حريق القاهرة.. الجريمة والجانى
إعداد الباحث: أشرف السيد الشربينى
حكومة الوفد تلغى المعاهدة:
بدأت الشرارة الأولى لحريق القاهرة مع إلغاء معاهدة 26 أغسطس عام 1936, حيث جاء إلغاء المعاهدة ليكشف حقيقة الوجود البريطانى، وينسف كل مبررات بقائه، فقد أعلنت حكومة الوفد فى 16 من يناير 1950م - على لسان "مصطفى النحاس"- أن معاهدة (1936م) قد فقدت صلاحيتها كأساس للعلاقات المصرية / البريطانية، وأنه لا مناص من إلغائها فسقطت دعاوى بريطانيا حول حقوقها فى مصر كما سقطت من قبل دعوى الحماية.
وفى 18 من أكتوبر 1951م الموافق 18 من المحرم 1371هـ وقف "مصطفى النحاس" ليعلن إلغاء المعاهدة وإلغاء اتفاقيتى 19 يناير و10 يوليه عام 1899 فى شأن إدارة السودان، وقدم إلى البرلمان المراسيم بمشروعات القوانين المتضمنة هذا الإلغاء وسط تأييد حافل من نواب الحكومة والمعارضة, وصدر القانون الرقم 175 لعام 1951، بإنهاء العمل بأحكام معاهدة 1936، موقعاً بتوقيع رئيس مجلس الوزراء، مصطفى النحاس، والملك فاروق.
نتائج إلغاء المعاهدة:
أدى إلغاء المعاهدة إلى إلغاء الامتيازات والإعفاءات التى كانت تتمتع بها القوات البريطانية الموجودة فى مصر، مثل: إلغاء جميع الإعفاءات المالية التى تشمل الرسوم الجمركية على المهمات العسكرية والأسلحة والعتاد والمؤن، وكذلك الرسوم المستحقة على السفن التى تمر بالمياه المصرية لخدمة القوات البريطانية.
كما امتنعت السكك الحديدية المصرية عن أداء أية خدمات للقوات البريطانية، أو نقل أى مهمات أو عتاد لها، ومنعت الحكومة المصرية دخول الرعايا البريطانيين إلى البلاد، ما لم يكونوا حاصلين على تأشيرات دخول من السلطات القنصلية المصرية فى البلاد التى قدموا منها، وأنهت تصاريح إقامة البريطانيين الذين يخدمون فى القوات البريطانية.
فكان من شأن إلغاء المعاهدة أن كشفت الغطاء عن الوجود العسكرى البريطانى الكثيف فى منطقة القناة، الذى أصبح بعد إلغاء المعاهدة ليس له أى مبررات للتواجد البريطانى فى هذه المنطقة، وإذا بتسلط الاحتلال الإنجليزى يبلغ مداه، فى الإصرار على بقاء قواتهم هناك زاعمين أن قرار الإلغاء غير صحيح.
ويمكن القول أيضاً إن إلغاء معاهدة ٣٦ قد أشعل نار الغضب الشعبى وبعث الدماء بقوة من جديد فى روح النضال الوطنى المسلح ضد الاحتلال، ومع قوة هذا النضال وزخمه استمر مسلسل العنف الإنجليزى ضد الوطنيين فى منطقة القناة حتى وصل ذروته فى العشرينيات من يناير سنة ١٩٥٢م.
حيث تم تشريد الأهالى بالإسماعيلية والتعامل الوحشى مع رجال المقاومة وشرع الاحتلال فى نبش القبور بحجة البحث عن أسلحة ولم يفرق الرصاص الإنجليزى بين مدنى وعسكرى.
موقف بريطانيا من إلغاء المعاهدة:
صرح هربرت موريسون، وزير خارجية بريطانيا، أن بريطانيا ستقابل القوة بالقوة إذا اقتضى الأمر لبقاء قواتها فى منطقة قناة السويس، وأن الحكومة البريطانية لن تذعن لمحاولة مصر تمزيق المعاهدة. وأصدرت السفارة البريطانية فى القاهرة مساء 8 أكتوبر عام 1951 بياناً أعلنت فيه أن إلغاء الحكومة المصرية للمعاهدة، من جانبها وحدها، عمل غير قانونى ويخالف أحكام المعاهدة، وأن الحكومة البريطانية تعتبرها سارية المفعول، وتعتزم التمسك بحقوقها بمقتضى هذه المعاهدة.
وألقى ونستون تشرشل، زعيم المحافظين وزعيم المعارضة وقتئذ، خطاباً فى مجلس العموم أيد فيه موقف حكومة العمال، وقال إن إقدام حكومة مصر على إجلاء الإنجليز، عن منطقة قناة السويس والسودان، ضربة أخطر وأكثر مهانة لكرامتها من اضطرارها إلى الجلاء عن عبدان بإيران.
خطط بريطانيا ضد قرار إلغاء المعاهدة:
ووجدت بريطانيا نفسها فى موقف صعب، وقررت أن تتخذ عددًا من الإجراءات والتدابير لإجبار حكومة الوفد عن التراجع عن موقفها، ووضعت ثلاث خطط لذلك:
الأولى: خطة للعمل السياسى والدبلوماسى لإحراج الحكومة.
والثانية: خطة عسكرية لاحتلال مدينة القاهرة، أو القيام بانقلاب عسكرى يقوم به الملك بمساعدة الجيش.
والثالثة: خطة تخريبية لحرق القاهرة.
وقد سارت بريطانيا عدة خطوات فى سبيل تحقيق الخطة الأولى، فقامت بعملية هدم كفر أحمد عبده بالسويس فى أوائل ديسمبر 1951م.
نسف قرية كفر عبده:
قامت الكتائب الفدائية المشكلة من طلبة الجامعات والإخوان ومصر الفتاة باغتيال كثير من العسكريين البريطانيين. وقابل الإنجليز ذلك بمنتهى العنف إلى أن أعلنوا فى أحد الأيام أنهم سيدمرون قرية "كفر عبده" القريبة من السويس بحجة أنها تأوى الفدائيين الذين يحاولون نسف محطة المياه الموجودة بهذه القرية، التى تغذى المعسكرات البريطانية بالمياه. ولما وصل التهديد إلى الحكومة أمر وزير الداخلية قوات بوليس السويس بالمقاومة والدفاع عن القرية وانضمت قوات البوليس للفدائيين ودارت معركة غير متكافئة، بين المصريين والإنجليز، اشتركت فيها (250) دبابة و(500) مصفحة، وعدد من الطائرات، ونسف الإنجليز قرية كفر عبده وأزالوها بمن فيها، ممن تبقى من الأهالى ورجال المقاومة, فى عملية استعراضية ضخمة ، وكانت تهدف من ورائها إلى إظهار الحكومة المصرية بمظهر الضعف، ومحاولة امتهانها والنيل منها، وتحطيم روح المقاومة الشعبية عند المصريين.
وقد ردت الحكومة المصرية على هذا العمل المستفز بسحب السفير المصرى من لندن، وطرد جميع المواطنين البريطانيين من خدمة الحكومة المصرية، وإصدار تشريع جديد يقضى بتوقيع عقوبات على المتعاونين مع القوات البريطانيين، وإباحة حمل السلاح.
معركة زيتية شل:
فى 3 ديسمبر عام 1951، نشبت معركة بين المقاومة المصرية والقوات البريطانية، عند المنطقة المعروفة "بزيتية شل"، وتحصن الفدائيون بالمنازل وانضم إليهم رجال البوليس، وحاصرتهم القوات البريطانية بالدبابات، التى انتشرت حول معمل تكرير البترول الأميرى وتقدم الجنود البريطانيين، يطلقون النار فى جنون، ولكن المقاومة استطاعت أن تقضى على معظم الجنود، وعلى رأسهم قائدهم الضابط الإنجليزى, وعندما وصلت أخبار هذه الخسائر إلى القيادة البريطانية، قررت الانتقام بعنف.
مزيد من المؤامرات:
وسعت بريطانيا إلى مؤامرة جديدة لبث الفرقة بين صفوف المصريين، فقام عدد من عملائها بإشعال النار فى كنيسة بمدينة "السويس" أثناء غارة بريطانية على المدينة فى 4 من يناير 1952م، وقد حاولت بريطانيا إلصاق التهمة بالفدائيين لزرع الفتنة الطائفية بين المصريين، واستعداء الرأى العام العالمى على الحكومة الوفدية والفدائيين، ولكن ما لبثت التحقيقات أن كشفت عن مسئولية جماعة "إخوان الحرية" - التى تمولها المخابرات البريطانية - عن الحادث.
مجزرة يوم الجمعة 25 يناير بالإسماعيلية:
يوم 24 يناير 1952 نسف الفدائيون قطارا انجليزيا كان يحمل بعض الجنود والضباط الانجليز وبعض العتاد والمؤن من احدى مدن الشرقية فى طريقه إلى الإسماعيلية..
نشرت جريدة "المصرى" صور القطار المقلوب بما فيه من الجثث والعتاد والمؤن المبعثرة على الأرض.. نشرت "المصرى" الصورة على ثمانية أعمدة فى صدر الصفحة الأولى بدلاً من المانشيت.. كعمل صحفى فريد لم يتكرر منذ أكثر من نصف قرن.
جن جنون القيادة البريطانية بالقنال فقد كانت ضربة موجعة بحق.. فقرروا فى اليوم التالى الجمعة 25 يناير 1952 احتلال محافظة الإسماعيلية..
فى يوم الجمعة 25 يناير 1952 وقعت فى مدينة الإسماعيلية مجزرة بشرية دمغت بريطانيا بالوحشية وسجلها التاريخ فى أسود صفحاته وألبست الإستعمار البريطانى ثوب الخسة والعار, فقبل إنبلاج الفجر وفى طى الظلام فى هذه الليلة تحركت من معسكر الإسماعيلية قوات ضخمة من الجيش البريطانى تقدر بسبعة آلاف ضابط وجندى تضم وحدات من المشاة والعربات المدرعة والدبابات ومدافع الميدان, وقامت بضرب الحصار حول مبنى محافظة الإسماعيلية وثكنات بلوكات النظام المجاورة لها, وفى منتصف الساعة السادسة صباحاً توجه ضابطان بريطانيان إلى منزل البكباشى (المقدم) شريف العبد ضابط الإتصال المصرى وطلبا منه القيام معهما لمقابلة قائد القوات البريطانية فى منطقة الإسماعيلية البريجادير (العميد) اكسهام.
وعندما قابل ضابط الإتصال المصرى القائد البريطانى اكسهام سلمه إنذار شديد اللهجة طلب فيه تسليم أسلحة جميع قوات البوليس بما فيهم بلوكات النظام الموجودين بالإسماعيلية, وجلاء قوات البوليس عن دار المحافظة وعن الثكنات المجاورة لها من أسلحتها, ورحيل كل قوات البوليس الموجودة بالإسماعيلية إلى خارج منطقة القناة, وأبلغ ضابط الإتصال نص هذا الإنذار على الفور إلى اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام وإلى على حلمى وكيل المحافظة (كانت الإسماعيلية تتبع وقتئذ محافظة القناة التى مقرها بورسعيد) فقررا رفض الإنذار, ثم إتصلا على الفور بوزير الداخلية فؤاد سراج الدين وأبلغاه الإنذار وبالقرار الذى إتخذاه, فأقرهما على موقفهما وأمرهما بمقاومة أى عدوان بريطانى يقع على دار المحافظة أو على ثكنات بلوكات النظام أو على أفراد من البوليس أو المواطنين, ودفع القوة بالقوة والصمود حتى آخر طلقة وآخر رجل.
ولما أخطر القائد المصرى القائد البريطانى برفض التسليم أصدر أمره إلى قواته بالمقاومة حتى النهاية نفذ القائد البريطانى إنذاره وأمر قواته بضرب دار المحافظة والثكنات بنيران المدفعية ومدافع الدبابات, وإنهالت القنابل ونيران الرشاشات على حدود البوليس فدمرت الجدران وقتلت وأصابت عشرات الجنود.
وهكذا دارت معركة رهيبة غير متكافئة بين قوات مصرية صغيرة الحجم ضعيفة التسليح, إذ لم يكن عددها يتجاوز ثمانين جندياً بدار المحافظة وثمانمائة جندى فى معسكر بلوكات النظام ولم تكن تملك سلاح سوى بنادق من طراز (لى أنفيلد 303) القديمة التى لا تطلق سوى طلقات فردية, فى مواجهة سبعة آلاف جندى مسلحين بأحدث أسلحة الفتك والدمار من دبابات طراز (سنتوريون) ذات المدفع عيار 100 ملليمتر ومدفعية ميدان ذات المدفع من عيار 25 رطلاً, بخلاف العربات المدرعة والمشاة المزودة بالرشاشات والبنادق الآلية التى تطلق آلاف الطلقات فى دقائق معدودة.
وأبدى ضباط وجنود قوات البوليس فى دار المحافظة والثكنات فى أثناء المعركة شجاعة بالغة وبلاء عظيماً برغم تصدع المبانى وتهدم الجدران وسقوط عشرات القتلى والمصابين من زملائهم, بينما سالت الدماء حولهم أنهاراً وأمر القائد البريطانى بوقف الضرب لعدة دقائق وإنذار قوة البوليس المصرية التى أرهبته بشدة مقاومتها وأدهشته بروحها المعنوية العالية, برغم ضعف أسلحتها وكثرة خسائرها – بأنه سيهدم دار المحافظة وثكنة بلوكات النظام على رؤوسهم إن لم يتوقفوا عن القتال وتسليم اسلحتهم, ولكن رجال القوة وضباطهم رفضوا الإنذار ورفضوا تسليم أسلحتهم وصرخ أحد ضباطهم الشبان وهو النقيب مصطفى رفعت فى وجه الإنجليز قئلاً:
"لن تستلموا منا إلا جثثاً هامدة"
وإستمرت القوة المصرية فى القتال وظل أفرادها يقاومون ببسالة لمدة ساعتين حتى نفذت ذخيرتهم, وعندئذ إقتحمت الدبابات والعربات المدرعة البريطانية دار المحافظة والثكنات وأسرت من بقى على قيد الحياة من رجال البوليس, وأحنى البريجادير أكسهام رأسه إحتراماً لهم وقال لضابط الإتصال بأن رجال القوة المصرية جميعاً قد دافعوا بشرف فحق علينا إحترامهم جميعاً ضباطاً وجنوداً, وقد سقط فى ساحة الشرف فى هذه المعركة من جنود البوليس 50 شهيداً وأصيب 80 ضابطاً وجندياً بجراح بالغة, وأسر الإنجليز من بقوا من القوة المصرية على قيد الحياة وكان عددهم يتجاوز 700 ضابط وجندى وعلى رأسهم اللواء أحمد رائف والنقيب مصطفى رفعت, ولم يفرج عنهم إلا فى شهر فبراير 1953, ونتيجة لهذه المجزرة الوحشية تم تدمير دار المحافظة وثكنة بلوكات النظام تدميراً تاماً وأعلنت القيادة البريطانية أن خسائرها فى هذه المعركة 13 قتيلاً و12 جريحاً.
أحداث حريق القاهرة:
لم تشهد القاهرة فى تاريخها الحافل الطويل يوماً أشد شؤماً وإيلاماً من يوم السبت 26 يناير 1952 فقد تعرضت فيه عاصمة مصر لفتنة جامحة هوجاء تألبت عليها خلالها عناصر الشر والإجرام فأشعلت النار فى مختلف أرجائها وأشاعت الخراب والدمار فى أجمل أحيائها وتركتها طوال النهار وجانباً من الليل طعمة للنيران والدخان, وتحولت معالم وسط المدينة وقلبها النابض إلى خرائب وأطلال ينعق فيها البوم والغربان كما دمرت الحرائق المنشآت الإجتماعية والثقافية والتجارية وبذا أصاب التخريب والدمار جانباً كبيراً من تاريخ عاصمة تعد من أعرق عواصم العالم, وزالت منشآت ومعالم إرتبطت بأحداث مهمة فى تاريخ مصر المحروسة.
وقد بدأت الأحداث المباشرة والمتسببة فى وقوع هذه الحريق فى مساء يوم الجمعة 25 يناير 1952, فقد أذاعت وزارة الداخلية عن طريق الإذاعة أنباء مجزرة الإسماعيلية التى وقعت صباح ذلك اليوم والتى أسفرت عن قتل 50 من رجال البوليس وإصابة نحو 80 منهم, وهدم دار المحافظة وثكنة بلوكات النظام المجاورة لها, فاشتعلت نفوس المصريين غضبا وازداد سخطهم على فظائع الاحتلال البريطانى, وتوقع الناس أن يشتد الكفاح المسلح ضد الاحتلال فى منطقة القناة, ولكن أحدا لم يكن يتوقع أن يكون رد الفعل هو حرائق مشتعلة فى شتى أنحاء العاصمة تهدد بالقضاء على تراثها وعمرانها وجمالها.
وقد توالت النذر بعد إستفاضة الأنباء عن وقوع تلك المجزرة الوحشية بالإسماعيلية بأن اليوم التالى لوقوعها وهو يوم السبت سيكون يوماً عصيباً فى كل أرجاء مصر ولكن وزارة الداخلية المسئولة عن الحفاظ على الامن وخاصة فى العاصمة لم تتخذ التدابير والإحتياطات اللازمة لمنع أية محاولات للإخلال بالأمن أو بإثارة الفتنة والفوضى فى البلاد, وكانت أولى تلك النذر التى تشير إلى هول ما ينتظر وقوعه هو ما جرى فى مطار ألماظة (مطار القاهرة وقتئذ) بعد وصول أربع طائرات كبيرة لشركة الخطوط الجوية البريطانية فى الساعة الثانية بعد منتصف الليل, فقد تجمع عمال المطار حول هذه الطائرات بصورة عدائية ورفضوا وضع السلالم لنزول ركاب الطائرات وكلهم من الأجانب, كما إمتنعوا عن تزويد تلك الطائرات بالوقود وحالوا دون إستئنافها للسفر, وحاول بعضهم إضرام النار فيها ولكن بعض زملائهم منعوهم من الإستمرار فى محاولتهم, وعندما بلغ النبأ وزارة الداخلية أوفدت إلى المطار أحد كبار ضباطها فأقنع العمال المحتشدين حول الطائرات بالعدول عن نواياهم العدوانية لما يترتب عليها من عواقب دولية وخيمة, فإقتنعوا بكلامه وعادوا إلى عملهم وبذا تمكنت الطائرات من إستكمال رحلتها.
وقد بدأت أحداث أحداث الفوضى وعدم الإنضباط فى ذلك اليوم المشئوم فى الساعة السادسة صباحاً, فقد تمرد جنود بلوكات نظام الأقاليم فى ثكناتهم بالعباسية وامتنعوا عن الذهاب إلى الأماكن المخصصة لهم للحفاظ على الأمن فى العاصمة, وبدلا من ذلك خرجوا من معسكرهم وهم يحملون أسلحتهم فى مظاهرة كبيرة متعللين بأن ما فعلوه إنما هو نتيجة لسخطهم على ما أصاب زملاءهم بالإسماعيلية فى اليوم السابق من قتل ودمار وأسر, وإتجهت مظاهراتهم من العباسية إلى الأزهر ثم إلى ميدان العتبة ومنه إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير), وفى الساعة التاسعة صباحا وصلت مظاهرة جنود بلوكات النظام إلى جامعة فؤاد بالجيزة (جامعة القاهرة حالياً) فانضم إليهم طلاب الجامعة وسار الجميع فى مظاهرة ضخمة متجهين إلى وسط المدينة, وقد بادر أحد كبار الضباط المسئولين عن الأمن بالجيزة بتقديم إقتراح إلى المسئولين بمديرية الجيزة بفتح الكبارى بين الجيزة والقاهرة لمنع المظاهرة الحاشدة من الوصول إلى القاهرة وحصرها فى داخل الجيزة ولكن إقتراحه لم يصادفه القبول.
وفى منتصف الساعة الثانية عشرة ظهرا وصلت المظاهرات القادمة من الجيزة ومن مختلف أرجاء القاهرة تباعا إلى دار رئاسة مجلس الوزراء, فاحتشد الآلاف منهم فى حديقة المجلس وأخذوا يرددون هتافاتهم ضد الإستعمار البريطانى, وطلبوا أن يخرج إليهم مصطفى النحاس رئيس مجلس الوزراء, ولكن لم يلبث أن أطل عليهم عبد الفتاح حسن وزير الشئون الاجتماعية وألقى فيهم خطاباً حاول فيه تهدئتهم إلا أنهم صرخوا فى وجهه وهتفوا بسقوطه.
وكانت المفاجأة ظهور أحد ضباط الجيش وإسمه محمد عبد الخالق وقد حمله المتظاهرين على الأعناق.. وباعلى صوته صاح هذا الضابط فى عبد الفتاح حسن: "أيها الوزير .. الجيش للحرب.. لماذا لم ترسلونا إلى القتال دفاعاً عن إخواننا جنود البوليس".
زادت حماسة المتظاهرين, وحاول عبد الفتاح حسن تهدئتهم فأخذ يخطب فيهم خطاباً حماسياً اختتمه بهتافاته ضد الإستعمار وضد الانجليز الطغاة التى أخذ المتظاهرون يرددونها خلفه, ثم إنطلقت هذه الجموع الحاشدة إلى قلب العاصمة وهى تطالب فى هتافاتها بالحصول على السلاح لقتال قوات الإحتلال فى منطقة القناة, وكان منظر المظاهرات التى تضم عدة آلاف من المتظاهرين أغلبهم من الطلاب وجنود بلوكات النظام وهم يخترقون الميادين والشوارع مرددين الهتافات العدائية ضد الإستعمار وضد قوات الإحتلال بمنطقة القناة فى حماسة وعصبية يدل على قرب حدوث إنفلات فى الأمن والنظام, خاصة بعد أن إندس إلى صفوفهم الكثير من الغوغاء, ولذا فما كاد فريق المتظاهرين يصلون إلى ميدان الأوبرا حتى هاجموا كازينو أوبرا (بديعة) وانهالوا عليه بالإتلاف والتخريب, ولما جاء رجال المطافئ إلى مكان الحريق لإخماده تصدى لهم المتظاهرون وحالوا بينهم وبين أداء واجبهم كما عمد بعضهم إلى قطع خراطيم المياه.
وقد بدأ الحريق فى كازينو (بديعة) بميدان الأوبرا فى الساعة 12.27 ظهراً, وتوالت حوادث إشعال النار فاجتاحت شوارع وميادين بأكملها، مثل ميدان إبراهيم باشا "الأوبرا"، و شارع فؤاد "٢٦ يوليو"، وشارع إبراهيم باشا "الجمهورية" وشارع عدلى باشا، وشارع قصر النيل وشارع سليمان باشا, وشارع عبد الخالق ثروت وميدان مصطفى كامل، وشوارع شريف، ورشدى، ومحمد فريد، وعماد الدين، ونجيب الريحانى، ومحمود بسيونى، والبورصة الجديدة، وشارع توفيق "أحمد عرابى"، وميدان التوفيقية "أحمد عرابى"، وشارعى جلال، ورمسيس، وميدان الإسماعيلية "التحرير"، وشارع الخديو إسماعيل "التحرير"، وشوارع الشواربى، والفلكى، ومحمد صدقى، وسكة المغربى, وشوارع الأنتكخانة, وشامبليون، والألفى، وكلوت بك، ودوبريه, وكامل صدقى "الفجالة"، والظاهر, ومحمود فهمى المعمارى، وميدان باب الحديد، وشوارع المهرانى, والخليج الحور, ومحمد على "القلعة"، والهرم, وتخللت الحرائق حوادث السلب والنهب لمعظم المنشآت والمبانى والمحال المحترقة.
وقد بلغ عدد المحال التجارية والمنشآت التى أصابها الحريق ما يزيد عن سبعمائة منشأة وسبعمائة حريق, شملت أكثر من 30 محلاً تجارياً منها: (شيكوريل, وسلسلة المحلات اليهودية), 300 متجراً و30 مكتباً لشركات كبرى, و١١٧ مكتباً وشقة سكنية و١٣ فندقاً من بينها: (فندق شبرد, وفندق متروبوليتان, وفندق فيكتوريا)، و٤٠ داراً للسينما من بينها: (سينما ريفولى, وراديو, وميامى, وديانا, ومتروبول)، و73 مقهى ومطعماً من بينها: (الأمريكين, وجروبى), و16 نادياً من بينها: (نادى محمد على والنادى اليونانى), و8 محلات ومعارض سيارات, و10 محلات لبيع السلاح, و٩٢ بار "حانة", وبنك "باركليز الإنجليزى.
وبلغ عدد القتلى فى هذا اليوم 26 فرداً منهم 13 فى بنك باركليز وتسعة فى الترف كلوب والباقى داخل بعض المبانى والشوارع, وبلغ عدد من أصيبوا بحروق أو كسور أو جروح 552 فرد وكان من بين هؤلاء القتلى والمصابين عدد كبير من الأجانب, وقد قدرت خسائر الحريق المالية بما يزيد عن المائة مليون جنيه مصرى.
وقد أدى وقوع هذه الحوادث الخطيرة إلى تشريد عدد كبير من الموظفين والعمال المصريين الذين كانوا يعملون فى المحال والمنشآت والمتاجر التى أصابها الحريق, وقد بلغ عددهم عدة آلاف كانوا يعولون مئات من الأسر ذات المستوى المتواضع أو الفقير.
وهكذا خيم الخراب والدمار على منطقة كبيرة فى قلب القاهرة كانت تعد من أرقى مناطقها عمراناً وأكثرها روعة وجمالاً وأكبرها إزدهاراً بالتجارة وأشدها إزدحاماً بالرواد وظلت رائحة الدخان تنبعث من مبانيها أياماً.
وقد ظهر بوضوح خلال أحداث الحرائق وعمليات السلب والنهب أن رجال البوليس أبدوا تهاونا جسيماً فى أداء واجبهم, فلم يحاولوا التصدى للمتظاهرين أو منعهم من إشعال الحرائق أو القبض على الجناة الذين استغلوا الفرصة لنهب وسلب المحال المحترقة, وربما كان السبب فى ذلك وجود زملائهم من جنود بلوكات النظام ضمن المتظاهرين وكان بعضهم مسلحين بالبنادق, فضلاً عن إحساسهم بالسخط والمرارة بسبب ما جرى لزملائهم من قوات الإحتلال فى مجزرة الإسماعيلية من قتل وإصابات جسيمة, ثم تجريدهم من أسلحتهم وإقتيادهم إلى معسكر الإعتقال بسبب وضعهم فى معركة غير متكافئة واجهوا فيها الإنجليز المزودين بأقوى وأحدث أسلحة الفتك والدمار بأسلحتهم القديمة والعتيقة الطراز.
الوزير يطلب الجيش:
فى الساعة الثانية عشرة والنصف إتصل وزير الداخلية بقائد القوات المسلحة الفريق محمد حيدر طالباً إليه نزول القوات المسلحة للسيطرة على الموقف بعد أن تبين للوزير أن قواته من البوليس غير قادرة على السيطرة على الموقف, بل أن معظمها مشارك فى المظاهرات.
وكان رد قائد الجيش على وزير الداخلية أنه لابد من عرض الأمر على الملك وحصوله من جلالته على أمر بذلك.
وبعد نصف ساعة – فى حوالى الواحدة – عاود وزير الداخلية الإتصال بقائد الجيش ليبلغه عدوله عن طلب الجيش لأنه إطمأن إلى أن قوات البوليس تسيطر على الموقف.
ولما لم يجد وزير الداخلية قائد الجيش فى مكتبه فإنه إتصل برئيس الديوان الملكى حافظ عفيفى وأبلغه رأيه بالإستغناء عن نزول الجيش.
ولكن.. بعد حوالى ربع ساعة فقط.. فى حوالى الواحدة والربع ظهراً – عاد وزير الداخلية يطلب نزول الجيش لأن المتظاهرين أشعلوا النار فى سينما ريفولى وسينما مترو بينما رجال البوليس لا يقاومون الذين يشعلون النيران!
وبحث وزير الداخليه طويلاً عن الفريق حيدر حتى وجده.
كان حيدر فى هذا الوقت جالساً إلى جانب الملك فاروق فى المأدبة التى أقامها الملك ودعا إليها منذ اليوم السابق قائد الجيش وكبار الضباط والمسئولين عن أمن القاهرة..
القاهرة تحترق وفاروق يحتفل بسبوع إبنه:
وفى الوقت الذى كانت فيه الحرائق تشتعل وألسنة اللهب تتصاعد وتتوهج وحوادث السلب والنهب على أشدها ومبانى ومحال وسط المدينة تتحول إلى أنقاض وخرائب, كان المسئولين فى قصر عابدين مشغولين تماماً وغافلين عما يجرى على بعد عدى أمتار من قصر مليكهم, فقد كان إهتمامهم وإنشغالهم مركزاً فى الإعداد لمأدبة الغداء الكبرى التى دعا إليها الملك السابق فاروق ستمائة من ضباط الجيش والبوليس احتفالاً بسبوع صاحب السمو الملكى ولى العهد الأمير أحمد فؤاد, وهى واحدة من سلسلة المآدب التى أخذ الملك السابق فاروق فى إقامتها إبتهاجا بميلاد ولى عهده, وتم له من قبل دعوة أمراء البيت المالك والوزراء وكبار رجال الدولة لحضورها.
وقبيل الظهر بدأ الضباط المدعوون يتوافدون على قصر عابدين لحضور المأدبة الملكية, وكنت وقتئذ برتية الصاغ (الرائد) وأتولى منصب أركان حرب سلاح المشاة الذى كان قائده وقتئذ اللواء محمد نجيب. وخامرتنى الدهشة وكذا الكثير من زملائى لإصرار الملك السابق على إقامة تلك المأدبة على الرغم من أنباء المذبحة الأليمة التى وقعت فى اليوم السابق فى الإسماعيلية, وكنا ننتظر إلغاء هذه المأدبة وغيرها مجاراة لمشاعر الرأى العام فى مصر ومشاركة لأحزان رجال الشرطة الذين تعرض زملاؤهم فى الإسماعيلية لهذه المجزرة الوحشية من قوات الإحتلال البريطانية.
وكانت نذر الشر وحشود الغوغاء التى رأيناها بأعيننا تملأ الميادين والشوارع حينما كنا فى طريقنا إلى قصر عابدين لا تدع مجالا للشك فيما ينتظر وقوعه بعد قليل من أحداث رهيبة, وكان السؤال الذى يدور فى أذهان الجميع هو كيف يمكن للسلطات المسئولة عن الحفاظ على الأمن القيام بواجبها والسيطرة على الموقف المتدهور فى العاصمة فى الوقت الذى يحتجز فيه الملك فى قصر عابدين صفوة القادة والضباط الذين يمثلون القوة الحقيقية القادرة على سحق أى أحداث مهددة للأمن, والضرب بشدة على أى عناصر تهدف إلى إثارة الفتنة أو أعمال التخريب والتدمير.
وما أن حلت الساعة الثانية ظهرا حتى حضر الملك ببزته العسكرية إلى قاعة الطعام وجلس على المائدة الرئيسية يحيط به قادة الجيش والبوليس وكبار رجال السراى, وبدأ الغداء الذى لم نحس مطلقا بأى طعم أو مذاق له, فقد كان القلق يستبد بالجميع لما كان يجرى خارج القصر الملكى من أحداث بعد أن رأينا أثناء قدومنا نذر العاصفة التى ينتظر أن تجتاح العاصمة.
ما كاد الخدم يقدمون أطباق الطعام حتى دخل القاعة أحد موظفى القصر حاملاً ورقة مطوية إتجه بها إلى الفريق حيدر والذى كان يجلس بجوار الملك, ففتحها وقرأها ثم مال نحو الملك يقول له إنها رساله من وزير الداخلية يطلب نزول الجيش, وكان يهمس فى أذن الملك بحديث خافت يكاد لا يسمعه أحد.
وبدون تفكير أجاب الملك: أجلها إلى ما بعد الغداء.
ولما استبطأ وزير الداخلية رد الفريق حيدر على مطلبه حضر بنفسه إلى قصر عابدين, وعندما خرج الفريق حيدر من قاعة الطعام لمقابلته كرر له فى قلق وانزعاج أنباء المظاهرات واشتعال الحرائق وأحداث السلب والنهب وطلب منه أن يسرع بإبلاغ الملك بحقيقة المأساة التى تتعرض لها القاهرة كى يأمر بوصفه القائد الأعلى بإنزال قوات الجيش فورا إلى شوارع المدينة لفرض الأمن والنظام فيها, فوعده الفريق حيدر بأنه سينقل طلبه إلى الملك فوراً ولكن وعد الفريق حيدر لم يتحقق من جهة سرعة نزول الجيش, فقد إستكمل الملك طعام الغداء دون أى تعجل وبعد أن إنتهى منه مشى فى هدوء إلى الفسقية المجاورة لقاعة الطعام وطلب من الضباط اللحاق به فالتفوا حوله فى دائرة كبيرة ليستمعوا إلى الكلمة التى توقعوا أنه سوف يلقيها عليهم, وقبل أن يتحدث الملك جرت بين بعض ضباط الجيش والبوليس مباراة مؤسفة فى إبداء الولاء.
فما كاد أحد كبار الضباط وهو القائم مقام (العقيد) الدغيدى يهتف "الجيش سيف الملك" ويردد بعض ضباط الجيش الهتاف خلفه حتى انبرى أحد كبار ضباط البوليس ليهتف فى حماسه: "البوليس درع الملك" وردد خلفه بعض ضباط البوليس هتافهم, وسرعان ما انفرجت أسارير فاروق بعد سماعه هذه الهتافات من ضباطه وبدا سعيدا منشرحا فى الوقت الذى كانت فيه عاصمة ملكه فريسة للحرائق والتخريب وعصابات السلب والنهب.
وخطب فاروق فى الضباط قائلا:
"لكل شئ وقته ولكل عمل مناسبة وأنا أدرك تماما شعوركم وأعلم أن كل ضابط يدخر جهوده للوقت الذى يدعوه فيه داعى الوطن".
وكان مثيرا للعجب أن يطلب الملك من ضباطه ادخار جهودهم كأن ما يحدث فى القاهرة من حرائق ودمار ليس هو الوقت المناسب بعد للقيام بواجبهم, وكان مثيرا للدهشة كذلك أن يقف الفريق عثمان المهدى رئيس أركان حرب الجيش على درج القصر المؤدى إلى الخارج ليواجه الضباط أثناء انصرافهم من المأدبة ليأمرهم لا بالتوجه مباشرة إلى مقر قياداتهم وإلى وحداتهم كما كان الجميع يتوقعون ولكن بوجوب استخدام أبعد الطرق عن وسط العاصمة وتجنب السير بعرباتهم فى الشوارع المزدحمة.
الملك يقيل حكومة مصطفى النحاس:
لم تتمكن قوات الجيش التى صدرت الأوامر بنزولها من سرعة النزول إلى شوارع العاصمة لمواجهة الحالة الخطيرة نظراً لما حدث من احتجاز القادة والضباط داخل قصر عابدين عدة ساعات ثمينة, ثم فقدهم وقتاً ثمينا آخر أمضوه فى التحرك للعودة إلى منازلهم قبل إستدعائهم بعد ذلك للذهاب إلى وحداتهم. وعندما تفاقم الوضع فى القاهرة وخشى الملك وحاشيته من أن تمتد الحرائق لتصل إلى سراى الملك وأن يتعرضوا جميعا لهجمات الغوغاء أمر الملك قائده العام الفريق محمد حيدر بسرعة إنزال الجيش إلى الشوارع ونظرا للتأخير الذى حدث فلم تتمكن وحدات الجيش من النزول إلا قبيل الغروب, وكان أول تشكيل عسكرى تم التحرك له من معسكره فى ألماظه إلى وسط المدينة هو اللواء السادس مشاة بقيادة الأميرالاى (العميد) محمود حمزة, وتم توزيع وحدات هذا اللواء على المرافق الحيوية والسفارات الأجنبية والبنوك والأماكن المهمة ليتولى حراستها, واتخذت قيادة اللواء السادس المشاة من حديقة الأزبكية مركزا لها, وبفضل نزول الجيش ساد الأمن والهدوء والنظام أرجاء العاصمة الحزينة وتوقفت حوادث اشعال الحرائق وتم ضرب الشغب والفوضى بيد من حديد, واختفت عصابات الغوغاء التى استغلت الفرصة للقيام بسلب ونهب المنشآت والمحال المحترقة.
وفى اليوم نفسه وعقب توقف تلك الأحداث الخطيرة بعد نزول الجيش عقد مجلس الوزراء برياسة مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد إجتماعاً عاجلاً فى الساعة السابعة مساء فى دار مصطفى النحاس بجاردن سيتى وإنتهى الإجتماع فى الساعة العاشرة مساء, وقرر المجلس إعلان الأحكام العرفية فى جميع البلاد كما تقرر تعطيل الدراسة فى جميع الجامعات والمعاهد, والمدارس إلى أجل غير مسمى.
وفى الساعة العاشرة والنصف مساء قامت دار الإذاعة بإذاعة المرسوم الملكى الذى وقعه الملك السابق فاروق وكان يقضى بإعلان الأحكام العرفية إبتداء من مساء اليوم نفسه وتعيين مصطفى النحاس حاكماً عسكرياً عاماً, ووجه رئيس الوزراء والحاكم العسكرى بعد ذلك نداء عن طريق الإذاعة وجهه إلى الشعب قال فيه إن عناصر من الخونة المارقين إنتهزوا فرصة غضب الشعب من عدوان الإنجليز الوحشى فى منطقة القناة فاندسوا فى صفوف المواطنين وإرتكبوا جرائم الإعتداء على المتاجر والمنشآت والمنازل وإشعال النيران والتخريب والتدمير والنهب والسلب, وإن علاج تلك الحالة الشاذة الخطيرة قد إقتضى إعلان الأحكام العرفية مؤقتاً فى جميع البلاد حتى تتمكن الحكومة من القضاء على الفتنة المدبرة والمؤامرات المبيتة, وتبادر إلى إقرار الأمن ولإشاعة الهدوء والطمأنينة فى البلاد, ودعا مصطفى النحاس المواطنين إلى الإخلاد إلى الهدوء والسكينة وأن ينصرف كل فرد إلى عمله.
وكان أول قرار أصدره الحاكم العسكرى مصطفى النحاس تعيين عبد الفتاح حسن وزير الشئون الإجتماعية رقيباً عاماً, وتعيين المحافظين ومديرى المديريات حكاماً عسكريين فى مناطقهم ومنع التجول فى القاهرة وضواحيها وكذا مدينة الجيزة منعاً باتاً فيما بين الساعة السادسة مساء والساعة السادسة من صباح اليوم التالى, وأصدر أمراً عسكرياً آخر بمنع التجمهر وإعتبار كل تجمهر يزيد عن خمسة أشخاص مهدداً للسلم والنظام العام يستحق مرتكبوها الحبس مدة لا تزيد عن سنتين, وإذا كان حاملاً سلاحاً يعاقب بالحبس خمس سنوات كما أصدر أمراً آخر بغلق المحال العامة والتجارية فى القاهرة والإسكندرية من الساعة السادسة مساء إلى السادسة صباحاً.
وفى مساء اليوم التالى (27 يناير 1952) تسلم مصطفى النحاس فى منزله كتاب إقالة وزارته موقعاً عليه من الملك السابق فاروق, وورد فى هذه الكتاب إنه "نظراً لما أصيبت به العاصمة أمس من إضطرابات نجم عنها خسائر فى الأرواح والأموال وسارت الأمور سيراً يدل على أن جهد الوزارة التى ترأسونها قد قصر عن حفظ الأمن والنظام لذلك رأينا إعفاءكم من منصبكم" وجاءت هذه الإقالة بعد أن مكثت آخر حكومة وفدية برئاسة مصطفى النحاس فى الحكم عامين وبضعة أيام.
وفى يوم 28 يناير 1952 صدر البيان الملكى الذى يبرر إقالة حكومة النحاس باشا.. واتهم البيان فؤاد سراج الدين وزير الداخلية بأنه هو الذى حرق القاهرة!! وأنه كان يبيع احدى عماراته فى الشهر العقارى فى نفس لحظات الحريق!!
ما إن وصل هذا البيان المطلوب نشره فى الصفحات الأولى بحروف بارزة.. حتى اتصل احمد أبو الفتح رئيس تحرير "المصرى" بفؤاد سراج الدين وطلب منه المجىء بسرعة إلى الجريدة وأطلعه على البيان فهز الباشا رأسه وقال: ماذا نستطيع أن نفعل أمام الملك؟! فقال له أبو الفتح: تستطيع أن ترد.. فقال الباشا: معى مستندات ضد كل هذا.. ولكن الرقابة عادت على الصحف.. فقال له أبو الفتح: ولا يهمك سأنشر مقالك رغم انف الرقابة, وفى ليلة 10 فبراير 1952 قدم المسئولين فى جريدة "المصرى" صفحات الجريدة كاملة للرقيب فى وقت مبكر فراجعها وأعطى موافقة بالنشر عليها, ودارت المطبعة وخرجت النسخ الأولى من العدد وتأكد الرقيب من أنها خالية من أى موانع, وما كاد الرقيب يغادر الجريدة حتى أوقفت ماكينات الطباعة, لتحل محل الصفحات التى وافق عليها الرقيب صفحات أخرى, وصدرت "المصرى" صباح يوم 10 فبراير 1952 وفى الصفحة الأولى بيان السراى وبجواره وبنفس البنط بيان فؤاد سراج الدين يروى فيه بالتفصيل وقائع يوم 26 يناير والمحاولات التى بذلتها الحكومة لنزول الجيش للقضاء على الفتنة, وعمليات التسويف التى مارستها السراى, وإفتعال الحجج لكى تحرق المدينة بالفعل قبل أن ينزل الجيش إلى شوارعها, وإنتظرت قوات الجيش فى حديقة الأزبكية أكثر من ساعتين تنتظر إذناً كتابياً من وزير الداخلية بالضرب فى المليان, وكانت خطوة جريئة من صاحبى الجريدة محمد وأحمد أبو الفتوح, ونفذت الجريدة بسرعة البرق من الأسواق, ولم تنتبه الدولة إلى الأمر إلا الساعة العاشرة, وعندما بدأ البوليس فى جمع أعدادها من السوق كانت قد نفذت.
هاجت السراى وطالبت بغلق الجريدة ومحاكمة رئيس التحرير بل وصاحب الجريدة محمود أبو الفتح أيضا.. بل تم إرسال هذا الأمر لعلى ماهر باشا الذى هرول إلى السراى واقنع الملك بأن الشعب يغلى الآن.. ولا داعى لزيادة حالة الاحتقان الشعبى, فعطلت الجريدة ليوم واحد فقط.
من الجانى:
أجمع شهود العيان أن الحادث كان مدبرًا وأن المجموعات التى قامت بتنفيذه كانت على مستوى عالٍ من التدريب والمهارة، ويعرفون جيدا كيفية إشعال الحرائق كما كانوا على درجة عالية من الدقة والسرعة فى تنفيذ العمليات ويحملون معهم أدوات لفتح الأبواب المغلقة ومواقد إستيلين لصهر الحواجز الصلبة على النوافذ والأبواب وقد استخدموا نحو 30 سيارة لتنفيذ عملياتهم كما أن اختيار التوقيت يعد دليلاً آخر على مدى دقة التنظيم والتخطيط لتلك العمليات.
التحقيقات التى أجرتها النيابة أثبتت أن السرعة التى إقتحمت بها المبانى كشفت أن الذى قام بذلك تنظيم فريد إستعان فيه المخربون بشخص أو إثنين على دراية تامة بكل مبنى والنقاط الحيوية به وأن إشعال الحرائق تم بإستخدام الكيروسين والبنزين وبعض المواد الفوسفورية مثل البودرة الحارقة وشهد رجل له ملامح أوروبية يرتدى (مريلة) يكتبش من هذه البودرة ويقوم بإلقائها وكانت مادة نادرة غير متوافرة فى الجيش ذاته ولا تباع فى مصر!! كما شوهد أعضاء عديدون لجماعة (إخوان الحرية) وهم يشاركون فى أعمال التخريب يوم الحريق وهى الجماعة المريبة التى تأسست بواسطة المخابرات البريطانية برئاسة "روبرت فاى" البريطانى مع الأخذ فى الإعتبار أن يوم الحريق (السبت) كان عطلة فى معظم المحال الأجنبية مثل شيكوريل فتمت الإستعانة بالبلط لكسر هذه المحال وفتحها وقذفها بكرات مغموسة بالبنزين وصفائح البنزين لتتحول إلى قطعة من جهنم.. أما الشئ المؤسف حقاً الذى إكتشفته النيابة فيتعلق بإستخدام علب البنزين الصغيرة المخصصة لملء الولاعات التى كانت تنتجها شركة شل الإنجليزية.. وأثبتت التحقيقات أن رصيد الشركة نفذ منذ 18 ديسمبر 1951.. أى أن جهة ما قامت بشراء كل المخزون لإستخدامه يوم 26 يناير 1952.
وأشارت الصحافة آنذاك بأصابع الإتهام إلى الإنجليز حيث غادر موظفو الشركات الإنجليزية مكاتبهم قبل الحريق بساعات وقام بنك باركليز بنقل جميع تعاملاته من فرع قصر النيل إلى الموسكى قبل الحريق بيوم واحد وخلا النادى الإنجليزى (الترف كلوب) من الرواد على غير عادته.. ومن الشائع أن الجنرال أرسكين كما جاء فى كتاب أدجوبى عن (مصر المعاصرة) قد حذر كبار الإنجليز من أصدقائه ونصحهم بمغادرة القاهرة قبل 26 يناير ببضعة أيام قليلة.
ومن المعروف أن فؤاد سراج الدين حين ذهب للإستنجاد بقائد الجيش محمد حيدر إنتظره فى غرفة رئيس الديوان الملكى حافظ عفيفى. وإبان إنتظاره حين يستأذن محمد حيدر من مأدبة الملك سأل حافظ عفيفى فؤاد سراج الدين: هل حقيقة أنكم تنوون قطع علاقة مصر الدبلوماسية بإنجلترا؟ ومن الغريب أن ذلك كان يدور فى أذهان الكثير من وزارة الوفد. فقال فؤاد سراج الدين: ليس صحيحاً. من الذى أبلغك بذلك؟ فقال حافظ عفيفى: السفير البريطانى. إذن هناك صلة قائمة ومستمرة بين رئيس الديوان الملكى والسفارة البريطانية.
ثم يبدوا غريباً أن يدعو الملك ضباط الجيش وضباط البوليس كذلك على مأدبة الغداء فلقد جرت العادة أن تكون الدعوة على العشاء ولكن توقيتها للغداء مرتبط تماماً بالحرائق فى القاهرة التى بدأت فى الساعة 12 و 27 دقيقة ظهراً.
ويرى إبراهيم فرج باشا فى حوار سجله معه الصحفى والمؤرخ جمال الشرقاوى أن المخابرات الأمريكية والمخابرات البريطانية هما اللذان أحرقا القاهرة, وأن الأساس فى العملية هو المخابرات المركزية الأمريكية, حيث كانت أمريكا هى القوة الرئيسية المحركة للأحداث فى تلك الفترة, ولم تكن راضية عن سياسة حكومة الوفد برئاسة النحاس باشا, ولذلك قد أدت كل عمليات الضغط التى مورست على الحكومة.. فهم الذى قادو عملية الحلف الرباعى ، وكانوا القوة الأساسية فيه وحركوا بقية الدول.. كمل بذلوا ضغوطا شديدة علينا لكى نحارب معهم فى كوريا. لكن النحاس باشا والحكومة رفضوا.. وقال النحاس باشا: إحنا لا نحارب لصالح أمريكا.
وقد لقيت هذه الحرائق رضا الملك.. لكن أفلت الزمام.. كانوا لا يريدون ألا تصل إلى هذا الحد.. وإنما إلى حد يكفى لإقالة حكومة الوفد.
أما عن محاولة الإخوان إلصاق التهمة بجمال عبد الناصر فيرد على هذه التهمة فؤاد سراج الدين (رغم إختلافه مع جمال عبد الناصر .. والعداء بينهما) قائلاً رداً على حسن عشماوى:
"الذين يهمون جمال عبد الناصر رغم ما بيننا من خلاف أقول لهم, فلنتسائل: لماذا يفعل ذلك؟ أنا أريد من الذين يتهمون عبد الناصر أو الضباط الأحرار أن يردوا علىَّ بالعقل والمنطق: لماذا لم يستولوا على الحكم وجميع المؤسسات تحت سيطرتهم وكانت العملية سهلة جداً قيامها فى يوليو بل كانت معرضة للفشل فى 23 يوليو أما 26 يناير فالعملية ناجحة مائة فى المائة"
المراجع
- كتاب مقدمات ثورة 23 يوليو -- بقلم: عبد الرحمن الرافعى -- الهيئة العامة المصرية للكتاب – مكتبة الأسرة 1997
- كتاب أسرار ثورة 23 يوليو -- بقلم: جمال حماد -- الزهراء للإعلام العربى
- مصر فى 150 سنة -- ملحق مجلة الأهرام الرياضى عدد 31 أغسطس 2005 -- إعداد أ.د: عطية القوصى
الوفد -- الخميس 4 أكتوبر 2007 -- مقال: عندما شتم سراج الدين الملك!! -- بقلم: عبد الرحمن فهمى
- موقع إسلام أون لاين -- http://www.islamonline.net -- سمير حلبى
- المصرى اليوم -- الجمعة 26 يناير 2007 -- كتب: أحمد أبوهميلة
- جريدة الدستور -- الأربعاء 27 أغسطس 2008 26 شعبان 1429
- الأهرام -- ملحق الجمعة 5 فبراير 2010 -- حوار سهير حلمى مع المؤرخ والصحفى جمال الشرقاوى
- مجلة روز اليوسف -- 20 أكتوبر 2007
- جريدة القاهرة -- الثلاثاء 31 أغسطس 2004 -- مقال: قال الراوى
- مذكرات مرتضى المراغى دار المعارف
- كتاب حريق القاهرة -- الدكتور محمد أنيس -- المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت
ماشاء الله...مدونة اكثر من رائعة ومواضيعك كلها شيقة جدا..وانا عندي اقتراح انك ممكن بدل مايبقى الpost كبير انك ممكن تقسمه على كذا واحد...فكرة المراجع جميلة جدا برضه...
ردحذفبالتوفيق وبانتظار مواضيع جديدة
أشكرك على الإيضاح وعلى هذا المجهود المبذول الواضح .. وجميع المعلومات الواردة بهذه المدونة صحيحة تماما ومثبتة تاريخيا مع تعديل بسيط .. وهو أن جمال عبد الناصر وحده هو الذي شارك في حريق القاهرة بالفعل ودون الرجوع للضباط الأحرار ولا معرفتهم بالأمر ,, والإخوان المسلمين إتهموا عبد الناصر فقط ولم يتهموا الضباط الأحرار بالإشتراك في مؤامرة الحريق كما يدعي فؤاد سراج الدين باشا .. والدليل على ذلك ماورد في كتاب د. محمود جامع " وعرفت الإخوان" ( الطبيب الذي كان مشهورا بصداقته بالرئيس الراحل أنور السادات وكان عضوا بتنظيم الإخوان المسلمين إبان عضوية جمال عبدالناصر به ) عن أنه عندما كان يزور منزل صديقه اليزباشي جمال عبد الناصر يوم حريق القاهرة وجده يحمل صناديق مغلقه من سيارته الجيب إلى داخل منزله .. وعندما فوجئ بزيارة جامع له إضطرب وتوتر وعندما سأله د.محمود جامع عن هذه الصناديق المغلقة عن ما فيها قال له إنها صناديق أنواع غير معوفة من الخمر .. والغريب هنا هو تواجد أنواع غير معروفة من الخمور في سيارة ومنزل اليوزياشي جمال عبد الناصر عضو الإخوان المسلمين لانه لا يتاجر بها والغريب أنها إختفت ثاني يوم الحريق بصورة مفاجئة عندما زاره محمود جامع مرة أخرى .
ردحذفأما عن مصلحته في هذا فيذكر د. جامع أنه وإخوانه قد حذروا اليوزباشي حمال عبد الناصر من توطن علاقته بالمخابرات الأمريكية في تلك الفنرة وكثرة ورود الأخبار والشائعات في هذا , ولم يستجب لهم جمال عبدالناصر بل كان معروفا عنه كالشمس علاقتاه بالمخابرات الأمريكية وقتها .. وهو أيضا ماحاول الكاتب والصحفي مصطفى أمين كشفه إلا أن القضية لفقت له وحده وزج به عبد الناصر في السجن بعدها في الستينيات من القرن المنصرم .
أما عن شهادة فؤاد سراج الدين باشا فهي ليست
أمينة لأنه كان وقت شهادته عبد الناصر رئيسا للجمهورية مما يفقد هذه الشهادة الكثير من مصداقيتها ويجعلها غير أمينة لما كان يعرف عن عبد الناصر من سطوته وبطشه بمعارضيه بمختلف الطرق .
بالنسبة لشهادة الدكتور فؤاد سراج الدين التى تقول بأنها غير أمينة لأنها سجلت عندما كان جمال عبد الناصر رئيساً فهذا غير صحيح.. فهذه الشهادة من مذكرات فؤاد سراج الدين التى أملاها على الصحفى "حسنين كروم" ونشرتها جريدة الوفد فى حلقات قبل نشرها فى كتاب.. وبالتالى فقد كانت بعد وفاة جمال عبد الناصر..
ردحذفأما عما أشاعه الإخوان عن أن عبد الناصر شارك فى حريق القاهرة فهذا طبيعى من الإخوان الذين شهدوا تعذيباً فى السجون فى عهد عبد الناصر بعد حادثة المنشية التى حاولوا فيها قتل عبد الناصر.. فلما أخرجهم السادات من السجون إرضاءاً لأمريكا أخذوا يلصقون كل ما هو سئ بشخص جمال عبد الناصر حتى يكرهه الناس مثلما تكرهه جماعة الإخوان..
أما عما يرويه الدكتور محمود جامع فلو قرأت تعليقات المؤرخين على كتاباته ستجد أنهم يصفوها بـ "تخاريف محمود جامع"
لا أستطيع إلا أن أقول لك شكراً ألف شكر على مجهودك الرائع، فأنا أقرأ ما كتبت فى هذه المدونة وفى فكرى أحداث اليوم ويا لها من مصادفات غريبة تدعو للتفكير والتبين الدقيق مما يحدث حولنا أولاً عندما يختلط الهدف الوطنى التى تجسدت يوم 25 يناير 1952 بتدمير الذات بحريق القاهرة، ثانياً القدرة الكبيرة على تزوير الحقائق مثل ما يقال عن مسئولية الرئيس جمال عبد الناصر عن الحريق والربط بينه وبين الخابرات الأمريكية وكأنه بتخوبن أحد أعظم رؤساء مصر هو هدف فى التعرف على الجانى أكثر منه هجف فى الانتقام كما قلت بالضبط، وهو نفس الأمر الذى نعيشه اليوم بشكل بائس كل يوم، ثالثاً هو التخوين لأنفسنا واشتداد مواجهاتنا لبعضنا البعض ونسيان العدو الحقيقى ... وأخيراً أشكرك حقاً على مجهودك، فالتاريخ يجب أن نعيه جيداً كى لا نعيد أخطاءنا فبئس أمة تعيد أخطاءها ولا تتعلم منها ...
ردحذف