تلخيص كتاب: صلاح الدين الأيوبى
تأليف: د. عبد المنعم ماجد
أحوال المسلمين السياسية:
في العصر الذى ولد فيه صلاح الدين الأيوبى كان هناك انقسام لمسلمى الشرق بين خلافتين إحداهما سنية والأخرى شيعية وقد ضعفت السلطة المركزية في كل منهما فنجح الصليبيون في الاستيلاء على بلادهم في الشام واستذلالهم فكان لابد من وجود قائد يعمل على توحيد المسلمين وإيقاف خطر الصليبيين حتى جاء القائد "صلاح الدين يوسف" أو "صلاح الدين الأيوبى".ظهور صلاح الدين:
اتفقت أغلب المصادر التاريخية على أصل أسرته من الكرد ولذلك أطلق على دولتهم فيما بعد دولة الأكراد، والكرد تعنى الذئب ولا نعرف حتى الآن من أين جاء الأكراد ولعلهم هجرة آرية قديمة، ولكن الكرد في أول الأمر كانوا يعيشون في قبائل متفرقة يحكمها أمراؤها.
وهناك مصادر أخرى تقول أنه من أصل عربى حيث أن صلاح الدين هو يوسف بن نجم الدين أيوب بن شادى بن مروان الكردى. وكذلك اختلفت المصادر في المكان التي أتت منه أسرته. أما تاريخ ميلاده فقد اتفق المؤرخون على أنه عام 532هـ / 1137م.
ولا شك أن صلاح الدين ترعرع في مدينة "بعلبك" وهى مدينة قريبة من دمشق من جهة الساحل ومن المؤكد أن أباه "أيوب" قد أحسن تربيته حيث يصف "إبن الأثير" أيوبًا بأنه كان له عقل ورأى وحُسن سيرة وقد بقى أباه وأهله في خدمة الأتابكية حتى بعد مقتل عماد الدين على يد غلمانه في سنة 541هـ / 1146م إذ أسرع ابناه "غازى" و"نور الدين" إلى الاستيلاء على أملاك أبيهما فأخذ الابن الأكبر "غازى" الموصل وبلاد الجزيرة واستولى الثانى على حلب ولكن أطماع "معين الدين أنر" المسيطر على أتابكة دمشق نتيجة لموت عماد الدين دفعته إلى مهاجمة بعلبك التي فيها "أيوب" فسلمها له "أيوب" وانتقل "أيوب" وأبناءه إلى دمشق وأصبح أحد قواد هذه الأتابكية ويذكر أنه سلم بعلبك إلى "معين الدين" خوفًا من أن ولدى "زنكى" لا يمكنهما انجاده لانشغالهما بتوطيد سلطانهما ولأنه "معين الدين" عوضه عنها بعشر قرى في بلاد دمشق.
ولقد شارك الأخوين "غازى" و"نور الدين" مع الأتابكيين في الحملة الصليبية التي جاءت بعد موت "عماد الدين" بقياد ة ملك فرنسا "لويس السابع" وملك الألمان "كونراد الثالث" فاخترقت جنودهم بلاد وسط أوربا واتجهت نحو القسطنطينية ولكن الترك السلاجقة في آسيا الصغرى تمكنوا من القضاء على الجزء الأكبر من جيوشهما فى 541هـ / 1146م وبقى الملكان مع قلة وصلوا بهم إلى أنطاكية عن طريق البحر. وهناك قام أمير أنطاكية الفرنسي بالمكائد ضد ملكه فرجع ملك فرنسا إلى بلاده وبذلك لم تُمس أملاك "نور الدين" وأخيه "غازى".
أما "كونراد" فقد اتجه نحو أتابكية دمشق مع أن هدفه كان استعادة الرها حيث لحق به عندها ملك بيت المقدس وحاصرها سنة 543هـ / 1148م فاشترك "أيوب" مع "معين الدين أنر" في صده عنها كما جاء "غازى" و"نور الدين" لنصرتهما ولكن "معين الدين أنر" خاف على ملكه من ولدى "عماد الدين" فأرسل إلى الفرنجة وصالحهم بتسليم بعض القلاع والمال وكان من نتائج هذا الصلح أن جعلت "نور الدين" الذى أصبح أكبر الأتابكة الزنكيين بعد وفاة أخيه الأكبر "غازى" في الموصل سنة 544هـ / 1149م وتنازل أخيه الأصغر "قطب الدين مودود" عن أملاكه في الشام لقاء وراثته أملاك أخيه غازى بالجزيرة ويفكر "نور الدين" جديًا في الاستيلاء على أتابكية دمشق وضمها إلى أملاكه كما كان أبوه يريد من قبل، والذى جعله يعجل بذلك هو استيلاء الفرنجة على عسقلان أكبر معاقل المصريين في الشام سنة 548هـ / 1153م وفى هذا الوقت كان "معين الدين أنر" قد توفى وضعف "مجير الدين" صاحبها ووعد الفرنجة بتسليم بعلبك وكانت مصر تعانى الاضطرابات بسبب مقتل الخليفة الظافر فى سنة 549هـ / 1154م ولقد سلم "أيوب" دمشق إلى أخيه "شيركوه" عندما حاصرها في سنة 549هـ / 1154م فنقل "نور الدين" إليها مركز حكمه بعد أن تركها "مجير الدين" إلى العراق وعين "أيوب" حاكمًا عليها و"شيركوه" نائبًا عنه كما عين "صلاح الدين" رئيسًا لشرطته "الشحنجية" وكان قد بدأت تظهر عليه أمارات الذكاء والشجاعة التي تعلمها "نور الدين".
وبينما كان "نور الدين" يوطد حكم دولته التي اتسعت من حلب إلى دمشق إذ جاءه "شاور" الوزير الفاطمى سنة 558هـ / 1163 طالبًا النجدة والعساكر ضد "ضرغام" والذى طرده من الوزارة واستولى عليها فأطعمه في الديار المصرية ووعده بحصة من خراجها مقدارها الثلث سنويًا ويمنح جنده الاقطاعات ويقيمون في مصر ويكون متصرفًا تحت أمره ونهيه ولقد تردد "نور الدين" أول الامر في إجابة "شاور" إلى طلبه بسبب توسط الفرنجة بينه وبين الديار المصرية إلا إنه قَبّل تحت إلحاح "شيركوه" الذى كان يرغب بشدة في الذهاب على رأس الحملة وربما يكون الدافع في تحريض "شيركوه" لـ "نور الدين" هو أنه فكر في تأسيس مُلك فيها لأسرته إذ يبدو أنه كان متفقًا في ذلك مع أخيه "أيوب" بدليل اصطحاب "صلاح الدين" الذى لم يكن قد تجاوز خمسة وعشرين عامًا ولم يكن "صلاح الدين" نفسه متحمسًا للمغامرة في مصر حيث قال: "خرجت مع عمى كارهًا وأنا كمن يُقاد إلى المذبح".
وكان قبول "نور الدين" لطلب "شاور" راجعًا في رغبته في استعلام حقيقة أحوال مصر والتي وصلت إلى الضعف وعلى ما يمكن الحصول عليه من الفوائد بتقوية المسلمين إذا ما اتحدت معه قوى مصر الوافدة الثراء بالمال والرجال ضد الفرنجة.
وعندما وصل "شيركوه" إلى بلبيس شرق القاهرة خرجت عساكر البرقية المذكورة من قِبّل "ضرغام" بقيادة أخيه "ناصر الدين" لقتال الجيش التركى ولكن عسكر "شيركوه" أجبروه على التقهقر نحو القاهرة فلما دخل جيش "شيركوه" القاهرة خرج "ضرغام" لملاقاة "شيركوه" وحدث قتال عنيف اشترك فيه أول الأمر الجند المصريين والسودانيون خوفًا من الترك القادمون مع "شاور" فانتصر عليهم في القاهرة وبقى "ضرغام" أيامًا يقاتلهم ولكن كراهية الجند الفاطميون لـ "ضرغام" جعلهم ينحرفون عنه مما دعا الخليفة "العاضد" بدوره إلى التخلي عن تأييده له فاستطاع "شاور" بمماليكه وعربانه أن يهزم "ضرغام" ويقتل أخاه وبعدها تولى "شاور" الوزارة للخليفة "العاضد" وتلقب "بالملك المنصور" وكتب "العاضد" سجلًا له بتفويض الوزارة وذكر أنه ما اختاره إلا لخبرته في السياسة والتدبير. ودعاه إلى المحافظة على دعوة الفاطميين كما قلد ابنه الوزارة نيابة عن أبيه "شاور".
وعندما حصل "شاور" على الوزارة ظهرت منه أمارات الغدر بجيش الترك الذى يقيم بظاهر القاهرة وأرسل إلى "شيركوه" يطلب منه الرجوع إلى الشام فامتنع شيركوه وأسرع إلى بلبيس بناء على إشارة "صلاح الدين" الذى بدأت تظهر كفاءته الحربية أيضًا للتحصن بها.
فعمل شاور على الاتصال هذه المرة بالفرنجة ويدعوهم إلى إخراج جند "شيركوه" ووعدهم بمال كثير إذا رحل عسكر "نور الدين" وكان "شاور" يستهدف من وراء ذلك أن يستفيد من نزاعهما بالانفراد بالبلاد فبادر الفرنجة إليه ووجدوا في دعوته الفرصة المناسبة واجتمعت جيوشهم بقيادة ملك بيت المقدس "أمالريك" وحاصروا "شيركوه" و"صلاح الدين" في بلبيس ويساعدهم عسكر "شاور" من العربان والسودان فقاومهم جيش "شيركوه" حتى أعياهم مدة ثلاثة أشهر وانتهى الأمر بعقد اتفاق بمقتضاه خرج "شيركوه" والصليبيون من مصر وخاصة أن "نور الدين" أخذ كعادته في الإغارة على أطراف أملاكهم ليخلص جيوشه من هذا الحصار وأرسل بالأعلام التي غنمها منهم لتنتشر على أسوار بلبيس مما أزعجهم وجعل "أمالريك" يسرع بالعودة إلى بلاده وهكذا انتهت حملة "شيركوه" و"صلاح الدين" الأولى على مصر.
ولكن "شيركوه" الذى رأى ضعف حالة مصر حيث وصفها أنها بلاد بغير رجال أخذ يحرض "نور الدين" من جديد لإرساله على رأس حملة ثانية وقبل "نور الدين" ذلك. فخرج "شيركوه" في سنة 562هـ / 1167م ومعه ابن أخيه "صلاح الدين" ودخل على مصر عن طريق ساحل البحر الأحمر من ناحية الصعيد ثم نزل الفسطاط (وتسمى الجيزة الآن) حتى لا يحاصر في "بلبيس" مرة أخرى، فعندما وصل جيش "شيركوه" أرسل "شاور" مرة أخرى إلى الفرنجة يستنجد بهم ويعدهم بالمال فأتاه "أمالريك" إلى الجيزة وأرسل رسله إلى قصر "العاضد" للاتفاق على المبلغ الذى يدفع له مقابل إخراجه "شيركوه"، فحاربهم "شيركوه" وهزمهم حين حاولوا عبور النيل على جسر أقاموا ولكن بسبب قلة جنده واتجه إلى الصعيد فلما تابعوه هزمهم بفضل مهارة "صلاح الدين" في مكان اسمه (البابين) جنوب المنيا حاليًا ونجا "أمالريك" بحياته بمعجزة وكان هذا من أعجب الانتصارات لقلة عسكر "شيركوه" الذين هزموا "شاور" و"الصليبيين" معًا إذ صمم جنده ألا يسلموا مصر للكفار، ثم سار "شيركوه" إلى الإسكندرية التي رفض أهلها وأعيانها أن يسلموها إلى "شاور" لأن معه الصليبيين وسلموها إلى "شيركوه" وكانوا قد راسلوه من قبل فتركها "شيركوه" لابن أخيه "صلاح الدين" ولقد صمم الصليبيين هذه المرة على سباق جيش "نور الدين" في الوصول إلى مصر بهدف احتلالها مخالفين عهدهم.
ولكى يدير "أمالريك" حملته على مصر سعى إلى الاتفاق مع البيزنطيين وتزوج ابنة أخو ملك بيزنطة "مانويل" (1143 - 1148م) للتربع من على عرش مملكة بيت المقدس ولقد اتفق الطرفان على أن تكون رئاسة الحملة لـ "أمالريك" وأن يطيع القائد البيزنطى في كل ما يأمر به وكان في اعتقادهم أن فتح مصر سيكون سريعًا بسبب أنه كان لهم بأبواب القاهرة حامية وأنهم تحكموا فيها فأسرع "أمالريك" على رأس الفرنجة بالدخول إلى الريف المصرى بالدلتا في سنة 564هـ / 1168م فارتبكت جيوشه في بليس عندما تذكروا ما حدث عند فتح الفرنجة لبيت المقدس فكانوا يقتلون الرجال والنساء والشيوخ.
خاف "شاور من جيش "أمالريك" وأرسل إلى "أمالريك" يسأله عن سبب مسيره فرد عليه بأن هذا رأى الفرنجة بالشام وأنه يريد بعض المال. عندئذ عرف "شاور" نياته فقرر مقاومته فجمع جالية الفرنجة في مصر وقتل منهم جماعة كبيرة وحفر خندقًا وبنى حصنًا وجعل الفقهاء يحضون الأهالى عن القتال ثم أحرق الفسطاط وأمر أهلها بالهجرة إلى القاهرة بقصد عرقلة زحف الفرنجة ولقد ظلت النار مشتعلة في الفسطاط لمدة أربعة وخمسين يومًا. ولقد عمل حريق الفسطاط على وقف تقدم الفرنجة في البلاد فحاصروا القاهرة وضربوها بالمجانيق إلا أن أهلها قاوموهم بشدة وحماس شديد.
عرف "نور الدين" هو الآخر قدر الخطورة المترتبة على تحركات الفرنجة باحتلال مصر فأسرع بإرسال "شيركوه" ومعه "صلاح الدين" على رأس حملة ثالثة وكان ينوى أن يذهب معه بنفسه، فلما سمع الصليبيون بتحرك عساكر "نور الدين" ووجدوا أنفسهم مضطرين إلى قتال عساكر مصر والشام موحدة قبلوا الصلح مع "شاور" الذى عرض عليهم مائة ألف دينار على أن يرد إليهم بقية مليون دينار أخرى فيما بعد فلما قرب جيش "نور الدين" من القاهرة وحل الفرنجة عنها وعندما جاء عسكر "نور الدين" أحضر "شيركوه" أعيان مصر وأظهر لهم أسفه لما أصابهم واتفق الأمراء المصريين في الجيش الفاطمى على قتل "شاور".
وقبل أن يقتلوا "شاور" أخذ "صلاح الدين" و"شيركوه" إقرارًا من "العاضد" بأنه هو الذى طلب قتله لخيانته المسلمين وموالاته للأجنبى فعمل "صلاح الدين" في تدبير مؤامرة لقتل "شاور" وذلك أثناء زيارة "شاور" إلى "شيركوه" الذى كن مضطرًا أن يُظهر الود وتعمد "شيركوه" الخروج لزيارة ضريح "الإمام الشافعى" فقبض "صلاح الدين" على "شاور" وكتفه وأخذه ليقتله وعندما دخل ابن "شاور" واخوته إلى القصر الفاطمى قُتِلوا بتحريض من "شيركوه" و"صلاح الدين" وهكذا انتهت حياة هذا الوزير الخائن ففرح الناس فرحًا عظيمًا لموته.
ثم أخذ "شيركوه" مكان "شاور" في الوزارة إذ لم يكن "العاضد" يستطيع رفض طلبه لضعفه ولقبه بالملك المنصور وهو نفس لقب "شاور" السابق.
ولكن "شيركوه" قد توفى أو قُتل بالسم ولم يمكث بالوزارة أكثر من شهرين فتولاها بعده "صلاح الدين" وتلقب بالملك الناصر وذلك في 25 جمادى الآخرة 594هـ / 26 مارس 1169م وقد كتب له "العاضد" سجل الوزارة منشورًا بخط يده ورد فيه: "هذا عهد لا عهد لوزير بمثله" وألبسه "العاضد" أمام جمع عظيم من موظفي الدولة خلعة الوزارة فى يوم مشهود.
قضاءه على الخلافة الفاطمية:
ولقد كان الخليفة العباسى ينتظر بفروغ الصبر إلغاء خلافة الفاطميين أعداء بيته وعندما شرع "صلاح الدين" في إلغائها اضطر إلى التمهل على الرغم من إلحاح "نور الدين" وعتاب الخليفة العباسى، ولأن "صلاح الدين قد اختبر وقع إلغائها على أعيان المصريين ووجد ميلهم صريحًا لهذه الخلافة العلوية ووجد أنه لو قام بإلغائها سريعًا لقامت ضده فتنة لا تتدارك نتائجها ثم اتخذ "صلاح الدين" خطوات أخرى حاسمة للإجهاز على قوة الخلافة الحربية التي كانت قد ضعفت بدليل تسابق الترك والصليبيين في الاستيلاء على مصر وقد بدأ "صلاح الدين" بطائفة السودانيين التي كانت عنصر أساسى يستمد منه قوته والذين كانوا يُكونون غالبية الجيش الفاطمى ولا يعترفون إلا بالخلافة الفاطمية، وبلغ عددهم أيام "العاضد" خمسين ألفًا وكانوا يقيمون في حارات كثيرة بظاهر القاهرة حيث عُرفت لهم طوائف قوية وكان للسودانيين قوة وشوكة في وقت "العاضد".
ومع أن السود كادوا يتغلبون على الترك إلى أنهم انهزموا عندما أجبر "صلاح الدين" الخليفة على تخذيلهم وحرق حاراتهم بما فيها مساكنهم ونساؤهم وصبيانهم فانهزموا في الصعيد وعُرفت الواقعة بواقعة السود - السودانيين أو العبيد - وذلك في سنة 564 هـ / 1168م.
وفوق ذلك استبد "صلاح الدين" بقوات الجيش الفاطمى مع أنه أول الأمر بذل لهم المال فأحبوه وأطاعوه فعمل على إنقاص إقطاعهم ثم قبض عليهم في ليلة واحدة وأنزل أصحابه في دورهم.
ولما تم إضعاف جانب الخلافة الفاطمية وهدم دعوتها، لم يتردد في إلغائها من مصر في أول جمعة من محرم سنة 567 هـ / 10 سبتمبر 1171م وإرجاع الخطبة للخليفة العباسى "السنى المستضئ بأمر الله" الذى تولى بعد أبيه "المستنجد بالله" المتوفى سنة 566هـ / 1170م، وذلك بعد أن كانت الخطبة العباسية قطعت من مصر منذ مائتى سنة، وبعد هذا الإلغاء استولى "صلاح الدين" على الكنوز التي كان خلفاء الفاطميين قد كدسوها منذ مجيئهم مصر في خزائن وحواصل عبارة عن قاعات كبيرة بداخل قصورهم وخارجها وتتمثل فيما جمعوه منها من جميع بقاع الدنيا وفيما صنعوه في مصر مما لم يكن له مثيل من قبل في أي بلاط آخر وقد استمر بيع هذه الكنوز أكثر من عشر سنين كما أهدى "صلاح الدين" بعضها لمن حوله وبخاصة "نور الدين".
أما الكتب بالقصر الفاطمى الكبير وكانت موضوعة في أربعين حجرة، ولم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم منها فإن "صلاح الدين" كان همه التخلص منها لاحتوائها على كتب الشيعة وعقائدهم فحدد لبيعها في كل أسبوع يومين وأعطى كثيرًا منها للقاضى الفاضل.
أما الأملاك والأراضى فإنها وزعت على أقرباء "صلاح الدين" وأفراد أسرته الكثيرين وقد أغلق القصور أو ملكها أمراءه ومنح أباه إحداها بل كان الرجل من أتباعه إذا استحسن دارًا أخرج أهلها ونزل فيها.
أما سكان القصور الفاطمية فإن قراقوش أخرج منهم عشرة آلاف شريف وشريفة أي من العلويين ومن الخدم ثمانية آلاف بين خادم وأمه فاعتق "صلاح الدين" بعضهم وأهدى بعضهم وباع بعضهم أما أولاد "العاضد" وأقربائه وكانوا أكثر من مائة فإنهم اعتقلوا، وفرق الرجال من النساء لئلا يتناسلوا واستمروا معتقلين طوال زمن الدولة الأيوبية ومجئ المماليك.
وقد ترتب على إنهاء "صلاح الدين" للخلافة الفاطمية فرحة كبيرة بين السنين وفى مصر احتفل "صلاح الدين" رسميًا بوصول خلعة الخليفة العباسى إليه فلبسها وشق بها حارات القاهرة، أما موقف المصريين من إنهاء الخلافة الفاطمية فقد كان له وقع أليم وأسى وكان سقوط الخلافة الفاطمية يعنى عندهم أن مركز بلادهم قد ضعف بعودتها ولاية تابعة لخلافة العباسيين وأنهم خضعوا لجنس أجنبى عنهم وهو الترك وكان سقوطها يعنى أيضًا الخضوع لـ "صلاح الدين" الكردى الذى استبعد من وزارته رجال مصر وأخرجهم من الوظائف والجيش وأنزل رجاله في بيوتهم، وقد كان ينوى إخراج القبط من الدواوين أو البلاد لولا خوفه من توقف دولاب الأعمال.
لذلك نجد المصريين يقومون ضد "صلاح الدين" بثورات بقصد التخلص من استبداده واحتلال الترك لبلادهم وأخذ خيراتها وإعادة الخلافة العلوية المصرية، ويشعر "صلاح الدين" بعداء المصريين له ورغبتهم في التخلص منه فذكر فى مراسلاته لـ "نور الدين" أن مصر وجندها أعداء.
ولعل أكبر المحاولات لإعادة الخلافة الفاطمية هي التي اشترك فيها جمع كبير من المصريين بما فيهم القاضى والداعى والكاتب والأمير واستاذ القصر والشعب وأهل الثلاث ديانات من المسلمين والنصارى واليهود وحتى السودانيين وذلك في سنة 569هـ / 1173م وكان على رأس هذه المؤامرة شخصيات من رجال الدولة السابقة، وكانوا قد اختلفوا على أن يكون خليفتهم رجل كبير السن من بنى عم "العاضد" أي من نسل "جبريل" أو من أولاده ثم اتفقوا على تولية ابن "العاضد" الأكبر ولقبوه بـ "الحامد لله" ووزعوا فيما بينهم المناصب ودبروا هذه المؤامرة بعد مراسلات مع الفرنجة في صقلية والشام "الساحل" وحتى مع صاحب الدعوة الإسماعيلية في شمال الشام "رشيد الدين سنان بن سليمان" وكان يلقب بـ "شيخ الجبل" وكان أبوه من كبار دعاة "الحسن بن الصباح" ببلاد الألموت بفارس.
ولكن خبر المؤامرة وصل إلى علم "صلاح الدين" على يد أحد أعوانه وهو "ابن نجا" الذى دسه بينهم فاحتاط على ولد "العاضد" وسجنه وأحضر المتآمرين واعترفوا له وأجبر فقهاء مصر على الإفتاء بقتلهم فشنقهم وصلبهم في ميدان بين القصرين وهو من أكبر الميادين فى القاهرة يقع بين القصر الكبير الشرقى والقصر الصغير الغربى إذ كان يتسع لعشرة آلاف جندي. كذلك قبض على كل من لديه يد في المؤامرة من بعيد أو قريب. فشنق كثيرًا من رجال الحاشية وأجناد الفاطميين السابقين وقتل بعض قواده الذين استطاع المصريون استمالتهم ثم تتبع أنصار الخلافة الفاطمية بالقتل والسجن حتى أنه قبض أيضًا على من ثار من دعاتهم بالإسكندرية وجمع كثيرًا من السودانيين وكواهم بالنار في صدورهم ووجوههم وأمر كافة الأجناد المصرية والسودانية وحاشية القصر بالرحيل إلى أقصى الصعيد بقصد نفيهم بحيث لم يبق من العساكر الفاطمية بالقاهرة أحد. كما قطع أرزاق الموظفين وصادر أملاكهم.
ولا ريب أن "صلاح الدين" بعد إخماده هذه الثورات أصبح السيد القوى المطاع في مصر، ومع ذلك فهو لم يحقق سيطرته فيها، لأنه استخدم القسوة المتناهية مع أهلها، فقضى على جميع العناصر المعادية له فحسب، ولكن لأن أغلبية المصريين قد وجدوا في حكمه الذى ينوب فيه عن "نور الدين" صالح الإسلام المهدد من قِبل الصليبيين وكانت همته متجهة إلى التخلص منهم، كما سار "صلاح الدين" في حكم المصريين على سياسة رشيدة تختلف عن سياسة الفساد والاضراب اللذين لازما خلفاء الفاطميين ووزراءهم في أخريات أيامهم. فيكفى أن نذكر ما ردده المؤرخين كمآثر لصلاح الدين: أنه في صفر من الشهر التالى على سقوط خلافة الفاطميين أسقط ضريبة المكوس البغيضة التي كانت قد فرضت على كل شيء. وكان لإلغاء هذه الضريبة وقعًا حسنًا في نفوس المصريين الذين أُثقلوا بالضرائب بسبب حربهم ضد الترك والصليبيين وسوء السياسة.
كذلك قام "صلاح الدين" بسياسة إنشائية إصلاحية خاصة بالقاهرة ومصر ليتقرب من أهلهما، فأقام مستشفى "مارستانا" بقصر من قصور القاهرة لعلاج المرضى من الرجال والنساء وزودها بخزائن العقاقير وعين فيها من يشرف على المرضى من الجنسين. وقد اتخذ محابس للمجانين. وعَمَّر المدراس والجوامع الكثيرة لأبناء الفقراء والأيتام خاصة ويبدو أن هذه السياسة الرشيدة حببت أهل القاهر ومصر فيه بحيث أنه عندما ثار بعض من الشيعة أثناء غيابه خارج مصر في محاربة الصليبيين في سنة 584هـ / 1188م ونادوا شعب العلويين في شوارعها وهتفوا ضده ظنًا منهم أن أهل القاهرة سيلبون دعوتهم ويخرجون العلويين المعتقلين لم يهتم أهل القاهرة بهم.
قضاءه على الدولة الأتابكية:
كان "صلاح الدين" مصممًا على الاحتفاظ بما وصل إليه من امتلاك مصر نتيجة لمجهوده ومجهود عمه من قبل وأصبح همه إحضار بقية أهله من الشام ليقيموا معه ولينقذهم من نقمة "نور الدين". لذلك طلب منه أن يسيرهم إليه ولكن "نور الدين" رفض في أول الأمر بحجة أنه خاف أن يخالف أحدًا منهم عليه. وبعد ذلك عمل "نور الدين" على إخراجهم من بلاده فأرسل لـ "صلاح الدين" بعض من أهله عام 564هـ / 1168م وعلى رأسهم أخوه الأكبر في السن "توران شاه" حتى يوجد لـ "صلاح الدين" منافسًا من أهله ولأن توران شاه كان يحسد أخاه "صلاح الدين".
وعندما وصل "توران شاه" إلى مصر كان من أعظم الأسباب في نصرة أخيه وهزيمة السودانيين كما أن "صلاح الدين" شغله عنه بإرساله في غزوات عديدة خارج مصر فبعث به إلى النوبة فى سنة 568هـ / 1172م فأغار فيها بنجاح وبعدها أرسله إلى الحجاز واليمن عن طريق البحر الأحمر في سنة 569هـ / 1073م فتمكن توران شاه من إعلان الخطبة للخليفة العباسى في الحجاز وقتل "على بن مهدى الحميرى" في سنة 570هـ / 1174م الذى كان مسيطرًا على اليمن لصالح الفاطميين وعندما عاد "توران شاه" من اليمن فى سنة 572هـ / 1176م تخلص "صلاح الدين" منه من جديد بأن أرسله بعيدًا عنه إلى الإسكندرية حيث منحه اقطاعها وإقطاعات أخرى في الصعيد فبقى فيها إلى وقت وفاته سنة 576هـ / 1180م. وكان من وقت لآخر تبدو من "توران شاه" كلمات في حق أخيه وأنه أولى بالمُلك منه.
ويبدو أن "صلاح الدين" قد سرح معظم الترك في الجيش الذى معه وأبقى على الأكراد بنى جنسه وأحاط "صلاح الدين" نفسه بجماعة الأسد المنتسبة إلى عمه "أسد الدين" وعدتهم خمسمائة مملوك إذ مالوا إليه بعد وفاة عمه. ليقف في أمام القواد النورية الذين أراد بعضهم الوزارة لأنفسهم ولم يقبلوا طاعته. فكان على رأس الأسدية "بهاء الدين قراقوش" الذى عُرف بإخلاصه لـ "آل شادى" وأصبح ذراع "صلاح الدين" الأيمن في تنفيذ سياسته كما أوجد "صلاح الدين" لنفسه جندًا كثيرين جمعهم من بين طبقات المماليك الراقية أو الخصيان أو من الجند الأحرار وفوق كل ذلك استخدم "صلاح الدين" العربان الساكنين في مصر من قبائل الثعالبة والجذاميين وهم الذين كانوا يعملون منذ هجرتهم إلى مصر لمن يدفع لهم من حكامها ولكى يستميل أمراء جيشه أغدق عليهم الإقطاعات التي كانت بيد أمراء المصريين وأنزلهم فى البيوت التي تحلوا لهم أو فى القصور الفاطمية ولما احتاج إلى المال للصرف على العسكر، أشير عليه بإرسال حملة إلى "برقة" التي كان بها أموالًا كثيرة ولا يسكنها إلا عربان بدون سلاح فضلًا عما أخذه فى مصر من مال الفاطميين. وعلى ذلك كثرت طوائف عسكره المسماة بلغة عصره "أطلاب" سواء من الجند القدامى أو الحديثيين حتى بلغ عددها أربعة عشر ألفًا سنة 567هـ / 1171م فكانت أشبه بعسكر ملك من الملوك ومع ذلك كان عليه أن يسير بحذر في سياسته مع "نور الدين" حتى لا يتعرض لبطشه إذ كان له بالمرصاد يعد عليه تصرفاته.
أما من ناحية "نور الدين" نفسه فمع كرهه لـ "صلاح الدين" ورغبته في البطش به فإنه وجد من السياسة أن يصبر حتى يلغى الخلافة الفاطمية فلما تم الإلغاء عمل على استدراجه خارج مصر التي وطد أقدامه فيها فدعاه إلى مهاجمة الكرك والشوبك في سنة 567هـ / 1171م فراوغ "صلاح الدين" الذى فهم سوء نية "نور الدين" نحوه، ولا سيما أن أخصاءه حذروه منه وأرسل "صلاح الدين" إليه هدايا. فغضب "نور الدين" وفكر في المجئ إلى مصر لإخراج "صلاح الدين" فعندما سمع "صلاح الدين" بتفكير "نور الدين" في المجئ إلى مصر جمع أهل المشورة من أهله وأمراء الجيش النورية حيث أعلن فيهم "صلاح الدين" أنه إذا ما فكر "نور الدين" في المجئ إلى مصر فإنه يجب قتاله ولكن أبا "صلاح الدين" وهو ذو رأى ومكر وعقل، وقال على مسمع من قواد "نور الدين": (لو أمرنا "نور الدين" أن نضرب عقلك بالسيف لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا فكيف يكون غيرنا). ثم قال: (وهذه البلاد له ونحن مماليكه ونوابه فيها...) فتفرق القواد النورية على هذا الرأي بعد اقتناعهم بإخلاص أهل "صلاح الدين" لـ "نور الدين". وكتب أكثرهم لـ "نور الدين" بالخبر وعندما خلا أيوب بابنه "صلاح الدين" قال له: (يا بنى، بأى عقل تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على سرك وما في نفسك؟ أما بعد الذى قلته فإنه سيعدل عن قصدك) وفعلا عدل "نور الدين" عن المجئ إلى مصر. ولكى لا يوبخه "صلاح الدين" ذهب بمفرده إلى الكرك في السنة التالية أي في سنة 568هـ / 1173م وكانت أول غزواته من مصر وإن اضطر إلى العودة سريعًا بسبب وفاة أبيه الذى نفر به فرسه أثناء الركض واللعب بالكرة وبذلك تفادى "صلاح الدين" لقاء "نور الدين" مرة أخرى وأرسل إليه يسترضيه ويعلن فى رسالة كتبها له بما وقع في هذه الغزوة بلسان الولاء.
ويبدو أن "نور الدين" شعر أنه لا سلطة له إطلاقًا على "صلاح الدين" ولا يمكن الاعتماد عليه في حرب الفرنجة فقرر إخراجه من مصر بأى ثمن فأرسل إلى الخليفة يطلب منه تقليده ما بيده من البلاد المصرية والشام والجزيرة وغيرها عام 568هـ / 1172م فأجابه الخليفة إلى ذلك ثم تحرش "نور الدين" بـ "صلاح الدين" بأن أرسل له رسولا من قبله عام 569هـ / 1173م لعمل حساب البلاد وكشف أموالها ومعرفة ما إذا كان في طاعته بحيث غضب "صلاح الدين" وكاد يعلن عصيانه لولا أنه كظم غيظه ليُضيع على "نور الدين" فرصته في المجئ إلى مصر فسَهّل للرسول مهمته وأمر بعمل الحساب وعرضه عليه وبعث معه هدايا لـ "نور الدين" وكان "نور الدين" قد أرسل بطلب العساكر من بلاد الجزيرة ويستعد للمجئ إلى مصر لولا أنه توفى بمرض "الخوانيق" الذى قد أصابه في حلقه.
وبموت "نور الدين" تأكدت سيطرة "صلاح الدين" على مصر إلا أنه فكر أيضًا في أن يخضع له بلاد الشام والجزيرة وكان "صلاح الدين" يستهدف من وراء ذلك تكوين جبهة إسلامية ولقد شجعه على ذلك أن "نور الدين" قد ترك طفلًا صغيرًا خلفًا له لا يزيد عمره عن إحدى عشر سنة وهو الملك الصالح "إسماعيل" وما ترتب على ذلك من تنازع الأمراء النورية للوصاية عليه بزعامة "شمس الدين محمد بن المقدم" و"سعد الدين كمشتكين" الذى قام بخطفه من دمشق إلى حلب وحجر عليه ليحكم باسمه وتبقى "ابن المقدم" في دمشق. وهذا أصبحت الوصاية عليه موضع نزاع بين دمشق وحلب. وفوق هذا فإن ابن عم الملك الصالح واسمه "سيف الدين غازى" ما إن سمع بموت "نور الدين" وكان في طريق إلى الشام عندما طلب منه "نور الدين" المجئ بالجند لإخراج "صلاح الدين" من مصر حتى استخدم ما جمعه من جند في الاستقلال بالديار الجزرية وفكر أيضًا في العبور إلى الشام ليملكها من الملك الصالح، ولا سيما أن فؤاد الملك الصالح لم يكونوا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا ضده لتنافسهم وخوف بعضهم من بعض ولكن "سعد الدين كمشتكين" تمكن من الهروب من "سيف الدين غازى" بعد موت "نور الدين" وخطف الملك الصالح من دمشق وحكم باسمه في حلب.
فجعل "صلاح الدين" تحت ستار الدفاع عن حقوق الملك الصالح وأملاكه يعلن الخطبة له بالديار المصرية ويرسل إليه دنانير عليها اسمه ويكتب إلى الأمراء النورية بالشام يهددهم بحضوره لحماية مولاه من طمعهم ثم غادر "صلاح الدين" إلى الشام بعد أن استدعاه أمراء دمشق فأسرع "صلاح الدين" بالمجئ إلى الشام وتفادى الفرنجة في طريقه ودخل دمشق من غير محاربة في ربيع الآخر من سنة 570هـ / أكتوبر 1174م وليؤكد عزمه على فرض وصايته على الملك الصالح أصدر عملة عليها اسم الملك الصالح مع اسمه مع أنه قبل ذلك لم يكن وضع اسمه إطلاقًا على العملة.
وبعد دمشق استولى "صلاح الدين" على عدة مدن منها حمص وهى المدينة التي كان "نور الدين" أقطعها لعمه "شيركوه" ثم أخذها من نوابه بعد موته ثم ملك حماه بجوارها وذهب لحصار حلب. وقد كتب "صلاح الدين" إلى الملك الصالح كتابًا يتواضع فيه ويخاطبه بمولانا وابن مولانا ويقول: "إنما جئت خدمة لك ولأؤدى ما يجب من حقك فلا تسمع ممن حولك فيفسد حالك..." ولكن الملك الصالح مع صغر سنه كان كأبيه لا يطمئن بـ "صلاح الدين"، فرد عليه مُهددًا إياه بأنه كافر بالنعمة وبإحسان "نور الدين" كذلك كان الملك الصالح قد استنجد بابن عمه "سيف الدين غازى" بالجزيرة الذى جهز جيشًا مع أخيه "عز الدين مسعود" مقدم جيوشه وانضم إلى جيش جمعه هو من أهل حلب بعد أن خطبهم خطبة مؤثرة بكى أثناءها ذاكرًا لهم أنه طفل يتيم محتاج إلى إلى مؤازرتهم، مُعددًا فضل أبيه عليهم، وفوق ذلك أرسل "كمشتكين" أموالًا عظيمة إلى "راشد الدين" المسمى "شيخ الجبل" زعيم قلاع الشيعة الإسماعيلية بالشام لاغتيال "صلاح الدين" عن طريق الفداوية وهم المخلصون من أتباعه وقد قدر "صلاح الدين" خطورة موقفه فى الشام عندما هاجم فرنجة طرابلس جيشه بتحريض "كمشتكين" مهددين مؤخرته في حمص فرفع "صلاح الدين" الحصار عن حلب وبخاصة أن "سنانًا" كان قد أرسل إليه جماعة من الفداوية تمكنوا من قتل حرسه وكادوا يقتلونه فأرسل يعرض على قواد الملك الصالح الصلح على أن يعطيهم حمص وحماة وأن تبقى في يده دمشق ويكون بها نائبًا للملك الصالح ولكن القواد ظنوا أن "صلاح الدين" خافهم فرفضوا الصلح وخرج إليه عسكر الجزيرة بقيادة "عز الدين" يتعقبه فقاتلهم "صلاح الدين" وهزمهم في معركة حامية قرب حماة، وتتبعهم إلى حلب ليحاصرها من جديد فلما طال حصاره على حلب طلبوا منه الصلح على أن يكون لكل واحد ما بيده فأجابهم في ذلك ورفع الحصار عنها في سنة 570هـ / 1174م وبينما هو في طريق العودة إلى دمشق جاءته خلع الخيفة "المستضئ" ومعها أعلام سوداء لتفرق على جوامع مصر والشام وكتب له تقليد بالسلطنة على مصر والشام واليمن مستثنيًا من الشام المراكز التى بيد "إسماعيل بن نور الدين" وهى حلب وأعمالها التي أبقاها الخليفة له لأن أباه له آثار عظيمة في خدمة الإسلام ويبدوا أن التقليد جاء بناء على طلب "صلاح الدين" إذ كان قد كتب إلى "المستضئ" كتابًا طويلًا يُذكره فيه بأنه أعاد الخطبة العباسية بمصر وأماكن أخرى بقضائه على الخلافة الفاطمية ويطلب منه تقليده مصر واليمن والمغرب والشام وكل ما يفتحه بسيفه فكان هذا التقليد أول مظهر شرعى لسيادة "صلاح الدين" التي أتمها بإزالة اسم الملك الصالح من الخطبة في الجوامع ومن العملة التي نُقش عليها اسمه: "الملك الناصر يوسف بن أيوب" بجانب اسم الخليفة العباسى: "أبو محمد المستضئ بأمر الله أمير المؤمنين".
وقد قام عليه وقتذاك بدمشق "عماد الدين الكاتب" (المتوفى 597هـ / 1200م) الذى ولد بأصبهان فى إيران وعمل في الكتابة الديوانية لـ "نور الدين" ولكن "صلاح الدين" ما لبث أن غادر دمشق إلى حلب من جديد نتيجة لنقض الملك الصالح الهدنة ومجئ "سيف الدين غازى" ابن عم الملك الصالح بنفسه الذى لم يقبل هزيمة "صلاح الدين" لأخيه "عز الدين مسعود" فخرج "سيف الدين" وقابل "صلاح الدين" بتل سلطان من نواحى حلب في شوال 571هـ / 1176م فهزمه "صلاح الدين" هزيمة منكرة. واضطر "سيف الدين" للهروب نحو بلاده حتى أنه لم يصدق أنه نجا بجلده وبعدها عاد "صلاح الدين" إلى حلب وغزا أعمالها وفى أثناء ذلك هاجمه بعض فداوية الإسماعيلية وكادوا يقتلونه لولا وجود صفائح الحديد حول رقبته وبعد حصار طويل لحلب طلب الملك الصالح الصلح من "صلاح الدين" الذى أجابه إليه وقبل رجوع "صلاح الدين" نحو دمشق هاجم قلاع الإسماعيلية فأرسل إليه سنان يطلب الصلح فوافق "صلاح الدين" ربما خوفًا من عودتهم إلى الاتفاق مع كمشتكين أو لحصانة مراكزهم الجبلية وقبل أن يُغادر دمشق تزوج من الخاتون "عصمة الدين" أم الملك الصالح "إسماعيل" وكانت قد بقيت فيها منذ وفاة زوجها "نور الدين" مما يدل على بقاء أطماع "صلاح الدين" في حكم مملكة ابنها. وقد تزوجها لأنه كان يحبها منذ أن كان في بلاط "نور الدين" بدمشق وأنها سممت "نور الدين" لتسهل له الوصول إلى السلطنة.
والواقع أن "صلاح الدين" بقى وراء أهدافه يتربص بحلب ولم يبعده عنها غير اهتمامه بأحوال مصر و غاراته على بلاد الفرنجة وكانت شئونها قد اضطربت حينما ظهر منافس لـ "كمشتكين" اسمه "ابن العجمى" من أمراء "نور الدين" السابقين المقربين بحيث انضم إليه الناقمون على "كمشتكين" وقربه الملك الصالح ولكن قتل فداوية الإسماعيلية "ابن العجمى" ربما بتحريض "كمشتكين" فاتهم الملك الصالح "كمشتكين" بقتله، وقتله في 573هـ / 1177م مما جعل الفرنجة يستفيدون من هذا الاضطراب بمهاجمة ضواحي حلب. ومع ذلك بقى "صلاح الدين" وفيًا لصُلحه مع الملك الصالح ولكن عندما توفى الملك الصالح في 577هـ / 1181م سعى "صلاح الدين" حثيثًا للاستيلاء على حلب وكان الملك الصالح قد أوصى بها لابن عمه "عز الدين مسعود" الذى ملك معظم بلاد الجزيرة بعد موت أخيه "سيف الدين غازى" في سنة 576هـ / 1180م إلا أن "عز الدين" تنازل عنها لأخيه "عماد الدين" مقابل سنجار لأن "عماد الدين" كان على علاقة طيبة بـ "صلاح الدين" الذى كان قد أطمعه في المُلك فامتنع "عماد الدين" عن محاربة "صلاح الدين" مع أخيه "سيف الدين" الذى حاصره بسنجار لهذا السبب وإن صالحه بعد ذلك، ولذلك عندما ذهب "صلاح الدين" إلى حصار حلب في سنة 579هـ / 1183م وكان قد شغل عنها زمنًا طويلا بغزواته في ديار الجزيرة تنازل له "عماد الدين" عنها بعد مناوشات قصيرة قُتِل فيها أخو "صلاح الدين" المسمى "بورى"، على أن يأخذ "عماد الدين" عوضًا عنها سنجار ومُدنًا وقرى في الجزيرة وكان "صلاح الدين" قد استولى عليها أثناء غاراته فيها وفى الوقت ذاته كان "صلاح الدين" تحت ستار لم الشمل أمام الصليبيين يغير في ديار الجزيرة ليتم بسط نفوذه على بقايا الدولة الأتابكية وساعده في إنجاح غاراته وجود عدد كبير من الأمراء غير المتحدين وكثير من الأكراد بنى جنسه الساكنين فيها وأصبح هَم "صلاح الدين" إخضاع "عز الدين" الذى سيطر على بعض أماكن الجزيرة ولا يتورع عن التعاون مع الفرنجة فهاجم "صلاح الدين" قضبة أملاكه وهى الموصل إلا أنها قاومته بشدة إذ كانت مركز البيت الزنكى منذ ظهوره فشهد "صلاح الدين" استماتة أهل الموصل في صدهم لـ "صلاح الدين" الذى اضطر إلى حصارها عدة مرات ولكن معظم المسلمين رجوا المصالحة لوجود الصليبيين فحثوا "عز الدين" على طلب الصلح مع "صلاح الدين" فأرسل "عز الدين" والدته وبعض النساء من بيت زنكى كما أرسل مندوبه "بهاء الدين بن شداد" إلى الخليفة العباسى "الناصر لدين الله" الذى تولى الخلافة بعد أبيه المستضئ للتوسط بينهما وأضف إلى ذلك أن "صلاح الدين" مرض وتآمر عليه ابن عمه "ناصر الدين محمد بن شيركوه" وكان يدعى أنه أحق بالسلطنة عنه ودعا أهل الشام لتسليمه البلاد بعد موت "صلاح الدين" وقد يكون "صلاح الدين" قد اغتال "ناصر الدين" وإن أبقى إقطاعه فى حمص لولده وبذلك سيطر "صلاح الدين" على أملاك البيت الزنكى تمامًا وكان كلما مات أحدهم ضم أملاكه إليه وكذلك سعى "صلاح الدين" إلى تحسين علاقته بسلاجقة آسيا الصغرى حتى لا ينضموا إلى الزنكيين ضده وفى أول الأمر اضطر إلى الاصطدام بهم وذهب بنفسه لمحاربتهم كما حدث في سنتى 575هـ / 1176م، 556هـ / 1180م وذلك لاسترداد بعض الحصون التي استولى عليها "قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان (الثانى)" صاحب بلاد قونية بآسيا الصغرى منتهزًا النزاع بينه وبين الأمراء الزنكيين وكذلك عندما حاصر "صلاح الدين" الموصل سنة 581هـ / 1185م هدده "قلج أرسلان" بالحرب كما هدده ترك إيران إذ كرهوا قيام دولة كبيرة على حدودهم ولكن عندما عقد "صلاح الدين" الصلح مع "عز الدين" تحسنت علاقته مع "قلج أرسلان" بحيث نجده يتعاون على فض المنازعات في دولته بين أبنائه البالغ عددهم إثنا عشر ولد إذ أن "قلج أرسلان" قام على عادة السلاجقة بتوزيع مملكته بين أولاده الذين انتهزوا ضعف والدهم ليستقل كل واحد منهم بناحيته، حتى أن أحدهم يذهب إلى دمشق، ومن تقديره لـ "صلاح الدين" مساعدته على ركوب حصانه وقد كان موقف "صلاح الدين" العدائى من السلاجقة سببًا جعل البيزنطيين يسعون إلى تحسين علاقتهم معه ولاسيما أن اليونان لم يكونوا ينظرون بعين الرضا عن مجئ الغربيين في الشرق والثابت المحقق أن "صلاح الدين" قضى على نفوذ الدولة الأتابكية كما فعل مع الخلافة الفاطمية من قبل وهو الذى لك يكن يدور بخلده مطلقًا عندما جاء مصر أن يرث أملاك الدولتين ويكون أكبر إمبراطورية فى الشرق بزعامته.
حملاته ضد الصليبيين:
اتفق فرنجة الشام ويونان بيزنطة على إرسال حملة بحرية كبيرة إلى ثغر دمياط الهام الواقع على فرع النيل المسمى باسمه، بلغت ما يزيد على ألف ومائتى مركب، وذلك في سنة 565هـ / 1169م. وعلى الرغم من غضب "مانويل" من "عمورى (أمالريك)"، لقيامه بحملته البرية الأخيرة على مصر بدونه، فإنه وافق على انفاذ أسطول قوى إلى عسقلان، لينضم إلى أسطول الفرنجة بقيادة أندرونيكس كونتستفانس، كما وصلتهم من نورمان صقلية عدة وافرة من آلات الحصار. فلما وصلت الحملة دمياط، بذل "صلاح الدين" مجهودًا هائلًا لإمداد حاميتها، لتستمر في المقاومة. فكان وهو في القاهرة يرسل إليها المدد بعد المدد، ويسهر الليل ولا ينام النهار، ويحث الجميع على الجهاد.
أما الهجوم من الغرب على مصر، فقد كان على ثغر الإسكندرية الهام، قام به "وليام الثانى"، الذى جده "روجر" مؤسس مملكة النورمان بصقلية، وذلك في سنة 569م / 1174هـ. ويبدو أن سبب تأخير هجوم "وليام" إلى هذه السنة، انشغاله بمهاجمة دولة الموحدين بشمال افريقيا، وقد اهتم بإعداد أسطول هائل، وآلات الحصار والأزواد. فلما نزل الأسطول على ثغر الإسكندرية، أغرق كل ما وجده فيها من مراكب مسافرة ومقاتلة، ونزل رجاله إلى البر، وأقاموا على حصار المدينة نحو ثلاثمائة خيمة، ولكن أهل الإسكندرية دافعوا عن مدينتهم بشجاعة نادرة، ولما وصلت عساكر "صلاح الدين" من القاهرة، فتحوا الأبواب وهاجموا خيام الفرنجة في الليل، واقتحموا البحر وأغرقوا المراكب، فولت بقية المراكب منهزمة متراجعة إلى قواعدها.
وقد كان هجوم الفرنجة على مصر سببًا جعل "صلاح الدين" يعمل بعزم على تحصينها، فنجده يقوم بإنشاء سلسلة من التحصينات في القاهرة، وثغور مصر البحرية، وحتى في صحراء سيناء.
ومنذ أن توفى "نور الدين"، شن "صلاح الدين" حربًا شعواء على الصليبيين، بشكل لم يسمع به من قبل، ولا سيما أنهم كانوا يريدون أن يستفيدوا من ظروف الاضطراب التي سادت بوفاة "نور الدين" عدوهم اللدود. فهاجم "صلاح الدين" حصونهم المتفرقة حصنًا بعد حصن في كل مكان، ولم يمكنهم مما يريدون.
وقد كان همه الأول من هذه الغارات حفظ طرق تحركاته بين مصر والشام، ليحقق أهدافه فى توحيد جبهة المسلمين بزعامته، وإن اضطر إلى عقد هدنة مع الفرنجة سنة 571هـ / 1175م، ليتفرغ لمشاكله العاجلة مع الأمراء الزنكيين، ولكنه بعد ذلك عاد إلى الإغارة على الساحل في فلسطين سنة 573هـ / 1177م، فلما وصل إلى عسقلان على البحر، وجد معظم فرنجة مملكة بيت المقدس في انتظاره، فهزموه هزيمة شديدة، واستشهد كثير من المسلمين، ونجا هو بأعجوبة إذ كادوا يأخذونه أسيرًا.
