مصر فى عهد الإمبراطور تراجان
للباحث: أشرف السيد الشربينى
المقدمة:
ولد "تراجان" (98 – 117) والمعروف باسم ماركوس ألبيوس ترايانوس فى 18 سبتمبر 53م فى مدينة يتاليكا فى أسبانيا من أبوين رومانيين. كان أبوه عضواً فى مجلس الشيوخ، ثم أصبح فيما بعد حاكماً لسوريا فى سنة 77م التى كانت إقليماً مهمّاً فى الإمبراطورية الرومانية.
بموت الإمبراطور دوميتيانوس, إنتهى عصر الأسرة الفلافية, ولم يكن لهذا الإمبراطور ولد يرث العرش من بعده, لذا قرر الرومان إيجاد نظام جديد لتولى العرش, يقوم على الإختيار, وليس الوراثة, فوقع إختيارهم على Nerva نيرفا (96 - 98م), وكان رجلاً حكيماً, ولكن عهده لم يشهد أحداثاً ذات قيمة بالنسبة لولاية مصر.
وارتقى "تراجان" فى صفوف الجيش وشارك "تراجان" الامبراطور "دوميتيان نيرفا" فى الحروب، ثم أصبح "تراجان" عضواً فى مجلس الشيوخ، وشغل مناصب عسكرية فى أسبانيا وسوريا وألمانيا. وفى سنة 97م تبنّى الإمبراطور "دوميتيان نيرفا" "تراجان" بوصفه وريثاً له وولياً لعهده. وحينما تُوفِّى "نيرفا" سنة 98م تولى الحكم الأمبراطور "تراجان" يوم 27 يناير سنة 98م ، باحترام كبير دون حوادث, وهو أول الأباطرة الرومان الذين ينحدرون من سكان الولايات.كان إمبراطوراً رومانياً وقائداً عسكرياً مهماً، وسّع الإمبراطورية بالفتوح ونفذ برامج بنائية واسعة. فقد افتتح داسيا (أجزاء من رومانيا والمجر حالياً)، وجعل دولة الأنباط جزءاً من الإمبراطورية الرومانية، وكانت تقع بين جنوبى الأردن والشمال الغربى للمملكة العربية السعودية. وقد حقق "تراجان" انتصارات عسكرية على طول الحد الغربى لبارثيا، وهو مايسمى الآن بالعراق. كما أقام مدناً جديدة من ضمنها ثموجادى (تِمْكاد فى الجزائر) وبنى الجسور والموانئ، منها جسور على الدانوب فى داسيا، وميناء جديد على مرفأ روما. وقد أدخل "تراجان" أيضاً برنامجا لدعم الأطفال فى المدن الإيطالية.
"تراجان" فى مصر:
فى سنة 98 تولى الحكم الإمبراطور "تراجان" بعد "دومتيانوس" وكان فى أوائل حكمة مشغولاً جداً بأحوال أوربا ومع ذلك تم فى عهده مشروعان خطيران فى مصر:
- أولهما تجديد الخليج البطليموسى الذى يصل النيل بالبحر الأحمر, وكان قد تم إهماله وإنهارت جوانبه فرممه "تراجان" وزاد طوله كثيراً حتى أوصله إلى "بابليون" بعد مروره بمدينة "عين شمس", ولا شك أنه الخليج الحالى بعينه , وقد رمم مرة ثانية وزيد طوله قليلاً (نظراً لتحول مجراه) فى العهد الإسلامى.
- والمشروع الثانى بناء قلعة بابليون العظيمة وهى المعروفة بقاياها الآن بقصر الشمع , وهو لهذا العهد يشتمل على ست من أقدم الكنائس المسيحية فى القاهرة , أما عند إنشاء هذه القلعة فلم يكن داخل أسوارها إلا كنيسة واحدة وهى المعروفة الان بأبى سرجة, هذا ولعلم القارئ أن قلعة "تراجان" هذه غير القلعة القديمة التى ذكرها المؤرخ "إسترابو" وكان موقعها إلى الجنوب من قصر الشمع بالقرب من دير بابليون الحالى.
