماً لتولى الحكم إذا ساندته السفارة, فقال له لامبسون بأنه يرى أنه يتعين على النحاس أن يعرف بعض النقاط التى أثارتها وزراة الخارجية معه.
وأن النحاس يجب أن يدرك وجهات نظر وزراء الخارجية البريطانية والتى وردت فى تقرير لها, وأنه سوف يثير هذه النقاط مع النحاس هذه النقاط بشكل مباشر فيما بعد إذا ما ألف النحاس الوزارة بالشكل الذى يريده.
وكان أمين عثمان يتوقع أن النحاس لن يثير أية مشكل تجاه أى من هذه النقاط.
 ثم يسأل أمين عثمان باشا السفير البريطانى: ماذا تقترح أن يفعل النحاس باشا بعد ظهر اليوم فى القصر؟. وكان النحاس باشا قد دعى إلى القصر كغيره من الزعماء لمقابلة الملك.
فقال له لامبسون: إن على النحاس بالطبع أن يبدى رأيه, ولكن الرأى القاطع فى هذا الشأن هو أن يرفض أى عروض بضرورة تشكيل حكومة إنتقالية فهى ليست سوى لعبة من القصر حتى تمر العاصفة.
وقد ذكر أمين عثمان أنه سيعود إلى النحاس باشا ليعرض عليه الموقف ويرى ماذا يقول.
عاد أمين عثمان إلى السفير البريطانى فى الساعة 2,15 بعد الظهر ومعه رد النحاس باشا الذى يتلخص فى أن النحاس باشا كان مستعداً فى وقت سابق لقبول فكرة حكومة محايدة أما الآن فإنه ضد هذه الفكرة تماماً.
وقد قال أمين عثمان للسفير البريطانى أن الوفد سيتعاون مع السفارة حتى لو لم تكن هناك معاهدة وأنه إذا كان النحاس باشا قد تعاون مع السفارة فى زمن السلم مرة فإنه مستعد أن يتعاون معها فى زمن الحرب عشرات المرات ولكن كل ما يطلبه هو أن تطلق يده وأن يكون حراً فى إتخاذ قراراته وخصوصاً ما يتعلق بالقصر.
وفى نهاية الحوار بين لامبسون وأمين عثمان قام لامبسون بإملاء الآتى على أمين عثمان لينقله إلى النحاس:
"على النحاس أن يخبر الملك فاروق بأن الموقف سئ للغاية, حتى أنه ليس لديه أدنى ثقة فى التعاون المخلص للأحزاب الأخرى والخوف من المكائد المحتملة حتى أنه يقترح أن العلاج الوحيد (هو حكومة وفدية بالكامل) حتى يتمكن من أن يتحمل مسئولياته ويستطيع القيام بالمهام المطلوبة منه, ومن ثم فإنه من المستحسن الأخذ فى الإعتبار فيما بعد:
1- حصة معينة من المقاعد فى إنتخابات عامة للأحزاب الأخرى.
2- ومن المستحسن - كرمز للإئتلاف - تكوين هيئة إستشارية من الأحزاب الأخرى".
فيذكر أمين عثمان للسفير البريطانى أن النحاس باشا على أتم إستعداد بعد أن يؤلف حكومة وفدية أن يخصص دوائر عينة للأحزاب الأخرى فى الانتخابات وأن يكون مجلساً إستشارياً من زعماء الأحزاب كنوع من الرمز للائتلاف ويؤكد سير مايلز لامبسون ذلك بقوله: كان هذا هو ما إتفقت عليه مع أمين عثمان باشا وكان هذا ما سيقوله النحاس باشا للملك عند مقابلته له فى القصر.
وبعد أن غادر أمين عثمان دار السفارة, سرعان ما إتصل بالسفير لامبسون تليفونياً ليقول له:
(إننى لم أتمكن من مقابلة النحاس باشا الذى ذهب مباشرة إلى القصر قبل أن أتمكن من أن أبلغه مضمون الرسالة السابقة)
وقبل أن يحين الوقت المحدد فى مساء هذا اليوم, فإذا برسالة تصل إلى لامبسون من وزارة الخارجية البريطانية, تقر فيها الخطوات التى إتخذها والموافقة بدون حدود على كل ما سوف يتخذه من خطوات يرى أنها ضرورية.
فى إجتماع القصر طلب الملك من النحاس بأن يشكل حكومة إئتلافية, ولكن النحاس رفض هذا الإقتراح موضحاً الأسباب والدوافع لقراره هذا, ولكنه عرض البديل لذلك رغم كل الصعوبات التى تكتنف الموقف بتشكيل حكومته الخاصة (وفدية).
وهنا نجد أنه بينما كانت الإتصالات قائمة بين القصر والسفير البريطانى بخصوص عودة الوفد كانت نفس الإتصالات قائمة بين السفارة البريطانية والنحاس باشا بواسطة أمين عثمان لنفس الهدف مع فارق بسيط وهو أن الإنجليز عرضوا على النحاس تشكيل وزارة وفدية خالصة وأصبح الوفد أمام خيارين إما أن يقبل حكومة قومية وفقاً لرغبة القصر أو يقبل حكومة وفدية لحماً ودماً وفقاً لرغبة الإنجليز وإختار النحاس وجهة النظر البريطانية حيث دفع الوفد ثمناً باهظاً من شعبيته وتاريخه الوطنى الطويل.

مساء الثلاثاء 3 فبراير 1942:
وفى السادسة من مساء هذا اليوم عاد أمين عثمان باشا للإتصال بالسفير البريطانى ليبلغه ما جرى فى القصر وما قاله النحاس باشا للملك.
وقد كان أمين عثمان على إتصال مستمر فى تلك الليلة مع السفير البريطانى.
وفى تمام الساعة 7 مساء أرسل لامبسون إلى حسنين لكى يحضر إلى دار السفارة, وأخبره بأنه قد علم بكل ما جرى مع النحاس فى القصر وبأن النحاس رفض تأليف وزارة قومية, وطلب إليه أن يرفع إلى جلالة الملك النصيحة بإنه من المحتم عليه أن يطلب من الملك فاروق أن يستدعى النحاس إلى القصر ويطلب منه تأليف وزارة وفدية, وفى نفس الوقت لا داعى للإنزعاج والإندهاش, إذ أنه سوف يدعو مجلس الدفاع للإجتماع فى تمام الساعة 10 من صباح الغد.
وحاول حسنين - كعادته - أن يتملص من الموقف ويراوغ! ولكن لامبسون أوضح له بكل حزم أن الموقف يحتم عليه ذلك, وأن هذا من صميم عمله, وقبل أن يغادر حسنين دار السفارة كرر له لامبسون القول: بأنه يجب أن يخبر الملك فاروق بأن يستدعى النحاس, وأن يكلفه بتشكيل الوزارة.
فرد عليه رئيس الديوان بأن المسألة بين الملك ورؤساء الأحزاب.
ثم إتصل أمين عثمان تليفونياً بلامبسون, فأخبره لامبسون بكل ما سبق أن ذكره إلى حسنين.
وبعد أن تناول لامبسون طعام العشاء - فى وقت متأخر بعض الوقت - وإستراح قليلاً حتى الساعة 12,15 طلبه أمين عثمان تليفونياً مرة أخرى ليسأله عما إذا كان هنا ثمة أخبار جديدة ولكن لامبسون أجابه بأنه لا يوجد جديد فى الموقف.

