عفوا.. قطر الندى.. وزواج الصفقة
بقلم: عبد الله إمام
الجمهورية الخميس 16 مايو 2002م - 4 ربيع الأول 1423هـ
في إطار الصفقات السياسية أغرق خمارويه أحمد بن طولون الخليفة العباسي بالهدايا، وأرسل إليه وفدًا يحمل أغلى هدية عنده، كسبًا لوده، ولمد جسور الصداقة، والقضاء على الفجوة السابقة.. وكان الوفد الذاهب إلى بغداد يحمل عدا الهدايا التي تعود أن يبعث بها منذ فترة.. هدية أخرى غالية هى عرض يقدمه خمارويه من القطايع الى الخليفة في بغداد.. العرض أن يزوج خمارويه ابنته أسماء.. إلى ابن الخليفة العباسي عملا بالمثل الشعبي «أن يخطب الرجل لابنته، ولا يخطب لابنه» ولم تكن هذه الرؤية هي الحقيقة.. فقد كان الأمر فقط صفقة سياسية بدليل ما اتبع بعد أن تم الزواج فى إطار هذه الصفقة.
ونعود أولا إلى مقدمات الصفقة وأسبابها وهى العلاقة المتوترة بين أحمد بن طولون، وبين الخلافة العباسية، عندما قرر ابن طولون أن يستقل بمصر عن هذه الخلافة.
وكان أحمد بن طولون قد بدأ يصعد نجمه، وسلطانه يمتد حتى هدد بغداد بعد استقراره بالشام.. ويبدو أنه وضعت خطة لغزو «مملكة» أحمد بن طولون من الداخل عن طريق ابنه العباس، ووفقا لأحمد حسين - موسوعة تاريخ مصر - فإن أحمد بن طولون كان يتجه الى الشرق غازيًا عندما انتهز ابنه فرصة عدم وجود أبيه، وأعلن أنه خلعه.. وتولى الحكم بدلا منه، والتف حوله بعض القادة والحاشية والمنتفعين.. وعندما سمع أحمد بن طولون ما فعله ابنه، عاد الى مصر.. ولم يستطع الولد أن يواجه أباه، وخاف، وهرب الى الإسكندرية وبرقة أملا أن يستقل بهما، ويكون ملكًا عليها، وكان معه عشرة آلاف جندي سوداني وثمانمائة فارسى، وأخذ معه كل ما في بيت المال من أموال وما فى مخازن الحرب من أسلحة.
في المواجهة هزم العباس واقتادوه هو ومن معه أسرى، وقتل أحمد بن طولون الكثير من القواد الذين حرضوا ابنه عليه.. أما العباس نفسه فقد جلد مائة سوط، ووضع فى السجن، وظل سجينًا حتى قتله أخوه خمارويه، عندما رفض مبايعته.
لم يكن أخو الخليفة العباسى «الموفق» راضيًا عن أحمد بن طولون، وكان يتحين الفرص للقضاء عليه.. وبدأ يتحرش به، وطلب من أحمد بن طولون أن يبعث إليه بأموال، حتى يستعين بها في حروبه، فأرسل له أحمد بن طولون مليونا ومائتي ألف دينار، ورأى «الموفق» أن المبلغ قليل جدًا، فأرسل إليه بكتاب أظهر له فيه الجفاء، فاستاء منه أحمد بن طولون وبعث إلى «الموفق» برد من أروع الوثائق التي تكشف عن شخصية أحمد بن طولون حرصه على كرامته واستقلاله، حتى ليشتد على «الموفق» ويهدده من طرف خفى.
وكان «الموفق» يقود حربًا ضد ثورة الزنج.. بينما المعركة محتدمة بينه وبين أحمد بن طولون.
