الأحد، 21 مارس 2021

09 البيت الأبيض.. بعد كل هذا

9

البيت الأبيض.. بعد كل هذا

الأهرام الاثنين 27 أكتوبر 1975م - 23 شوال 1395هـ


لا شك أن إسرائيل اعتبرت عزل نيكسون الذى أخذ ظاهريًا شكل الاستقالة كأنه انتصار لها، فلن يطالبها أحد بخطوة سريعة لأن الرئيس الأمريكي الجديد لابد وأن يحصل على فرصة لكى يدرس فيها الموقف من جديد. وخاصة أن الرئيس فورد(1) الذى خلف نيكسون، رئيس غير منتخب وصل إلى هذا المنصب بالتعيين من الكونجرس، وليست له خبرة عميقة بالشئون الدولية لأنه سياسى محلى في المقام الأول. ومع ذلك يمكننى القول أننى بعد لقائى معه في سالزبورج اكتشفت أنه رجل شريف يتميز بخلق الفلاح الذى يقدس الالتزام والصراحة والصدق. وهو ليس من عينه السياسيين الملتوين أو من طراز رعاة البقر كجونسون مثلا. وبصفة عامة فالرئيس فورد وجه طيب أمريكا بخُلقه الدمث وتفكيره الذى يضع مصالح أمريكا في المقام الأول. وقد أصيب الصهاينة بخيبة أمل مرة أخرى عندما وجدوا أن الرئيس الأمريكي الجديد يهدف إلى تنفيذ سياسة أمريكية قومية وليست سياسة صهيونية عنصرية. ولذلك دأبوا على وضع العراقيل والعقبات في طريقه، ومنها على سبيل المثال إفشال مهمة كيسنجر في مارس 1975.

كان عزل نيكسون سببًا في تأجيل الخطوة التالية من فض الاشتباك في سبتمبر أو أكتوبر عام 1974. وبالطبع لم نطلب عقد مؤتمر جنيف لأن أمريكا لم تكن جاهزة. والعرب لم يتفقوا بعد على خطوط عريضة ونقاط أساسية تجعل منهم جبهة متماسكة ومتحدة في مواجهة ألاعيب إسرائيل داخل المؤتمر. أما الاتحاد السوفيتى فجاهز من بادئ الأمر لحضور المؤتمر وليس عليه إلا أن يقف ويزايد ويقول للشارع العربى أنه المدافع الوحيد عن الأمة العربية، بل وصل إلى حدود من المبالغة والتطرف بحيث يبدوا أكثر حرصًا على مصلحتها منها هي شخصيًا. وفى تقديره أنه من خلال هذا يستطيع استعادة مكانته التي فقدها في المنطقة نتيجة معاملته لمصر ونتيجة لإعلانه المتكرر عن بيع الأسلحة لنا تعويضًا عن خسائرنا، ورفضه للوفاء بالتزاماته تجاهنا. أي أن هدف الاتحاد السوفيتى من المؤتمر تمييع الموقف العربى كله وإظهاره أمام العالم بمظهر مفكك وضعيف حتى نعود إلى اللجوء إليه مرة أخرى راكعين وطالبين العفو والمغفرة وأكبر برهان على ذلك هو هذه المعاملة والتفرقة بين مصر وسوريا وكأن القضية العربية تخص حزب البعث السورى ولا تخص مصر...

وسواء شئنا أم لم نشأ، فإن الولايات المتحدة هي الأساس في مؤتمر جنيف لأن في يدها مفتاح الموقف بينما لا يملك الاتحاد السوفيتى سوى التأييد أو الرفض أو الشجب وكلها أسلحة لا قيمة لها في مثل هذه المؤتمرات الخطيرة. ولنا أن نتخيل المؤتمر وما سيئول إليه إذا دخلت أمريكا بنفس العنف المندفع والانحياز الأعمى إلى جانب إسرائيل كما كان الحال أيام جونسون مثلا. في هذا الوضع يمكن أن يستمر مؤتمر جنيف عشرين سنة دون أي حسم. فسيقف الاتحاد السوفيتى بتأييده الشفهى إلى جانب العرب إلى آخر المدى، وستقف الولايات المتحدة بتأييدها المادى إلى جانب إسرائيل حتى النهاية. وإسرائيل بالذات لا تقيم وزنًا حتى لأمريكا نفسها التي تمنحها كل شيء. والدليل على ذلك أنها تحدت أمريكا في مارس 1975 ورفضت تسوية كيسنجر عندما شعرت أن فورد وكيسنجر لا يملكان الأرضية الكافية في الكونجرس للتحرك وفرض التسوية عليها. واعتمدت إسرائيل في هذا على انحياز الكونجرس إلى وصفها، ولذلك لم تهتم بمكانة الولايات المتحدة في العالم وأظهرتها بمظهر الدولة التي لا تستطيع أن تنفذ كلمتها. كل هذا لمجرد أن تكسب الوقت وتضيعه على العرب.

فماذا سيكون الحال في مؤتمر جنيف إذا انحازت أمريكا انحيازًا أعمى وراء إسرائيل؟؟ بالطبع لن تكون هناك ثمة فائدة من المؤتمر لأننا فقدنا مفتاح الموقف تمامًا. فالموقف الأمريكي هي الأسا إذا أردنا أن تكون تحركاتنا مدروسة وفعالة. ولذلك كان من الضرورى تأجيل عقد مؤتمر جنيف بسبب انشغال الولايات المتحدة بالتغيير الذى طرأ على كيانها الداخلى وانشغال كيسنجر بالكامل للدفاع عن نفسه، لأن الهجوم تركز عليه بعد التخلص من نيكسون، إذ أن التخلص من كيسنجر الشاهد الوحيد على هزيمة إسرائيل في أكتوبر 1973 - كما قلت من قبل - وتعيين وزير خارجية جديد يبدأ في دراسة الموقف مرة أخرى، كل هذا سيجعل الوقت يمر دون حل حاسم للقضية العربية، إذ تكون سنة الانتخابات قد حلت عام 1976، ثم ندخل عام 1977 وقد تميعت القضية مرة أخرى.

في هذه الفترة من 1975 إلى 1977 يتوقع الإسرائيليون أن يكون الموقف العربى الذى أحدثته حرب أكتوبر 1973 وتستطيع إسرائيل بعد ذلك أن تنفرد بالدول العربية واحدة بعد الأخرى. وتفقد الأمة العربية سلحها الخطير المتمثل في البترول. وهو السلاح الذى تعمل أمريكا وأوروبا ألف حساب.

هنا يتحتم ألا نترك أية فرصة تتيح لإسرائيل أن تضرب الموقف من الداخل عن طريق الاحتفاظ بقوة الدفع والايقاع لحسم القضية سواء على المستوى السياسى أو العسكرى. ومن هنا يجئ لومنا لحزب البعث السورى في إعطاء إسرائيل هذه الورقة بمحاولة ضرب التضامن العربى لأغراض حزبية بحتة لا ترتفع إلى مستوى المصلحة القومية العربية العليا ولكن هذا لن يحدث.


عودة إلى نشاط كيسنجر:

لم يشأ كيسنجر أن تخطف إسرائيل زمام المبادرة من يده فأرسل إلى آلون(2) لكى يزوره في نوفمبر 1974 حتى يحتفظ بقوة الدفع والإيقاع لاستراتيجيته في الشرق الأوسط.

بعد انتهاء زيارة آلون لكيسنجر، ذهب كيسنجر لحضور اجتماعات حلف الأطلنطى في بروكسل، وفى أثناء تواجده في بروكسل استدعى السفير الأمريكي في القاهرة لكى يقابله ويسلمه تقريرًا عن زيارة آلون له. وبالفعل عاد السفير الأمريكي في نوفمبر وأبلغنى بنتيجة اجتماعه التي لم تكن نتيجة على الإطلاق. ومن تقييمى مع القيادات في مصر للموقف بعد إبلاغنا بهذه النتيجة توصلنا إلى اقتناع بأنه لم يكن هناك أي غرض من إسرائيل التي كانت ترتشف كؤوس السعادة بتخلصها من نيكسون وبنجاحها في وضع كيسنجر في موقف الدفاع. فكل ما أدلى به آلون لكيسنجر في نظرنا بعد ذلك التقييم هو أن إسرائيل ليست جاهزة لأية خطوة ثانية قبل أن نوافق انهاء حالة الحرب.

واجه كيسنجر ألون بكل ما دار بين نيكسون والحكومة الإسرائيلية وأن إنهاء حالة الحرب موضوع غير قابل للمناقشة من ناحية مصر. فما السبب في إثارته مرة أخرى؟

وكان السبب في تقييمنا هنا للموقف هو أن الإسرائيليين كانوا شاعرين أنهم في مركز القوة وأن فورد وكيسنجر في موقف الضعف بحكم خضوع الكونجرس للضغوط الصهيونية.

وامتد تلاعب إسرائيل لكى يشمل كل اتفاقاتها مع نيكسون، حتى المضايق والبترول تراجعت فيما يختص بموافقتها السابقة على الانسحاب منهما، وأبدى آلون استعدادًا مزيفًا لبحث الموضوع مع مصر إذا أبدينا من جهتنا ترحيبًا بتخفيف قيود المقاطعة على إسرائيل، وبعدم مقاومة العرب لعودة العلاقات بين إسرائيل والدول الإفريقية، وتمهيد الجو للتبادل الاقتصادى بين العرب وإسرائيل وغير ذلك من الهراء الإسرائيلي الذى استعملوه مادة في إذاعاتهم لمحاولة ضرب تضامن الأمو العربية وصدقه حزب البعث في سوريا. وقد سبق أن قلت أننى حذرت من ذلك في مؤتمر القمة العربى في الرباط وقلت للملوك والرؤساء في ذلك الاجتماع أن لا يكون التعامل بيننا على أساس ما يقوله راديو إسرائيل. ولكن حزب البعث السورى لم يشأ أن ينتصح لأسباب حزبية ضيقة ومغرضة.


موقف مع السفير الأمريكي

وقد استدعيت إسماعيل فهمى لحضور المناقشة مع السفير الأمريكي لإثباتها بعد ذلك في محضر تفصيلى.

حكى لى السفير الأمريكي كل هذ الهراء الإسرائيلي، وأضاف أن إسرائيل تريد أن تضمن عدم قفل باب المندب مرة أخرى، على الرغم من أننا لم نقفل باب المندب في حرب أكتوبر. فهو مضيق دولى وسنخطئ في حق العالم إذا أقفلناه. ولكننا أعلنا فقط عن المنطقة الممنوع فيها الملاحة في البحر الأحمر والتي ضربنا فيها السفينة الإسرائيلية شمال باب المندب. وفى الحال توقفت الملاحة في إيلات حتى سمحنا لها بالاستئناف مرة أخرى بعد فض الاشتباك.

وبعد أن حكى السفير الأمريكي كل هذه السخافات الإسرائيلية، سارع إلى توضيح أن هذا الكلام هو ما تلقاه كيسنجر من إسرائيل وهو يريد أن يكون كما عودنى ناقلا أمينًا ولكن هذا ليس رأى أمريكا.

وانفجرت في السفير الأمريكي كما انفجرت في السفير السوفيتى يوم 8 يوليو 1972؟ وذهل إسماعيل فهمى عندما استمع إلى كلماتى الغاضبة وأنا أرد على السفير الأمريكي كيف يسمح كيسنجر لنفسه أن يسمع مثل هذا الكلام ويعمل على نقله إلى؟ وطالما أن كيسنجر يقول أن هذا الكلام لا يمثل رأى أمريكا وإنما يمثل أمانه في التوسط بين الأطراف فلماذا يخبرنى به؟ كان لابد من أن يرفض كيسنجر هذا الكلام من أساسه ولا يخبرنى به على الإطلاق كأنه لم يكن. كان أشرف لأمريكا أن تبلغنى بأنه لم يجد شيء في الموقف من أن تخبرنى بهذه السخافات. رفضت هذا المنطق السقيم تمامًا وأفهمت السفير أنه لا يمكن لأمريكا أن تدلل إسرائيل ولكن ليس إلى هذا الحد الذى لا يمكن أن أسمح به.

تحول وجه السفير الأمريكي إلى ملامح من الشمع وبعد سماعه لساعة ونصف من انفجار بركان غضبى طلب إلى أن يرسل كل ما سمعه من مضمون كلامى إلى الحكومة الأمريكية حتى لا يحدث سوء فهم مرة أخرى.

وفى الحقيقة كان السفير هادئًا جدًا وأثبت أنه دبلوماسي ممتاز حقًا. فقد اعتذر برقة بقوله أن هدف كيسنجر من هذه الرسالة الشفهية أن يضعنى في الصورة بصرف النظر عن قبولى للرسالة من عدمه، وهذا هو فهم كيسنجر للأمانة في الوساطة بين الأطراف.

أعربت عن دهشتى للسفير الأمريكي الذى أحضر لى هذه الطلبات الإسرائيلية السخيفة بينما نفكر نحن جديًا في حضور مؤتمر جنيف للتسوية الشاملة. فماذا يتبقى لجنيف بعد هذه السخافات؟؟ وطالما أن هذه الرسالة الشفهية لا تُمثل وجهة النظر الأمريكية الرسمية، فأنا بدورى اعتبرها كأنها لم تكن وأننى لم أسمع شيئًا على الإطلاق من هذه السخافات. أي أن الموضوع انتهى عند هذا الحد. بمعنى أن السفير الأمريكي لم يبلغنى بشئ وأنا بدورى لم أسمع شيئًا.

وأرسل السفير الأمريكي رسالة رسمية منه إلى واشنطن توضح كل ما دار بينى وبينه.


صدرنا التمزق إلى إسرائيل

كان للرسالة وقع عنيف على كل من فورد وكيسنجر. فقد كانت أقوى مما قلته للسفير السوفيتى يوم إنهاء مهمة الخبراء السوفيت في 8 يوليو 1972. وجاءنى رد كيسنجر مُعبرًا عن أسفه، وأنه إنما أردا أن يضعنى في الصورة بكل سلبياتها وإيجابياتها وأن هذا هو أسلوب الأمانة في التوسط بين طرفين في مثل هذا النزاع المعقد. وطلب منى تأجيل بحث الموضوع لحين زيارة آلون مرة أخرى له في يناير 1975. وسوف يرسل إلى بكل ما يستجد في الموقف جريًا على أسلوبه في مكاشفة الأطراف.

وفى ديسمبر 1974 زار رابين الولايات المتحدة. وكان ظنى أن رابين سيحل محل جولدا مائير في فض الاشتباك الثانى وأن كيسنجر سينجح في اتباع نفس الأسلوب الذى اتبعه من قبل في فض الاشتباك الأول. فقد تقدم كيسنجر في فض الاشتباك الأول بعرض أمريكى لم تجد إسرائيل مناصًا من قبوله، وعلى هذا تم فض الاشتباك الأول ولكن رابين كان أضعف كثيرًا من مائير إذ أن أغلبيته في البرلمان الإسرائيلي لا تزيد عن صوت أو صوتين، بالإضافة إلى حالة التمزق التي تسيطر على الحكومة والشعب في إسرائيل.

لقد نجحنا في تصدير التمزق الذى كنا نعانيه ونعيشه قبل أكتوبر 1973 إلى إسرائيل التي يعز عليها حتى الآن أن تتخلى عن الغرور والعنجهية وأحلام التفوق والسيطرة وسياسة القوة والبطش التي عاشتها قبل أكتوبر 1973. ولكنها في الوقت نفسه تجد أن حقائق ما بعد أكتوبر تجثم على كاهلها كالكابوس وخاصة أن خسائر الأرواح ما زالت تنكأ جراج كل بيت في إسرائيل. وتحول خوف إسرائيل من السلام إلى عجز تما عن صنعه. ولذلك وقفت كل هذه العوامل كعقبات وعراقيل في وجه فض الاشتباك الثانى الذى فشلت محاولة كيسنجر في القيام به في مارس 1975.

بدأ تلاعب الإسرائيليين بكيسنجر عندما طلبوا منه أن يقوم برحلته على مرتين: المرة الأولى في فبراير. والمرة الثانية في مارس لإتمام فض الاشتباك. وبالفعل بعد مقابلة كيسنجر لكل من رابين وآلون أبلغنى بأنه سيحضر إلى المنطقة لكى يُنهى العملية على دفعتين حدد تواريخهما في فبراير ومارس. ولكنى سارعت إلى إبلاغه بأنها لا ضرورة إطلاقًا لقدومه مرتين طالما أن المسائل محددة والحلول معروفة. ولذلك فإنه من المفضل أن ينهى العملية في زيارة واحدة فقط كما تم في فض الاشتباك الأول. وكانت رسالتى كلها إصرار على هذا المعنى لأننى أحسست ببوادر التلاعب الإسرائيلى في الأفق، وأن حضور كيسنجر مرتين سيسبب لى متاعب مع المزايدين التقليديين مع العرب.


رجاء من فورد

ولكن كيسنجر أقنع فورد بنظريته في الحضور إلى المنطقة مرتين. فأرسل إلى فورد خطابًا يرجونى فيه الموافقة على رأى كيسنجر على أن تكون الرحلة الأولى استطلاعية والثانية لإتمام الموضوع.

عندئذ أرسلت خطابًا إلى فورد يتضمن موافقتى.

وبالفعل جاء كيسنجر في فبراير في رحلة استطلاعية. وكنت قد حددت بوضوح أهداف مصر في المضايق والبترول وأكدت عدم استعدادى لأية مناقشة في أقل من هذا إطلاقًا. كذلك لن أناقش إطلاقًا في إنهاء حالة الحرب. ولكن الإسرائيليين - كعادتهم - أرادوا للمفاوضات أن تدخل في متاهات تبعدها عن خط سيرها الأصلى. من هذه المتاهات إصرارهم على إنهاء حالة الحرب، ومناقشة وضع المضايق والبترول، على أن نقتسم المضايق فيحصلون على مضيق ونحن على آخر، كذلك البترول الذى تقع آباره في الشمال والجنوب أرادوا اقتسامه بنفس أسلوب اقتسام المضايق.


وفى الزيارة الثانية

عندما بدأ كيسنجر رحلته الثانية في مارس، كنت في أسوان وبدأ شوط التنقل ما بينى وبين إسرائيل على مدى 17 يومًا حاول فيها كيسنجر بكل إمكانياته اقناع الطرفين بالوصول إلى اتفاق لفض الاشتباك. وبعد عشرة أيام من رحلات المكوك بين أسوان وإسرائيل قلت لكيسنجر أن مجهوداته لن تسفر عن شيء لأن الإسرائيليين ليسوا على استعداد أو لديهم القدرة على صنع السلام ولذلك فهم يقاومون أية خطوة نحوه. ولكن كيسنجر تذرع بطول البال ورجانى أن أمنحه الفرصة لكى يبذل أخر جهد ممكن.

وكنت قد أعلنتها صريحة وواضحة أنه لا إنهاء لحالة الحرب إلا بعد الحل النهائي في جنيف، وجاءنى كيسنجر في اليوم العاشر من المفاوضات مستبشرًا وسعيدًا بقرب وصلوه إلى الاتفاق لأن إسرائيل وافقت على عدم مناقشة إنهاء حالة الحرب. ولكننى لم أقبله بنفس الاستبشار والتفاؤل، بل صارحته بأن أسلوبهم الذى عرفته منه، والطريقة التي تجرى بها المفاوضات وغير ذلك من البوادر والعلامات تدل على أن موقف الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته من الضعف بحيث عجزا عن إلزام إسرائيل باتفاقاتها مع الحكومة الأمريكية.

أوضحت لكيسنجر أن السياسة الإسرائيلية القائمة على التلاعب والتسويف والمماطلة والتأجيل تهدف أساسًا إلى التخلص منه لكى تكسب وقتًا حتى عام الانتخابات الأمريكية في 1976، وأن الحكومة الإسرائيلية حكومة هزيلة غير قادرة على صنع السلام، بل والشعب الإسرائيلي نفسه خائف من صنع السلام. ولذلك لا فائدة تُرجى من مجهودات كيسنجر في هذا الشأن.

ولكن كيسنجر أصر على تفاؤله وأكد أنه طالما أنهم صرفوا نظرهم عن إنهاء حالة الحرب، فإن الأمل كبير في إتمام الاتفاق. ولكننى أعلنتها أمام كيسنجر وفى حضور إسماعيل فهمى والجمسى والحاضرين جميعًا أنها من غير الممكن أن يعقد الاتفاق في هذه الزيارة لأن إسرائيل لم تصل بعد إلى هذه المرحلة سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبى.

وبالفعل ذهب كيسنجر إلى إسرائيل وعاد بخفى حنين.

وعاد ومعه تحديد خطوط الانسحاب من المضايق والبترول على الخريطة. لم يقل لى شيئًا عن الخريطة التي عاد بها بل قال أنهم رفضوا تحديد أي خط على أساس أنهم يريدون الاحتفاظ بمونيتور "جهاز كشف التحركات عن بُعد" في مضيق من المضايق، كما أنهم يرغبون في أن يظل الخط متعجرفًا في بعض المناطق، وأن نصل إلى البترول عن طريق الشرق بحيث نمر إلى البترول في أرض يحتلها الإسرائيليون.

عندئذ قلت لكيسنجر أن كلامى معه كان بناء على دراسة ومعرفة بالنفسية الإسرائيلية المعقدة، أو كما نقول نحن "جالك كلامى"!! وكان من الواضح أن خيبة أمله تجل عن الوصف.


إعلان الفشل

ومع احترامى لأحاسيس كيسنجر، إلا أننى طلبت منه على الفور دراسة احتمالات المرحلة التالية لفشل مهمته. وأوضحت له أن فشل مهمته سيكون بسبب تشدد الإسرائيليين وتلاعبهم وسوء نواياهم وليس بسببنا على الإطلاق.

واعترف كيسنجر بمرونتى إلى أبعد مما تصور في مقابل إصرار إسرائيل. ثم سألنى قبل آخر رحلة له إلى إسرائيل عما إذا كان سيعود إلى بعد الفشل النهائي لمهمته أو أنه سيتوجه إلى الولايات المتحدة رأسًا؟ فقلت له أن عليه التوجه مباشرة إلى الولايات المتحدة.

وسافر كيسنجر إلى تل أبيب حيث قضى يومين أو ثلاثة هناك. ونفاجأ بعدها بوصول برقية الساعة العاشرة مساء تفيد بأن بيان فشل مهمة كيسنجر سيُذاع الساعة الحادة عشر مساء.

في تلك اللحظة كان إسماعيل فهمى في فندق الكتراكت بينما كنت في استراحتى في أسوان فطلبت في الحال من إسماعيل فهمى أن يعلن في الساعة الحادية عشرة - مع إذاعتهم تمامًا - فشل مهمة كيسنجر وانهيار السياسة الأمريكية القائمة على الخطوة.. خطوة بسبب تعنت إسرائيل وتلاعبها.

وتسبب إعلاننا هذا في ثورة الوزارة والرأى العام في إسرائيل على رابين لأننا نجحنا في أن نسبق الإسرائيليين بمدة 14 ساعة في إذاعة النبأ والسبب. ونقل العالم النبأ عن إذاعتنا بينما اضطر رابين إلى عقد مؤتمر صحفى بعدنا بمدة 14 ساعة لكى يعلن النبأ الذى كان العالم يعرفه مقدمًا.

--------------------

هوامش:

(1) جيرالد رودولف فورد الابن: سياسى أمريكى ولد فى 14 يوليو 1913م.. تولى منصب الرئيس الثامن والثلاثين للولايات المتحدة من عام 1974م وحتى 1976م فى أعقاب استقالة ريتشارد نيكسون.. ترشح للرئاسة فى 1976م إلا أنه خسر أمام جيمى كارتر.. توفى فى 26 ديسمبر 2006م.

(2) إيغال آلون: سياسى إسرائيلى ولد فى 10 أكتوبر 1918م.. وهو قائد لقوات البلماح ولواء فى جيش الدفاع الإسرائيلى.. كان أحد قادة حزب أحدوت هعفوداه وحزب العمل الإسرائيلى.. ورئيس وزراء إسرائيل بالنيابة.. توفى فى 29 فبراير 1980م