صباح الأربعاء 4 فبراير 1942:
إستيقظ لامبسون فى الصباح بينما كانت عيناه منتفخة من النوم وبينما كان يفتح عيناه سمع هنرى هوبكنسون Henary Hopkinson من وزارة الحرب البريطانية وهو صديق قديم للامبسون قد وصل ويلح فى طلب مقابلته على وجه السرعة, وصعد إلى غرفة نومه ليخبره بأن حسنين طلبه تليفونياً, وطلب من هوبكنسون ضرورة مقابلته على وجه السرعة ليناقش معه الخطة التى سوف ينتهجها لامبسون لمواجهة هذه الأزمة.
فرد عليه لامبسون: إذا كنت قد وافقت على الذهاب إلى مكتب حسنين باشا كما قلت لتتحدث فى الأمر فأنا بصراحة لا أوافق على الذهاب إلى حسنين باشا أو أن تراه خاصة بعد أن وصلنا إلى إتفاق تام.
لم يعارض هوبكنسون فالذى يقول هذا الكلام هو الذى يوجه شئون السياسة البريطانية فى هذا الجزء من العالم بعد أن يستأذن رؤساءه فى لندن.
ركب لامبسون وهوبكنسون السيارة لتنطلق بهم إلى مقر إجتماع مجلس دفاع الشرق الأوسط (M.E.W.C.) وفى الطريق إلى مقر المجلس قال لامبسون لهنرى أن هناك وسيلتين لمواجهة مثل هذه الأزمة:
- الأولى: أن نكون حازمين إلى أبعد حد, وأن نرفض أية حلول وسط لتلك التى يعرضها حسنين باشا, وهذا ما فعلته, وأن نحبط أى محاولة للتملص أو المناورة معنا بأى صورة.
- الأخرى: أن تلتزم أنت وجميع المسؤلين البريطانيين المعنيين بحيث نتوخى جميعاً أعلى درجات الوضوح والصراحة, ولست مستعداً فى الإستمرار فى المساومة أو التسويف, وأنى مصمم على خلعه من العرش.
لدرجة أن هنرى هوبكنسون إنزعج حين سماعه هذا القرار, ولكن أعتقد أن هذا أمراً مطلوباً.
ويقول لامبسون بصراحة إذا تدخل آخرون من العسكريين أو من وزارة الحرب فى مشكلة القصر فسوف أُنـَفِض يدى نهائياً منها.
وحينما وصلوا إلى مقر مكتب وزير الدولة حيث مقر مجلس دفاع الشرق الأوسط فى 10 شارع الطلمبات وجدوا الأعضاء الآخرين مجتمعين وقبل أن يبدأ الإجتماع قام لامبسون بإخبار أوليفر ليتليتون: إننى قد إعترضت بشدة على مقابلة هنرى لحسنين, ومناقشته فى الأمر.
فقال أوليفر أنه يوافق تماماً على وجهة نظر لامبسون وكأن شيئاً لم يكن.
أبلغ لامبسون ما دار بينه وما بين هوبكنسون إلى مجلس الحرب وأخذ المجلس بوجهة نظر لامبسون.
ثم إجتمع مجلس دفاع الشرق الأوسط للنظر فى جدول الأعمال, وعندما تعرضوا لموضوع الشئون الخارجية, شرح لامبسون إلى المجلس تطور الأحداث الجارية, رغبة منه فى إستطلاع وجهات نظرهم فى حالة إعطاء فرصة أخرى للنحاس ليقابل الملك, ولقد كانت المناقشة مفيدة للغاية.
ووافق الجميع على أن يقوم لامبسون بمقابلة حسنين فوراً فقام لامبسون بتحديد موعد بالتليفون لتلك المقابلة وعندما حضر حسنين أبلغه لامبسون بهذه الرسالة الشفوية وهى:
"مالم أسمع قبل الساعة 6 مساء اليوم بأنه تم تكليف النحاس بتشكيل الحكومة, فإن جلالة الملك عليه أن يتحمل العواقب".
"…Unless I hear by 6 P.M.to day that Nahas has been asked to form Government, His Majesty King Farouk must accept the consequences".
فـَصًَـل لامبسون الخطة التى سيجرى تنفيذها إذا أصر الملك على عدم تشكيل النحاس للوزارة ودارت مناقشات طويلة وحامية حول هذا الموضوع إنتهت بوضع خطة لمحاصرة القصر بالدبابات وإجبار الملك على التنازل إذا لم يذعن وينفذ هذا الإنذار قبل الساعة 6 مساء.
وعند هذا الحد من النقاش تم تكليف الجنرال ستون Ston بالتعليمات اللازمة ولكى يعطوا له فسحة كافية من الوقت فقد حددوا الساعة 8 مساء لكى ينزل لامبسون وستون وبعض المراقبين متجهين إلى القصر, وعندئذ يخبروا الملك بأنه يجب أن يقدم تنازله عن العرش.
ومن أجل أن نمنع أى اضطرابات أخرى تعوق تنفيذ مهماتهم فقد تم تكليف بعض الحراس بمرافقتهم إلى داخل القصر, وقد ناقشوا كل الإحتمالات والحيل التالية والمتوقع حدوثها, وكانت الخطة واضحة, وهى أنهم سوف يأخذوا الملك معهم بعيداً, سواء تنازل عن العرش أو لم يتنازل, مع ملاحظة أن وثيقة التنازل عن العرش جاهزة مع لامبسون فى جيبه.
ولقد كان هناك نقاش طويل لإتخاذ الترتيبات اللازمة عما يمكن أن يفعلوه مع الملك, وكان الأدميرال قد إقترح بأن يضعوا الملك فى مدمرة حربية كسجن والتحفظ عليه, وهو أنسب مكان له.
ولأن هذه مهمة العسكريين فقد ترك لامبسون أمرها لهم.
وبعد أن تم بحث كل الترتيبات العسكرية المحتلمة لمواجهة الموقف رأى لامبسون أن ينصرف بعد أن كلف قائد الشرطة فيتز باتريك Fitz Partick لكى يتخذ إستعدادات الشرطة للتدخل عندما يحدث أى إحتكاك مع الجنرال ستون, كما أرسل لامبسون أيضاً إلى الجنرال بيزلى Besly لكى يتعاون مع الجنرال والتر مونتكون Walter Monckton
الذى أعد وثيقة التنازل التى ينبغى أن يوقعها الملك فاروق متنازلاً عن العرش والتى راجعها لامبسون مراجعة دقيقة حتى لا تحتوى على أية ثغرة كما أن والتر هونكتون هو الذى أعد وثيقة تنازل الملك إدوارد السابع عن عرش بريطانيا لرغبته فى الزواج من مسز سمبسون.
وعادوا إلى السفارة حيث قام لامبسون بإستدعاء حسنين فى الساعة 12,30 بعد الظهر, وكانت المقابلة لفترة قصيرة جداً, وقال فيه لامبسون بأنه ليس لديه الكثير ليضيفه عدا أنه كان يأمل أن يمارس حسنين باشا ضغطه على الملك فاروق بأن السفارة البريطانية هذه المرة تظهر الضوء الأحمر بكل جدية, وبكل التأكيد على طلبها, ورجاه لامبسون أن يحذر الملك فاروق بأنه يتوقع رداً يتضمن معلومات, بأنه قد أستدعى قبل الساعة 6 مساء, وإلا ستحدث أشياء ليست فى الحسبان.
وكان على لامبسون أن يتأكد تماماً بأن النحاس الذى يصعب دائماً معرفة خط سيره, يكون جاهزاً بعد ظهر هذا اليوم للإستدعاء إلى القصر.
وفى الوقت الذى كان من الصعب فيه على لامبسون أن يعثر على أمين عثمان, تمكن أخيراً من لقائه بدار السفارة فى تمام الساعة الواحدة بعد الظهر, وقد أخبره لامبسوه بما قاله لحسنين, وقال لامبسون لأمين عثمان أنه من المهم أن يكون النحاس جاهزاً وأنه من الضرورى جداً أن يقوم النحاس باشا بإبلاغ السفارة البريطانية بمكانه إذا إحتاج الأمر للإتصال
وطلب لامبسون من أمين عثمان أن يبلغ النحاس نص الكلمات التى قالها لحسنين, ثم أضاف لامبسون قائلاً: آمل ألا يكون النحاس باشا قد تراجع عن موقفه.
وقال أمين عثمان: لن يحدث شيئاً من هذا القبيل, بل أن النحاس يطلب ألا يحدث أى تراجع أو مراوغة فى موقفكم أنتم, وقد أكدت للنحاس بأنكم على أهبة الإستعداد لهذا الموقف.
وأضاف أمين بقوله: إن مكرم أستدعى إلى القصر.
فقال لامبسون: آمل بألا يلجأ مكرم إلى إتخاذ أى موقف ملتو لا نرضاه نحن قبل لحظة الصفر بالنسبة لنا وهى الساعة 6 مساء, وألا يحدث أى لبس فى هذا الميعاد المحدد.
ولقد غادر أمين دار السفارة على وعد منه بأن يذهب فوراً وعلى وجه السرعة إلى مقابلة النحاس, ويكون على إتصال به حتى الميعاد المحدد بعد الظهر, وهى الساعة 6 مساء.
وقبل أن يتناول السفير البريطانى غداءه وصلته المعلومات التالية:
"مظاهرات الطلبة فى الجامعة, وهم يرددون هتافات معادية للإنجليز: "يعيش روميل.. يحيا فاروق.. ويسقط الإنجليز".
وفى مساء هذا اليوم بينما كان القادة البريطانيين جميعاً مشغولين بكثير من التفصيلات لإتخاذ الترتيبات اللازمة تحسباً لما قد يحدث فى حالة رفض الملك فاروق تنفيذ الإنذار الذى ينتهى قبل الساعة 6 مساء, وبينما كانت الإتصالات ما تزال جارية, إتصل أمين باشا عثمان بلامبسون ليقول له: المعلومات التى لدى النحاس باشا تقول أن الملك يحزم حقائبه, وأنه تم إستدعاء النحاس إلى القصر مساء اليوم, ولقد سرت إشاعة عن الملك بأنه سوف يقوم بالهروب.
ويقول السفير البريطانى أن أنباء أمين باشا أزعجته فتوجه مايلز لامبسون للإجتماع بالقادة العسكريين لإبلاغهم الموقف, وتم الإتفاق على مراقبة مطارات القاهرة ومداخل القاهرة حتى لا يهرب الملك وحتى إذا أفلت وهرب من القصر فإنه سوف يعرض حياته للخطر.

إجتماع فى القصر:
فى الساعة الرابعة دعا الملك فاروق الزعماء وأصحاب الرأى فى البلد لبحث هذا الإنذار حيث دُعى رؤساء الأحزاب وبعض الشخصيات البارزة كرؤساء الوزارات والبرلمان السابقين إلى الإجتماع فى اليوم نفسه بقصر عابدين وهم (مع حفظ الألقاب): شريف صبرى. مصطفى النحاس. على ماهر. حسين سرى. محمد محمود خليل. أحمد ماهر. أحمد زيور. إسماعيل صدقى. عبد الفتاح يحيى. محمد حسين هيكل. محمد توفيق رفعت. على الشمسى. حافظ عفيفى. حافظ رمضان. بهى الدين بركات. أحمد محمد حسنين. محمود حسن.
فاجتمعوا فى غرفة مجلس البلاط بالقصر فى نحو الساعة الرابعة مساء, ورأس جلالة الملك الإجتماع, وأذن الملك لرئيس ديوانه وألقى علينا البيان التالى باسم الملك:
(عندما واجهت البلاد هذه الساعات الخطيرة التى تجتازها ناديت ونادى الشعب معى بوجوب إتحاد الجميع لمواجهة الصعوبات التى تقوم فى طريقنا، وكنت أرى أن أيام الشدة يجب أن تعلمنا أن ننسى أشخاصنا وندفن الماضى فنبدأ عهداً جديدا نكون فيه كتلة واحدة وكلمة واحدة، ذلك لأنه أعلم أنه ما من خير أصاب هذه الأمة إلا وهى متحدة، وما من شر أحاق بها إلا وهى متفرقة الكلمة, فبدأت منذ أمس أستدعى بعضكم وكنت عازما على أن أستدعى البعض الأخر اليوم, لأشرح لكم وجهة نظرى لدعوة الجميع إلى تأليف وزارة قومية، وكنت أعتقد أن كلاً منكم يضحى شيئا قليلاً ليكسب البلد شيئاً كثيراً، وكنت على ثقة من أنكم ستلبون دعوتى, ففى الساعات الخطيرة يجب أن ننسى أشخاصنا ولا نذكر إلا بلادنا ولكن قبل أن تبدأ المشاورات أمس (الثلاثاء) طلب إلى السفير البريطانى ظهر يوم الاثنين أن أستدعى النحاس باشا وأعلنه أن يؤلف الوزارة، وأن أقبل من يقترحه النحاس باشا رئيساً للوزارة، وحدد السفير البريطانى الساعة الثانية عشرة ظهر الثلاثاء موعد استقبال النحاس باشا, فأجبت السفير على ذلك بأننى كنت قررت فعلا وقبل وصول هذا الطلب أن أستدعى النحاس باشا ورؤساء الأحزاب والزعماء لإستشارتهم فى تأليف وزارة قومية تواجه صعوبات البلاد الداخلية والخارجية، وبذلك تحقق رغبة الشعب، وتجمع مصر فى كلمة واحدة ووزارة واحدة، وانتهت مشاورات أمس... وعلى أثرها طلب السفير البريطانى مقابلة رئيس الديوان وأخبره أنه علم أن النحاس باشا رفض فكرة الوزارة القومية، وطلب السفير من رئيس الديوان أن يرفع إلى نصحه أن أكلف النحاس باشا بتكاليف وزارة وفدية، فرد عليه رئيس الديوان قائلأ: "إن المسالة لا تزال تبحث مع النحاس باشا ورؤساء الأحزاب وإن المباحثات جارية لتأليف وزارة قومية, وأن الملك واثق من أن وطنية الزعماء ستتغلب على كل شئ وسيقبلون النزول على رغبة البلاد.. واليوم طلب السفير مقابلة رئيس الديوان وسلمه إنذاراً هذا نصه: "إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة مساء أن النحاس باشا قد دعى لتأليف وزارة، فإن الملك فاروق يجب أن يتحمل تبعة ما يحدث" إننى دعوتكم اليوم لأستشيركم فى هذا الوقف وإنى واثق من أن رأيكم ستمليه عليكم الوطنية والحكمة - وإنكم ستجلسون هنا بصفتكم مصريين وترجون الخير والكرامة والسعادة لهذه البلاد..).

وبعد أن فرغ رئيس الديوان من تلك الرسالة الباكية تكلم الملك الشاب الذى لم يكن يومئذ قد أتم السنة الثانية والعشرين من عمره فقال: (لقد دعوتكم لتتداولوا فى الموقف بعد أن سمعتم الآن تفاصيل ما حدث وأطلب إليكم أن تقصدوا بمداولاتكم إلى مصلحة مصر وحدها ولا تجعلوا لأى إعتبار آخر حساباً. إننى مستعد فيما يتعلق بشخصى أن أضحى بكل شئ، فلا شئ يعنينى غير مصلحة مصر وكرامتها واستقلالها).
وإنصرف جلالة الملك تاركاً لهم حرية التشاور فى الأمر.

