عفوًا.. الفانوس مصرى.. والمسحراتى أيضًا
بقلم: عبد الله إمام
الجمهورية الخميس 14 نوفمبر 2002م - 9 رمضان 1423هـ
حدث تغير طفيف في الاحتفال بشهر رمضان على طول العهود الإسلامية التى مرت بمصر، وظلت أغلب العادات والمأكولات كما هي الكنافة هي الكنافة.. والقطايف هى القطايف، والفانوس هو الفانوس ويرجع البعض حكاية فانوس رمضان الشهير بمصر إلى العصور الإسلامية الأولى، عندما كان الفانوس ضرورة الوسيلة الوحيدة للإضاءة خاصة في ليالى يكثر فيها الخروج بالليل للسهر أو لتبادل الزيارات وقد توارث الأطفال هذه العادة واستمرت حتى اليوم.
ويروى أن المعز لدين الله الفاطمى دخل القاهرة ليلا في الخامس من رمضان فاستقبله الأهالي جميعهم بالمشاعل والفوانيس.. وبعدها حمل الأطفال الفوانيس وراحوا يطوفون فى الشوارع يطالبون بالحلوى وبالهدايا.. فرمضان هو شهر البذل والعطاء.. وكان الشعراء يقضون الليل في مساجلات شعرية أشهرها ما دار حول الفوانيس.
وكان بعض العلماء قد اقترح على السلطان برسباي المملوكي عدم إطفاء القناديل فى رمضان إلا قبيل طلوع الفجر إعلانًا بانتهاء فرصة تناول السحور..
وكان الذين يخرجون لرؤية هلال رمضان إذا ثبت لهم الرؤية يعودون بعد صلاة المغرب يحملون الشموع والفوانيس.. فيعرف الناس أن الرؤية ثبتت وأن بداية الصوم ستكون فى اليوم التالي وعندما يشعل التجار أيضا الشموع ويوقدون الفوانيس بمحلاتهم. ويتحول الليل إلى نهار من كثرة الفوانيس التى تضاء في جميع المساجد والطرقات.. ويدق الناس الطبول، وترتفع نغمات الغناء.. ولا ينام أحد..
ويقول الدكتور محمد سعيد عاشور أن فابر الرحالة الأجنبي الذي زار مصر سنة 1483 دهش ليلة دخوله القاهرة لكثرة الأنوار والمشاعل في الطرقات والفوانيس المختلفة الأشكال والألوان التى يحملها الكبار والصغار، ولما استفسر عن سبب هذه الضجة قيل له أنه شهر رمضان وأن المسلمين يحتفلون به على هذا النحو..
كانت الفوانيس تُضاء بالشموع وكان هناك سوق لبيع الشموع هو سوق الشماعين ويقول المقريزى أن «هذا السوق من الجامع الأقمر الى سوق الدجاجين - لبيع الدجاج - كان يعرف فى الدولة الفاطمية بسوق القماحين وعنده بنى المأمون ابن البطائحى الجامع الأقمر باسم الخليفة الآمر بأحكام الله وبنى تحت الجامع دكاكين ومخازن من جهة باب الفتوح، وأدركت سوق الشماعين من الجانبين معمور الحوانيت بالشموع الموكبية والفانوسية والطوافات لا تزال حوانيته مفتحة إلى نصف الليل، وكان يباع في هذا السوق فى كل ليلة من الشمع وقد خرب ولم يبق به إلا نحو الخمس حوانيت بعدما أدركتها تزيد على عشرين حانوتًا وذلك لقلة ترف الناس وتركهم استعمال الشمع وكان يعلق بهذا السوق الفوانيس في موسم الغطاس فتصير رؤيته فى الليل من أنزه الأشياء وكان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يشترى ويكترى من الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منها عشرة أرطال فما دونها ومن المزهرات العجيبة الزي المليحة الصنعة ومن الشمع الذي يحمل على العجل ويبلغ وزن الواحدة منها القنطار وما فوقه كل ذلك برسم ركوب الصبيان لصلاة التراويح فيمر في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية وصفه وقد تلاشى الحال في جميع ما قلنا لفقر الناس وعجزهم..
وكان الاحتفال بليل رمضان فى المساجد بقراءة صحيح البخاري فقد جرت العادة أن يبتدأ بقراءة البخارى فى أول يوم من شهر رمضان بين يدى السلطان ويحضره طائفة من قضاة القضاة والفقهاء ولم يزل الأمر على ذلك حتى تسلطن المؤيد شيخ فجعل قراءة البخارى بالقلعة تبدأ من أول شعبان وتستمر حتى السابع والعشرين من رمضان وزاد السلطان شيخ على ذلك أن دعا لحضور ذلك المجلس جمعًا كبيرًا من مشايخ العلم والطلبة حتى زاد عددهم سنة 819 على ستين فقيهًا «طرف لكل منهم ألف درهم فلوسا» وكانت تدور فى هذه المجالس بحوث ربما اشتدت فيها المناقشات والجدل حتى يسيء بعضهم إلى بعض فينقلب المجلس إلى صياح وشتائم مما جعل المقريزى يصف هذه المجالس بأنها «منكر في صورة معروف ومعصية فى زى طاعة» نظرًا لما تثيره من حزازات بين رجال العلم والدين وقد عالج السلطان جقمق هذا الإشكال سنة 842 بأن منع الحاضرين من البحث وحرم عليهم المناقشة أثناء المجلس «فانكفوا عن ذلك والحمد لله فإذا تم ختم البخارى - وذلك عادة في الثلث الأخير من شهر رمضان - احتفل السلطان بذلك فترسل الخلع الى القضاة والعلماء والفقهاء وتوزع الصرر..
والمسحراتى أيضا وظيفة قديمة وتختلف طريقة التسحير ففي القاهرة يطوف المسحراتى بالطبلة البيوت ويضرب عليها وفى الإسكندرية يدق الأبواب على السكان ويناديهم باسمهم وكان والى مصر عنبسه بن اسحق يذهب إلى جامع عمرو ماشيًا من مدينة العسكر وينادي في طريقه بالسحور.
وكان المؤذنون يقومون من فوق المآذن بتذكير القيام بالسحور ويقول د. حسن عبد الوهاب أن ابن الحاج العالم المتزمت فى القرن الثامن الهجرى أنكر كثيرًا من التقاليد الخاصة بشهر رمضان ومنها التسحير فقال: إن المسلمين عرفوا التسحير منذ صدر الاسلام إذ كانوا يعرفون جواز الأكل بأذان بلال ومنعه بأذان ابن مكتوم.. ومن رأيه السير على تلك السنة أى أن يكون في المساجد آذانان بشرط تميز صوت الأول عن الثاني، فقد جرت العادة أن المساجد الكبيرة يكون فيها أكثر من مؤذن.. ثم ذكر أن التسحير فى الديار المصرية بأن يقول المؤذن: تسحروا.. كلوا واشربوا.. ويسحرون أيضًا بالطبلة يطوف بها المسحر على البيوت ويضرب عليها أما أهل الإسكندرية وأهل اليمن فيسحرون بدق الأبواب على أصحاب البيوت أما أهل الشام فإنهم يسحرون بعزف الآلات الموسيقية والغناء وفي المغرب يفعلون قريبًا مما يفعل أهل الشام.. وقد أنكر ابن الحاج أيضا تعليق الفوانيس التى جعلوها علمًا على جواز الاكل والشرب ما دامت معلقة موقودة على المنارات وعلى تحريم ذلك إذا أنزلوها».
صورة من المقال: