الأربعاء، 13 يناير 2010

فرسالوس.. معركة العقول الحربية

فرسالوس.. معركة العقول الحربية


إعداد الباحث: أشرف السيد الشربينى

مقدمة:

(فرسالوس) أو (فرسالس) أو (فارسال) (فارسالا حاليًا فى اليونان) هى إسم المعركة الشهيرة التى وقعت بين "يوليوس قيصر" و"بومبى", والتى كان تنظيمها القتالى هو من أهم العوامل التى ساعدت "يوليوس قيصر" على النصر, وبالرغم من أن قصة المعركة نفسها قصيرة, إلا أنها قد إكتسبت شهرتها فى التاريخ من حيث التطور الجديد فى إدارة الحرب والذى إبتدعته عبقرية "يوليوس قيصر", وبسب نتائج المعركة أيضاً التى ضمنت لـ "يوليوس قيصر" السيطرة على العالم.
وبالنسبة لإدارة الحرب, تبرز عبقرية "يوليوس قيصر" فى إيجاد التنظيم الناسب لطبيعة الأرض, وكذلك فى الإستخدام الجيد للقوات وتكوين نوعين من القوات الإحتياطية لهما واجباتهما الواضحة والمحددة, ثم التنسيق الرائع للتعاون بين مختلف القوى, وفوق ذلك الإستخدام الماهر لمبادئ الحرب والإعتماد على المباغتة والمبادأة, والقدرة الحركية العالية.
لقد إستمدت هذه المعركة شهرتها من العبقرية الحربية التى إبتدعها "يوليوس قيصر" مما جعل جيش "بومبى" يفر هارباً رغم قوته. مما يدل أن المعركة لم تكن معركة جيوش بل معركة عقول.

مقدمة تاريخية:

إنضم "يوليوس قيصر" إلى صفوف الجيش الرومانى كضابط ومحاسب تابع للحكومة الرومانية إلى أن قاد جيشه الخاص المعروف كأكثر جيوش روما إنضباطاً على الإطلاق.
وقف قيصر إلى جانب "بومبى" مؤيداَ له بصورة صريحة عام 71 ق.م, وفى سنة 60 ق.م شكل قيصر وبومبي و كراسوس أول (تريومفيرات "إئتلاف أو حكومة ثلاثية") وذلك للعمل ضد مجلس الشيوخ.
وخلال السنوات التسع التالية انشغل قيصر بقيادة حملاته فى بقاع مختلفة من العالم شملت توسعة نفوذ روما إلى كل من بلاد الغال (فرنسا) و سوريا و مصر و غيرها، حيث كانت معظم حملاته ناجحة إلى حد مثير حيث عين حاكما لإسبانيا البعيدة ليتم انتخابه قنصلاَ. ونصب بعد ذلك حاكماَ على بلاد الغال، وكانت تلك مهمة شغلته لتسعة سنوات كان خلالها تاركاَ لبومبي وكراسوس أمر حماية مصالحه في روما. إلا إنه كانت هناك خلافات كثيرة بينهم عند هذا الوقت جعلتهم يعقدون لقاءَ فيما بينهم في لوكا عام 56 ق.م. في محاولة لحل تلك الخلافات.
فى ذلك الوقت كان "يوليوس قيصر" يشعر بالضيق والحرج بسبب سوء المحصول الزراعى وصعوبة الإمداد, مما إضطره إلى إستدعاء رؤساء كل مدينة, وإستخدم معهم الوعد والوعيد, وإستطاع بذلك السيطرة على قسم كبير من شعوب الغول (فرنسا), وفى هذه الأثناء كان شعب "السينون" الذى يعتبر من أقوى شعوب الغول قد إتخذ قراره بإعدام الملك "كافا رينو" الذى كان قيصر قد نصبه عليهم بدلاً من أخيه الملك الشرعى, فطلب قيصر إرسال كل الشيوخ لمفاوضتهم غير أنهم رفضوا طلب قيصر, وأعلنوا الثورة.
لم يكن بإستطاعة قيصر الإنتظار طويلاً لمعرفة ما يمكن أن تتطور إليه أخطر ثورة يقوم بها الغول. فطلب إلى معاونيه الإستعداد بقواتهم, وفى ذات الوقت أرسل إلى "بومبى" يطلب إليه إرسال وحدات الغول التى أقسمت يمين الولاء, فأرسل إليه "بومبى" قوات الدعم المطلوبة, وهكذا لم ينتهى فصل الشتاء حتى كان لدى قيصر قوات متفوقة, أرسل منها ثلاث ليجيونات (فيالق أو كتائب) فى إتجاه بلاد الغول.
وتلقى "يوليوس قيصر" أول وأكبر هزيمة له سنة 52 ق.م إذ دافع الغول بضراوة أذهلت قيصر وقواته, غير أن فرسان الرومان حاولوا بعد ذلك التعويض عن هزيمتهم بسحق (أليسيا) بعد حصارها وعزلها وبعد معارك مريرة وقاسية, وقد تم تسجيل إنتصار (أليسيا) كنهاية لمقاومة الغول.

صراع "يوليوس قيصر" و"بومبى":

لم يلبث "بومبى" أن دخل المنافسة ضد "قيصر" سنة 54 ق.م. وكان "بومبى" مدعماً من مجلس الشيوخ الذى عمل فى سنة 52 ق.م على تسميته (القنصل الوحيد) بعد موت "كراسوس". وقاد "بومبى" صراعاً مريراً ضد قيصر.
كان قيصر فى ذلك الوقت فى الرابعة والخمسين من عمره، وما من شك فى أنه قد أوهنته حروبه الطويلة فى غالة "فرنسا"، وأنه لم يكن يحب أن يتورط فى محاربة مواطنيه وأصدقائه السابقين، ولكنه كان على علم بالمؤامرات التى تحاك له، وكان يؤلمه أشد الألم أن تكون هذه المؤامرات والفخاخ هى الجزاء الذى يجزى به من أنجى إيطاليا من الدمار والخراب. وكانت مدة حكمه فى (غالة) تنتهى فى اليوم الأول من شهر مارس سنة 49 ق.م، ولم يكن فى وسعه أن يتقدم للقنصلية إلا فى خريف ذلك العام، وفى الفترة الواقعة بين الزمنين يفقد الحصانة التى يسبغها عليه منصبه، ولا يستطيع دخول رومه دون أن يعرض نفسه للإتهام بأنه خارج على القانون، وهو السلاح المألوف الذى كانت تلجأ إليه الأحزاب المختلفة فى رومه فى نزاعها على السلطة. وكان "ماركس مارسلس" قد عرض قبل ذلك على مجلس الشيوخ أن يعزل "يوليوس قيصر" من الولاية قبل انتهاء مدتها، ومعنى هذا الغزل هو البقاء خارج البلاد أو المحاكمة، وكان التريبيونان (التريبيون: موظف رسمى فى روما القديمة يقوم بمهنة المحاماة. وكان ثمة نوعان منهم: التريبيون العسكرى، والتريبيون الشعبى.) قد أنجياه من هذه المكيدة باستخدام ما لهما من حق الاعتراض، ولكن مجلس الشيوخ كان بلا ريب راضياً عن هذا الاقتراح، وقال "كاتو" بصريح العبارة إنه يرجو أن توجه التهمة إلى "يوليوس قيصر"، وأن يحاكم وينفى من إيطاليا.
كان واضحاً بالنسبة لـ "يوليوس قيصر" بأنه سيفقد كل شئ إذا ما خضع لـ "بومبى" ومجلس شيوخه فذلك يعن تنازله عن حكومات الغول التى أقامها, كما أن عودته إلى روما بدون جيوشه إنما تعنى تجريده من سلطته الشرعية.
أما "يوليوس قيصر" نفسه فلم يدخر جهداً فى العمل على إزالة أسباب النزاع بينه وبين خصومه. فلما أن طلب مجلس الشيوخ بإيعاز "بومبى" أن يتخلى له كلا القائدين عن فيلق يرسله لقتال (بارثيا)، أجابه "يوليوس قيصر" من فوره إلى طلبه، وإن لم تكن القوة التى لديه كبيرة. ولما طلب "بومبى" إلى "يوليوس قيصر" أن يعيد إليه الفيلق الذى أرسله له قبل عام من ذلك الوقت، بادر أيضاً بإرساله إليه، وإن كان أصدقاؤه قد أبلغوه أن الفيلقين لم يرسلا إلى (بارثيا) بل بقيا فى (كابوا).
كان لدى "بومبى" ومجلس شيوخه القانون الذى يتمسكون به, ولكن ليس بإمكانهم الإفادة من هذا القانون تماماً, ذلك أنهم رفضوا أن يضعوا فى إعتبارهم الأداة الوسيطة والتى تتمثل بمعارضة التريبيون العسكرى الذى كان يدعم قيصر, والذى كان يقوده "مارك أنطونيو" و"كوريون".
ولقد تجاوز "بومبى" ومجلس الشيوخ حدودهما القانونية عندما أرغما قائدى التريبيون "مارك أنطونيو" و"كوريون" وحملاهما على الفرار واللجوء إلى معسكر "يوليوس قيصر", ولم يكن هذا عملاً قانونياً أو شرعياً, فى الوقت الذى لم يظهر فيه مجلس الشيوخ مثل هذه الجرأة إلا بفضل إعتماده على حماية "بومبى".
كان جيش "يوليوس قيصر" يضم عشرة ليجيونات (فيالق),  وقد تولى "يوليوس قيصر" قيادة وحدات هذه الليجيونات طوال عشرة أعوام, وخاض معها أقسى المعارك فى بلاد الغول والجرمان وبريطانيا, ومقابل هذا الجيش كان جيش "بومبى" يضم ليجيونين تم إختلاسهما من "يوليوس قيصر" قبل سنوات عديدة, وذلك بحجة دعم "كراسوس" الذى كان يخوض عملياته الثائرة فى الشرق, ثم إحتفظت روما بهما فوق الأرض الإيطالية, وبالإضافة إلى ذلك كان هناك أربعة ليجيونات إسبانية لم يمارس "بومبى" قيادتها أبداً بصورة شخصية, إلا أنها أقسمت يمين الولاء له, وإلى جانب ذلك كان لدى "بومبى" أسطول ضخم يغطى البحر الداخلى, كما كان لـ "بومبى" علاقاته الجيدة وشبكة إتصالاته مع كل مناطق الشرق التى فتحها.
إستخدم "بومبى" بعض أعمال العنف, وبعض الأعمال غير الشرعية من أجل فرض الشرعية المناسبة له, فأحرج بذلك "يوليوس قيصر" الذى رد على هذا الإنتهاك بإنتهاك مماثل بأن عبر نهر الروبيكون.

"يوليوس قيصر" يعبر نهر (روبيكون):