إحتجاج على الإنذار البريطانى:
تشاور المجتمعون فيما ذا يكون الرد على الإنذار, وكانت الفكرة الغالبة أن تؤلف وزارة قومية برئاسة النحاس, ولكن النحاس رفض فكرة الوزارة القومية, وكانت عاقبة هذا الرفض أن وقع هذا الحادث الذى يعد من الأحداث الخطيرة فى تاريخ مصر الحديث, وإنتهى المجتمعون إلى الإحتجاج على الإنذار, وكـُتِبَ الإحتجاج ووقعوا عليه جميعاً, وهذا نصه: "إن فى توجيه التبليغ البريطانى إعتداء على إستقلال البلاد ومساساً بمعاهدة الصداقة, ولا يسع الملك أن يقبل أن يمس إستقلال البلاد ويخل بأحكام المعاهدة".
وهكذا إنتهى إجتماع الزعماء فى القصر بإدانة الإنذار البريطانى وإعتباره إنتهاكاً خطيراً للمعاهدة المصرية البريطانية والإستقلال وقد وقع على البيان كل الزعماء بمن فيهم النحاس باشا.
وعاد جلال الملك إلى الإجتماع, وعلم بما تم عليه الإتفاق من الإحتجاج, فأقره وأظهر إرتياحه, وسلم نص الإحتجاج إلى حسنين باشا ليوصله إلى السفير.
وفى السفارة البريطانية وفى تمام الساعة 6 مساء دق جرس التليفون فى مكتب لامبسون ليبلغه تيمور بك بأن حسنين سوف يكون فى السفارة الساعة 6,15 مساء.
حضر حسنين إلى السفارة وسلم لامبسون نص البيان الذى وقع عليه الزعماء فى إجتماع القصر..
ولقد قال لامبسون لحسنين بأن هذا لايعتبر رداً وأن الأمر غاية فى الخطورة وأنه ينبغى عليه أن يصل إلى القصر فى الساعة 9 مساء لمقابلة الملك ما لم يبلغه حسنين فى ذلك الوقت بالعدول عن موقفه.
فقال حسنين قبل أن يغادر القاعة: أليس فى إمكانى, وإمكانك يا سير مايلز أن نجد حلاً ما؟
وأضاف إلى قوله بأنه من أجل إنقاذ مهابة رؤساء الأحزاب جميعاً وتقديرهم, فإنه مستعد حالاً أن يتولى بنفسه شئون حكومة إنتقالية مؤقته, مع ضمانه للامبسون, بأنه سوف يرتب إجراءات تولى حزب الوفد شئون الحكم خلال شهرين.
ولكنى لامبسون أجابه: لقد فاض بى.. من خلال تعاملى معه (يقصد الملك) ولهذا فإنى أرفض إقتراحه, ولن أقبله.
ثم أضاف لامبسون قائلاً: إننى على الأقل أقدر هذا, ومن المحتمل أن أعطيه فرصه لكى يسمع قرارى النهائى.
وعاد حسنين باشا إلى القصر وأخبر المجتمعين بجواب السفير, فانصرفوا بعد أن طـًلِبَ إليهم أن يكونوا على أهبة الحضور لإحتمال دعوتهم إلى إجتماع ثان.
***
وبمجرد أن إنصرف حسنين, طلب لامبسون من أوليفر ليتليتون بأن ينضم إلى الوفد المرافق له, مع الضباط ستون وكبار الضباط وأحاط لامبسون المجتمعين بإتصالات حسنين, وأن هذه الإتصالات فى تصوره كانت مجرد محاولة, وأنه لن يتراجع عن موقفه حين لقائه بالملك فى الساعة 9 مساء, ولا عن العمل طبقاً للخطة الموضوعة.
عند هذا الحد من تطور الإحداث, وصل إلى دار السفارة أمين عثمان, ولذلك قابله لامبسون على إنفراد فى غرفة مجاورة (وبحضور أوليفر ليتليتون) وسأله: كيف وضحت للنحاس وجهة نظرنا؟ وهو الذى ورد إسمه فى القرار الذى جاء إلى فى الرسالة التى حملها حسنين, وهو تكوين حكومة من كل الأحزاب بما فى ذلك حزب الوفد.
ووجه لامبسون حديثه إلى أمين عثمان قائلاً: هل ما أزال أثق فى النحاس إذا ما أقدمت على تنفيذ ما عقدت العزم عليه؟ وهل فى وسعنا (البريطانيين) الإعتماد على النحاس إذا إستمرت العملية؟
ولكن أمين عثمان أكد بما لا يدع مجال للشك بأن النحاس مازال وسيزال متمسكاً بموقفه لا يحيد عنه, وأنه إذا كان النحاس باشا فعلاً قد وقع على مذكرة القصر فلأنه إضطر إلى ذلك.
وعندما عاد لامبسون مرة أخرى إلى قاعة الإجتماعات وافق على إعداد مسودتين:
الاولى: الإعلان الذى ينبغى أن يقرأه لامبسون على الملك إذا ما ظل متمسكاً بموقفه.
والثانية: نص وثيقة التنازل عنة العرش, والتى يتحتم أن يضعها لامبسون أمام الملك لكى يوقعها مرغماً.
إقترب الميعاد المحدد وأصبح الوقت متأخراً, وكانت الأحداث كلها تجرى بسرعة لصالح بريطانيا, ولهذا إقترح لامبسون على أوليفر ليليتون بأن يظل هو ومدام مويرا Moira لتناول العشاء الساعة الثامنة مساء.
وقد أثار أوليفر ليتليتون قضية هامة قائلاً: "إذا ما وافق فاروق - نزولاً لرغبتنا - على إستدعاء النحاس, عندئذ هل من العدل أن نجبره على التنازل عن العرش؟
وقال أوليفر ليتليتون أنه لم يكن مستريحاً كثيراً لهذا القرار إذا ما وضعوه موضع التنفيذ لأنه فى نهاية الأمر يكونوا قد قاموا بخلع فاروق عن عرشه لكون أنهم حددوا مسبقاً الساعة 9 مساء موعداً نهائياً لأنه لم ينفذ مطالبنا فى الساعة 6 مساء, ومما لا شك فيه أن مثل هذا العمل لا يروق للرأى العام سواء فى مصر أو فى لندن إذ من أجل ثلاث ساعات - هى الفارق الزمنى - يفقد بسببها هذا الغلام (الملك فاروق) عرشه, وأكثر من هذا فإن الفكرة ملأت كل تفكيره بأنه أفضل للبريطانيين - كتصرف حضارى من جانبهم - أن يمنعوا نشوب إضطرابات مؤسفة يمكن حدوثها فى البلد, كرد فعل لخلع الملك عن عرشه.

حصار قصر عابدين:
وفى الساعة الثامنة والدقيقة الأربعين مساء ركب لامبسون سيارته ومع الجنرال ستون وفى الطريق إلى قصر عابدين روى له تفاصيل الحوار الذى دار فى السفارة وقراره بعد إجبار الملك على التنازل إذا خضع للمطالب البريطانية.
فى الساعة 8,50 وصل لامبسون يصحبه الجنرال ستون قائد القوات البريطانية ومعهم خمسة من الضباط البريطانيين مسلحين بالمسدسات إلى قصر عابدين وكانا قد رأيا فى طريقهما إلى عابدين صفوف متراصة من القوات المسلحة وهى تحيط بالطرق المؤدية إلى القصر وبالقصر ذاته.
وقد قام مدير المراسيم بإستقبال لامبسون ومن معه عند مدخل القصر, وكانت دهشة موظفى القصر بالغة أشدها وهم يستقبلون السفير البريطانى وقائد القوات البريطانية فى مصر.
وبينما كان لامبسون وستون يصعدان سلم القصر إلى الطابق العلوى كانت الدبابات البريطانية المسلحة بالمدافع قد جاءت فى الساعة 9,05 عن طريق شارع السلطان حسين وانعرج قسم منها الى ميدان عابدين الى أن وصلت لتقاطع شارع حسن الأكبر واستمر القسم الآخر الى شارع باب باريز وسار به حتى وصل لتقاطع شارع حسن الأكبر كما أن قسما آخر وصل عن طريق ميدان باب الخلق فشارع سامى باشا البارودى فحسن الأكبر حيث اتصل بباقى القوات وبذلك تم حصار القصر كما تم حصار مبانى قشلاق الحرس المشاة الملكى من بعض جهاته من جميع جهاته ورابطت أمام القصر بشكل تهديدى, وكانت تلك القوات من المشاه والمدافع الرشاشة فى سيارات لورى وبعض الدبابات كانت محملة فى سيارات كبيرة وكذلك سيارات مصفحة وقد وقفت السيارات جميعها خلف بعضها بدون فراغ فى وسط الميدان والشوارع المحيطة بالقصر, ثم نزل الجنود من السيارات والدبابات وتقدموا بالسلاح حتى أصبحوا ملاصقين لأسوار القصر, فقامت قوات الحرس الملكى بغلق جميع الأبواب الخارجية والداخلية غلقا محكما, كما إجتمعت قوة عساكر البوليس والضباط بطبنجاتهم وقاموا بتعزيز جميع أبواب القصر‏, بينما كانت القوات البريطانية تمنع الدخول والخروج من القصر.