ولكن ما لبث أن عاد "صلاح الدين" إلى الانتصار على الفرنجة، لما أغاروا على دمشق في السنة التالية 574هـ / 1178م، رجاء أن يستفيدوا من نصرهم السابق عليه. كما هاجم حصونهم واستولى على بعضها في سنة 575هـ / 1179م، مما جعل ملك بيت المقدس "بودوان (أو بلدوان) الرابع" الذى تولى بعد "عمورى (أمالريك)" يسعى إلى عقد هدنة معه في سنة 576هـ / 1180م. ولما توفى "بودوان الرابع"، وكان مصابًا بمرض الجذام، ترك الملك بعده لابن أخته "سيبلا"، فعرف بـ "بودوان الخامس"، وكان صغيرًا فتولى الوصاية عليه أمير طرابلس الفرنجى، الذى يسمه العرب "القومص الصنجيلى ريموند" فجدد "ريموند" الهدنة مع "صلاح الدين" في سنة 577هـ / 1181م.
هذه الهدنة نقضها أحد الفرسان في مملكة بيت المقدس المسمى "رينو دى شاتيون" أو "أرولد" الذى سماه العرب البرنس "أرناط" فقد كان هذا الفارس من أشهر فرسان هذه المملكة، يملك أهم قلاعها في صحراء النقب المجاورة لمصر، وبخاصة كرك - المعروفة بالكرك - القائمة على قمة جبل تحيط بها أودية بطرف الشام شرقى البحر الميت، فكانت تعترض طريق مصر إلى الشام، ولا يمكن أن تعبره قافلة إلى مصر أو بالعكس حتى تمنعها، وكان "نور الدين" يغير عليها باستمرار، ليبقى على صلته بجيشه في مصر، ويريد من "صلاح الدين" أن يشترك معه في أخذها كما ذكرنا.
ولكن "صلاح الدين" عمل من ناحيته - منذ استقر في مصر - على أخذ قلعة أيلة في سنة 566هـ / 1171م، وهى من حصون إمارة الكرك القوية وتقع على شاطئ البحر الأحمر "القلزم" في أول الشام، وتسيطر على طريق مصر البرى إلى الحجاز.
فاستولى "صلاح الدين" على أيلة بعد حصارها من البر والبحر، حيث حمل مراكب خفيفة على ظهور الجمال وألقى بها في البحر الأحمر. وقد كان خوف "صلاح الدين" من "نور الدين" سببًا في أنه لم يشترك في الإغارة على الكرك، ولكنه أغار عليها بمفرده حتى لا يُغضبه، وبعد موت "نور الدين" عاد للإغارة عليها بشدة، وكان يتوق إلى الاستيلاء عليها ليحفظ حرية تحركاته بين مصر والشام.
وعلى الرغم من عقد "صلاح الدين" الهدنة مع مملكة بيت المقدس، فإن أمير الكرك عاد إلى الهجوم على القوافل المارة بين مصر والشام، كما أنه أنشأ مراكب خفيفة وحملها على الجمال، ودفعها في البحر مشحونة بالمقاتلة، الذين أخذوا يهاجمون الحجاج المسلمين بميناء عيذاب في سنة 578هـ / 1182م، وأتوا فيها بحوادث شنيعة: فأخذوا مركبًا كان يأتي بالحجاج من جدة، ومركبين كانا مقبلين بتجارة من اليمن، وأحرقوا المؤن التي كانت معدة لميرة مكة والمدينة، وقتلوا في البر قافلة حجاج كبيرة آتية من قوص، وبعد ذلك هاجموا ساحل العرب، وكانوا عازمين على دخول مدينة الرسول، وإخراج جسده الشريف من القبر، فلما سمع "صلاح الدين" بذلك، أسرع بإرسال المراكب من مصر والإسكندرية إلى البحر الأحمر مشحونة بمتطوعة منهم بعض المغاربة، فلحقوا بالعدو وأطلقوا سراح المأسورين من عيذاب، ثم ذهبوا إلى ساحل العرب وأدركوهم وأسروهم وهم على مسافة يوم واحد من المدينة.
وتصادف ذلك مع أشهر الحج، فسيق بعض الأسرى منهم إلى منى للتضحية بهم، كما أرسل بعضهم إلى مصر.
كذلك خرج "صلاح الدين" من القاهرة في سنة 578هـ / 1182م حيث لم يعد بعدها إلى مصر أبدًا، وقضى بقية حياته مجاهدًا في بلاد الشام إلى وقت وفاته، وكان قد خرج بقصد الإغارة على حصون الفرنجة، وبخاصة إمارة الكرك، فقصدها بالغارة كرة بعد أخرى وأوشك على أخذها في إحدى الغارات، حتى اضطر أمير الكرك إلى طلب الصلح، فهادنه لانشغاله وقتذاك بحروبه مع الزنكيين، فعادت القوافل تتردد بين الشام ومصر بدون عائق.
الواقع أن جهاد "صلاح الدين" ضد الفرنجة، لم يقف عند غاراته عليهم في البر، وإنما أيضًا في البحر، وقد بذل في سبيل ذلك جهدًا رائعًا، فأفرد "صلاح الدين" للأسطول ديوانًا خاصًا عرف باسم "ديوان الأسطول" ليقوم بالإشراف على عمليات بناء المراكب وتجهيزها، ودفع نفقة العاملين عليها، وخصص لذلك بعض مصادر المال من الخراج والزكاة والإقطاعات وغير ذلك، فعاد النشاط إلى دور صناعة المراكب في مصر والقاهرة، وهى التي أحرقت أثناء حصار الفرنجة أيام "شاور"، كما أمر بعمارة أسطول الإسكندرية، وقد جعل "صلاح الدين" الخدمة في الأسطول بالإجبار، إذ أصدر أمرًا بأخذ الرجال للخدمة فيه، وبذلك تضاعف الأسطول في عهده، وبلغت قطعه الرئيسية ستين شينيًا (أو شونة)، وهى مراكب طوال مزودة بأبراج وقلاع للدفاع والهجوم، فكان الأسطول المصرى يخرج للغزو والكشف، ويقدر الناس جهاد المقاتلين فيه، ففي سنة 572هـ / 1176م أغارت أساطيل الإسكندرية ودمياط، وجاءت بالأسرى، وفى سنة 574هـ / 1178، أغار الأسطول على عكة (عكا)، ونطح المراكب الموجودة في الميناء فحطمها، مما لم يعهد مثله فى أسطول إسلامى من قبل، كما أنه في سنة 580هـ / 1184 خرج الأسطول للغارة وكان به عدد كبير من الحراريق (جمع حراقة)، وتستخدم في حرق سفن العدو، إذ كانت مزودة بالنفط الذى يُرمى بالمنجنيقات أو بالسهام أو في القوارير.
ولحسن الحظ أن همة "صلاح الدين" اتجهت إلى تخليص فلسطين، وهى الأراضى الواقعة بين الشام ومصر، فكان هجوم "صلاح الدين" في فلسطين سنة 583هـ / 1187م.
وقد قدر الصليبيون خطر هجمات "صلاح الدين" هذه المرة عليهم، وضرورة اتحادهم في محاربته، لوقف خطره، فجمعوا مشورة من فرنجة الشام، وقاموا بتأنيب أمير طرابلس على موقفه الودى من "صلاح الدين"، وهددوه بالحرمان وفسخ زواجه، مما جعله يقبل الانضمام إليهم، ودفعه إلى ذلك أيضًا استيلاء "صلاح الدين" على طبرية، وكانت سكنه منذ زواجه من صاحبتها أيام وصايته على مملكة الفرنجة، وقد كان أمير الكرك أشد أمراء الفرنجة ثقة في النصر على المسلمين.
فخرج ملك الفرنجة وفرسانهم، بجيوش عديدة بلغت خمسين ألفًا إلى طبرية يحملون شعارهم المقدس صليب الصلبوت أو الصليب الأعظم. فلما قاربوها رحل "صلاح الدين" عنها، ليستدرجهم إلى مكان صخرى مجاور، بعد أن سيطر على مشارب المياه، وجعل الأردن وراءه، فتقابل الجيشان عند قرية حطين، وقاتل المسلمين بشدة وهم يصيحون صيحة رجل واحد: (الله أكبر)، وعلى رأسهم "صلاح الدين" يطوف بينهم، ويحرضهم على القتال، فلما أحس أمير طرابلس بفوز "صلاح الدين" انسحب إلى بلده، حيث لم يلبث إلا أيامًا قلائل حتى مات.
ومن ثم كانت هذه الوقعة العظيمة مقدمة لانتصارات حربية هامة على فرنجة الشام، بسبب أنهم فقدوا معظم رؤسائهم، فقد كانت سببًا في فتح بلاد الساحل، مثل: عكة وغزة وحيفا وصيدا وبيروت وعسقلان، وكذلك فتح بعض الأماكن القريبة من القدس، مثل: طبرية والرملة والخليل وبيت لحم ونابلس، وفى هذه الأخيرة قاتل المسلمون فرقة من اليهود كانت تدافع عنها مع النصارى، فقتلهم المسلمين عن بكرة أبيهم.
وبعد ذلك ذهب لحصار بيت المقدس على رأس عساكر مصر، فلما جاء "صلاح الدين" القدس استمر يطوف بأسواره خمسة أيام لينظر من أين يأتيه، لحصانته ومناعته، ولأنه كان على قمة جبل، والأرض المحيطة به غير مستوية، فنصب عليها منجنيقات كثيرة من ناحية الشمال، وتحت ستار رميها الشديد، تمكن جنده من الوصول إلى الخندق، ونقب السور، عندئذ طلب البطريرك الأمان لفرنجة القدس، فرفض "صلاح الدين" لرغبته في فتحها عنوة بحد السيف بقصد الانتقام مما فعله الفرنجة بالمسلمين من القتل والسلب لما ملكوه، وبعد ذلك، لما هدد الفرنجة بقتل أسارى المسلمين لديهم، وبقتاله قتالًا شديدًا قبل منحهم الأمان بناء على مشورة قواده، وقد اشترط عليهم "صلاح الدين" أن يرحلوا من البلدة في أربعين يومًا، وأن يتركوا خيلهم وأسلحتهم، وأن يدفع كل رجل عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة، وكل صغير دينارين، ومن امتنع عن دفع المال أصبح من رقيق المسلمين.
وشرع الفرنجة في الخروج من القدس، وكان عددهم كبيرًا يبلغ مائة ألف، فكانوا يذهبون إلى صور على الخصوص، وهى ميناء لهم على البحر الأبيض بجوار بيروت، فكان يُسمح لكثير منهم بالرحيل دون دفع الفداء، كما ترك البطريرك يأخذ نفائس الكنائس، دون أن يعترض على ذلك.
وقد كان تسليم القدس ليلة الإسراء يوم الجمعة 27 من رجب سنة 583هـ / 2 من ديسمبر سنة 1187م، بعد أن بقى في أيدى الفرنجة إحدى وتسعين سنة، ولم يرض "صلاح الدين" أن يدخله إلا ومعه مندوبون من أطراف البلاد الإسلامية.
وبتسليم بيت المقدس أعاد "صلاح الدين" لمساجده طابعها الإسلامي وجددها، بعد أن غير الفرنجة فيها وحولوها إلى كنائس، كذلك أمر بخلع الصليب النحاس الكبير المحلى بماء الذهب، الذى أقيم على قبتها، ووضع مكانه هلالا بين حماس المسلمين وفرحهم، وأرسل الصليب إلى بغداد ليُداس عليه بالنعال، ويدفن تحت أسوارها.
وبعد فتح القدس، بلغ حماس "صلاح الدين" للجهاد أنه فكر في طرد الفرنجة من الشام، وقد أصبح النصر حليفه في هجومه عليهم، بحيث أن أغلب قلاعهم فيه خضعت له، مما لم يُسمع بمثله من قبل.
ولعل مظهر عودة الفرنجة إلى المقاومة، هو فشل "صلاح الدين" في أخذ مدينة صور بلبنان، وهى ميناء مشهور تمتد في البحر كالكف، وكان الفرنجة قد فتحوها من الفاطميين أيام "الآمر" في سنة 518هـ / 1124م، وبنوا عليها سورًا يحيط بها من البر، كما حصنوا مداخلها بسلسلة تشد بين برجين، فضلا عن أن ميناءها كان يستطيع استقبال المراكب الكبار، حتى ضرب بها المثل في الحصانة.
وكانت صور من أملاك أمير طرابلس - القمص - الذى أخلاها من جنده لما هرب من حطين، حيث لم يلبث أن توفى. فاستعد أهلها لتسليمها لـ "صلاح الدين"، لولا أن جاءهم فارس شجاع، من أسرة نبيلة معروفة بمحاربتها للمسلمين اسمه "كونراد دى مونتفرات"، ولم يكن يعلم بهزيمة الفرنجة بالشام، وكاد يؤخذ في عكة من حاميتها المسلمة، لولا فراره إلى صور، التي لم يكن "صلاح الدين" قد حاصرها بعد، لانشغاله بغيرها من الحصون. فقرر أهل صور تولية "كونراد" عليهم ليحفظها، فاشترط عليهم أن يُمَلكوه مدينتهم، واتخذ لقب "مركيز"، فبذل "كونراد" همة كبيرة في تقوية تحصيناتها، فحفر حولها خندقًا عميقًا، وعمل لها أسوار جديدة، بحيث أصبحت معقلا منيعًا للفرنجة ليس من السهل اقتحامه.
فلما جاءها "صلاح الدين" بعد حطين، استعظم تحصينها فتركها لرغبته القوية في فتح بيت المقدس، وقبل أن يغادرها عرض على "كونراد" تسليمها لقاء إطلاق سراح أبيه "غليوم دى مونتفرات" الذى كان من أسراه في حطين، ولكن "كونراد" أجاب بأنه ليس مستعدًا للتضحية بصور من أجل والده المُسن، ومع ذلك فإن "صلاح الدين" أطلق سراح أبيه وأرسله إليه، وقد كان من المنتظر أن يعود "صلاح الدين" سريعًا لفتح صور، بعد أن فتح بيت المقدس، حيث كان قواده في مدن الساحل المجاور لصور يستحثونه، ويكتبون إليه، ولكنه تريث وقتًا لشغله بنصره العظيم ببيت المقدس، فلما عاد لحصار صور وجدها صعبة المنال بمن جاءها من الفرنجة الكثيرين الهاربين من القلاع، وبخاصة من فرنجة بيت المقدس الذين كان منحهم الأمان، كما جاءتها مراكب بيزية وجنوية وألمانية وفرنسية لشد أزر حاميتها، فأقام حول أسوار صور عددًا كبيرًا من المنجنيقات الطوال والصغار التي ترمى بالأحجار والنار، كما استخدم الأبراج والدبابات بقصد نسف السور، كذلك طلب مراكب الأسطول المصرى الموجودة بعكة، فجاءته منها عشر شوانى كبار، فحصر بها صور من البحر أيضًا، بحيث منع مراكبها من الخروج، وأجبرتها على البقاء في الميناء. ولكن مراكب الفرنجة دهمت فجأة مراكب المصريين في الليل، وأدخلت خمسة منها إلى صور ليُقتل رجالها أمام أعين جيش "صلاح الدين" المحاصر، أما الخمسة الباقية فإنها لما حاولت الفرار لحقتها مراكب الفرنجة وأخذتها.
وقد شجع ذلك فرنجة صور على الخروج لقتال جيش المسلمين، إلا أنهم ردوا وهزموا، ولكن البرد اشتد، وضجرت العساكر من الحصار الطويل بعد تعودهم على الفتح السريع، فاضطر "صلاح الدين" تحت إلحاحهم إلى رفع الحصار فى شوال 583هـ / 1183م.
وفوق ذلك، كان "صلاح الدين" قد ذهب لمحاصرة أمير أنطاكية - "البيمند" - الذى أصبح من أعظم الفرنجة شأنًا بتسليم أهل طرابلس مدينتهم إليه بعد موت أميرهم، ولكن أمير أنطاكية أسرع بطلب الهدنة، فحث "صلاح الدين" عسكره الغريب، الذين سئموا القتال ورغبوا فى الراحة على عقد الصلح، فعقده "صلاح الدين" معه لمدة ثمانية أشهر في عام 584هـ / 1188م، على غير رغبة منه، خوفًا من تقويته بهذه الهدنة، واشترط عليه أن يطلق من عنده أسرى المسلمين.
ولقد أحيت مقاومة صور آمال الفرنجة في أوربا في التشبث بالساحل الشامى، ولا سيما أن البطريرك دخل بلاد الفرنجة بأوروبا "أفرنجة"، يطوفها جميعًا ومعه صورة رجل عربى يضرب المسيح، ليحثهم على الأخذ بثأر بيت المقدس من المسلمين. فعمل البابا "جريجورى الثامن" على الدعوة لحرب المسلمين، وهو خلف البابا "أربان الثالث" الذى ربما توفى من أثر سقوط بيت المقدس في يد المسلمين. ولكن "جريجورى" لم يلبث أن توفى هو الآخر، فجاء بعده "كليمنت الثالث" الذى أمر أساقفته في كل مكان بالتبشير بحرب صليبية، وهى ما عرفت بالحملة الصليبية الثامنة، فاشتركت أوربا كلها في هذه الغزوة بجميع بلادها وإمكاناتها، فجاؤوا لقتال المسلمين على الصعب والذلول برًا وبحرًا، مندفعين بالحماس الدينى لعقيدتهم.
وكان أول الوافدين من كبار الفرنجة الملك السابق لمملكة بيت المقدس "جى" وهو الذى كان "صلاح الدين" قد أطلقه من الأسر، لقاء حضه فرنجة عسقلان على تسليمه مدينتهم الهامة، فلما جاء إلى نواحى طرابلس، التف حوله جماعة من الفرنجة من مختلف الأجناس، وبخاصة من النورمان، الذين جاؤوا نجدة لحامية طرابلس، لحفظها من المسلمين، ولكن وقع نزاع بينه وبين "كونراد دى مونتفرات" على عرش مملكة بيت المقدس، وبخاصة أن فرنجة الشام كانوا قد عزلوه بسبب هزائمه على يد المسلمين، فضلا عن أن "كونراد" كان هو الآخر من البيت المالك، فأخوه الكونت "غليوم" كان زوجًا لـ "سيبلا" قبل "جى"، وأبو "بودوان الخامس"، مما جعل "كونراد" منافسًا خطيرًا على عرش مملكة بيت المقدس، فرفض "كونراد" أن يدخله صور، إلا أنهما اصطلحا على قتال "صلاح الدين"، وترك مسألة العرش يحكم فيها فيما بعد.
وقد بدأوا بمدينة عكا، فكانت لحصانتها هدفًا لمحاولات الفرنجة الاستيلاء عليها منذ مجيئهم الشام، فقتل أمامها "جودفروا" وأول رئيس لدولة بيت المقدس، وإن استولى عليها "بودوان" بعده، بعد حصارها برًا وبحرًا في سنة 497هـ / 1104م، وذلك لاضطراب أحوال الفاطميين في أيام "الآمر"، فبقيت في أيدى الفرنجة حتى فتحها "صلاح الدين" في جمادى الأول سنة 583هـ / 1187م، فقام "صلاح الدين" بتحصينها، لأن أسوارها هدمت، فأرسل في استدعاء "بهاء الدين قراقوش" ليتولى تحصينها، فجاءها معه عمال ومهندسون من أهل مصر، وبعض أسرى الفرنجة، لتسخيرهم في مشروعات تحصينها، كما أحضر أدوات وآلات كثيرة، فكان تحصين "قراقوش" لأسوار عكا وبروجها، عملا معماريًا فنيًا ضخمًا، تمكن به من مقاومة الغزاة الأوربيين زهاء ثلاث سنوات، كذلك استعمل "قراقوش" فيها الحمام الزاجل، وبنى لها أبراج الخشب، مما هيأ لعكة وسائل البريد السريعة في عصره، يضاف إلى ذلك، أن "صلاح الدين" شحنها بمقاتلين كثيرين، وجلب إليها بعض مراكب الأسطول المصرية، لتربط في مينائها.
فخرج الفرنجة إلى عكا في أعداد كثيرة بقيادة "جى" في رجب سنة 585هـ / 1189، وسارت مراكبهم معهم بحذاء البحر، ويبدوا أن "صلاح الدين" لم يؤخذ على غرة بمقصدهم عكة، وكان رأى "صلاح الدين" أن يقاتل الفرنجة أثناء تقدمهم على عكة، لأنهم إذا وصلوا إليها لصقوا بأرضها، ولم قواده لم يرضوا قتالهم إلا مجتمعين أمام عكة، بحجة أن الطريق التي سلكها الفرنجة وعرة لا يسهل قتالهم فيها، وللإجهاز عليهم دفعة واحدة، ومع ذلك رتب "صلاح الدين" للفرنجة الكمين، وهى عصابات من الأعراب لتقاتلهم أثناء سيرهم، فكانت نتيجة مخالفة رأى "صلاح الدين" أن وصل الفرنجة إلى عكة قبل المسلمين.
وقد كتب "صلاح الدين" يستدعى العسكر الإسلامي، الذى كان متفرقًا أمام أنطاكية وصور وطرابلس، وعلى سواحل مصر في الإسكندرية ودمياط، فأسرع العسكر إلى المجئ بأعداد كبيرة من الشام والجزيرة، وإن كان مجيئهم بطيئًا، عن طريق البر لا البحر فكانت الحرب بينهم وبين الفرنجة كثيرة، ولعل أهمها وقعة حمل فيها المسلمون على الفرنجة ولصقوا بأسوار عكة، فأدخلوا فيها من أرادوا من الرجال والأزواد والأموال، كذلك قرر الفرنجة من جانبهم مهاجمة المسلمين قبل أن يتم وصول بقية إمدادهم من مصر، فهزموهم في أول الأمر هزيمة شديدة، وأجبروهم على الفرار في كل اتجاه، ووصلوا إلى خيمة "صلاح الدين" نفسها وقتلوا من حولها، ولكن بفضل حماس "صلاح الدين" الذى كان يُصيح في عسكره قائلا: "يا للإسلام"، عادوا إلى قتال الفرنجة، وهزموهم بمشاركة حامية عكة، بحيث قتلوا منهم عشرة آلاف، فعرفت هذه المعركة بـ (الوقعة الكبرى)، وعلى الرغم من أن "صلاح الدين" كان من رأيه الإجهاز على قوة الفرنجة، قبل أن ينفتح البحر على حد قوله، فإن قواده من الكرد والترك اضطروه للرحيل بعيدًا عن عكة، ليبعدوا عن جو المعركة، الذى تلوث برائحة موتى الفرنجة الكثيرين.
ولكن رحيل عسكر "صلاح الدين" هيأ الفرصة أمام الفرنجة، ليعودوا إلى حصار عكة من جديد، بعد أن جاءتهم أمداد كثيرة، فحاصروها من كل جانب، وشرعوا في حفر خندق وعمل سور من التراب ليقيهم من سهام المسلمين، فأسرع "صلاح الدين" بالمجئ مع ما جمعه من رجال كثيرين من أهل الشام، وإن لم يستقر باله إلا لما وصل العسكر المصرى الكثير من السمر وسودان مصر.
وقد كان الفرنجة يتفننون فى استخدام أدوات الحرب لقهر المسلمين، الذين كانوا يبذلون جهدهم لوقف خطرها، فكان لديهم الآلات الحربية العجيبة والصنائع الغربية، منها أنهم صنعوا أبراجًا كبيرة من الأخشاب الطوال والحديد حول أسوار عكة، حتى علت على منازل المدينة وأسوارها، وكسوها بجلد البقر وبللوها بالخل والطين لمنع الحريق، وكانوا قد استمروا في صنعها تسعة أشهر فكان مقاتلوا الفرنجة يطلقون منها على حامية عكة النار والأحجار والسهام بشدة لم تُعرف من قبل. ولكن تمكن أحد متطوعى دمشق من حرقها، بعد أن عجز عسكر عكة عن ذلك، إذ كان هذا الدمشقى يهوى تركيب عقاقير النفط، فرمى المنجنيق قدور النفط باردة، لتبلل الأبراج من كل ناحية، ثم رمى بالنار فاشتعلت فيها، فلما أحرقت أرسلت البشائر إلى جميع بلاد المسلمين، كذلك أقام الفرنجة دبابة هائلة يزعج مرآها، مصنوعة من خشب ورصاص وحديد ونحاس، مقامة على عجل تسير من داخلها، لها رأس بقرنين يقال له الكبش، وهى لا تنقر الأسوار فقط، وإنما تلقى بالنار أيضًا، فتمكن المسلمين من تدميرها بإلقاء النار داخلها لما فتح بابها، فقتل من فيها.
وفى الوقت ذاته، كانت أساطيل مصر أو ما يعرف بأساطيل الإسكندرية، تقوم بنصيب فعال فى قتال الفرنجة، فحينما حاصر الفرنجة عكا من البحر والبر، استدعى "صلاح الدين" خمسين شينيًا من المراكب الحربية الكبيرة، وعلى ظهرها عشرة آلاف بحار مصري بقيادة "لؤلؤ الشيخ"، أحد قواد "صلاح الدين"، كذلك أمر "صلاح الدين بتعمير أسطول ثان من مصر، ليُساعد الأسطول الأول ويريحه، فكان وجود هذه المراكب الحربية في عكا داعيًا إلى تقوية حاميتها ضد المحاصرين، بالدفاع عنها من ناحية البحر، إذ كان بحارتها مدربين على القتال البحرى والبرى، وقد كان الأسطول الإسلامي كثيرًا ما يخرج من عكة، ليغير على مراكب العدو في عرض البحر ويقطع خطوط تموينه، وأهم من ذلك قيامه بمد حامية عكة بالرجال والمؤمن والأزواد مشتملة على البطس، وهى من السفن الحربية الكبار (مفردها بطسة)، تشتمل على عدة طبقات وعلى قلوع كثيرة تقدر بأكثر من أربعين قلعًا.
فلما اشتد حصار الفرنجة على عكة من البحر، كان "صلاح الدين" يندب "العوام" لحمل نفقات الأجناد على أوساطهم، فنصب الصليبيون لهم الشباك في الماء لاصطيادهم، فوقع كثيرًا منهم في أيديهم.