كان "يوليوس قيصر"يعلم أن إستسلامه معناه إسلام الإمبراطورية للعجز وللرجعية، وكان صديقاً من أقرب الأصدقاء إليه ومن أقدر مؤيديه وهو "تيتس لبيينس" قد انشق عليه وانضم إلى "بومبى"، فما كان منه إلا أن استدعى الليجيون الثالث عشر، أكثر ليجيوناته ولاء له وأحبها إلى قلبه، وكانت أول كلمة نطق بها أمامهم وهى "زملائى الجنود" كافية لكسب قلوبهم، ولم يكونوا ينكرون عليه حقه فى استعمال هذا اللفظ لأنهم رأوه من قبل يشترك معهم فى الصعاب ويتعرض معهم للأخطار, وكان هو على الدوام يخاطبهم بهذا اللفظ. وكان معظم رجاله من بلاد الغالة الجنوبية، وهى البلاد التى جعل لأهلها حق المواطنين الرومان، وكانوا يعرفون أن مجلس الشيوخ قد أبى أن يعترف لهم بهذه المنحة, وكان "يوليوس قيصر" قد علمهم فى أثناء حروبهم الطويلة أن يحترموه - بل أن يحبوه على طريقتهم الخشنة الصامتة فى الحب. وكان قاسياً على الجبناء ومن لا يرعون النظام، ولكنه كان سمحاً ليناً لا يقسو عليهم ويتغاضى عن أخطائهم ويجنبهم ما لا ضرورة له من الأخطار، وكثيراً ما أنجاهم من الهلاك بحنكته وحسن قيادته. وهذا إلى أنه ضاعف أجورهم، ووزع عليهم كثيراً من غنائمه الحربية، ولما جاءوا إليه شرح لهم ما عرضه على مجلس الشيوخ، وكيف قابل المجلس هذه العروض، وسألهم هل يتبعوه؟ فلم يعارض واحد منهم، ولما قال لهم إنه ليس لديه مال يؤدى منه أجورهم جاءوا إلى خزائنه بكل ما كان مدخراً لديهم.
بعد أن عمل "يوليوس قيصر" على معرفة إتجاهات تفكير رجاله, وإطمأن إلى ولائهم, توجه إلى (أريمينون) على رأس الليجيون الثالث عشر من ليجيوناته, للقاء مجلس الطبقة المتوسطة الذى كان قد إلتجأ إليه, مجتازاً فى اليوم العاشر من شهر يناير عام 49 ق.م نهر (روبيكون) الذى لم يكن مسموحاً للقادة بتجاوزه مع قواتهم إلا بموجب موافقه مسبقة من مجلس الشيوخ, وقد فوجئ "بومبى" مفاجئة تامة عندما علم بعبور "يوليوس قيصر" لنهر (روبيكون).
وانضم بعدئذ إلى "يوليوس قيصر" الفيلق الثانى عشر من فيالقه عند (بسينوم Picenum)، والفيلق الثامن عند (كورفنيوم Corfinium)، ثم أنشأ ثلاثة فيالق جديدة من أسرى الحرب ومن المتطوعين ومن أهل البلاد, ولم يكن يلقى صعوبة فى جمع الجنود لأن إيطاليا لم تكن قد نسيت بعد ما قاسته فى الحرب الاجتماعية، وكانت ترى فى "يوليوس قيصر" البطل المدافع عن حقوق الإيطاليين. فكانت مدائنها تفتح أبوابها لاستقباله واحدة بعد أخرى، وكثيراً ما خرج سكان بعض هذه المدائن على بكرة أبيهم ليحيوه ويرحبوا به.
وقاومت (كورفنيوم) مقاومة قصيرة الأجل، ثم استسلمت له ولم يسمح لجنوده أن ينهبوها، وأطلق سراح منه قبض عليهم من الضباط، وبعث إلى معسكر "بومبى" بكل ما تركه "لبيينس" من المال والعتاد. ولم يشأ أن يصادر ضياع من وقع فى يده من الأعداء وإن كان فى ذلك الوقت معدماً فقيراً لا يكاد يملك شيئاً من المال- وكانت هذه خطة حميدة يمتاز بها "يوليوس قيصر"، كان من أثرها أن وقفت كثرة الطبقة الوسطى من الأهلين على الحياد. وأعلن فى ذلك الوقت أنه سيعد كل المحايدين أصدقاء له وأنصاراً. وكان فى كل خطوة يخطوها إلى الأمام يعرض عروضاً للصلح على أعدائه.

