الاثنين، 23 سبتمبر 2019

قصة البيان الأول للثورة.. من داخل استوديوهات الإذاعة

قصة البيان الأول للثورة.. من داخل استوديوهات الإذاعة
بقلم فهمى عمر
أخبار اليوم السبت 25 يوليو 1998م - 1 ربيع الآخر 1419هـ

ستظل ذكريات صباح يوم 23 يوليو عام 1952.. محفورة فى ذاكرتى خاصة أنى كنت المذيع الوحيد من أبناء جيلى الذى شهد على الطبيعة فجر هذا اليوم عندما استقبلت طلائع الثوار فى استوديوهات الإذاعة المصرية بشارع علوى.. وشارع الشريفين.
كان من قدرى أن أكون مذيع فترة الصباح من البرامج "الأربعاء" من كل أسبوع..
وكان يوم 23 يوليو 1952 يوافق يوم الأربعاء.
وأذكر.. أننى كنت مذيع فترة المساء يوم الثلاثاء 22 يوليو.. وتركت مبنى الإذاعة وجنود الشرطة هم الذين يحرسون المبنى منذ حريق القاهرة فى 25 يناير عام 1952.
وكانت المفاجأة فى صباح اليوم التالى أن وجدت المنظر مختلفا تمام الاختلاف.. فعلى مدخل شارع الشريفين من ناحية التقائه بشارع صبرى أبو علم.. "وجدت". سيارة مصفحة وصفين من الجنود حتى نهاية مبنى الإذاعة بشارع الشريفين.
ثم وجدت صفين من الجنود أيضا يحيطان بمنى الاستوديوهات بشارع علوى القريب من شارع الشريفين.. وعندما استوقفنى ضابط الطابور وعرفته بنفسى رحب بى.. وقال نحن فى انتظارك منذ الفجر.. وأخذنى من يدى وتوجهنا معا إلى مبنى علوى.. وصعدنا سلالم المبنى حتى وصلنا إلى استراحة المذيعين أمام الاستوديوهات.
كانت المفاجأة الثانية فى انتظارى بالاستراحة. كانت تتمثل فى البكباشى أنور السادات الذى كان يجلس وحوله مجموعة من الضباط عيونهم محمرة من السهر الطويل.. وعلى أكتافهم البنادق سريعة الطلقات.. رغم هذا المنظر إلا أن الرجل رحمه الله استقبلنى ببشاشة ظاهرة.
وقال إنه يأسف لأن برنامج الإذاعة سيدخل عليه بعض التعديل.
هنا.. أحسست أن الأمر شيئا جليلا وقلت له. مرحبا بك وأهلا.. فقد كنا شباب ذلك الجيل نترقب حدثا مثيرا يحقق لنا أمنياتنا التى كانت تجيش فى صدورنا وتجعلنا نخرج فى مظاهرات عارمة ونحن طلبة فى الجامعات تهتف بسقوط الاستعمار والملكية والأحزاب الخائنة.
والدليل على ذلك أننى عندما سألت المرحوم جمال القاضى وكان برتبة (اليوزباشى) يقف خلف (البكباشى) أنور السادات ما هو الموضوع. فقال بصوت جهورى: دى الثورة يا أستاذ.. وأخذنا نقبل بعضنا البعض وقبلته من وجنتيه.
وقد ذكر المرحوم جمال القاضى هذه الحادثة فى أكثر من مقال وحديث إذاعى.
المهم.. أن الإذاعة فى تلك الأيام كانت تبدأ إرسالها الساعة السادسة والنصف صباحا وتم الاتفاق بينى وبين البكباشى أنور السادات على أن نبدأ الإرسال بموسيقى مارش عسكرى.. وبعد حوالى دقيقتين يدلى بالبيان.. الذى حدث أننى دخلت الاستوديو وقلت أنا بعد دقات الساعة
أعلنت ساعة جامعة فؤاد الأول السادسة والنصف من صباح يوم الأربعاء الثالث والعشرين من يوليو.. والإذاعة المصرية تحييكم وتستقبل معكم هذا الصباح بكل الخير.. وإليكم الآن موسيقى مارش عسكرى.
وبعد دقيقة من إذاعة الموسيقى قطع الإرسال من أبو زعبل حيث محطات الإرسال.
أبلغنى المهندسون فى غرفة مراقبة البرامج لذلك الحدث.. ونقلته إلى البكباشى أنور السادات.. الذى اكفهر وجهه.. وقال كلاما كثيرا.. منها أذكر.. كلمة يعنى إيه؟ فقلت يا حضرة البكباشى.. شارتك تقول أنك من سلاح الإشارة الملكى فكيف لا يتبادر إلى ذهنك أن هناك محطات إرسال فى أبو زعبل تبث من ينقله الميكروفون إليها خلال خطوط تليفونية ومعنى ذلك أن محطة الإرسال فى أبو زعبل قد تم تعطيلها!
خرج الرجل من الاستوديو مسرعا.. وظللت أقدم فقرات البرنامج حتى إذا ما عاد الإرسال فى أى وقت وجد مادة تذاع.
وقام البكباشى أنور السادات.. بإجراء اتصالات تليفونية. عاد الإرسال على أثرها فى الساعة السابعة و13 دقيقة وعندما يسألنى أحد لماذا التحديد بالدقيقة.
أقول لأننى لازلت أحفظ عن ظهر قلب ما كتبته فى تقرير المذيعين فى ذلك الصباح محددا بالدقيقة.
وعاد الإرسال فى السابعة و13 دقيقة لينقطع مرة ثانية عن طريق هيئة التليفونات لأن البرامج ترسل من دار الإذاعة إلى محطات الإرسال عن طريق خطوط تليفونية.
يشاء الله سبحانه وتعالى أن يستمع الناس إلى بيان القوات المسلحة بأكبر كثافة استماع ممكنة.. وذلك من خلال أول نشرة للأخبار تذاع فى الساعة السابعة والنصف لأن الناس قبل أن يتجهوا إلى أعمالهم كانوا فى تلك الأيام يستمعون إلى نشرة الأخبار خاصة وأن الإذاعة كانت هى وسيلة الاتصال الأولى فى تلك الأيام.
عاد الإرسال سليما من كل الوجوه فى الساعة السابعة والنصف إلا ثلاث دقائق ودخل البكباشى أنور السادات إلى الاستوديو واثقا من أن البيان سيذاع على الملأ. ودقت ساعة الجامعة.. الساعة السابعة والنصف وقلت أنا.
أعلنت ساعة جامعة فؤاد الأول السابعة والنصف.. وإليكم أولى نشراتنا الإخبارية لهذا اليوم نستهلها ببيان من القيادة العامة للقوات المسلحة يلقيه مندوب القيادة.. وكانت هذه هى تعليمات البكباشى أنور السادات.
وقلت له بعد أن قرأ البيان وهم بالخروج أغلقت الميكروفون وسألته من الممكن أن ألقى البيان بصوتى فرفض وقال.. أن الذى سيقرأ البيان أحد الضباط المنوط بهم حراسة مبنى الإذاعة نحن لا نريد أن ندخلكم معنا فى هذا الأمر.
وأذكر عندما أنهيت فترة الصباح الأولى من البرامج ونزلت إلى المكاتب وجدت منظرا غاية فى الروعة يدل على أن الثورة كتب لها النجاح منذ لحظة إذاعة البيان لأول مرة.. فقد كانت جماهير الشعب تحتضن جنود وضباط الجيش التى كانت تحرس المبنى وكثيرون منهم يتسلقون العربات المصفحة الموجودة فى الشوارع المحيطة بالإذاعة.