ولعل أهم عمل قام به الأسطول المصرى، إقامة البدل لحامية عكة، وذلك في أواخر سنة 586هـ / 1190م، وأوائل سنة 587هـ / 1191م، ففي فصل الشتاء، سحب الفرنج مراكبهم المحاصرة أمام عكة لهياج البحر، فأمر "صلاح الدين" أخاه "العادل" بمباشرة تغيير الحامية، فجمع العادل عددًا كبيرًا من المراكب، نقل عليها زهاء عشرين ألفًا من رجال الجيش والبحر، ومع أن "صلاح الدين" لم يجبر أحدًا على دخول عكة بدل الراحلين عنها، إلا أنه يبدو أن أغلب من دخلها من الجند المصريين، وعلى النقيض فقد تردد معظم قواد "صلاح الدين" من الترك والكرد، فلم يدخل عكة منهم غير عدد قليل، لا يبلغ عشرين، على رأسهم "سيف الدين المشطوب" كبير الأكراد، و"بهاء الدين قراقوش" الذى عُين حاكمًا عليها.
ولكن أسطو الإسكندرية لم يكن يستطيع أن يوقف إمداد الفرنجة المتواصلة عبر البحر في أساطيلهم العديدة، فطلب "صلاح الدين" من "أبى يعقوب المنصور بن عبد المؤمن الموحدى" ملك دولة الموحدين بالمغرب، أن يشترك بأسطوله في قطع خطوط إمداد العدو، ولكن سوء العلاقة بين "صلاح الدين" و"ابن عبد المؤمن"، لم يجعل أسطول الوحدين يشترك بمجهود ما.
وقد استفحل الأمر على المسلمين بمجئ ملوك أوربا، ولا سيما أن البابا كان أرسل إلى فرنجة الشام يعدهم بإرسال إمدادات كثيرة، ويدعوهم إلى المثابرة على حصارهم عكة، ويعلمهم أنه أرسل إلى جميع فرنجة أوربا يأمرهم بالمسير إليهم برًا وبحرًا، وفعلا نجح البابا في إصلاح ذات البين بين ملوك أوربا، وتوجيههم إلى حرب المسلمين. كذلك نجح البابا في إنهاء النزاع بين "فردريك بربروسا" وبقية أمراء اللومبارديين في إيطاليا، بقصد محاربة المسلمين.
وقد كان الألمان أول من غادروا بلادهم إلى الشرق، فعبروا وسط أوربا إلى القسطنطينية في أعداد هائلة بلغت مليون مقاتل، وكان لملكهم "فردريك" خبرة سابقة بحرب المسلمين، فاستعد لهذه الحملة استعدادًا كبيرًا، إليه، مما جعلها شديدة الخطر على مسلمى الشرق.
فلما وصل "فريدريك" بجيشه أمام القسطنطينية قوبل من ملك بيزنطة "اسحق الثانى" ويسميه العرب "ايساكيوس" بنفس العداء الذى قوبل به ملوك الفرنجة العابرين بلاده من قبل، فقد كان "اسحق" يخاف من الألمان لكثرتهم، علاوة على أنهم كانوا قد ساعدوا النورمان - وهم فرنجة مثلهم - في قتال اليونان "الروم"، ولأن "فردريك" كان يحمل لقب إمبراطور الدولة الرومانية، مع أن بيزنطة تعتبر نفسها وارثة الألمان، وفوق ذلك، كان "اسحق" قد تقرب من "صلاح الدين" وحالفه، منذ أن حارب "صلاح الدين" الترك السلاجقة في آسيا الصغرى.
وقد وعد "اسحق" "صلاح الدين" بألا يُمكن الألمان من عبور بلاده، إلا أن هؤلاء بدأوا حروبهم الصليبية ضده، وأخذوا رهائنه، لما أراد منعهم، فأرسل إلى "صلاح الدين" يُذكره بصداقته، ويعتذر عن عبور الألمان، ولا يرجو لهم النجاح.
كذلك هيأ اضطراب أحوال الترك بآسيا الصغرى تسهيل عبور الألمان فيها فقد ضعفت دولتهم بتقسيم "قلج أرسلان (الثانى)" أملاكه بين أبنائه الكثيرين، بحيث أن ملك الألمان دخل قونية - عاصمتهم - باتفاقه مع ابن "قلج الأكبر" المسمى "قطب ملكشاه"، وأجبر "قلج على تقديم الخيل والمؤن والرهائن، وقد كان ترخى "قلج" في جهاد الألمان على نقيض ما ورد في مكاتباته ومكاتبات أبنائه إلى "صلاح الدين" بالتعاضد معه، وقد أرسل "قلج" يعتذر لـ "صلاح الدين" بعجزه عن قتال الألمان، لأن أولاده حجروا عليه، وتفرقوا عنه.
فلما وصل الألمان إلى بلاد الأرمن عبروها هي الأخرى بأمان، فلما وصل الألمان إلى بلادهم عاونوهم، وأرسل ملكهم يهدد "صلاح الدين"، وبخاصة أن "فردريك" كان قد وعد "لاون (ليون)" بلقب ملك، وعلى النقيض وجدنا بطريرك الأرمن "جريجوروس" يرسل كتابًا إلى "صلاح الدين" يخبره بوصول الألمان، ربما بالاتفاق مع "ليون" الذى كن ينظر إلى المستقبل.
ولكن في أثناء سير الألمان واقترابهم من حدود الشام، انتشر بينهم المرض والطواعين، وفتكت بهم فتكًا ذريعًا، بحيث أنهم ذابوا ذوبان الثلوج، وقد أراد ملكهم السباحة في النهر، وكان شيخًا مُسنًا، فهلك من برودة الماء، فزاد هذا من مصائبهم، وحينما وصلت قلة منهم بقيادة ابنه المسمى "فردريك سواب" إلى أنطاكية أول الشام، ثقلوا على أميرها الفرنجى، فطلب منهم مهاجمة حلب، التي تجمع فيها عسكر "صلاح الدين"، ولكنهم جبنوا عن مهاجمتها، وساروا إلى طرابلس التي بيد الفرنجة، حيث وضعوا في كنيستها رماد ملكهم "فردريك بربروسا"، ومنها ركبوا بحرًا إلى عكة، فوصلوها في سنة 586هـ / 1190م. ولم يلبث ابن ملك الألمان أنه توفى، بعد أن حارب المسلمين، فلم ينل منهم نصرًا، كما أن بقية الألمان الأحياء لما أرادوا العودة إلى أوطانهم، غرقت به المراكب.
وما أن خلص المسلمون من الألمان، حتى دهمهم خطر فرنجة غرب أوربا، فقد جاء الشام ملك فرنسا "فيليب أغسطس"، الذى سار إلى جنوى، ومنها ركب البحر إلى صقلية.
أما ملك الإنجليز "ريتشارد"، فقبل أن يرحل إلى الشرق، ترك بلاده في يد أخيه "جان" والملكة الوالدة "إليانور"، وأبحر من سواحل جنوب فرنسا في أسطول كبير إلى صقلية أيضًا.
وفى صقية تقابل "فيليب أغسطس" مع ملك الإنجليز "ريتشارد"، وقد حدث سوء تفاهم بينهما، فقطع ملك الانجليز "ريتشارد" خطبته من أخت "فيليب" المسماة "أليكس"، فأبحر "فيليب" بمفرده إلى الساحل السورى، فوصله في أسطول صغير لا يتعدى ست مراكب حربية.
واضطر "ريتشارد" إلى محاربة ملك صقلية، وبعدها حملت الرياح أسطوله إلى جزيرة قبص، التي كان يحكمها يونانى اسمه "اسحق"، فلما جاءها "ريتشارد" ملك الانجليز، استقبله "اسحق" اليوناني بنفس العداء الذى كان يستقبل به ملوك أوربا ملك اليونان البيزنطى، وقد طلب "ريتشارد" نجدة من فرنجة الساحل في حربه ضد القبارصة، فأرسل إليه الملك "جى" أخاه "جفرى" ، وأخيرًا طلب "اسحق" الصلح، ولكن "ريتشارد" غدر به واستولى على الجزيرة، ولا شك أن احتلال الانجليز لقبرص، التي تطل على ثلاث قارات، يدل على مدى إدراكهم المبكر لأهمية موقعها، بحيث أصبحت قنطرة لكثير من الحملات في الشرق، وبعد ذلك غادرها ملك الإنجليز إلى الساحل السورى في أسطول كبير،
إزاء تهديد الفرنجة الشديد ندب "صلاح الدين" رسله إلى ملوك المسلمين يحثهم على الجهاد عن الأراضى المقدسة، وكان ذلك على الخصوص منذ تحرك ملك الألمان بجيشه الكبير نحو الشرق، وقد عرض "صلاح الدين" على الخليفة "الإمام الناصر"، الحضور بشخصه لتحميس المسلمين، على أن يتنازل له عن جميع بلاده، فأظهر "صلاح الدين" بذلك إنكارًا للذات، وإخلاصًا في الجهاد، ولكن أمراء الجزيرة الزنكيين رفضوا أن يوجد الخليفة بينهم. كما أن الخليفة نفسه لم يكن متحمسًا للانتقال من قصوره، ليعيش في ميدان القتال، فلم يرد الخليفة على دعوة "صلاح الدين" إلا بأن أرسل إليه عدة أحمال من النفط، وتوقيع بمال له عند بعض التجار، مما جعل "صلاح الدين" يستاء من تصرف خليفة المسلمين، كذلك لم يستطع سلطان العجم بإيران، وأمراء الترك بآسيا الصغرى أن يلبوا نداءه، لانشغالهم بمسائلهم الشخصية، واضطراب أحوال دولهم، وعلى العكس كان المدد يأتيه باستمرار من عسكر مصر، وبمجرد وصولهم، كانوا يرسلون إلى ميدان المعركة المشتعلة.
فلما تكاثر الفرنجة على عكا في البر والبحر، ازدادت الأمور سوءًا بالنسبة لحاميتها، وبخاصة منذ أن وصل الأسطول الإنجليزى، الذى أحكم حصارها من البحر، حتى أنه فى إحدى المرات لما حاولت بطسة مصرية حمل الأطعمة إلى حامية عكة، اضطر بحارتها وعددهم سبعمائة رجل إلى إغراقها والغرق معها، لذلك قرر "سيف الدين المشطوب" كبير القواد، و"قراقوش" حاكم البلدة، الخروج إلى ملك فرنسا لتسليم البلد على أن يمنح أهلها الأمان، ومع ذلك فإن ملك فرنسا رفض منح الأمان لحامية عكة وإن سُلِمت.
ولقد أدرك "صلاح الدين" ازدياد خطورة الموقف في عكة، فبذل جهده للتخفيف عنها بمهاجمة الفرنجة باستمرار. فكان كلما زحف الصليبيين على البلدة دقوا كؤوسهم "طبولهم"، وفى هذه الفترة الحرجة، كان عسكر "صلاح الدين" وقواده، لا ينامون ويبذلون جهدهم لإنقاذ حاميتها. وفى سبيل ذلك، لجأ "صلاح الدين" إل حل أخير: بأن عرض على الفرنجة تسليم البلدة، وإطلاق سراح أسراهم، ورد صليبهم المقدس "صليب الصلبوت"، لقاء منح الأمان حامية عكة. ولكنهم اشترطوا إعادة جميع البلاد التي استولى عليها، بما فيها بيت المقدس، مما جعل "صلاح الدين" يرفض فكرة مصالحتهم نهائيًا.
لذلك أصبح سقوط عكة وشيكًا، ولا سيما أن أسوارها تهدمت تحت رمى منجنيقات الفرنجة الكثيرة، وكانوا قد نصبوا على موضع واحد ثلاثة عشر منجنيقًا. فكان كلما فتحت ثغرة في السور، سدها رجال عكة بأشلاء الموتى، ولكن كلما فتحت ثغرة في السور، ودمرت أبراجه، انحدر الفرنجة نحوه بمجموع كثيرة، ودخلوا البلدة، ورفعوا راياتهم التي تحمل الصليب عليها. ومع ذلك استمر القتال في الشوارع من بيت إلى بيت وعلى الأسطح، وبقيت بعض مواضع في البلدة ترد بمنجيقاتها. وأخيرًا سلمت عكة يوم الجمعة 17 من جمادى الآخرة من سنة 587 / يوليو 1191. وذلك بعد قتال مرير استمر حوالى ثلاث سنوات.
فأسرع "صلاح الدين" بعرض الفداء لعسكره بالمال، وكان عددهم كبيرًا يزيد على عشرة آلاف، وعلى رأسهم "سيف الدين المشطوب"، و"بهاء الدين قراقوش". فدخل الفرنجة في مفاوضات، بمقتضاها يطلقون سراح المسلمين لقاء مائتى ألف دينار من ذهب، ويرد للفرنجة أسراهم، وصليبهم المقدس، ولكن الفرنجة رفضوا إعطاء أية ضمانات لتسليم الأسرى المسلمين، مما جعل "صلاح الدين" يرفض الاتفاق، فانتقم ملك الإنجليز بقتل ثلاثة آلاف من الأسرى المسلمين. ويبدو من أقوال بعض فرسان الفرنجة أن تصرف ملك الفرنجة المشين أسخطهم عليه، كما أن ملك فرنسا رفض أن يُجاريه في قتل أسرى المسلمين، وفيما بعد قدم "صلاح الدين" فدية مملوكه "قراقوش" بمبلغ قدره عشرة آلاف دينار، فلما فك أسره في شوال من العام التالى سنة 588 / 1192، فرح به "صلاح الدين" فرحًا شديدًا. كذلك تمكن "سيف الدين المشطوب" الهروب من الأسر، فوصل إلى القدس في جمادى الآخرة من نفس هذا العام، ولم يلبث أن توفى.
بعد هذا النصر المسيحى، أصبحت عكا أهم قواعد الفرنجة بالشام، تأتيها مراكبهم الكبيرة، حاملة الإمدادات الكثيرة، ويبدو أن الفرنجة أعادوا إليها طائفة فرسان الاستبارية للدفاع عنها.
ولحسن الحظ أن الفرنجة تمهلوا بعض الوقت لسوء التفاهم الذى دب بين ملوكهم في الأراضى المقدسة، فقد طالب "كونراد" - "المركيس" بعرش مملكة بيت المقدس بعد موت "سيبلا"، التي لم تترك وريثًا، ولأنه تزوج بأختها الصغرى المسماة "إيزابيل" بعد طلاقها برغبتها من زوجها "هنفرى"، فانتقل الملك إلى الصغرى بوفاة الكبرى، إذ كانت كلتاهما أخت "بودوان الرابع" (أو بلودوان)، وأن "جى" نفسه كان قد أخذ أخت الملك بسبب زواجه من "سيبلا". وبينما أخذ "ريتشارد" جانب "جى"، الذى كان قد تقرب إليه بإرسال مدد ضد القبارصة مع أخيه، فإن فيليب أخذ جانب "كونراد" الذى وضع صور تحت حمايته.
وفى الوقت الأخير من حصار عكة، استشعر "كونراد" الغضب من "ريتشارد"، فانسحب إلى صور. فاضطر "ريتشارد" إلى التدخل لحل مسألة عرش بيت المقدس في مجمع من القسوس والفرسان، وذلك بأن يكون "كونراد" وريث "جى"، وأنه إذا مات الاثنان ورث هو العرش. وقد كان استئثار "ريتشارد" بكل شيء، ونقضه اتفاقه مع "فيليب" سببًا جعل "فيليب" - بعد فتح عكة - يُغادر الأراضى المقدسة غاضبًا.
ولكن ازداد خوف "كونراد" من "ريتشارد" بمغادرة "فيليب" الأراضى المقدسة، فاتصل بـ "صلاح الدين" وتصالح معه، ليُعارض به أطماع ملك الإنجليز، الذى كان يرغب في الانفراد بملك الأراضى المقدسة، فجر هذا التصرف على ما يبدو إلى قتله بتحريض من ملك الإنجليز، ولا سيما أن "كونراد" كان شخصية هامة، فبفضل ثباته في صور تحولت هزيمة الفرنجة إلى نصر، بعد أن كاد "صلاح الدين" يلقى بهم إلى البحر.
وفعلا ظهرت أطماع "ريتشارد" في السيطرة على صور بمجرد قتل "المركيس"، فعين "هنرى دى شامبين" (الكندهرى) الذى أسرع بالذهاب إلى صور بعد قتل "كونراد"، وتزوج "بإيزابيل" مع أنها كانت حاملًا، ليصبح صاحب حق في عرش مملكة بيت المقدس. وكان "هنرى" قد وصل إلى الساحل الشامى قبل "ريتشارد"، وكان من أسباب تقوية المحاصرين أمام عكة، ونجد "ريتشارد" يعوض "جى" عن حقه في مملكة بيت المقدس، بإعطائه قبرص، التي باعها للدواية بعد مجيئه لحصار عكة، على أن يدفع "جى" المال الذى أخذه "ريتشارد" من الداوية.
ولقد استفاد "صلاح الدين" من تمهل الفرنجة في تدبير أمر مقاومتهم. فكان من رأيه أن يقاتلهم في عسقلان ليشغلهم عن التوغل نحو بيت المقدس، وهى مدينة حصينة جدًا منذ أيام الفاطميين، بأعلى فلسطين على ساحل البحر قرب غزة، كانت اشتهرت بمقاومتها للفرنجة نصف قرن قبل أن يستولوا عليها، وكانت خطرًا على مملكتهم الناشئة في بيت المقدس. ولكن قواده عارضوا خطته، وحرضوه على هدم عسقلان وغيرها من الحصون، وترك الساحل، واتخاذ خط دفاعى داخل البلاد.
كذلك أسرع "صلاح الدين" بالذهاب إلى القدس، ليُشرف على تقوية تحصيناتها، وقد هرع إلى "صلاح الدين" بالقدس، متخصصون للقيام بالتحصينات، كما استخدم أسارى الفرنجة، وكان من المناظر المؤثرة اشتراك السلطان وأولاده والأمراء والقضاة والصوفية والزُهاد في حمل الحجارة في القفاف على الخيول، كذلك قوى "صلاح الدين" بيت المقدس بعسكر مصر، الذين أصبحوا المنقذين للمسلمين من كل خطر، ويرجع إليهم فضل استنقاذه من الفرنجة.
على العموم انتقد الفرنجة تمهل "ريتشارد" في مواصلة القتال بعد الانتصار في عكة، ومنهم "كونراد" الذى كتب إليه قبل أن يُقتل، يعيب أن يسمح للمسلمين بتخريب عسقلان، وفعلا لما تحرك "ريتشارد للهجوم على مدن الساحل، وجد أغلبها مهدمًا، كما وجد مقاومة شديدة من جانب المسلمين، وبصفة خاصة في مدينة يافا، الواقعة على ساحل بحر الشام بجوار عكة، حيث كاد يؤخذ فيها أسيرًا، فكان "ريتشارد" في أثناء زحفه، لا يُفارق البحر، وينتقل من بئر إلى بئر، وخصوصًا أن المياه قريب بعضها من بعض، حتى وصل إلى الأراضى المصرية، وصدم عساكر مصريين قاصدين لـ "صلاح الدين" وهزمهم. وقد كان هدفه احتلال ساحل الشام كله، وقطع الطريق بين الشام ومصر، وذلك قبل أن يُهاجم بيت المقدس. فاستولى "ريتشارد" على معظم الساحل حتى حدود مصر، وأخذ في تعمير قلعة عسقلان، كما أنه وصل في إغاراته إلى قريب من بيت المقدس عدة مرات. ولما حاول "صلاح الدين" استعادة يافا، حضر إليها "ريتشارد" واضطره إلى الانسحاب.
وقد أظهر "ريتشارد" في حروبه مع المسلمين شجاعة ممتازة، ولكن "ريتشارد"، الذى طالت غيبته عن بلاده، سمع أخبارًا سيئة من أن أخاه يُحاول اغتصاب مملكته أثناء غيابه بتحريض "فيليب"، فأرسل يطلب الصلح. والواقع أنه منذ حضوره إلى الشام دخل في مفاوضات مع "صلاح الدين"، ربما ليُعارض به ملك فرنسا. أو ربما خديعة ومكرًا، بقصد بلبلة خطط "صلاح الدين". ففي أثناء حصار عكة مرض "ريتشارد". فأرسل إليه السلطان ما يريد منها، ومكن رُسله من زيارة الأسواق الإسلامية. وبعد نصر الفرنجة في عكة، عرض "ريتشارد" على "صلاح الدين" رد البلاد جميعها، فرفض "صلاح الدين"، ويبدوا أن "ريتشارد" في أثناء هذه المفاوضات اتصلت صداقته بـ "العادل" أخى "صلاح الدين"، حتى أنه طلب منه مرة أن يسمعه غناء المسلمين، فأحضر له "العادل" مغنية تضرب بالعود، فغنت له، فاستحسن ذلك، وبعد رحيل "فيليب"، عرض "ريتشارد" على "صلاح الدين" أن يوقف القتال ويكون صُلحًا عامًا بينهما، ويتزوج العادل مع أخته "جان"، أرملة ملك صقلية "غليوم"، على أن يقيم "العادل" وزوجته في القدس، وأن يشمل ملكهما ما بيد المسلمين والفرنج. وقد قبل "صلاح الدين"، إلا أن "ريتشارد" تحت تحريض رجال الدين اعتذر، كذلك أرسل "ريتشارد" في طلب المناصفة على البلاد سوى القدس، ولكن السلطان أبى ورضى أن يأخذوا ما في أيديهم، وأن ينزلوا له عن يافا وعسقلان.
ولما وجد ملك الإنجليز ألا سبيل إلى اختراق خط دفاع "صلاح الدين" عن القدس، وأن الأمداد الواصلة من أوربا قلت، قرر التفاوض جديًا في الصلح، فرفض "صلاح الدين" في أول الأمر خوفًا من مكره الذى تعود منه، ولأنه كان يرى أن الجند المسلمين مارسوا الجهاد، ولا يضيرهم الاستمرار فيه. ولكنه قبل تحت إلحاح أمرائه، فوقعت المصالحة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر، على أن تكون هدنة عامة في البر والبحر والسهل والوعر، وذلك يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من شعبان سنة 588 / سبتمبر سنة 1192. وقد نص في الصلح على أن يحتفظ كل فريق بما في يده، على أن تخرب عسقلان التي كان ملك الإنجليز حصنها، بإشراف لجنة من الفرنجة والمسلمين، وتبقى في أيدى المسلمين أرضًا منزوعة السلاح، وأن يُسمح للحجاج النصارى بالوصول إلى بيت المقدس، كذلك دخلت إمارة أنطاكية وطرابلس التابعة لها في الصلح، وحضر أميرها إلى بيروت ومعه عدد كبير من أمراء إمارته، فأظهر له السلطان البشابشة ومنحه التشاريف، كما وافق على الصلح، أمير صور الجديد "هنرى" الذى أصبح أكبر أمراء الفرنجة في الساحل الشامى. وبمقتضى هذا الصلح لم يبقى للمسلمين على الساحل الشامى غير نطاق ضيق يشمل صيدا وبيروت وجبيل، إلا أنهم أبقوا على معظم داخلية البلاد بأيديهم، وأبعدهم خطر الفرنجة عن مصر، واحتفظوا ببيت المقدس.
وقد كان إقرار شروط الصلح بداية لصلات المودة، فاختلط المعسكر، واختلطت التجارة، وقد أمر "صلاح الدين" بالمناداة في الجند: أن الصلح قد انتظم فمن شاء من بلادهم أن يدخل بلادنا فليفعل. ويبدوا أن ملك الإنجليز كان سيئ القصد كعادته، فأرسل إلى السلطان الذكى رفض، حتى لا يجعل له بمقتضى هذا الحق أية سيطرة ولو معنوية على بيت المقدس، وأيضًا خوفًا من غضب الحجاج النصارى - وهم من أجناس مختلفة - وعودتهم إلى إثارة أممهم ضده. ولا يبدو أنه بعد هذا الصلح أو قبله اجتمع "ريتشارد" مع "صلاح الدين" في مقابلة، وإنما كان التفاوض بينهما عن طريق الرُسل، ومصادقتهما على الصلح عن طريق أخذ الرُسل ليد السلطان وريتشارد.
*
وبعد الصلح عاد ملك الإنجليز إلى بلاده عن طريق ألمانيا، وبكنه أسر عامًا كاملا، ولم يُمنح حريته إلا بعد أن جمع له رجال الكنيسة مالا كثيرًا، أما "صلاح الدين"، الذى لم يطمئن إلى نوايا الفرنجة، فقد رجع إلى مدينة القدس وأعاد تقوية حصونها، ثم دخل دمشق بعد غيبته عنها أربع سنين. فاستقبل فيها استقبال البطل المظفر، واحتفل بذلك عدة أيام. وهو الذى جعل منها المركز الأول لمحاربة الصليبيين.
ولكن صحة السلطان كانت قد تأثرت بهذا الجهاد المستمر، فلم يلبث فيها إلا وقتًا قصيرًا حتى وافته امينة بعد مرض حاد أخصمه في رأسه، وذلك ليلة الأربعاء سابع عشر من صفر سنة 589 / 4 مارس 1193م، وله من العمر سبع وخمسون سنة، فكان موته يومًا مشهودًا، فشيعته زفرات الباكين وعويلهم، حيث حمله العلماء - الذين كان يحبهم ويحبوه - في تابوت على أعناقهم، ليدفن في قلعة دمشق. وبعد ذلك بنى ابنه الأفضل مقبرة خاصة شمال جامع دمشق. لا تزيد عن خمسة أمتار طولا في مثلها عرضًا، فنقل إليها السلطان في سنة 592 / 1196م.
يمكن تحميل نسخة مصورة من الكتاب من هنا:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.