خطا أحمد بن طولون خطوة جديدة تأكيدًا لاستقلاله وتدعيمًا لسلطانه فجعل من نفسه مُدافعًا عن حقوق الخلافة بالسيف وقوة السلاح، فأعلن على الملأ أن «الموفق» يسيء معاملة أخيه الشرعى وأنه يستبد بالملك، وكتب إلى الخليفة يطلب منه أن يأتى الى مصر، وهذا الخطاب يكشف سياسة أحمد بن طولون ورغبته في تحويل الخلافة إلى مصر لتكون تحت سلطانه وقال في خطابه «لقد منعنى الطعام والشراب خوفى على أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه، من مكروه يلحقه، وقد اجتمع عندى مائة ألف مؤلفة قلوبهم، ومجتمعة آراؤهم شديد بأسهم، وأنا أرى سيدى أمير المؤمنين - أدام الله عزه بالنصر والتمكين - الانحداب إلى مصر، فإن أمره يرجع بعد الامتهان إلى نهاية العز، ولا يكن ما يخافه فى كل لحظة منه إليه».
وقد رحب الخليفة بهذه الدعوة واستجاب لها، وتوجه بالفعل نحو الرقة متظاهرًا بالصيد ليقابل أحمد بن طولون الذى كان قد سار على رأس جيشه إلى الشام، ولكن أخو الخليفة علم ما اعتزمه الخليفة المعتمد فأرسل الى أمير الموصل يأمره برد الخليفة إلى سامرا، ونفذ الأمر وقبض على الخليفة ومن معه وأعادهم مقبوضًا عليهم.
ورد ابن طولون على هذا الإجراء العنيف الذي اتخذ ضد الخليفة بإجراء لا يقل عنفًا، فعقد مؤتمرًا من الفقهاء والقضاة في دمشق، واستصدر من المجتمعين قرارًا بخلع الموفق من ولاية العهد لأنه نقض البيعة بعدوانه على الخليفة، وبعث بهذا القرار إلى كل المدن والى العواصم التابعة له ليتلى على المنابر كما أمر بإسقاط اسمه من الخطب، ومحو اسمه من الطرز ورد الموفق على قرار خلعه، فأمر عماله وولاته بلعن أحمد بن طولون على المنابر وكانت صيغة اللعنة: «اللهم العنه لعنا يفل من حده ويتعس جده، واجعله مثلا للغابرين انك لا تصلح عمل المعسكرين».
أدت هذه الإجراءات إلى تقوية مركز أحمد بن طولون.. ورأى الموفق أن يخفف من حدة الصدام، وأن يساير ابن طولون، فبدأ بإطلاق سراح الخليفة المعتمد الذى كان مسجونًا، ووسط بعض من يكاتب ابن طولون للتقريب بينهما، وكان ابن طولون يحرص على الوفاق، والتقت رغبة الطرفين على التصالح، وخرج ابن طولون من هذا الصراع منتصرًا في تأكيد سلطانه الفعلي، ولكنه ظل يعترف بالتبعية الروحية للخلافة، وكان التفكير على غير هذا النحو صعبًا في ذلك الوقت.
في ظل هذا التوتر، مات أحمد بن طولون، وجاء ابنه خماروية، وكان خماروية الذي قاد حروبًا فيما قبل وفيما بعد راغبًا في إنهاء هذا التوتر.. ومن هنا.. جاء ما يمكن أن يسميه زواج الصفقة السياسية.. بين القطائع وبغداد، فقد رأينا السياسة تتدخل فى كل شيء، وتسخر لجميع الأغراض.. حتى جاء الدور على ابنة حاكم مصر «قطر الندى» لتدفع نصيبها.
وكانت قطر الندى عندما بدأت حكايتها طفلة في التاسعة من عمرها.. وتم زفافها عندما بلغت الثانية عشر عاما، إذ مضت تلك السنوات الثلاث في الإعداد لهذا الزواج الأسطوري.
وقد بدأت فكرة هذا الزواج عندما أرسل خمارويه وفدًا يحمل هداياه إلى الخليفة، في محاولة تلطيف الأجواء لإذابة الجليد بينهما.. وقد هداه تفكيره أن يحمل الوفد معه عرضًا جديدًا يُدعم نفوذه، ويمتد به إلى مناطق أخرى بمباركة من الخليفة.. العرض الذي حمله الوفد للخليفة المعتضد في بغداد أن خمارويه يعرض ان يزوج ابنته «أسماء» الى ابن المعتضد.
وفكر الخليفة الكهل فى العرض، ودون أن يعرف «أسماء» التي أطلق عليها فيما بعد اسم «قطر الندى».. ثم تساءل ولماذا.. لا أتزوجها أنا.. انني أريدها زوجة لى.. وسأدفع لها صداقا قدره ألف ألف درهم.