ولا بد أن قناة "تراجان" التى ربطت البحر الأحمر بالنيل بالقرب من القاهرة إنما كانت قد حفرت على أنقاض ترعة قديمة. وبالرغم من أن "تراجان" حفر هذه القناة لخدمة أهداف خصصت للتجارة إلا أنها بلا شك خدمت قطاع الزراعة بإضافة أراضى تزرع على جانبى القناة.
وفى عهد "تراجان" زاد الإهتمام بالديانة المصرية. وقد شيدت إحدى السيدات معبداً فى دندرة بإسم الربة أفروديتى Nea Aphrodite وهو إسم للإمبراطورة أفلوطينا زوجة "تراجان" بإعتبارها ربة مؤلهة مع حتحور الربة المصرية.
ويبدأ تاريخ مصر فى عصر "تراجان" بالحادثة الأولى الخاصة بالوالى الرومانى الذى يدعى فيبيوس مكسيموس C.Vibius Maximus الذى تولى منصبه فيما بين عامى 103, 107م, إذ وصلتنا عنها بردية على جانب كبير من الأهمية. هذه البردية هى إحدى وثائق أعمال الشهداء الوثنيين. وهى تصف محاكمة الوالى لمصر أمام الإمبراطور فى روما, ويتولى أمر مهاجمته المتحدث بإسم وفد الأسكندريين المائل أمام الإمبراطور لهذه المانسبة. وما تحتويه هذا البردية نعرف أن التهم الموجهة إلى الوالى المتهم, ويسمى فيبيوس ماكسيموس, متعددة متشعبة, وهى الإبتزاز والربا وإستغلال السلطة والتعسف مع مخالفة القانون إلى جانب الفساد الأخلاقى والإنحراف الخلقى. ويدلى المتحدث بأقواله فى قوة وثبات, وفى كل مرة يأتى بالأدلة التى تدين الوالى, ويقف وقفة طويلة عند موضوع الفساد الخلقى ويف هيام الوالى بغلام وظهورهما معاً بمنظر يسئ إلى الشعور العام.
ورغم أن التهمة الأصلية هى الإبتزاز, فإن إيراد المسائل الأخلاقية كان المقصود منه إثارة الإمبراطور ضد الوالى وكسبه إلى جانب الأسكندريين, ولا يبعد أن كاتب البردية قد أسهم فى المبالغة أيضاً بعض الشئ ليزيد من العنصر الروائى للمحاكمة, مما يتفق وطابع أدب الشهداء الوثنيين, خاصة وأن الهدف الأساسى من حفظها ونشرها هو الدعاية ضد الحكم الرومانى فى مصر, ومما لا شك فيه أن هذه التهم والشكاوى أنهت ولاية ماكسيموس على مصر فى شئ كثير من الخزى, , ويبدوا أن هذا الوالى قد تعرض للعزل وأزيل إسمه من الوثائق الرسمية حتى أن إسمه أزيل من ثلاثة نقوش عثر عليها.
ولعل ما سمعه "تراجان" من سوء الحكم فى مصر حفزه على الإهتمام بأحوال هذه الولاية, فما أن آلت بمصر المجاعة التى وقعت عام 99م بسبب إنخفاض فيضان النيل, إهتم "تراجان" بالأمر كل الإهتمام, فأرسل إلى مصر أسطولاً محملاً بالغلال مما كان محفوظاً لحاجة روما, وبذلك خفف من ضائقة البلاد.
التوسع فى الإمبراطورية:
ضم "تراجان" العديد من المناطق التى تقع على الحدود الشرقية للإمبراطورية. وكانت إمارة عبر الأردن التى حكمها هيرود أجريبا الثانى لمدة خمسين عاماً تقريباً هى وإمارة حمص Emesa وقد ضمتا بالفعل إلى سوريا على يد دوميتان (حوالى 92), أما "تراجان" فقد قام بعمل أكثر أهمية فى عام 105م عندما إستولى على مملكة العرب النبطيين الذين كان موقعهم حاكماً على طرق تجارة القوافل القادمة من الصحراء العربية إلى البحر الأحمر والساحل الفلسطينى. وكان هذا الموقع قد قعل للمملكة أهمية تجارية كبيرة. تحولت المملكة النبطية إلى ولاية بإسم "الولاية العربية" ضمت الولاية الجديدة منطقة النقب وربما سيناء ولكن إقليم دمشق فى نهاية حدودها الشمالية ألحق بولاية سوريا, من هذه المدينة أنشئ طريق عليه تحصينات يمر عبر بصرى Bostra (التى كانت قد صارت مقر قيادة فرقة عسكرية رومانية) ثم البتراء إلى أيلة على الخليج العقبة.
وقرب نهاية "تراجان" إجتاز هذا الإمبراطور الحدود الرومانية على نهر الفرات وهى الحدود التى أقامها أغسطس ورفض "نيرون" تجاوزها. وكان هذا تغيراً جذرياً فى السياسة الرومانية فى الشرق حدث بسبب إستفزاز الملك البارثى "خسرو Chosroes" للإمبراطور. فخلال حكم "باكورس Pacorus" الأخ الأكبر لخسرو قبل "تراجان" إلباس التاج الأرمينى إلى الإبن الثانى لباركورس المدعو "اكسيدارس Axidares", بإعتبار أن الإبن الأكبر "بارثاناسيرس Parthamasiris" سوف يخلف أباه "باكورس" على عرشه "بارثيا". ولكن بعد وفاة الملك تخطى النبلاء البارثيين "بارثاماسيرس" وإختاروا عمه "خسرو" ليعتلى عرش "بارثيا" وحتى يأمن جانب إبن أخيه قام "خسرو" الحاكم البارثى الجديد بتحريض "بارثاماسيرس" للإستيلاء على "أرمينيا" لنفسه. ولكن رغم إستيلاء بارثاماسيرس على أرمينيا إلا أنه فشل فى طرد "أكسيدارس" من المناطق النائية من المملكة. وفى نفس الوقت تعرض خسرو لهجوم مطال بالعرش فى الأقاليم الشرقية من بارثيا. قبل "تراجان" التحدى وحرك كل قواته الموجودة فى الشرق عنئذ قدم "بارثاماسيرس" عرضاً بأن يتولى حكم أرمينيا بنفس الشروط التى إعتلى "تيريداتس" على أساسها العرش أيام "نيرون". لم يعط الإمبراطور الرومانى رداً فورياً, ولكنه دعى الملك الأرمينى للقائه بالقرب من Erzerum. ورغم تأكيدات الملك بولائه للإمبراطورية الرومانية, إلا أن "تراجان" أعلن عزل بارثاماسيرس كما أعلن تحويل أرمينيا إلى ولاية رومانية.
كان ضم "أرمينيا" فيما يبدوا الهدف الأصلى لتراجان. وكان دافعه تأمين الحدود الشرقية ضد القبائل القوقازية, بما فيها Alans, الذين كانوا يتحركون جنوباً, ولكنه ضمه لأرمينيا فرض عليه ضم "ميزوبوتاميا" أيضاً تأميناً لخط الحدود الجديد للإمبراطورية فى الشرق وحماية لخطوط التجارة الرومانية عبر هذه المنطقة.
فأستأنف "تراجان" فى عام 115م توغله داخل الأراضى البارثية, وإستولى على ""Nisibis" , "Singara, وإستولى على شمالى "ميزوبوتاميا", وكان "خسرو" قد ترك حكام هذه المناطق بغير مساعدة فإستسلموا فوراً بعد مقاومة ضعيفة وهكذا صارت ميزوبوتاميا ولاية رومانية. قضى "تراجان" شتاء عام 115 -116م فى إعداد إسطول لعبور الفرات الأوسط ثم تحركت القوات الرومانية فى ميديا التى أصبحت ولاية آشور الرومانية, عندئذ قسم جيشه إلى قسمين سارا بحذاء النهرين ولكنهما إتحدا من جديد للقيام بهجوم على العاصمة الشتوية لخسرو "كتسيفون "Ctesiphon على نهر دجلة فى مقابل "سليوكيا". وعند إقتراب الرومان هرب الملك البارثى. وصار فى حكم الوقع أن بارثيا صارت إقليماً رومانياً. بعد ذلك أخضع الإمبراطور كل الأرض على النهرين, وأتم تقدمه بالإبحار جنوباً فى دجلة إلى الخليج. ولكن قبل أن تصبح مكاسله مؤمنه قامت الثورات ضده هنا وهناك فثارت سليوكيا ومدن أخرى. كما قامت ثورة خطيرة فى يهودية ويبدو من المؤكد أنها ثورة أعد لها من قبل بالتعاون مع الملك البارثى, شكلت بغير شك عبء إضافى على مؤخرة القوات الرومانية. وكان ذلك فى عام 117م, وفى محاولة لمواجهة الخطر أرسل "تراجان" قواده ضد الثائرين, وفى هذه الظروف تم تتويج "بارثاماسباتش Parthamaspates", إبن "خسرو" ملكاً على بارثيا, إنكاراً للإدعاءات الرومانية بسقوط بارثيا, وبمجرد إنسحاب الرومانطرد خسرو إبنه وإستعاد العرش. وبعد محاولة يائسة لإخضاع هاترا بالحصار إستعاد "تراجان" الفران. ويذكر الفضل للقائد الرومانى "لوسيوس كويتوس Lusius Quietus", الذى تولى أمر الإنسحاب من "ميزوبوتاميا" قاد "تراجان" قواته إلى "أنطيوخ", ولكن المرض والموت لحقاه.
سياسة "تراجان" مع المسيحيين:
كانت سياسة "تراجان" مع المسيحيين غالباً سياسة تسامح وتساهل فى البداية ولكن أستشهاد القديس "أغناطيوس" أسقف أنطاكية وغيره من ألأساقفة فى أيامه يجعلنا فى شك من أنه حدث أضطهاد وقتل للمسيحيين حتى ولو كانوا يعتبرونهم من اليهود التى تعتبر هذه الحوادث نقطة سوداء فى تاريخه . كان "تراجان" هو أول إمبراطور أعلن أن المسيحية ديانة محرمة ، ولكى يضع حدا لانتشار المسيحية ، حكم على كثيرين منهم بالموت ، وأرسل بعضا آخر إلى المحكمة الإمبراطورية بروما.
وتظهر روحه العدائية تجاه المسيحيين من رسالة له رداً على رسالة أرسلها له بلينى حاكم ولاية بيثينية بآسيا الصغرى بين سنتى (109 – 111) كان بلينى هذا يرى المسيحية خرافة دنيئة متطرفة، وبالجهد يتحدث عن إقبال الجماهير عليها. لقد أرسل للإمبراطور "تراجان" يخبره بأن هذه الخرافة تزداد انتشاراً باستمرار – ليس فقط فى مدن آسيا بل حتى فى قرأها أيضاً... وأنه أصبح له سلطان على الناس من كل سن ومركز وجنس حتى المعابد الوثنية هجرت، وكسدت تجارة الأشياء التى تقدم قرابين للآلهة. ولكى يضع حداً لهاذ الانتشار المضطرد، حكم على كثير من المسيحيين بالموت، وارسل بعضاً آخر ممن كانوا يتمتعون بحقوق المواطنة الرومانية إلى المحكمة الإمبراطورية بروما. لكنه سأل الإمبراطور مزيداً من التعليمات بخصوص طريقة معاملة المسيحيين وهل براعى كبر السن، أم يعتبر مجدر حمل اسم (مسيحى) جريمة.
وقد أجاب "تراجان" على هذه الاستفسارات برسالة جاء فيها (لقد سلكت يا صديقى الطريق السوى فيما يختص بالمسيحيين، لذ لا يمكن وضع قاعدة عامة تطبق على كل الحالات فى هذا الصدد. لا ينبغى السعى فى طلبهم، لكن إذا أشتكى عليهم وجدوا مذنبين فلابد من معاقبتهم. ومع ذلك. فإذا أنكر أحد أنه مسيحى وبرهن على ذلك عملياً بالتضحية لآلهتنا فليصفح عنه بناًء على توبته...) وبناء على قرار الدولة هذا تعرض المسيحيين لاضطهادات عنيفة. وقد أصاب سوريا وفلسطين ومصر على وجه الخصوص الكثير منها., فلقد وجه اليهود المتعصبون اتهاماً لسمعان أسقف أورشليم، وحكم عليه بالموت صلباً سنة 107، وهو فى سن المائة والعشرين. وفى نفس هذه السنة تقريباً حكم على القديس "أغناطيوس" أسقف إنطاكية بالموت.