بين لامبسون والملك فاروق:
أما داخل القصر فقد تأخر موعد مثول لامبسون وستون أمام الملك خمس دقائق وكان لامبسون على وشك أن يصيح فى رجال القصر أنه غير مستعد للإنتظار غير أن الإذن قد جاء للقاء الملك مما جعل لامبسون يندفع إلى حجرة الملك, حاول رجال التشريفات الملكية بالقصر منع الجنرال ستون من الدخول مع لامبسون ولكن لامبسون نحى أولئك الموظفين جانباً ودخل هو والجنرال بينما بدت الدهشة على الملك.
وقد إنزعج الملك فاروق وإقترح الملك أن يبقى حسنين باشا فأذن لامبسون بذلك.
دخل لامبسون فى الموضوع مباشرة قال للملك: لقد سلمت أحمد حسنين باشا هذا الصباح رسالة حول ضرورة أن يكلف النحاس باشا بتأليف الوزارة, ولقد حددت الساعة 6 مساء بالإجابة بـ "نعم" أو "لا" على رسالتى التى وصلت إليك فى هذا الصباح وبدلاً من ذلك فإن حسنين باشا قد أبلغنى بأنه أحضر لى الساعة 6,15 مساء معلومات لم أوافق عليها بطبيعة الحال, وإنى أريد إجابة الآن, وهنا وبدون مراوغة أكثر من هذا.
ويسأل لامبسون الملك هل جوابك: "نعم" أم "لا".
وعندما حاول الملك الخروج عن الموضوع الخاص بالإجابة على السؤال نعم ام لا, قاطعه لامبسون بشئ من الغضب قائلاً: يا صاحب الجلالة إن الموقف فى غاية الخطورة وأنا أعتبر ذلك رداً بالنفى, وأعتقد أنك لا تريد أن تقول نعم وأنت المسئول عما يحدث, وإزاء هذا, أنى أرغب طبقاً لمسئولياتى الإستمرار فى مهمتى.
وتلا لامبسون الخطاب الذى كان قد أعد فى السفارة البريطانية ونصه:
"أنه منذ زمن طويل كان واضحاً أن جلالتك قد تأثر بمجموعة المستشارين المحيطين بك, والذين لم يكونوا مخلصين فقط بالنسبة للتحالف مع بريطانيا بل أكثر من هذا أنهم يعملون ضد هذا التحالف, ومن ثم فإنهم يساعدون العدو, والموقف العام.. وكذلك مدى تعاون وتشجيع جلالتك لهم مما يناقض المادة الخامسة من معاهدة التحالف, والتى بمقتضاها تتعهد كل الأحزاب المتعاهدة بألا يتخذوا موقفاً معادياً بالنسبة للبلاد الأجنبية, ويكون متعارضاً مع الحلف.
وبالإضافة إلى ذلك فإن جلالتك قد أحدثت أزمة خطيرة بطريقة طائشة وغير ضرورية كرد فعل للقرار الذى إتخذته الحكومة المصرية السابقة إستجابة للطلب الذى تقدم به الحليف (إنجلترا) والذى نصت عليه المادة الخامسة من المعاهدة.
وفى النهاية فإن كل المحاولات التى جرت لتشكيل حكومة إئتلافية قد باءت بالفشل, إذ رفضتم أن تعهدوا بأمر تشكيل الحكومة إلى زعيم حزب الأغلبية فى البلاد (النحاس) على الرغم من أنه يتمتع بمكانة خاصة تجعله قادراً على ضمان إستمرار تطبيق المعاهدة بروح الصداقة كما يجب.
ومثل هذا التهور والطيش, وعدم تقدير المسئولية يعرض أمن وأمان مصر للخطر وكذلك القوات الحليفة الموجودة بالعاصمة, ويؤكد الجميع أن جلالتك لم تعد جديراً بإستمرارك على العرش..".

ويطلب لامبسون فور قراءته تلك المذكرة من الملك فاروق أن يوقع على وثيقة التنازل التى صيغت كما يلى:

"نحن فاروق ملك مصر, تقديراً منا دوماً لمصالح دولتنا, فإنى بموجب هذا أتخلى وأتنازل بالنيابة عن أنفسنا وورثتى عن عرش مملكة مصر, وعن جميع حقوق السيادة والإمتيازات والصلاحيات فى المملكة المذكورة وبشأن رعاياها, وأننا نعفى رعيانا من ولائهم لشخصنا".
صدر فى عابدين فى الرابع من فبراير 1942"

تردد الملك قليلاً قبل التوقيع على التنازل, وأوشك أن يوقع على تلك الوثيقة خاصة وكان لامبسون قد هدد الملك بإستخدام إجراءات غير سارة إذا لم يوقع على وثيقة التنازل, لولا أن إعترض حسنين متداخلاً وتحدث إلى الملك باللغة العربية حديثاً لم يعيه لامبسون وبعد لحظات من التوتر والقلق الشديد قال الملك لمايلز لامبسون وقد بدا على الملك التراجع: أما من فرصة أخرى تعطى لى؟
ولم يتراجع لامبسون بل قال للملك: أولاً يجب أن أعرف إقتراحك بالتفصيل.
وقال الملك: أنا مستعد أن أستدعى النحاس باشا وفى حضورك الآن لتكليفه بتشكيل الوزارة وأننى مستعد أن أقول للنحاس باشا أن له الحرية كاملة فى تشكيل حكومة وفدية يختارها بنفسه.
تردد لامبسون فى قبول عرض الملك ولكنه قال أخيراً - تحت تأثير الرغبة فى عدم حدوث أية تعقيدات أخرى: أوافق على أن أمنحك فرصة أخرى بشرط أن يتم التنفيذ فوراً.
ثم بعد ذلك حاول الملك فاروق برغم آلامه النفسية أن يتظاهر بالود والبشاشة, ثم شكر لامبسون بصفة شخصية على أنه دائماً ما يحاول مساعدته.
وغادر لامبسون وستون, القصر ومرا فى ردهاته بكثير من الجنود الإنجليز الذين كانوا قد إتخذوا مواقعهم داخله وفى أيديهم مدافع من طراز "تومى جانز" وقد صوبوها إلى من يدخل القصر, كما كانت الدبابات والمصفحات خارج القصر فى كل مكان, وكان خدم القصر منتشرين مثل الدجاج المفزوع فى القصر.
صاح لامبسون فى النهاية: "لقد نجحت العملية".
وبعد خروج السفير البريطانى ومن معه من الضباط إنسحبت جميع القوات من داخل الحوش ثم انضمت للقوات الخارجية وظلت منتظرة هناك.
وبعد دقائق يتصل حسنين باشا بمايلز لامبسون قائلاً بثورة: لا تزال الدبابات تحاصر القصر وتمنع أى قادم إليه من الدخول حتى النحاس لا يستطيع الدخول إلا إذا سحبت تلك الدبابات من حول القصر.
وقد كان: صدرت التعليمات العسكرية البريطانية بعودة الدبابات إلى مواقعها الأصلية, فكان أن غادرت القوات البريطانية بعد رحيل لامبسون وستون بحوالى نصف ساعة.
لقد كان لامبسون لا يطيق فاروق وقد ظل نادماً لأنه لم يجبره على التنازل عن العرش فى 4 فبراير 1942م.

إجتماع الساعة العاشرة مساء:
بعد أن إنتهت مقابلة السفير لجلالة الملك عاد ومن معه إلى دار السفارة, وإستدعى رئيس الديوان الزعماء للإجتماع ثانية, فتكامل عددهم فى نحو الساعة العاشرة مساء.
وحضر جلالة الملك الإجتماع وقال للمجتمعين: إعتبروا ما دار بينكم وما قررتموه اليوم كأن لم يكن, وأكلفك يا نحاس باشا بتشكيل الوزارة"
فإعتذر النحاس لجلالة الملك وطلب إعفاؤه من هذه المهمة! ولكن جلالة الملك أصر على أمره بتأليف الوزارة.
عندئذ قال أحمد ماهر: "كنت أظن أن النحاس باشا وهو كما يقول عن نفسه زعيم البلاد وصاحب معاهدة الشرف والإستقلال يرفض تشكيل الوزارة, أما وقد قبلها فإنى أعلن فى حضرة مليك البلاد أن النحاس باشا يتولى الحكم الليلة مستنداً إلى أسنَّة رماح الإنجليز".
فقال النحاس: "لست أنا الذى يستند إلى أسنَّة رماح الإنجليز!", فقال إسماعيل صدقى: "أظن أن رفعتكم وصلتكم إلى هنا بعد إنصراف الدبابات!".
فتدخل جلالة الملك فى النقاش وأشار على المتحدثين بالسكوت, وكرر أمره إلى النحاس بتأليف الوزارة, وطلب إليه أن يذهب إلى السفير البريطانى ويبلغه نبأ تأليف الوزارة.. وإنتهى الإجتماع على ذلك.

وبعد نصف ساعة من مغادرة القوات البريطانية عن القصر كان النحاس قد ذهب إلى السفير البريطانى فى دار السفارة البريطانية ليقول للسفير أن الملك كلفه بتشكيل وزارة وفدية وأمره أن يتجه فوراً من قصر عابدين إلى السفارة ليخبر السفير البريطانى بأنه أمر بتشكيل الوزارة الوفدية وأن الملك أوصى زعيم الأغلبية بأن يتفق مع السفير على أسماء الوزراء المصريين وقال لامبسون وقد إمتلأ بنشوة الإنتصار. إننى أفضل أن أترك لك يا نحاس باشا حرية إختيار وزرائك.
وبعد الإختيار نجلس ونناقش كل الأمور.
وقال النحاس باشا أن هناك عناصر شريرة داخل القصر الملكى المصرى وخارجه يجب إستئصالها فوراً.
ويقول المنتصر الأول الفيلد مارشال مايلز لامبسون: رغبتى أن أكون خلف الستار وأن أترك لك يا نحاس باشا حرية إتخاذ القرارات التى تريدها.
وعاد إلى القصر الملكى, وأدلى بحديثه مع السفير البريطانى وبالطبع لم يذكر أى شئ عن العناصر الشريرة داخل القصر وخارجه والتى يريد التخلص منهم, فكلفه جلالة الملك بتشكيل الوزارة عاجلاً.