يقول ابو العباس - كتاب النجوم الزاهرة - «أن رسول الخليفة قدم على خمارويه يحمل اثنتى عشرة خلعة، وسيفًا وتاجًا ووشاحًا، وعرض خمارويه زواج ابنته «أسماء» التي تلقبت بقطر الندى إلى ابن الخليفة العباسي، ولكن المعتضد رد قائلا: أتزوجها أنا».
وعاد الوفد يحمل هذه المفاجأة لخمارويه، ففرح، وقرر أن يتم هذا الزواج الصفقة بسرعة..
وعاد الوفد يحمل الموافقة، ويقوم بعقد القرآن.. وعهد إلى من يتفرغ لوضع ترتيبات هذا الزواج بحيث يكون أسطوريًا.
وكلف من يقوم بإعداد جهاز ابنته، وكان فى جهازها أربعة آلاف تكة مجوهرة، وعشرة صناديق جوهر ومائة هون.
وذكر المقريزى «الخطط جـ 1» أنه لم يبق خطيرة، ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حملته معها فمن هذا الجهاز دكة - مقعد - من أربع قطع من الذهب عليها قبة من الذهب عليها قبة من ذهب مشبك، في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة من الجرجر لا يعرف لها قيمة، ومائة هون من الذهب لدق الطيب، وألف تكة ثمن الواحدة منها عشرة دنانير وقد أمر خمارويه بعد أنه فرغ من الجهاز بأن يبنى لابنته على رأس كل مرحلة أشبه بالمنزل أو مكان للاستراحة تنزل فيه وهى فى طريقها الى بغداد وأعدت هذه القصور بكل ما تحتاج اليه.
وذكر ابن خلكان - جـ 1 - أن صداقها كان مليون درهم.. وليس هذا بكثير بجانب ما أنفق في جهازها حتى ان ابن الجصاص الذي أشرف على اعداد الجهاز كانت مكافأته أربعمائة ألف دينار».
وذكر ابن دقماق أنه حمل معها مالم ير مثله، ولا سمع به إلا فى وقته.
ويقول أحمد حسين - موسوعة تاريخ مصر - أنه أقيم لقطر الندى عند وصولها إلى بغداد حفلة زفاف تتناسب وما أحاطها أبوها من دوى، فكانت حفلة على ما يقول المؤرخون لم تشهد لها بغداد مثيلا من قبل.. وقد فرح الخليفة بعروسه فرحًا منقطع النظير، وأحبها حبًا شديدًا لجمال صورتها ووفرة أدبها، وإن كانت سنها عندما دخل بها لم تكن تزيد على اثنتى عشرة سنة، وكان خمارويه يخطط لهذا الزواج لمشروعات سياسية واسعة المدى، ولكن سر هذه المشروعات قد طوى فى نفسه.. فلن يلبث أن يموت».
ويقول ابن اياس - بدائع الزهور جـ1 - أن قطر الندى خرجت من مصر إلى بغداد وكان معها من القماش والأواني مالا يحصر، حتى قيل نقل جهازها من مصر إلى بغداد في ستة أشهر، وقيل أن المعتضد وضع يومًا رأسه في حجرها ونام فلما غرق فى النوم، تلطفت به حتى أزالت رأسه من حجرها، ووضعتها على وسادة، فلما تنبه من منامه، ناداها فأجابته من مكان قريب فقال لها: «لقد سلمت نفسى اليك، ونمت على حجرك فتركتيني ومضيت عنى، أكليت منى؟».
فقالت: «والله لم أكن كليت من أمير المؤمنين أن مما أدبنى به والدى ألا أجلس مع النيام، ولا أنام مع الجلوس».
وقد كسب خمارويه ود المعتصم بهداياه، فأقره على ولاية البلاد الممتدة من الفرات وبرقة ثلاثين سنة، وجعلها لأولاده من بعده.
ماذا بقى من الوسائل لم يستخدمه الخلفاء، لتدعيم نفوذهم السياسي. حتى الآن رأينا أساليب مختلفة.. ولكن الجعبة لم تفرغ بعد.. فمازال فيها الكثير.
صورة من المقال: