الأحد، 7 فبراير 2010

سرابيس.. إله "سينوب" الغامض فى مصر

سرابيس.. إله "سينوب" الغامض فى مصر

إعـــداد: أشرف السيد الشربينى معوض البحيرى

مجئ "سرابيس" إلى مصر:
يرى بعض المؤرخون أن عبادة "سرابيس" نشأت من تلقاء نفسها بين إغريق مصر ويرى البعض الآخر أن "الإسكندر" هو الذى أنشأ هذه العبادة ولكن الرأى السائد أن "بطليموس الأول" الذى انشأ هذه العبادة.
ويرجع "بلوتارخوس" و"تاكتيوس "أن الذى أنشأ هذه العبادة "بطليموس الأول" ويؤيد ذلك ما كشفت عنه مصادرنا القديمة من إيمان بعض الشخصيات بهذه العبادة مثل الشاعر "ماندروس" وهو الذى توفى فى عام (291 -290), و"دميتريوس الفاليرى" الذى إستضافه "بطليموس الأول" فترة من الزمن.
عندما تولى بطليموس الأول حكم مصر واستقلاله بها (306 ق.م) كانت سياسة بطليموس الخارجية أن ينشىء إمبراطورية بحرية تضم الحوض الشرقى للبحر المتوسط (بحر إيجة) من اجل ذلك لابد من وجود أحوال اقتصادية وافرة الثراء فى البلاد ولكى يتحقق ذلك لابد من أن يؤلف بين كلاً من العنصرين المشكلين للمجتمع المصرى بعد فتوحات الإسكندر مهما المصريون والإغريق لاسيما انه كان يعرف أن للمصريين ديانة موروثة راسخة القدم وأن الإغريق احضروا  معهم ديانتهم لذلك وجه همه إلى التغلب على النفور الدينى.
كان يتعين أن يكون محور الديانة الجديدة مذهبا مصريا يمكن إقناع الإغريق بالإقبال على اعتناقه وذلك لأنه بقدر ما أصاب إيمان الإغريق من ضعف وما ساورهم من شكوك فى مقدرة آلهتهم (بعد الحروب البلوبونيزيه وبعدها زعامة مقدونيا) كان المصريون مستمسكين بمعتقداهم الدينية ويفخرون بها.
وإذا قمنا بالبحث داخل كافة الآلهة المصرية فأننا لانجد إلها يمكن أن تتوافر فيه هذه الشروط أكثر من اوزير (أوزيريس) فقد كان يحتل مكانا ساميا بين المصريين, ومن جهة أخرى يمكن إقناع الإغريق بأنه إلههم "ديونسيوس زاجريوس" الذى قتله "التيتانو" لذلك فان مثل هذا الإله كان خير من يصلح لان تقوم حول عبادة تجمع بين معتقدات المصريون والإغريق.
فى ذلك الوقت كان المصريون فى مدينة "منف" يعبدون إلهاً يدعى "أوزيرابيس", وكانت رغبة "بطليموس الأول" فى إدخال عبادة "سرابيس" إلى مصر كفيلة بإقناع الكهنة بأن "سرابيس" لم يكن سوى "أوزيرابيس" ومنذ ذلك الوقت كان "سرابيس" هو التسمية الإغريقية لـ "أوزيرابيس", وإتخذه "بطليموس الأول" إلهاً يتجمع حوله سكان مصر من مصريين وإغريق, وأصبحت الأيمان الرسمية تعقد على النحو التالى: (بسم "سرابيس" و"إيزيس" والآلهة الأخرى).
ومما يرواه "بلوتارخوس" نقلا عن "مانثون" عن قصة مجئ الإله "سرابيس" إله "سينوب" الغامض إلى مصر أن "بطليموس الأول" قد رأى الإله "سرابيس" فى منامه وأخذ يرجوه أن يجلب تمثاله إلى مصر, وبالتالى تنتقل عبادته مع التمثال إلى مصر, ولما كان "بطليموس الأول" لم يرى هذا الاله من قبل فانه إستدعى رجلا من رجاله يدعى "سوسيوس" وكان قد جاب أقطار العالم ووقف على أخبارها وقص عليه فقال لـ "بطليموس" أنه شهد ذلك الإله فى مدينة سينوب وتبعا لذلك أحضره "بطليموس" إلى الإسكندرية حيث أقام "بطليموس الأول" معبدا عظيما فوق أطلال معبد شيد قديما لـ "إيزيس" و"سرابيس", ويذكر "هيرونيوس" نقلا عن "يوسبيوس" أن إحضار تمثال سرابيس الى مصر كان عام 286 ق.م.وكان الإله" سرابيس"، الذى اشتق اسمه من المعبودين "أوزيريس" والعجل "أبيس"، إله الخصوبة والشفاء والقيادة العليا والحياة الآخرة.

تشييد معبد "سرابيس" الإسكندرية:
وقد أقام البطالمة معبد "سرابيس" فى مدينة "منف" مكان عبادة المصريين, ولما إنتقلت عاصمة الملك إلى الإسكندرية كان من الطبيعى أن يتبع ذلك تشييد معبد كبير لكبير آلهتها فى "الإسكندرية" بصفتها العاصمة وإقامة تمثال له فى هذا المعبد.
كان  "الإسكندر" قد وضع أساساً لمعبداً كبيراً لـ "إيزيس" فى الإسكندرية, ولما كان من الواضح أن "بطليموس الأول" لم يشيد معبد لـ "سرابيس" فى الإسكندرية فقد أقام هذا التمثال فى معبد "إيزيس" الذى وضع "الإسكندر" أساسه, وأغلب الظن أن "فليو ميتور" أقام دعائمه بدلاً من إقامته فى معبد جديد لـ "سرابيس" وذلك لشدة حرص "بطليموس" على المال بطبيعة الحال فأصبح هذا المعبد يعرف منذ ذلك الوقت بإسم معبد "إيزيس" و"سرابيس", لذا فإنه لما كان معروفا أن "بطليموس الأول" هو الذى أنشأ العبادة الجديدة وإختار تمثال "سرابيس" وكان من المعروف أنه أقيم لـ "سرابيس" معبداً كبيراً مكان معبد "إيزيس" القديم  فلابد من أنه بعده بفترة طويلة تصور الكثيرون  من القدماء أن "بطليموس الأول" هو منشأ المعبد الكبير فى حين أن "بطليموس الأول" قد أقام معبد "السرابيوم" الضخم مكان المعبد الكبير وعلى دعائمه ليضم عبادة كلاً من "سرابيس" و"إيزيس".
وفى هذا المعبد الضخم نجد الإله "سرابيس" يستوى على عرشه فى الهيئة التى شاهده الملك عليها فى رؤياه, ولهذا أقام المثال الأثينى "برياكسيس" صورته بشعر ولحية أشعثين وعلى رأسه مكيال الحبوب, وعلى قاعدة تمثال نقشا يتضمن إهداء لـ "سرابيس" بحروف يونانية وإغريقية يدل شكلها على أن النقش يرجع إلى النصف الأول من القرن الثالث إلى ما قبل الوقت الذى شيد فيه "السرابيوم".

إنتشار عبادة "سرابيس":
وأصبح الإله "سرابيس صاحب المكانة الأولى فى "الإسكندرية", ثم أقيم له معابد كثيرة فى القطر المصرى, حتى أنه كان للإله "سرابيس" فى مصر إثنان وأربعون معبداً غير أن معابده الرئيسية كانت فى "الإسكندرية" و"منف".
كان من الضرورى بعد أن توطدت عبادة الإله "سرابيس" فى "الإسكندرية" على يد "بطليموس الأول" أن يظهر هذا الإله الجديد بالمظاهر الإغريقية التى كان يتصف بها الآلهة الإغريق, حيث وصفوه بالإله الشافى حيث كان يذهب إليه المرضى وينامون فى معبده حيث يـُملى عليهم هذا الإله فى نومهم ما يجب عمله لشفاء كل مرض, وقد تم إكتشاف نقش إغريقى لا يتخطى تاريخه 300 ق.م فى معبد إغريقى صغير بجوار الطريق الذى يربط بين "سيرابيوم منف" ومعبد "أنوبيس" وفيه نقرأ أن إغريقياً يقدم الشكر للإله "سرابيس" على شفائه من المرض الذى أصابه.
كما أن بعض من الوثائق البردية الإغريقة التى وصلت إلينا فى هذا الصدد وهى الآن محفوظة فى المكتبة الأصلية بفيينا عبارة عن إلتماس من إمرأة إغريقية تدعى "أرتيمسيا" إلى الإله "سرابيس" لينزل نقمته على رجل أنجبت منه إبنة توفيت وباع جثتها ولم يف بدينه, ونستنتج من ذلك أن "سرابيس" الإله الذى عبد فى الإسكندرية كان اله العالم الآخر الذى يعبد فى المعبد المقام فوق مقابر العجول المحنطة فى "منف".
كانت عبادة "سرابيس" فى بادئ الأمر قاصرة على مجتمعات خاصة , ولكنها أصبحت رسمية كما حدث فى "أثينا" و"ديمترياس" و"لندوس" و"ديلوس" وغيرها, وقد وجدت دعاية قوية للإله "سرابيس" فى مصر, وإنتشرت عبادته بسرعة فى العالم "الأيونى" وفى "أثينا".
ومع حلول القرن الأول قبل الميلاد كانت عبادة "سرابيس" و"إيزيس" تعتبر الديانة العالمية, فقد إنتشرت عبادتهما إنتشاراً واسعاً حتى أن عبادة "إيزيس" قد وصلت إلى "بابل" فى حين وصلت عبادة "سرابيس" إلى الهند.
هذا وقد كان الآلهة "زيوس" و"هاريس" و"سكليبوس" يـُعدون من العناصر التى تتألف منها طبيعة "سرابيس" حيث أنه كان من خصائص الديانة المصرية القديمة أن الآلهة فيها فى عهد الدولة الحديثة وما بعدها كان عندما يرتفع شأن أحد الآلهة فإنه يطغى على صفات الآلهة الأخرى.
إنصهر الإله سرابيس فى مفاهيم الديانات المصرية واليونانية أساسا في الإسكندرية حيث بدأ بطليموس الأول ثقافته وأنشئ له أول ضريح لتقديسه وأطلق عليه سيرابيوم، واستمر تقديسه خلال العصر الروماني وانتشرت معابده في الإمبراطورية الرومانية. 
وفي بعض الأحيان تم إدماج الإله سرابيس مع آلهة أخري مصرية ويونانية. هذا الاندماج مثل "سرابيس- زيوس"، و"سرابيس - هيليو"، و"سرابيس - آمون".

النهاية:
طغت شهرة "إيزيس" فى العصر الرومانى على شهرة الإله "سرابيس" فكانت تلك بداية النهاية لعبادة هذا الإله حيث جاءت الديانة المسيحية بعد ذلك على يد القديس "مرقص" فبدأت نهاية عصر تعدد الآله وبدأ عصر عبادة "الله" الإله الواحد و سقطت عن الوثنية قدستيها وأصبحت المسيحية هى الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية وقد بدأت المسيحية فى عصر سيادتها متسامحة متسمة بالإعتدال فتركت للوثنين حريتهم الدينية ومعابدهم يمارسون فيها عباداتهم وطقوسهم, ولكن سرعان ما تمكنت المسيحية من الدولة الرومانية وبدأت موجات الإضطهاد لخصومهم الوثنيون ومعابدهم وبلغت تللك الموجات ذروتها فى عصر الإمبراطور "ثيودوسيوس الأول" (379-395 م) الذى شن حملة مشددة ضد الوثنية وجميع معابدها فى أرجاء الإمبراطورية, وفى إحدى مراحل هذه الحملة حصل "ثيوفيلوس" أسقف الإسكندرية على إذن من الإمبراطور بتحويل معبد "ديونيسوس" إلى كنيسة فاستفز بذلك مشاعر الوثنيين والمسيحيين ولم يجد الوثنيون مكاناً أمنع ولا أنسب من موقع "السرابيوم" الذى كان أشبه بقلعة أو حصن منيع بسبب ضخامته وإرتفاعه فوق ربوة من الأرض.
وأرسل الأسقف "ثيوفيلوس" إلى الإمبراطور "ثيودوسيوس" يعرض عليه أمر هدم "السرابيوم" وجاء الامر سنة (391 م) محققا لكل آمال الأسقف "ثيوفيلوس" إذ أمر الإمبراطور بتدمير المعابد التى فى الإسكندرية فسار "ثيوفيلوس" ومعه جمع غفير من أتباعه إلى ساحة معبد "السرابيوم" فقرأ الأمر الأمبراطورى على جمع غفير من الوثنيين فدب فيهم الذعر وفروا هاربين فصعد "ثيوفيلوس" إلى المعبد وقام بنفسه بضرب تمثال الإله سرابيس الضربة الأولى وتبعه المسيحيون الأرون الذين أخذوا يدمرون فى المعبد ما إستطاعوا  من تدمير  ونهب وسلب وبعد ان نفذ "ثيوفيلوس" الأمر أمر بتحويل البناء إلى كنيسة القديس "يوحنا المعمدان" التى تهدمت فى عام 600 م واعاد البطريرك "إسحاق" بناءها (681-684م) وإستمرت حتى تهدمت فى القرن العاشر الميلادى.
ثم جاءت الديانة الإسلامية بعد ذلك لتكمل ما بدأته الديانة المسيحية من القضاء على عصر تعدد الآلهة وتوطيد عبادة "الله" وحده.

المراجع
موسوعة مصر القديمة       تأليف: سليم حسن       مكتبة الأسرة 2001
كتاب: معجم الحضارة المصرية القديمة     تأليف:جورج بوزنر وآخرين     ترجمة: أمين سلامة   مكتبة الأسرة 2001
كتاب: ديانة مصر القديمة     تأليف: أدولف إرمان    ترجمة: د.عبد المنعم أبو بكر & د. محمد أنور شكرى   مكتبة الأسرة 1997

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.