"يوليوس قيصر" يدخل روما:

ولما تقدم "يوليوس قيصر" نحو العاصمة انسحب "بومبى" وجنوده منها وإن كانت جيوشه وقتئذ لا تزال أكثر من جيوش "يوليوس قيصر" عدداً. وانسحب من ورائه فى غير نظام عدد كبير من الأشراف تاركين وراءهم زوجاتهم وأبناءهم تحت رحمة "يوليوس قيصر". ورفض "بومبى" عروض الصلح جميعها، وأعلن أنه سيعدّ كل من لم يغادر رومه وينضم إلى معسكره عدواً له. ولكن الكثرة العظمى من أعضاء مجلس الشيوخ بقيت فى رومه، وسار "بومبى" إلى (برنديزيوم) وعبر بجنوده البحر (الأدرياوى). وكان يعرف أن جيشه ينقصه النظام، وأنه فى حاجة إلى كثير من التدريب قبل أن يستطيع الصمود فى وجه ليجيونات "يوليوس قيصر"، وكان يرجو أن يستطيع الأسطول الرومانى الذى يسيطر هو عليه أن يجوع إيطاليا فى هذه الأثناء ويدفعها إلى إبادة عدوه.
ودخل "يوليوس قيصر" رومه فى اليوم السادس عشر من مارس دون أن يلقى فى دخولها أية مقاومة، ودخلها وهو مجرد من السلاح لأنه ترك جنوده فى البلدان المجاورة لها, وأعلن حين دخولها العفو العام عن جميع أهلها، وأعاد إليها الإدارة البلدية والنظام الإجتماعى. ودعا التريبيونان مجلس الشيوخ إلى الانعقاد وطلب إليه "يوليوس قيصر" أن يعينه حاكماً بأمره (دكتاتوراً)، ولكن المجلس لم يجبه إلى طلبه، ثم عرض على المجلس أن يبعث رسلاً إلى "بومبى" ليفاوضوه فى عقد الصلح فرفض ذلك أيضاً. فطلب المال من الخزانة العامة فوقف فى سبيله التربيون "لوسيوس متلس Lucius Metellus" فلما قال "يوليوس قيصر" إن النطق بعبارات التهديد أصعب عليه من تنفيذها خضع "متلس". واستطاع من ذلك الوقت أن يكون حر التصرف فى أموال الدولة، ولكنه كان نزيهاً كل النزاهة، فأودع فى الخزانة العامة كل ما غنمه من الأموال فى حروبه الأخيرة. ولما تم له ذلك عاد إلى جنوده واستعد لملاقاة الجيوش الثلاثة التى كان "بومبى" وأنصاره يعدونها فى بلاد اليونان وأفريقيا وأسبانيا، وأراد أن يضمن لإيطاليا كفايتها من الحبوب التى تعتمد عليها فى حياتها، فأرسل "كوريو "Curio المتهور العنيف ومعه فيلقان من جيشه ليستولى على صقلية، فلما نزل فى الجزيرة سلمها إليه "كاتو" وانسحب منها إلى إفريقيا، فاندفع وراءه "كوريو"، واشتبك معه فى معركة لم يكن قد كمل استعداده هو لها، فهزم وقتل فى ميدان القتال.

أسبانيا تخضع لـ "يوليوس قيصر":

وكان "يوليوس قيصر" فى هذه الأثناء قد سار على رأس جيش إلى أسبانيا وكان غرضه من هذا الزحف أن يضمن عودتها إلى تصدير الحبوب إلى إيطاليا، وأن يحول بينها وبين الهجوم على مؤخرته حين يزحف لملاقاة "بومبى"، وارتكب فى إيطاليا كما ارتكب فى غالة عدة أغلاط عسكرية فنية، كانت عاقبتها أن تعرض جيشه - الذى كان أقل من جيش أعدائه عدداً - للهزيمة وللهلاك جوعاً. ولكنه أنجاه وأنجى نفسه، كمألوف عادته، بسرعة خاطره وشجاعته، فقد حول مجرى أحد الأنهار واستحال الحصار الذى كان مضروباً عليه حصاراً على أعدائه، وظل صابراً زمناً طويلاً حتى يستسلم له الجيش المحاصر وإن كان جنوده قد ملوا الانتظار طويلاً يطالبون بالهجوم على العدو. ثم استسلم أنصار "بومبى" آخر الأمر وخضعت أسبانيا كلها إلى "يوليوس قيصر" (أغسطس سنة 49). وعاد بعدئذ إلى إيطاليا براً، ولكنه وجد الطريق مغلقاً فى وجهه عند (مرسيليا)، وقد وقف أمامه جيش يقوده "لوسيوس دمتيوس Lucius Domitius" وهو القائد الذى أسره فى (كورفنيوم) ثم أطلق سراحه. واستولى "يوليوس قيصر" على المدينة بعد أن حاصرها حصاراً شديداً، ثم أعاد تنظيم الإدارة فى غالة، ولم يحل شهر ديسمبر حتى عاد ظافراً إلى رومه.
وقوت هذه الحملات مركزه السياسى، كما طمأنت البطون المتخوفة فى العاصمة على كفايتها من الطعام، فلم يمانع مجلس الشيوخ وقتئذ فى أن يعينه دكتاتوراً. ولكن "يوليوس قيصر" تخلى عن هذا اللقب بعد أن اختير أحد القنصلين فى عام 48 ق.م. ولما وجد أزمة النقد مستحكمة فى إيطاليا، لأن اختزان النقود قد سبب انخفاض الأثمان، وأبى المدينون أن يؤدوا بالنقود الغالية ما استدانوه بالنقود الرخيصة - لما وجد هذا أصدر قراراً يهيج أداء الديون سلعاً بقدر أثمانها محكمون من قبل الحكومة كما كانت تقدر قبل الحرب. وكان يرى أن هذه "خير وسيلة للاحتفاظ بشرف المدينين ولتبديد أو تقليل الخوف الذى كان يساور البعض من أن تلغى هذه الديون إلغاء تاماً، وهو الإلغاء الذى يحتمل حدوثه فى أعقاب الحروب".

ما قبل الحرب:

وفى ليلة 4 – 5 يناير سنة 48 ق.م نجح قيصر فى العبور من (بريند) إلى (بالاسا) على الشاطئ المقابل, ومعه سبعة ليجيونات, أما الليجيونات الخمسة الباقية فقد تركها فى (بريند) بقيادة "مارك أنطونيو".
سيطر "يوليوس قيصر" بليجيوناته السبعة على ساحل الإيبر بكامله, غير أن موقف "يوليوس قيصر" كان خطيراً, إذ كان مهدداً بإستمرار أن تسحقه قوات "بومبى" المتفوقة, طالما أن "مارك أنطونيو" لم يتمكن من نقل ليجيوناته الخمسة, وقد بذلت القوات جهوداً رائعة وإستطاع "مارك أنطونيو" فى النهاية قيادة الليجيونات الخمسة والإنضمام إلى قوات قيصر, وبذلك زال التهديد الذى كان يتعرض له "يوليوس قيصر" وقواته.
وكان "بومبى" فى هذه الأثناء قد استولى بأربعين ألفاً من رجاله على (ديراكيوم (Dyrrhachium ومخازنها الغنية، ولكنه عجز عن مهاجمة جيش "يوليوس قيصر" الذى تناقص عدده وقلت مؤونته، وكان "بومبى" فى تلك الأيام قد أصابه التردد وضعف العزيمة. وبينا كان هو فى تردده جمع "مارك أنطونيو" أسطولاً جديداً حمل عليه ما كان باقياً من جيش "يوليوس قيصر" فى إيطاليا.
وبذلك أصبح "يوليوس قيصر" متأهباً للقتال، ولكنه ما زال يكره أن يقاتل الرومانى رومانياً مثله، فأرسل رسولاً إلى "بومبى" يعرض عليه أن يتخلى القائدان كلاهما عن قيادتهما، ولكن "بومبى" لم يرد عليه فهاجمه وأخفق فى هجومه، غير أن "بومبى" عجز أن يتبع النصر بمطاردة عدوه. ثم قتل ضباط "بومبى" جميع من وقع فى أسرهم من أعداءهم الضباط على الرغم من نصيحة قائدهم الأعلى، أما "يوليوس قيصر" فلم يقتل أحداً من أسراه، وهو عمل رفع من قوة جنوده المعنوية بقدر ما أضعف من قوة "بومبى". وطلب رجال "يوليوس قيصر" إلى قائدهم أن يعاقبهم على ما أظهروه من الجبن فى حربهم الأولى ضد الفيالق الرومانية، فلو لم يجبهم إلى ما طلبوه توسلوا إليه أن يعود بهم إلى ساحة القتال، ولكنه رأى من الحكمة أن يرتد إلى تساليا ليستريحوا فيها بعض الوقت.
واستقر رأى "بومبى" وقتئذ على القرار الذى قضى على حياته. فقد أشار عليه "أفرانيوس Afranius" أن يعود إلى إيطاليا الخالية من وسائل الدفاع ويستولى عليها؛ ولكن معظم مستشاريه ألحوا عليه أن يطارد "يوليوس قيصر" ويقضى عليه. وبالغ الأشراف الذين كانوا فى معسكر "بومبى" فيما أحرزه من النصر فى (درهشيوم) وظنوا أن القضية الكبرى قد فصل فيها فى ذلك المكان.
وكان "بومبى" نفسه أميل إلى التريث وعدم الاشتباك فى معركة فاصلة، ولكنه إضطر إلى العمل برأى مستشاريه عندما عيروه بالجبن والخور، فأصدر أمره بالزحف.

فرسالوس .. والنهاية:

ودارت رحى المعركة الفاصلة فى (فرسالوس) (فارسالا حاليًا فى اليونان) فى اليوم التاسع من شهر أغسطس عام 48 ق.م، وكانت معركة طاحنة دام فيها القتال حتى نهايتها المريرة. وكان جيش "بومبى" يتألف من ثمانية وأربعين ألفاً من المشاة، وسبعة آلاف من الفرسان, أما جيش "يوليوس قيصر" فلم يكن يزيد على اثنين وعشرين ألفاً من المشاة, وألف من الفرسان.
إعتمد "بومبى" فى تنظيم قواته على توجيه ضربة قوية من خلال فرسانه إلى جناح جيش "يوليوس قيصر" ومؤخرته, فاستند بجناحه الأيمن إلى حافة النهر الحادة, ووضع فرسانه ومشاته على الجناح الأيسر... أما "يوليوس قيصر" فقد وضع جناحه الأيسر على النهر, وركز على جناحه الأيمن الفرسان والمشاة الخفيفة وبعض أفراد المشاة الثقيلة, وكان على المشاة الثقيلة أن تدعم الفرسان.
بدأت المعركة بإشارة من "يوليوس قيصر" وإندفعت مشاته الثقيلة إلى الأمام حيث إشتبكت مع جيش "بومبى" بالسلاح الأبيض, وفى ذلك الوقت إنطلق فرسان "بومبى" الموجودة على الجناح الأيسر لمهاجمة الجناح الأيمن لقوات "يوليوس قيصر", ولم يستطع فرسان "يوليوس قيصر" القليلون أن يتصدوا لهجمات فرسان "بومبى" على الرغم من دعم المشاة الثقيلة لها, وأخذت فى التراجع إلى الخلف وهى تسحب فرسان "بومبى" معها نحو الإحتياط السرى المختفى خلف الجناح الأيمن والمكون من ست ليجيونات, وفى اللحظة المناسبة إستدارت هذه الليجيونات الستة إلى اليمين وهاجمت فرسان "بومبى" الذين لاذوا بالفرار من جراء هذه الضربة القوية, متوجهة إلى المرتفع حيث يوجد معسكر "بومبى", ولم تتوقف كتائب "يوليوس قيصر" الستة الإحتياطية بل إندفعت إلى الأمام ملتفة حول الجناح الأيسر لقوات "بومبى", وفى الوقت ذاته إنتظم فرسان "يوليوس قيصر" وأخذوا بالتعاون مع المشاة الثقيلة فى مطاردة جيش "بومبى" الهارب, وقد دخلت فى المعركة بقايا كتائب "يوليوس قيصر" التى كانت موجودة فى الخط الثالث كإحتياط, حيث تقدمت إلى الأمام عبر فراغات الخطوط المشتبكة, وهاجمت بشكل حاسم مشاة "بومبى", وبعد مقاومة ضعيفة إنهزمت قوات "بومبى" ولاذت بالفرار.
لقد كان أقرب الأقارب، بل كان الأخوة أنفسهم، يقاتل بعضهم بعضاً فى الجيشين المتعاديين. وقد أمر "يوليوس قيصر" رجاله أن يبقوا على حياة كل من يستسلم من الرومان، وروع البمبيون لتفوق أعدائهم القيادة، والتدريب، والقوة المعنوية. وقُتل منهم وجُرح خمسة عشر ألفاً، واستسلم عشرون ألفاً، وولى الباقون الأدبار. ونزع "بومبى" شارة القيادة عن رجاله وفر مع من فروا من رجاله. ويخبرنا "يوليوس قيصر" أنه لم يفقد من رجاله إلا مائتين- وهو قول يحملنا على الشك فى كتبه كلها. وأخذ رجاله يتندرون بما فى خيام أعدائهم من وسائل الزينة، وبما وجدوه فيها من الموائد المثقلة بالطعام الشهى الذى أعد لساعة الاحتفال بالنصر. وأكل "يوليوس قيصر" عشاء "بومبى" فى خيمة "بومبى" نفسه.
وسار "بومبى" على ظهر جواده الليل كله حتى وصل إلى (لارسا Larissa)، وعرج فى طريقه على متلينى Mytilene حيث انضمت إليه زوجته وطلب إليه سكانها أن يقيم معهم، ولكنه رفض طلبهم فى أدب ومجاملة، ونصحهم أن يستسلموا للفاتح فى غير خوف لأن "يوليوس قيصر" على حد قوله "رجل عامر القلب بالصلاح والرحمة"، وركب منها سفينة أقلته إلى الإسكندرية.
فر "بومبى" إلى الإسكندرية التى كان يرتبط بحكامها الفراعنة بعلاقات جيدة, وأكبر الظن أن بعضهم قد حذر "يوليوس قيصر" من أن "بومبى" يفكر فى معاودة القتال معتمداً على جيش مصر ومواردها، وعلى القوة التى كان "كاتو" و"لبينس" و"متلس" يعدونها فى (يتكا Utica).
ولكن عند وصوله إلى الإسكندرية و أثناء تفاوضه مع مستشارين "بطليموس الثالث عشر" وصلت أنباء قدوم "يوليوس قيصر" إلى مصر متتبعا بومبى مما جعل "بوثينس" أحد مستشارين الفرعون "بطليموس الثانى عشر" يأمر بقتل "بومبى" عدو "يوليوس قيصر" وذلك لتحسين علاقتهم معه وتقديم خاتمه لـ "يوليوس قيصر" عند وصوله الإسكندرية كترحيب به ولعله فعل ما فعل رجاء أن يكافئه عليه "يوليوس قيصر", فقد طعن القائد طعنة قوية حين وطئت قدماه شاطئ مصر، بينما كانت زوجته تنظر إليه فى هلع وهى على ظهر السفينة التى أقلتهما إلى تلك البلاد.
فلما جاء "يوليوس قيصر" إلى الإسكندرية فى 2 أكتوبر من عام 48ق.م أهدى إليه رجال "بوثينس" رأس القائد الذى فصل عن جسده, ولكن "يوليوس قيصر" لم يكن سعيدا بهذه المفاجأة حيث كان "بومبى" حليفه بالسابق وزج ابنته "جوليا قيصر" مما أدى "يوليوس قيصر" لقتل مستشارين الفرعون المسئولين عن اغتيال "بومبى" و تنحيه "بطليموس الثالث عشر" عن الحكم وتقليد "كليوباترا السابعة" حاكمة.

المراجع
كتاب سلسلة: مشاهير قادة العالم ... يوليوس قيصر            تأليف : بسام العسيلى               المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1980
موسوعة : قصة الحضارة              ول ديورانت                       الهئية الهامة المصرية للكتاب - مكتبة الأسرة - مصر 2001

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.