ثورة اليهود:
ويبدوا أن شيئاً ما قد حدث بين اليهود والإغريق بالإسكندرية فى عهد الإمبراطور "تراجان" إذ أن إحدى وثائق أعمال شهداء الأسكندرية تتحدث عن وصول وفد إسكندرى وآخر يهودى إلى روما قبل أن يبارحها هذا الإمبراطور إلى بارثيا فى خريف عام 113م. وكان الوفد الإسكندرى يتألف من أحد عشر عضواً يضم ديونيسوس أحد زعماء المدينة وبعض رؤساء الجمنازيوم وبعض الشخصيات البارزة من المواطنين الذين نالوا الجنسية الرومانية وإنضم إلى الوفد خطيب إغريقى من سور يدعى باولوس Paulus ليتولى مهمة الدفاع عنهم لدى الإمبراطور. وكان الوفد اليهودى كذلك يضم بين أعضائه السبعة يهودياً من أنطاكية جاء معه ربه, لكن بينما تحدثنا بأن الوفد الإغريقى كان يحمل معه تمثالاً نصفياً للإله سيرابس لا تفصح بشئ عما كان يحمله اليهود. ويرجح بعض المؤرخين أنهم ربما كانوا يحملون كتبهم المقدسة أو لفافات كتبت عليها شريعتهم أو ربما كانوا يحملون التوراة فى تابوت العهد جرياً على عادتهم القديمة.
وتتهم البردية الإمبراطورة أفلوطينا Plotina بأنها كانت متحيزة إلى جانب اليهود وأنها سعت للتأثير على "تراجان" ليكون فى جانب اليهود وأنها قامت أيضاً بالسعى لدى أعضاء مجلس الشيوخ ليقفوا إلى جانب اليهود ضد إغريق بالأسكندرية. وتحمل البردية على الإمبراطور وتنفى عليه تأثره بموقف الإمبراطورة إذ أنه لم يرد على الإغريق تحيتهم بينما رد تحية اليهود بمودة واضحة بل نسبت إليه البردية أنه أغلظ فى القول للوفد الإغريقى وقال:
"إنكم تحيونى كما لو كنتم تستحقون منى ان أقدم إليكم تحيتى بعد هذا الذى تجرأتم على فعله مع اليهود". ويعقب ذلك فجوة فى البردية ضاعت معها معالم بضعة أسطر نقرأ بعدها حواراً بين الإمبراطور وشخص يدعى هرمايسكوس كان يتحدث بإسم الوفد الإغريقى وإن كان إسمه لم يرد ضمن أسماء هذا الوفد فى مستهل البردية ويستوقف النظر فى هذا الحوار قول هرمايسكوس: "إن ما يزعجنا هو إمتلاء قلعة مجلسك باليهود الملحدين". وقد إستاء الإمبراطور من هذا القول فعاد هرمايسكوس إلى الحديث ناصحاً أن يناصر بنى قومه وألا ينبرى للدفاع عن اليهود الملحدين.
وتروى البردية أنه ما إن نطق هرمايسكوس بهذا الكلام حتى تصبب عرقاً تمثال سيرابيس الذى كان يحمله وفد الإسكندرية وعقدت الدهشة لسان الإمبراطور وساد الهرع والمرع فى أنحاء روما وتعالى صياح الناس وفروا إلى أعالى التلال. وليس أبلغ من هذا دلالة على ما تتصف به هذه الوثائق من الدعاية الإغريقية التى تفقدها قيمتها التاريخية إلا من حيث انها تصور مشاعر الإغريق وما تفيض من الشخط على الرومان وإتهامهم بالتحيز لليهود. ومما تجدر بالملاحظة أن الإتهام قد وجه إلى "تراجان" الذى أقسم أن يكون عادلاً وألا يفسك دماً بريئاً.