الخميس 5 فبراير 1942:
كان أول شئ تلقاه لامبسون هذا الصباح, هو الرسالة الشخصية التى وردت إليه من أنتونى أيدن قائلاً فيها:
".. إننى أهنئك بكل حرارة, وأحيى فيك إصرارك وعزمك وحزمك وتنفيذك لتعليماتنا على الوجه الأكمل..".
وقبل الساعة 9 صباحاً قام لامبسون بالإتصال بحسين سرى تليفونياً, وسأله عن رأيه الشخصى عما حدث بالقصر ليلة أمس, وقال حسين سرى بأنه كان يتوقع أن يحدث هذا. وأنه كان قد وصل إلى القصر الساعة 9,30 مساء وشاهد القوات المسلحة البريطانية, وقد صدم من هول هذا المشهد وقد أدرك أن فاروق قد تأثر كثيراً بهذه المواجهة الحادة, وأنه يعتقد أن ما حدث كان الدرس الأول لإصلاحه ووضعه على الطريق السليم, وأن الملك فاروق كان فى أشد الإحتياج إلى مثل هذه الطريقة, وأنه لا شك كان سعيداً بأنه مازال متربعاً على عرشه حتى الآن.

وقد بعث الدكتور أحمد ماهر فى صباح 5 فبراير رسالة إلى السفير البريطانى سير مايلز لامبسون بوصفه رئيساً لمجلس النواب يندد فيها - وبلهجة عنيفة - بما حدث فى مساء 4 فبراير بإصرار الحكومة الإنجليزية على تشكيل وزارة يتولاها شخص بعينه إختاره الإنجليز.
وصف أحمد ماهر هذا العمل من جانب بريطانيا بأنه عدوان صارخ على إستقلال مصر يتعارض مع نص المعاهدة ويعرض العلاقات المصرية البريطانية لخطر بالغ.
لم يكتف أحمد ماهر بإرسال تلك الرسالة إلى سير مايلز لامبسون السفير البريطانى وإنما طبع الرسالة ووزع منها كميات كبيرة فى أرجاء البلاد وقد إنزعج مصطفى النحاس باشا من هذه الخطوة.
***
ذهب النحاس إلى دار صهره أحمد بك حسين بالجيزة حيث كان يقيم, وإجتمع ببعض أعضاء حزبه, فإتفقوا على أن يكتب النحاس إلى السفير بسحب الإنذار, فلما جاء الرد بسحبه شرع فى تكليف الوزارة, وقبل الإنجليز هذا الحل, لأنه لا يعدوا أن يكون حلاً شكلياً لا يحجب ما وقع فعلاً من التدخل البريطانى السافر, وتبادل النحاس والسفير فى هذا الصدد الكتابين الآتيين:

كتاب النحاس إلى السفير:
"يا صاحب السعادة.
"لقد كلفت بمهمة تأليف الوزارة وقبلت هذا التكليف الذى صدر من جلالة الملك بما له من الحقوق الدستورية وليكن مفهوماً أن الأساس الذى قبلت عليه هذه المهمة هو أنه لا المعاهدة البريطانية المصرية ولا مركز مصر كدولة مستقلة ذات سيادة يسمحان للحليفة بالتدخل فى شؤون مصر الداخلية وبخاصة فى تأليف الوزارات أوتغييرها.
"وإنى آمل يا صاحب السعادة أن تتفضلوا بتأييد يتضمن ما فى خطابى هذا من المعانى وبذلك تتوطد صلات المودة والإحترام المتبادلين وفقاً لنصوص المعاهدة.
"وتفضلوا يا صاحب السعادة بقبول فائق إحترامى".
5 فبراير 1942.

جواب السفير:
"يا صاحب المقام الرفيع.
"لى الشرف أن أؤيد وجهة النظر التى عبر عنها خطاب رفعتكم المرسل منكم بتاريخ اليوم وإنى أؤكد لرفعتكم أن سياسة الحكومة البريطانية قائمة على تحقيق التعاون بإخلاص مع حكومة مصر كدولة مستقلة وحليفة فى تنفيذ المعاهدة البريطانية المصرية من غير أى تدخل منها فى شئون مصر الداخلية ولا فى تأليف الحكومات أو تغييرها.
"وإننى لأنتهز هذه الفرصة لأؤكد لرفعتكم فائق إحترامى"
***
ومن ثم ألف النحاس الوزارة.

إحتجاجات على أحداث 4 فبراير:
ويكتب عبد العزيز فهمى باشا رئيس حزب الأحرار مذكرة عنيفة يقوم بتسليمها دسوقى باشا سكرتير عام الحزب يداً بيد إلى والتر سمارت.
ويوفد السفير البريطانى مستر سمارت إلى الدكتور حسين هيكل ليشرح له موقف بريطانيا ويرفض هيكل الحديث كما قال سمارت عن الماضى.
ومن الأمور التى أثرت على نفوس المصريين تلك المظاهرات العنيفة والصاخبة التى إستقبل بها السفير مايلز لامبسون السفير البريطانى فى مصر وكيف حمله المتظاهرون على الأعناق وكيف خرج لامبسون ومصطفى النحاس إلى المتظاهرين يداً بيد.

أثر 4 فبراير 1942 فى الجيش المصرى:
كان تأثير 4 فبراير فى الجيش تأثيراً سيئاً للغاية وأن ستون قائد القوات البريطانية فى مصر قال للسفير لامبسون أنه - أى ستون - أثار فى الجيش المصرى وبالذات لدى الضباط الذين ليست لهم مشاعر خاصة نحو الملك شعور الغضب وأنهم - الضباط المصريون - يعتبرون ما حدث إهانة للعرش بسبب إستخدام القوة, وفى نادى ضباط الجيش عقدت إجتماعات كثيرة تحدث فيها ضباط كثيرون ورأى بعضهم إرسال برقيات يعبرون فيها عن ولائهم للملك وإحتجاجهم على السفير البريطانى.
وقد تلقى الضباط فى أحد الإجتماعات رسالة من الملك فاروق يقدر فيها ولاء ضباطه له ويطلب إليهم الهدوء والعودة لعملهم.
وكان بعض الضباط والشبان قد فكروا فى تنظيم مظاهرة يعبرون فيها عن ولائهم للملك وسخطوا على السفير البريطانى.
وكان بعض كبار الضباط قد أقنعوا الضباط السائرين بعدم إتخاذ مواقف عدائية تجاه بريطانيا.
وقد قام حمدى سيف النصر باشا بنقل بعض أولئك الضباط الثائرين وقد إحتج إثنان منهم على هذا النقل وطلب آخر إحالته للمعاش لأنه لم يعط الفرصة للدفاع عن جلالة الملك ولأنه يخجل من إرتداء البدلة العسكرية.
***
يقول محمد نجيب فى مذكراته: (وعندما رأيت كل هذا, أحسست بإحتقار وقرف من بدلتى العسكرية, وكتبت إستقالتى, إحتجاجاً على ما حدث, وقلت للملك فى الإستقالة:
"حيث أنى لم أستطع أن أحمى مليكى وقت الخطر فإنى لأخجل من إرتداء بدلتى العسكرية والسير بها بين المواطنين, ولذا أقدم إستقالتى".
ولكن الملك أعاد الإستقالة مع ياوره عبد الله النجومى, وإضطررت لسحبها نزولاً على رغبة زملائى..
قال لى النجومى:
- بما أن الملك منع الحرس الملكى أن يقاوم الإنجليز فهو لن يسمح لك بالإستقالة.)
***
وقد كان أعنف هؤلاء الضباط أحمد فؤاد صادق ومحمد كامل الرحمانى وقد رحب فاروق بمحاكمتهما بل أصر على ذلك حتى يفضح وزارة الدفاع والحكومة فى تلك المحاكمة غير أن النحاس باشا ووزير الدفاع عارضا المحاكمة وأصرا على طردهما من الجيش.
وإتخذت المسالة - مسألة طرد أحمد فؤاد صادق ومحمد كامل الرحمانى - أبعاداً هامة وحاول لامبسون أن يحقق رغبة النحاس باشا غير أن الملك فاروق لم يستجب لتحقيق رغبة لامبسون.
وكادت تحدث أزمة أخرى خطيرة خاصة وأن فؤاد صادق قد اتهم بأنه مناهض لبريطانيا منضم إلى منظمة سرية بالجيش مهمتها التخريب ونقل المعلومات إلى العدو وانه من زعماء حركة تهدف إلى وضع العراقيل أمام القوات البريطانية فى حالة حدوث نكسة.
والجديد بالذكر أن الجنرال نابيه رئيس البعثة العسكرية البريطانية فى مصر كان يحذر من حدوث تذمر فى الجيش المصرى: وأخيراً تم الإتفاق بين النحاس باشا والسفير البريطانى على إحالة أحمد فؤاد صادق ومحمد كامل الرحمانى إلى الإستيداع وإعتقالهما.

