الصاعقة (3)
من ملفات المخابرات العامة
انفرد بتفاصيلها وأعدها للنشر: ابراهيم نافع
جريدة الأهرام - الأربعاء 21 أكتوبر 1998م - 1 رجب 1419هـ
(بالتزامن مع جريدة الحياة اللندنية فى نفس اليوم)
قصة هشام محجوب.. جاسوس إسرائيل الذى استخدمته مصر فى عملية الخداع الاستراتيجى قبل حرب أكتوبر
المبنى رقم (2) فى شارع بالاس جرين، هو مقر السفارة الإسرائيلية فى لندن منذ نشأة الدولة عام 1948، وقبل مائة عام، كان يقطن هذا البيت ذا الواجهة المكونة من الطوب الأحمر، وأطر النوافذ البيضاء مؤلف يهودى مشهور اسمه موزاريت مونتفريو.
المكان شكله موج غامض، وباعث على محاولة التقصي، والاكتشاف!.
لا يمكن لأحد أن يتصور طبيعة ما يجرى داخل هذا المبنى ـ الآن ـ من أحداث، بطلها هشام محجوب.. الذى كان ـ دون أن يدرى ـ قد بدأ انزلاقه فى هذا الطريق منذ مدة طويلة.. ربما من اللحظة التى قابل فيها رأفت مدير الرويال لانكستر.
إن عشرات الصور تمر أمام عينيه ـ الآن ـ وعشرات الجمل يقوم باستدعائها إلى ذاكراته، وجميعها جميعها تكتسب فى هذه اللحظة معانى مغايرة، لما حاول أن يخدع نفسه به من قبل، أو ينفض تأثيره من دماغه ببساطة.. لقد حاول أن يتجاهل ويرفض، الحقيقة، التى تفرض نفسها ـ عليه ـ بقسوة فى هذه اللحظات.
***
كان السنجاب حبيسا فى دار السفارة الإسرائيلية فى لندن!
وكان ذهاب هشام مع إدوارد إلى دار السفارة، مثيرا للاهتمام والدهشة فى آن واحد من رجال المتابعة.
إذ أنه من غير الطبيعى أو المنطقي، أن تصطحب العميل، إلى دار السفارة، وإن حدث هذا فلابد أن يكون بسبب غير عادي، أو استثنائى.
وفيما بعد ومن خلال أوراق التحقيقات انفكت طلاسم هذا العمل غير المفهوم، عن حقيقة مذهلة، حيث كان الصلف، والغرور وتعالى الموساد، هو السبب فى تجاهل هذا الإجراء التأمينى الأولى والبدائى.. إذ كان الجميع فى الموساد يظنون أن جهاز المخابرات المصرى لا يمكن أن يكون متابعا للقصة منذ بدايتها على هذا النحو، كما تصور بعض أفراد الموساد، أن اللجوء لتصرف غير طبيعى على هذا النحو، يحقق ـ فى ذاته التأمين الكامل، لأن أحدا لن يتصوره!!
........................
أما فى القاهرة فقد كان دخول هشام محجوب إلى دار السفارة الإسرائيلية فى لندن، يمثل لفريق إدارة العملية، ضوءا أحمر، يؤكد أن العملية دخلت بهذه الزيارة، حيز التكليفات الحقيقية المباشرة لهشام.. وبدأت تحركات مضادة، تقوم على فتح قنوات اتصال، بحذر، مع بعض المحيطين بهشام فى العمل، وفى القاهرة، وكذلك فى لندن، حتى تكون حركته وأهدافه مكشوفة من لحظة التكليف.
***
على أية حال، لقد أدخل الفأر نفسه فى المصيدة، وابتلع الطعم حتى آخره، وجلس مذهولا فى الغرفة الضيقة المغلقة بين أربعة جدران، ووحيدا لمدة ساعة كاملة، حتى فاجأه إدوارد بأنه داخل السفارة الإسرائيلية، وأنه قد أصبح عميلا لهم سواء قبل أو لم يقبل!
ولما لم يجد إلا الصمت والذهول على وجه هشام أكمل إدوارد، ولكن بنبرة ناعمة وحنون أنت ـ الآن صديقنا ـ ونحن نمد يدنا إليك وعليك أن تقبل صداقتنا.
وفيما كان هشام يجلس على مقعده بلا حراك، كان إدوارد يدور حوله، وهو يتلوى كحية ويضرب برفق على راحة يده، مستخدما فتاحة أظرف فضية.
كان ينتظر رد فعل من هشام يفيد الموافقة.. يسعى لمناقشة أى شيء.
ولكن هشام كان قد توقف عن التفكير، وفقد ـ ولو مؤقتا ـ قدرته على النطق!!
وعاد إدوارد يفصح عن شراسة متوحشة، وهو يردد بنبرات هامسة، ولكنها ضاغطة على كل خلية من أعصاب هشام.
لدينا إيصالات بتوقيعك، بلا تواريخ وصورة لك معنا والأوراق التى سبق وسلمتها لنا بخط يدك.. ونستطيع أن نضع عليها تواريخ قديمة، تؤكد تعاملك معنا منذ سنوات طويلة، بل إننا سوف نقوم بكتابة تقارير عسكرية وسياسية، واقتصادية نقلد فيها خطك، ونرسلها إلى المخابرات المصرية، إذا لم تتعاون معنا وتصبح طوع إشارة من أصبع يدى الصغير.. وإذا حاولت ابلاغ السلطات المصرية، فسنرسل كل هذا أيضا إلى المخابرات المصرية، لكى يعرفوا أنك رجلنا منذ سنوات!!
أسقط فى يد هشام، وأدرك ساعتها أنه قد أصبح، بالفعل، سواء أراد أو لم يرد، عميلا لإسرائيل.
كل ما فعله.. هو أن هز رأسه، ثم أطرق غارقا فى الصمت الرهيب.
وعندما أدرك إدوارد أن (السيطرة) على العميل قد تمت على أحسن وجه.. عاد مرة ثانية إلى الحديث إليه بلهجة ناعمة، وحاول إخراجه من الإحساس القاتم الذى سقط فيه، مطمئنا إياه، أن أحدا لن يستطيع اكتشاف العلاقة أبدا، وأنه يعمل مع أقوى جهاز مخابرات فى العالم (الموساد)، وأن هذه العلاقة ستمنحه مالا ووضعا لا يحلم بهما وبدأ إدوارد يحصل منه على معلومات أكثر تفصيلا عن كل من يعرفهم فى القوات المسلحة من أقارب وأصدقاء وفترة خدمته وتجنيده بالقوات المسلحة المصرية وقام بتلقينه بتعليمات الأمن اللازمة وحدد له موعدا فى اليوم التالى.
وفى اليوم التالي، كان لقاء آخر بين إدوارد وهشام فى فندق ستراند، مستغلين مداخله ومخارجه العجيبة فى التمويه، وتأمين اللقاء، والعجيب أنهما لجآ للتمويه فى مقابلات فندق ستراند، بينما كان لقاء التجنيد الحقيقى قد تم فى دار السفارة، ودون أية سواتر.
جلس إدوارد إلى ضحيته الذى قد بدأ يفقد توتره وغضبه بخاصة أن إدوارد أعطاه مظروفا مليئا بأوراق مالية عند اللقاء فى الفندق.
واتفق الطرفان، على أن يخرج كل منهما من أحد أبواب فندق ستراند، ويستقل سيارة تاكسي، تتجه إلى عنوان معين كتبه له إدوارد.
وحين وصلت السيارة الأجرة إلى هذا العنوان فى ميدان سلون (أحد أرقى أحياء العاصمة) تبادل إدوارد وهشام النظرات، ثم دلف كل منهما منفردا الى باب البناية، التى تعلو محطة سلون سكوير لمترو الأنفاق!
وعندما وصلا إلى عتبة الشقة (83) فى الدور الثامن، كان إدوارد يتلفت، حتى يتأكد أن أحدا لم يتبعهما.
رن الجرس بسرعة، ففتح شخص، ليطل برأسه أولا، ثم يدعوهما للدخول.
قام إدوارد بتعريف هشام، بهذا الشخص، وقال إن اسمه جورج، وبدأت فى هذه الشقة، أولى وقائع تدريب الجاسوس هشام على محجوب، على استخدام الحبر السرى فى الكتابة، فى مراسلته لهم وتحديد عنوان للتراسل. وأسلوب استقباله للتعليمات الصادرة له منهم بواسطة الراديو.
وقد ساعدت دراسة هشام فى معهد اللاسلكى على هذا كثيرا، ولم يكتف جورج وإدوارد بهذا، بل أشارا إلى بعض ملاحظات، يمكن إذا درسها هشام ومع بعض التدريب أن يجيد اسلوب اجادة العلاقات مع الآخرين وكيفية استخدام وسائل الإخفاء.
***
على أية حال لقد بدأت تكليفات الموساد لهشام، بالحصول على معلومات متنوعة فى المجال العسكرى أو المدنى وكان رجال المخابرات المصرية يتوقعون أن يتقدم هشام إليهم من تلقاء نفسه بعد هذه المرحلة للإبلاغ عما حدث ولكنه فضل التعامل مع المخابرات الإسرائيلية.
وكانت فترات إقامة هشام فى لندن، أو فى القاهرة تتجدد بنوع التكليفات.
كانت كيمياء هشام تتغير من الداخل!.
نسى الصدمة والدهشة، والغضب والخدعة!!.
وغرق إلى آخر مدى فى تلبية احتياجات جورج، بل وأصبح ـ أحيانا ـ يبادر، دون أن يطلب أحد منه بالإبلاغ عن أحوال بعينها!! واستمرت متابعة هشام مع إحكام السيطرة على جميع تحركاته ومراسلاته السرية بالإضافة إلى دفع بعض الضباط من أصدقائه لمده بالمعلومات التى يرغب الحصول عليها لدسها عليه دون علمه بما يخدم المصلحة القومية للبلاد واستغلال ذلك فى التحضير لخطة الخداع الاستراتيجى لحرب أكتوبر 1973.
أثناء وجود هشام فى لندن كان دائم التردد على حانة فى منطقة نوتينج هيل جيت، بجوار بنك باركليز، اسمها البجعة وكان يحاول اجتذاب بعض الأفراد المصريين العاملين فى مؤسسات مختلفة لمعرفة أى أخبار منهم بدعوتهم إلى مشروب فيها، والثرثرة معهم عن كل شيء.
وقد كان مكان هشام المفضل هو الجلوس على البار فى أخر مقعد على الشمال، حتى يستطيع أن يرى فى المرآة المواجهة له، ما إذا كان هناك من يراقبه خلف ظهره.. وكان موقع هذه الحانة قريبا من رويال لانكستر، أو الفندق الذى كانت بعض مجموعات مصر للطيران تنزل فيه، وكان هشام بوصفه زميلا لهم، يحاول أن يستدرج بعضهم إلى معرفة معلومات عن من الذى كان يجيء على طائرات مصر للطيران، وبالذات من المسئولين، وكان ذلك فى كثير من الأحيان ـ وقتها ـ سرا لا يعلمه أحد، كما كان موقع هذه الحانة قريبا من مدخل شارع بالاس جرين، الذى يخترق حديقة كينزنجتون الملكية، وهو الموقع الذى توجد فيه السفارة الإسرائيلية، تلك التى ارتبطت فى ذهن هشام بذكرى لا تنسي!
نعم كانت كيمياء هشام تتغير!.
كان يسأل الطيارين بطرق غير مباشرة وأساليب لا تثير الشكوك عما اذا كانوا قد لاحظوا تغييرات معينة فى القواعد العسكرية، التى تمر طائراتهم إلى جوارها، وكان يسألهم عما إذا كانوا مازالوا يلتقون بزملائهم الطيارين العسكريين، الذين تزامل بعضهم معهم فى الكلية الجوية وقت الدراسة،
ويسأل عن أنواع الأسلحة الجديدة، والروح المعنوية داخل الجيش، وقدرات سلاح الطيران.
ثم إنه كان يسأل ـ عن بعض قواعد القوات الجوية بالذات.