أما ما حدث لتمثال سيرابيس فقد أثار تعليقات شتى, فقال البعض أن ذلك كان يعنى أن هناك قوة قدسية عليه تهدد روما سيما وأن هرمايسكوس قد ناشد الإمبراطور نصرة بنى دينه وفى هذا إشارة واضحة إلى أن هناك وشائح من الدين والتقاليد المتشابهة التى تربط بين الإغريق والرومان وتجعلهم يقفون صفاً واحداً تجاه اليهود الذين يتهمون ديناً غريباً عنهم جميعاً, ولا يستبعد أن التمثال إبتل فعلاً وعزا ذلك إلى وضع وعاء به ماء فى مكان معين من التمثال ونضوح هذا الماء بطريقة معينة عند إنتهاء هرمايسكوس من مقالته.
وفى إعتقاد نفر من المؤرخين أن هذه المعجزة كانت إرهاصاً بحدوث ثورة اليهود الكبرى سنة 115م أو إنذارا بما سيحدث بمعبد السيرابيوم من تدمير إبان تلك الثورة.
ونحن نستبعد إلتجاء الإغريق إلى حيلة لجعل التمثال ينضح بالماء عند الإتيان بحركة معينة خشية كشف أمر حيلتهم فى روما. ونعتقد أن الأمر لا يعدوا أن يكون ضرباً جديداً من الدعاية تفتق عليها ذهن كاتب البردية ولعل أهم ما يمكن إستخلاصه من هذه البردية ونحن آمنون من الزلل هو وضوع إضطرابات فى الإسكندرية إعتبر الإغريق مسئولين عنها فحاولوا التنصل من تهمتها بكل وسيلة ممكنة. ويبدو أنه قبل قيام اليهود بثورتهم الكبرى سنة 115م كان الجو قد تلبد بعوامل الفتنة وأصبح مهيئاً لإندلاع لهيبها.
وقد شبت نار الثورة أول الامر فى برقة ثم إمتدت إلى قبرص ومصر فى الوقت الذى كان فيه "تراجان" مشغولاً بحملته فى الشرق فقد تطلبت تلك الحملة سحب الحاميات الرومية من كثير من ولايات الإمبراطورية.
وقد بدأت الثورة من برقة بالصدام كالمعتاد بين اليهود والإغريق وسرعان ما تطور إلى صراع يائس خاضه اليهود ضد الحكومة الرومانية نفسها. وقد إختار اليهود لأنفسهم ملكاً يدعى "أندرياس" Andreas أو لوكاس (لوقا) (Lucuas) وتجمع الروايات على وحشية اليهود فى مهاجمتم للإغريق والرومان, فيروى أنهم كانوا يلطخون أنفسهم بدمائهم وياكلون لحومهم, ويقدر ديوكاسيوس عدد الإريق الذين لقوا حتفهم فى برقة بحوالى 220 ألف, وإلى جانب هذخ الوحشية قام اليهود بتدمير المعابد الإغريقية وتخريب الطرق والمبانى حتى تحولت برقة فى آخر الأمر إلى صحراء يخيم عليها الخراب الشامل. ولم يلبث لهيب الثورة أن إمتد إلى قبرص حيث لقى 240 ألف نسمة مصرعهم وخربت سلاميس عاصمة جزيرة قبرص وثدر قرار يحرم على اليهود أن تطأ أقدامهم أرضها.
وسرعان ما شملت الثورة مصر أيضاً. وقد عثرنا على عدد لا بأس به من البرديات التى تصور أحداث هذه الثورة, حيث بدأت بمعركة macho نشبت بين اليهود والرومان فى الإسكندرية, ونعرف من مصادرنا الوثيقة أن الثورة إندلعت أيضاً فى ريف مصر حيث انقض اليهود على الإغريق ولجأ الكثيرون من الإغريق إلى الإسكندرية ليحتموا فيها من هجمات اليهود. وفى الأسكندرية دارت معارك عنيفة مع الجالية اليهودية فى المدينة وتتحدث مصادر التلمود عن تدمير بيعة اليهود الكبرى بالمدينة ويحدثنا أبيان Appian عن الدمار الذى لحق معبد نميسيس ربة الإنتقام عند الإغريق. وربما حدث تدمير معبد السيرابيوم خلال تلك الفتنة.
وفى شتاء عام 116 زحف يهود برقة بزعامة ملكهم على مصر بعد أن إكتسحوا فى طريقهم القوات الرومانية التى عجزت عن صدهم وبلغت مشارف الأسكندرية لكنهم عجزوا عن دخول المدينة فانتشروا فى داخلية البلاد تاركين جالية الأسكندرية تلقى أشد الويلات على أيدى الإغريق.