الصحافة وحادث 4 فبراير:
كان ذلك ما حدث بالضبط أو قريباً منه فى السفارة البريطانية وفى قصر عابدين أما ما عرفه الرأى العام عن ذلك الذى حدث فقد كان مختلفاً تمام الإختلاف بعيداً كل البعد عن الحقيقة لم تشر أية صحيفة مؤيدة أو معارضة إلى قيام الدبابات البريطانية بمحاصرة قصر عابدين بل لم تشر أى صحيفة إلى نزول دبابة أو مصفحة بريطانية إلى شوارع القاهرة مما يدل على وجود رقابة قوية على الصحف بخصوص هذا الموضوع على الأقل, فما إن تولى النحاس باشا رئاسة الحكومة حتى قام بفرض الرقابة الشديدة على الصحف ونشر الأكاذيب على الناس وهو الذى كان قبل ذلك يصيح بين الفينة والفينة ويقدم نوابه وشيوخه الإستجوابات تلو الإستجوابات مطالباً بحرية النشر وحرية الصحافة.
وأكثر من ذلك راحت صحيفة المصرى (التابعة لحزب الوفد) تؤكد على أن تنشر ما حدث من إستقالة وزارة حسين سرى باشا وتشكيل النحاس باشا للوزارة الجديدة على أنه إنتصار للشعب لا يعادله أى إنتصار.

جريدة المصرى يوم 6 فبراير 1942:
راحت المصرى - كما قالت - تنشر فى اليوم السادس من فبراير فى صفحتها الأولى "وثيقة رسمية تاريخية تزيد الموقف وضوحاً وجلاء: بإسم الشعب ومصر قبل مصطفى النحاس تأليف الوزارة بعد أن إعتذر أولاً وبأوامر من الملك تقدم رفعته, لإنقاذ الموقف من تطورات لم يكن له يد فيها: حل مجلس النواب الحاضر وتقصير المدد الإنتخابية: برنامج سياسة وزارة الشعب.
كان وزراء الوفد إلى جانب مصطفى النحاس باشا, عثمان محرم باشا, مكرم عبيد باشا, أحمد نجيب الهلالى بك, حمدى سيف النصر باشا, عبد السلام جمعة باشا, على زكى العرابى باشا, محمد صبرى أبو علم, عبد الفتاح الطويل, على حسين باشا, كامل صدقى باشا.
وفى الصفحة الأولى أيضاً نشرت المصرى جواب مصطفى النحاس باشا على خطاب تكليفه الوزارة: يا صاحب الجلالة تفضلتم فعهدتم إلى مهمة تأليف الوزارة فى هذه الظروف الخطيرة وأبيتم ألا تزيدونى شرفاً فوق شرف بأن أعربتم بلسانكم الكريم المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة عن ثقتكم فى وطنية هذا الضعيف وإنكاره لذاته مؤكدين أن هاتين الصفتين الكريمتين اللتين شاء فضلكم أن تسدوها إلى تقضيان على بأن أتقدم لإنقاذ الموقف وأتحمل مسئولية تطورات علم الله أنه لم يكن لى يد فيها بل جلبها على البلاد غيرى بأعماله أو بإهماله فأصبح من واجبى كمصرى وكوطنى إذا إتسعت لذلك جهودى أن أنقذ البلد من نتائجها وأجنبها وزرها بعد أن ظهرت بوادرها وتكررت نذرها.
قدرت المسئولية ووزنت عبء أثقالها فرجحت أمام عينى كفة ضعفى عن إحتمالها فإعتذرت عن قبول الوزراة فتفضلتم فأصررتم فزادنى إصراركم على الثقة بى خشية من الثقة بنفسى ولكن إزاء أمركم الصادر إلى بإسم العرش ومصر قبلت وعلى الله توكلت.
وكان أول عهد ألزمت به نفسى أن أحاول إنقاذ البلاد من خطورة الموقف الأخير فأخطو خطوة عملية فى هذا السبيل قبل المضى فى تأليف الوزارة بل كشرط أول إشترطته على نفسى قبل السير فى تأليفها.
وقد رأيت أن خطورة الموقف لا تكفى فى معالجتها كلمة أقولها أو صيحة أرسلها أو وعود أبذلها بل يجب لوضع الأمور فى نصابها أن تؤتى البيوت من أبوابها فيصدر تصريح من الجانبين يحفظ للوطن إستقلاله وحقوقه وتقطع لنا الحليفة عهداً رسمياً بمحو ما عكر أو ما من شأنه أن يعكر صفو الجو بين الحليفين.
وتحقيقاً لذلك إجتمعت بسعادة السير مايلز لامبسون السفير البريطانى فى مصر وأوضحت له وجهة نظرى التى بها تصان حقوق الوطن وتتوطد صلات المودة أو التحالف بين مصر وبريطانيا فتلقيت من سعادته رغبة صادقة أكيدة فى تنفيذ المعاهدة بين بلدينا على أساس الإحترام والود المتبادلين ومعاملة مصر معاملة الند من غير مساس بإستقلالها وحقوق سيادتها أو تدخل فى شئونها الداخلية وبخاصة تكوين أو تغيير وزراتها.

أحداث يوم 7 فبراير 1942:
وفى يوم 7 فبراير يتجه والتر سمارت السكرتير الشرفى للسفارة البريطانية إلى أحمد ماهر ليبلغه أسف السفير لأنه لم يستطع أن يتصل به فى الأيام الماضية بسبب تتابع الأحداث بسرعة وقال سمارت أن بعض العناصر فى القصر وبعض الوزراء يعرقلون التعاون المصرى البريطانى وأن الحكومة المصرية أبعدت عن الحكم لأنها إتخذت بناء على إقتراح بريطانى خطوة بقطع العلاقات مع حكومة فيشى وأن هؤلاء الذين يعملون (ضدنا) فى القصر قد أغروا بعض الشباب على ترديد هتافات بحياة روميل ولا ينسى سمارت أن يؤكد للدكتور أحمد ماهر أن السفير البريطانى يقدر جهود أحمد ماهر من أجل التعاون المصرى البريطانى ويؤكد أحمد ماهر أن موقفه لا يزال كما هو رغم كل ماحدث إلى جانب بريطانيا وأنه واثق من إنتصار بريطانيا وأن أحمد ماهر سيواصل إستخدام نفوذه لمساعدة بريطانيا على القيام بمجهودها فى الحرب كما يؤكد أحمد ماهر أن بريطانيا بفعلتها تلك إرتكبت خطأ فاحشاً وأنه سيجد من العسير عليه إقناع رجاله بنظرته تلك.
وذكر أحمد ماهر أن النحاس باشا الذى أهان الإنجليز فى خطبة العامة ووافق الزعماء الآخرين على إدانة ما حدث من بريطانيا هو الذى تعمل بريطانيا على التدخل فى الشئون المصرية الداخلية لفرضه رئيساً للوزارة.
ويخرج والتر سمارت من إجتماعه بأحمد ماهر بإنطباع مؤداه أنه أحمد ماهر مغتاظ من النحاس أكثر مما هو مغتاظ من الإنجليز وأنه - أحمد ماهر - والهيئة السعدية سوف يتخذان من الآن موقفاً عنيفاً للغاية ضد التدخل البريطانى فى 4 فبراير وضد النحاس باشا.

جريدة المصرى يوم 7 فبراير 1942:
وتنشر المصرى فى الصفحة الثانية من العدد الصادر فى 7 فبراير تحت عنوان: يوم فى التاريخ: أشرف موقف فى أدق موقف فلتشهد الأمة, وليسجل التاريخ.
وينشر المصرى تحت تلك العناوين أن مصطفى النحاس لم يقبل من أجل الحكم إقتراف جريمة ولا دس على الأمة نكراً ولا إرتكب طمعاً فى السلطان إثماً ولا وزراً ولكن صان مصر وأنقذ كرامتها وإستخلص سيادتها الذاتية من محنة يعلم الله وحده ما كان يعقبها لو أن اللاعبين بالنار مضوا فى لعبهم سادرين مستهترين.
وتقول المصرى: حين دعى مصطفى النحاس باشا من لدن صاحب العرش المفدى وملك مصر العزيز لم يتردد فى إنقاذ البلاد من الخراب التى غمرها والفاقة التى أضنتها والويلات التى إزدحمت عليها وويلات فى الأقوات وويلات فى المعايش والخيرات: ويلات فى حقوق السيادة, ويلات فى الحياة العامة من سائر النواحى والجهات.
وينهى المصرى المقالة بقوله: إلى الأمام إذن مصطفى النحاس وإلى الوراء كل آثم ودساس فى عون المخلصين.
وكان المصرى قد سبق له فى 6 فبراير أن ركز على فرحة الشعب بتأليف الوزارة الوفدية مشيراً إلى تحية الجموع الحاشدة بالنادى السعدى لمصطفى النحاس وإلى إستقبال المجاهد الكبير مكرم عبيد باشا بعاصفة مدوية من التصفيق, مجلجلة متدفقة من الهتاف بحياة البطل الباسل والمجاهد البار الذى يختلب الألباب.
وكان المصرى قد أشار أيضاً فى نفس اليوم إلى أن روح الإغتباط بوزارة الأمة عمت البلاد وغمرت جميع الهيئات.
نشرت المصرى - مثلاً - برقية للأستاذ محمد توفيق دياب إلى مصطفى النحاس يقول فيها: ندعو الله مخلصين بأن تنقذ بكم سفينة الوطن".
كما ينشر المصرى نفس اليوم أن وفوداً من طلبة دمنهور الزراعية حضروا إلى النادى السعدى لتحية مصطفى باشا وأن موجات من الفرح قد غمرت جميع طبقات الشعب فى سمنود والمحلة والزقازيق وبنى سويف والإسكندرية وبورسعيد إلخ.

جريدة المصرى يوم 8 فبراير 1942:
وفى 8 من فبراير وفى الصفحة الأولى تنشر المصرى عناوين بارزة وكبيرة: عن مظاهرات شعبية رائعة فى إستقبال وزارة الأمة: كلمة رفعة الرئيس فى جماهير المهنئين بدار الرئاسة.
وعنوان آخر أيضاً هو: لن نعرف شئياً إسمه الفشل والدواء الناجح له هو العمل "مكرم عبيد".
وينشر المصرى صورة فى الصفحة الأولى للرئيس وسير مايلز لامبسون يتحدثان أثناء زيارة الأخير لرفعته بدار رئاسة مجلس الوزراء.
وفى الصفحة الأولى من نفس العدد: مصطفى النحاس يقول للجمهور الذى إحتشد فى فناء دار الرئاسة: الكلمة التى تنتظرونها لا أستطيع أن أسمعكم إياها إلا إذا كنتم جميعاً فى سكون تام ولا يمكن أن تكون كلمتى إلا كلمة تسركم لأنى شعرت أنكم مسرورون من أن حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله قد عهد إلى بتأليف الوزارة مواجهة الأمور الخطيرة التى تحيط بالبلاد من كل جانب سواء فى ذلك ما يختص براحتكم ورفاهيتكم أو ما يختص بتوفير شئون المعيشة لكم جميعاً أو ما يتعلق بتجنيب مصر ويلات الحرب التى تناولت العالم بأسره.
أما كلمات مكرم عبيد فقد جاء فى واحدة منها: أيها السادة بل الأحرى حضرات الاخوة فلا سادة ولا مسودين فى وزارة الشعب فكلنا إخوان".
ومن كلمات مكرم باشا أيضاً: لقد أسميتمونى وزير الشباب وإنى لأرجو الله وقد حرمنى مظهر الشباب وعمر الشباب أن يهبنى قوة الشباب وعزيمة الشباب, ومن كلمات مكرم عبيد أيضاً: كانت لنا أيام مجيدة من أيام العمر يوم نفينا مع الزعيم الخالد سعد ويوم توقيع معاهدة التحالف والصداقة مع بريطانيا العظمى ولكن أمجد يوم هو يومنا هذا الذى عرفنا أن نظفر فيه بحق ضاع أو كاد وهو حق مصر فى السيادة والإستقلال فى وقت تناضل فيه الأمم حرصاً على إستقلالها من أن يضيع ويذهب مع الريح أو مع العواصف الهوجاء التى تهب على العالم: اليوم التاريخى العظيم الذى حصلنا فيه على الإعتراف الأخير بحق مصر وإستقلال مصر, وسيادة مصر.

بريطانيا تطالب بالثمن:
والجدير بالذكر أنه فور إستبباب الأمور للنحاس باشا وحكومته بدأت بريطانيا تطالب بالثمن وكان الثمن:
- تطهير القصر من الإيطاليين.
- إلغاء البوليس الخاص الذى كان قد أنشئ لدعم القصر.
- تحديد إقامة على ماهر باشا فى القصر الأخضر قرب الإسكندرية وعندما هرب من تحديد الإقامة وتمكن من دخول البرلمان إعتقل داخل مبنى البرلمان رغم تمتعه بالحصانة البرلمانية, ورغم أنه لا يجوز أبداً إعتقال أى نائب أو شيخ داخل مبنى البرلمان إذ أن للمبنى أيضاً حصانة لا يجب الإعتداء عليها.
- كما تم تحديد إقامة صالح حرب باشا فى أسوان وعندما هرب من أسوان وجاء للقاهرة مطالباً برفع قرار تحديد إقامته طلب منه أن يعود إلى أسوان لتمكين بحث طلب إعادة حريته إليه.
- كما تم إعتقال عدد كبير من المعادين للوفد وعددهم يزيد عن خمسين شخصاً.
- وكذلك تم إعتقال محمد طاهر باشا وعمر الفاروق وعباس حليم وغيرهم بناء على طلبات رسمية من السلطات البريطانية فى القاهرة.

النحاس كان يعرف نية الإنجليز:
إن الثابت فعلاً أن النحاس باشا كان يعرف الكثير من المعلومات عما تدبره السفارة البريطانية لا عن طريق سير مايلز لامبسون السفير البريطانى فى القاهرة وإنما عن طريق أمين عثمان باشا.
وقد فضلت السفارة البريطانية منذ بداية الأزمة ألا تجرى إتصالات بالنحاس باشا مباشرة حتى لا تحرجه أمام الملك وأمام الزعماء السياسيين.
فضل السفير البريطانى أن تتم الإتصالات بالنحاس باشا عن طريق أمين عثمان باشا.
كل ما سبق يؤكد ان النحاس باشا كان على صلات وثيقة مستمرة بالسفارة البريطانية قبل وبعد حادث 4 فبراير 1942 عن طريق أمين عثمان باشا.
إن السفارة البريطانية ما كانت لتجازف بالتهديد بخلع الملك إذا لم يكلف مصطفى النحاس باشا بتشكيل الوزارة ما لم تكن السفارة على ثقة مطلقة من أن النحاس باشا سوف يقبل تشكيل الوزارة.
وقد كان ذهاب مايلز لامبسون السفير البريطانى فى مصر ومعه الجنرال ستون مسرحية سياسية هى الأولى من نوعها فى التاريخ المعاصر وما قبل التاريخ المعاصر.
ولم يكن لامبسون يميل كثيراً إلى النحاس باشا ولكنه كان مجبراً على حماية وزارته والحيلولة دون إنتصار الملك على النحاس باشا.
وقد بذل لامبسون فى سبيل حماية النحاس باشا ووزارته جهوداً شاقة ومضنية.
وقد أخذ الناس فى ذلك الوقت على النحاس باشا أنه أقام للسفير البريطانى حفل تكريم كبير فى 12 يناير 1943 بمناسبة الإنعام عليه بلقب لورد قال فيه كلاماً كنا ننزه مصطفى النحاس أن يقوله.

المراجع:
الكتاب
المؤلف
الترجمة
دار النشر
مذكرات اللورد كيلرن
اللورد كيلرن
عبد الرؤوف أحمد عمر
الهيئة العامة المصرية للكتاب
مذكراتى فى السجن
صبرى أبو المجد

الهيئة العامة المصرية للكتاب
فى أعقاب الثورة المصرية
عبد الرحمن الرافعى

دار المعارف
كنت رئيساً لمصر
محمد نجيب

المكتب المصرى الحديث
هجوم على القصر الملكى
محمد صابر عرب

مكتبة الأسرة 2003