وكان رجال المخابرات المصرية الذين يتابعون العملية فى القاهرة ولندن، يلاحظون أن السنجاب نشيط جدا، فى جمع ثمار البندق والكستناء، وأن الجاسوس قد نشط فى جمع الأخبار والمعلومات.
وبدأت مرحلة معقدة جدا من متابعتهم للعملية، إذ عمدوا الى تسريب البيانات والأخبار المضللة إلى هشام.
واستمر استخدام عناصر من العاملين فى مصر للطيران، والمؤسسات المصرية فى لندن وبعض أصدقاء شقيقه فى القوات المسلحة لتسريب معلومات تسبب ـ دون أن يدرى ـ فى إرباك القرار العسكرى الإسرائيلى.
كان العمود الفقرى لهذه المعلومات هو الحديث عن أن جزءا كبيرا من طائرات سلاح الجو المصرى السوفيتية الصنع، سوف تصبح خردة فى ظرف شهور، إذا استمر تباطؤ موسكو فى إمداد مصر بقطع الغيار وأن النسبة الغالبة من المعدات الخاصة الموجودة فى قاعدة كوم أوشيم، لا تستطيع الصمود فى معركة يزيد طولها على 48 ساعة، لعدم توافر خطوط ذخيرة، أو قطع غيار.
وأن بعض القادة والضباط قد بدأوا بالفعل تنفيذ، ما نشرته بعض صحف القاهرة، من الحصول على إجازات لأداء العمرة!.
وفوق هذا مجموعة من التصريحات المكذوبة، والمنسوبة إلى القادة تؤكد أن احتمال الحرب هو احتمال مستحيل، وأن التصريحات السياسية التى تؤكد مثل هذه المسألة هى محض أقوال للاستهلاك المحلى.
وإمعانا فى زيادة مصداقية هذه المعلومات الكاذبة، لدى العدو، فقد كان رجال المخابرات المصرية يزودونه هنا ــ عن طريق وسطاء طبعا ــ بتفاصيل فنية تزيد من أرجحية وثقل، المعلومات التى سينقلها إلى إسرائيل، وإلى الموساد.
من ضمنها مثلا أن خراطيم الوقود فى الطائرات المصرية، السوفيتية الصنع، فى شح شديد، وأن هذا العيب فى ذاته كفيل بتعطيل جزء غير بسيط من طاقة وقدرة سلاح الجو فى مصر، وأن أجهزة التنشين الليلى لم تصل إلى القاهرة، ومن ثم لم يتم تركيبها على بعض المعدات بما يضعف قدرة هذه المعدات على القتال فى جميع الأجواء.
وأخيرا فقد كان هشام ـ القناة التى عملها ـ ينقل معلومات خاطئة إضافية لإسرائيل، عن نيات مصرية بتسريح دفعات كبيرة من قواتها المسلحة، وأن المناورات التى تقوم بها هذه القوات، هى مجرد محاولات فاشلة، لرفع الروح المعنوية لأفراد القوات المسلحة حتى لا يتمردوا ولخداع الشعب حتى لا يثور!!.
لقد تم استخدام هشام فى فصول خطة الخداع الاستراتيجى لحرب أكتوبر 1973، حتى ساهمت المعلومات التى نقلها فى إقناع قادة إسرائيل بأن مصر لن تحارب ولو بعد مائة عام!.
أما هشام نفسه، فقد بدأ يتصرف كجاسوس محترف!!.
وكان ينوع مداخله، وطرق وصوله إلى كل من شقة جورج فى سلون سكوير، أو إلى دار السفارة الإسرائيلية فى بالاس جرين. فمرة يدخل إلى بالاس جرين من ناحية نوتينج هيل جيت، بعد أن يكون قد احتسى مشروبا فى حانة سوان، أو جلس يعتصر بعض المعلومات من شخصية يختارها بدقة.. ومرة يدخل إلى نفس الشارع من بالاس جيت، وشارع كينزنجتون جروف العريض الشهير، الذى تربض فيه قاعة الموسيقى العظيمة رويال ألبرت هول، كإحدى علاماته التى لا تغيب عن البال!.