ومما يدل على تحرج الموقف أن السلطات الرومانية أناطت بعض القرويين المصريين فى هريوبوليس مهمة صد هجوم اليهود الملحدين غير أن الدائرة دارت على القرويين وأعمل فيهم اليهود الملحدين الذبح والتقتيل وأصبح الأمل معقوداً على الفرق الرومانية التى وصلت فرقة منها إلى منف. وما لبثت أن إنقشعت الغمة حيث أحرزت القوات الرومانية النصر فى نواحى منف فى أوائل عام 117م بالتعاون مع الإغريق والمصريين. وبالرغم من أن النصر الذى أحرزته القوات الرومانية بالتعاون مع الإغريق والمصريين كان نصراً هاماً إلا أنه لم يكن نصراً حاسماً, حيث لم تكن هناك معركة واحدة فاصلة ومع ذلك كانت معركة منف إحدى تلك المعارك الكثيرة التى تمكن بفضلها ماركيوس توربو Marcius Turbo القائد الرومانى الذى أرسله الإمبراطور "تراجان" لإخماد الثورة فى مصر من أن يحقق النصر النهائى على اليهود.
وبعد معركة منف تحركت القوات الرومانية جنوباً لقمع الثورة فى صعيد مصر.
ونفهم من بعض البرديات وبعض المصادر الأدبية أن الثورة إمتدت إلى إقليم طيبة جنوباً وإلى إقليم اثريب (بنها) شمالاً وإلى بلوزيوم شرقاً.
ويرجح أن الثورة كانت قد إنتهت فى منتصف أغسطس سنة 117م إذ أن ماركوس توربو غادر مصر إلى موريتانيا ونصب حاكماً عليها فى أوائل عصر هادريان بعد إخماد ثورة اليهود.
وفاة "تراجان":
وفى عام 117م توفى "تراجان" فى سيلينوس فى كيليكيا, وإختلفت الأقاويل حول موته ما إذا كان قد مات بالسم أو بالسكتة الدماغية أو بمرض بالقلب.
المراجع:
كتب عربية:
الكتاب | المؤلف | المكتبة |
مصر الرومانية | د. مصطفى كمال عبد العليم | مكتبة سعيد رأفت - جامعة عين شمس |
تاريخ مصر فى عصرى البطالمة والرومان | د. أبو اليسر فرح | للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية |
الأمبراطورية الرومانية.. النظام الأمبراطورى ومصر الرومانية | د. مصطفى العبادى | دار المعرفة الجامعية |
الشرق الأدنى فى العصرين الهلينستى و الرومانى | د. فوزى مكاوى | المكتب المصرى لتوزيع الطبوعات |
اليهود في مصر في عصري البطالمه و الرومان.. مع مقدمه عن اليهود فى العصر الفرعونى | د. مصطفى كمال عبد العليم | مكتبة القاهرة الحديثة |
كتاب مترجمة:
الكتاب | المؤلف | المترجم | المكتبة |
الحياه في مصر فى العصر الرومانى | نافتالى لويس | د. آمال محمد محمد الروبى | عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية |
اين الفراعنه فى هذا الزمن؟جاء الفرس وذهبوا وبقى الفراعنه....هل هناك تفسير لاختفاء الفراعنه بعد كيلوباترا الاغريقيه.
ردحذفالفراعنة.. وهم الحكام.. خلاص انتهوا.. إنما المصريين القدماء.. فنحن كشعب امتداد لهم.
حذفوبالتالى فالشعب كما هو لم يتغير.. كان يأتى من بينهم فراعنة (حكام) يحكمون.. ثم جاء الفرس ليحكمون.. ثم استطاع المصريين التخلص من الاحتلال الفارسى ليعود الحكم إلى الفراعنة.. ثم جاء الاحتلال الرومانى ثم البيزنطى.. ثم الفتح الإسلامى ثم عهد الخلافة الأموية.. ثم العباسية... إلخ.
حتى تقوم ثورة 23 يوليو ليعود الحكم إلى المصريين مرة أخرى.