أما شقة جورج فقد كان يصل إليها أحيانا بتاكسي، أو يجلس على مقهى بالم تحتها، ثم يتمشى إلى بوابة بنايتها، أو يركب مترو الإنفاق، ويركب المصعد من النفق مباشرة، دون حاجة إلى أن يظهر على سطح الأرض.
وبدا هشام منهمكا فى عمليات جمع المعلومات، وتسليمها باليد، أو إرسالها بالشفرة وبالحبر السري، على عناوين بعينها فى أوروبا، وفى إنجلترا نفسها تم تلقينها له، كما بدا منهمكا فى الحصول على المال، بل وبدأ يدخل فى عمليات مساومة حول زيادة سعر المادة التى يأتى بها.
بعبارة أخرى بدأ يعرف قيمة البضاعة التى يبيعها.. البضاعة التى لم تكن تعنى ـ من زاوية أخرى غير تلك التى ينظر منها ــ سوى الوطن وشعب هذا الوطن.. الآباء، والأشقاء، والأبناء، والأصدقاء.
وكذلك بدا هشام أثناء وجوده فى لندن منهمكا فى أن يعيش فصول حياته الجديدة، حيث يذهب إلى كازينو البلاى بوى وحده، وإلى المطاعم الفاخرة، وبدأ يتعلم مصادقة البنات، والأنفاق عليهن.. بل وبدأ يحجم عن إمداد أبيه بكل المصروفات اللازمة لعلاجه، مفضلا أن ينفق ماله على هذا اللون من الإنفاق الجديد.. واللذيذ!!.
كما أصبح المكتب الذى استأجره فى مصر، يسبغ وجاهة شديدة على شاغله!.
وبالطبع عرف هشام أنه لا توجد شركة بلجيكية للجرارات ولا يحزنون، وأصبحت صفة هذا المكتب.. استيراد بعض الأجهزة الكهربائية الكمالية التى لا تصنعها مصر، وطرحها فى المعارض التى تزخر بها الأسواق!!.
........................
وفى يوم السبت السادس من أكتوبر، وفى الساعة الثانية والنصف، كان هشام يتسكع فى شوارع القاهرة، باحثا عن قميص ظريف، ورابطة عنق، يرتديهما فى سهرة صاخبة كان قد خطط لها.
وفجأة تسمر فى مكانه، إذ طرقت أذنه بعنف عبارة، أطلقها رجل جواره، وهو يخاطب آخر.
الحرب قامت.. ومصر وسوريا هاجمتا إسرائيل!
لم يكن هشام يدرى ـ بالضبط ـ مانوع هذا الشعور العفوى التلقائى الذى بدر منه عندما سمع الجملة.. كان شعورا فاقد الهوية، يتأرجح بين الفرح والغضب والخوف، إلى أن استقر، بتأثير العوامل الواقعية، التى تشكل حدود ملعبه الحالي، إلى أن يصبح شعورا بالخوف، والرغبة فى أن تنهزم مصر وتنهزم سوريا!!.
عاد هشام بسرعة إلى منزله وبدأ فى أرسال خطابات للموساد على العناوين المحددة له ولكنها لاتصل حيث كانت المخابرات المصرية تحصل عليها قبل وصولها الى العدو.
وكانت الساعات التالية تحمل أنباء الاكتساح الهادر الذى حققته القوات المصرية لخطوط إسرائيل.. وبدأ هشام يشعر أنه أصبح مسكونا بالخوف، واستمر يحاول الاتصال بإدوارد وجورج من خلال الخطابات.
نزل هشام إلى الشارع يحاول إلهاء نفسه بأى شئ!
لم يكن يفكر سوى فى نفسه.
لم يتذكر حتى أمه، أو أخاه الذى لابد أنه ــ فى تلك اللحظات ــ كان يشارك فى القتال المستمر الذى يدور خندقا بخندق، وموقعا بموقع.
وانطلقت المسيرات فى مصر تؤيد القوات المسلحة وتزغرد من أجل العبور.
***
هذا المشهد العظيم فى أكتوبر 1973، جعل هشام على يقين بأن طريقه، هو فى اتجاه واحد، إلى إسرائيل!!.
وبعد أن انتهت الحرب التى أعادت الكرامة لكل العرب، وحطمت غرور إسرائيل وأذاقتها الذل، دخل هشام على محجوب مرحلة جديدة فى علاقته بإسرائيل، إذ كان يود أن يؤكد للموساد إخلاصه، وأن المعلومات التى ينقلها إليهم صحيحة، وأنه لا يعرف كيف استطاعت مصر أن تحارب، على الرغم من كل المعلومات التى توافرت لديه قبل ذلك، والتى نقلها جميعا إلى إسرائيل.
ومن جهة أخرى فقد كان الموساد يشك ــ بقوة ــ فى هشام بعدما اعتمدت قيادات لقطاعات كثيرة من الجيش الإسرائيلي، على المعلومات المضللة التى كان يمدها بها، واتخذت من القرارات قبيل القتال، وأثناءه، ما نجمت عنه هزيمة إسرائيل الكاسحة.
........................
انغمس هشام ــ أكثر ــ فى وحل الهوان والخذلان ــ، بذهابه إلى إسرائيل بجواز سفر باسم آخر، من مطار أورلى فى فرنسا.
وفى تل أبيب قام رجال الموساد ــ بحضور إدوارد الذى كان يقول دائما: معى الكتالوج الخاص بهذا الولد ـ باستجواب هشام، وذلك للتأكد من أنه ليس كاذبا. ثم رأى الموساد أن يعاد تدريب هشام من جديد، على استخدام جهاز لاسلكى حديث، ثم عاد إلى فرنسا ومعه جهاز لاسلكى عبارة عن بار خشبى للتمويه.
كل هذا وعيون مصر الساهرة تتابعه فى كل خطوة، حتى داخل إسرائيل نفسها.
وبعد عودة هشام للقاهرة، دخل رجالنا إلى مقر إقامة هشام، وعطلوا جهاز اللاسلكى.. وكانت هذه رسالة أزعجت الموساد جدا، إذ أن تعطيل الجهاز بهذا الشكل كان يعنى أن هشام تحت الرقابة، إلا أن الكفاءة الفنية المذهلة لرجالنا، جعلت عملية تعطيل الجهاز تبدو، وكأنها عملية طبيعية وليست وليدة تخريب!! حيث سبق التعرف على إمكانيات هذا الجهاز من عمليات سابقة فى المخابرات المصرية.
ومرة أخرى سافر هشام إلى تل أبيب ــ عبر فرنسا ــ حيث تم تدريبه على جهاز لاسلكى آخر جديد ووضع فى وسيلة إخفاء مختلفة (ثلاجة صغيرة).
وعند ذلك صدر قرار جهاز المخابرات العامة فى مصر، بإغلاق ملف عملية السنجاب، بعد أن أدت دورها وحققت أغراضها لمصلحة الأمن القومى المصرى.
وصدرت التعليمات إلى عناصر الأمن المصرية من كلمة واحدة المتفق عليها وهى الصاعقة ليتم القبض على هشام بالتنسيق مع نيابة أمن الدولة.
***
هل تريدون أن تعرفوا آخر ورقة فى ملف هذه القصة التى تمتزج فيها البطولة والنصر، بالخزى والخذلان، والصعود بالسقوط، بطولة رجالنا الذين يسهرون على سلامة الوطن وسلامة المواطن وخزى وخذلان من باعوا الأوطان بأرخص الأثمان؟.
فى القاهرة جرى التحقيق معه، بمعرفة رجال نيابة أمن الدولة، وقدم للمحاكمة، وأمام المحكمة اعترف تفصيليا بخيانته وعاره.
وكان الحكم الرادع هو الإعدام.
ولكنه لم يصل إلى منصة الإعدام، فقد مات فى السجن قبل التنفيذ، وهو ـ فى الحقيقة ـ كان قد مات قبل ذلك بوقت طويل.. طويل.. منذ أول لقاءاته مع العدو بقلب ميت وضمير ميت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.