أوراق.. عبد الناصر!!

أوراق

يكتبها اليوم: أنيس منصور
الأخبار الأربعاء 14 أكتوبر 1970م - 17 شعبان 1390هـ

عبد الناصر!!

لم نكن نعرف ولا أحد يعرف ما معنى هذه الصورة الضاحكة لجمال عبد الناصر التى ظهرت فى الأيام الأخيرة على صدور الصحف.. كنا نرى وجهه الضاحك.. ونحمد الله على صحته.. ونقول أن وجهه هو هذه الألوان الزاهية التى ترتسم على السحب الداكنة كأنه يريد أن يكون رمزا للأمل والانتصار على اليأس والخروج من الكوارث، ولم نكن نعرف ولا هو ولا الملوك والرؤساء أن هذا هو آخر عهد بالاتسام وآخر عهدهم به.. وإن لم يكن هذا هو آخر عهدنا بالسحب الداكنة الكثيفة التى سوف تظهر من جديد فى السماء العربية.. إن وفاة عبد الناصر هى أقسى امتحان وأقسى من النكبة والنكسة لأنها سوف تؤدى إلى نكبات نفتقر فيها إلى جمال عبد الناصر مفكرنا وزعيمنا ومنقذنا وجامع لشمل الأمة العربية فاللهم رحمتك ولطفك بنا من بعده!
أما ذلك اليوم الأسود يوم تنحى جمال عبد الناصر عن الحكم وقد كان أقسى أيام الأمة العربية وقد أحسسنا جميعا بأننا يتامى بلا أب وأن أبانا لم يمت وانما اختار أن يتخلى عنا كقائد طائرة قفز منها بمظلته وتركنا كقائد سفينة جميع خرائطه واستقل زورقا بعيداً عنا وقد عرفنا به ومعه وبفضله وعقله أعظم أيام حياتنا وأروع صفحات تاريخنا وكذلك أمتنا العربية وإذا حدثت له نكسة فى طريق نضاله ونضالنا فأين هو الفارس الذى لا يتعثر وأين هى الشمس أو القمر الذى لا يعرف الكسوف أو الخسوف.
أما اليوم فإن جمال عبد الناصر لم يتنح عنا وإنما وضعنا أمام إرادة الله. آمنت بالله ولا راد لقضاء الله وقدره وأمام إرادة الله بهذا كل شئ ولا شئ أيضا يعوضنا عن خسارته المروعة والتى ستعرف مع الأيام فداحتها وهواننا على الناس.
وحاول جمال عبد الناصر بدمه الغالى أن يوقف الدماء التى أريقت فى الأردن وبروحه أن ينقذ الأرواح التى أزهقت فى الأراضى المقدسة ولم يستطع هو وهذه قدرة الله ومشيئته أن ينقذ روحه ودمه من أجل الأمة العربية.
وشاءت إرادة الله أن تصعد روح جمال عبد الناصر فى يوم أسرى الله برسوله الكريم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى بارك حوله فقد كان جمال عبد الناصر صاحب رسالة أيضا وكانت رسالته أن يحرص على كرامتنا وحريتنا وقوميتنا وقد فعلها وكان رائدا للجميع ويرحم الله زعيمنا ورائد القومية العربية جمال عبد الناصر فخسارتنا فيه مثل رحمة لا حدود لها.
مواقف - الأخبار 29 / 9 / 1970م
***

فى أيام قليلة توالت الكوارث على الأمة العربية تفجرت الدماء فى الأردن.. دماء الأشقاء، وانهمرت الدموع عليها من كل عين وفزع الملوك والرؤساء إلى جمال عبد الناصر الأخ الأكبر والزعيم والعقل المتزن، وتلاقت العيون والأيدى والتقت القلوب واتفق المختلفون وتلاشى الدخان وخمدت النيران وجفت الدماء وحمدنا الله على أن الأمة العربية اجتازت محنة لا قرار لها.
وفجأة - رحمتك يا رب - انفجر كل شئ.. النار فى القلوب والدماء فى العيون والدخان فى العقول.
لقد مات جمال عبد الناصر هكذا فجأة وبلا مقدمات أو بمقدمات كنا نعرفها ونسيناها، وأردنا أن ننسى أنه كان مريضا فبعد العدوان أصيب جمال عبد الناصر بمرض السكر وكان لابد أن يحترس فيستريح وبعد النكسة أصيب بتصلب شرايين الساقين واستراح عبد الناصر وكان فى حاجة إلى راحة أكثر ولكن كيف؟.. إنه قدره ونصيبه بل قدرنا ونصيبنا ومصابنا وكل شئ قد انفجر والبيوت انفجرت فى الشوارع والشوارع فضت فى الميادين والليل يكدس الناس إلى جوار الجدران حتى الصباح.. إن الناس ينظرون ويبكون وأنهم لا يصدقون - هل مات حقا؟ ولكنه لم يدفن - هل مات حقا إنه لم يتكلم فلا هذه مظاهرات ولا هى جنازات والناس يهتفون ضد الموت ويبكون على الحقيقة ويتظاهرون ضد الخوف - ويبكون على الفراغ الذى تركه ناصر.
ثم يعود الراديو يوقظ الناس من سكرتهم وما هم بسكارى.. فالراديو يردد كلمات عريبة عجيبة لم نسمعها من قبل.. الرئيس الراحل المغفور له جثمانه جنازته.. أرملته.. المصاب.. الخسارة.. برقيات التعازى. وينهض الناس يرفعون بعضهم فوق بعض ويضعون صورة الزعيم الراحل يرفعونها للمساء، وتذوب المسافات بين الجنازات والمظاهرات وبين الناس وبين الأيدة والكل يتلقى العزاء من الجميع فنحن أهل الفقيد.. والمصاب مصابنا.. ويوم ندفن جمال عبد الناصر سندفن أعز أيام وأغلى سنوات مصر والأمة العربية.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
مواقف - الأخبار
30 / 9 / 1970
***

- بعد وفاة عبد الناصر بدأ العام الدراسى: وهذه إشارة أخرى إلى أن أول شئ نقوم به بعد موت عبد الناصر هو أن نتعلم صغارا وكبارا وإن كان كل إنسان أمام العلم صغيرا ومن الواجب أن يكون صغيرا فلا نهاية للعلم ولا نهاية لحاجتنا إلى العلم الآن وفى كل آوان. وأول شئ يجب أن نتعلمه هو أن نكون جادين وأن نكون رجالا فالمأساة قد وقعت والدموع لا تأتى بمن راحوا إلى الأبد ويجب أن تحول الدموع إلى قطرات العرق لكى نحفظ ما تركه لنا عبد الناصر.
والذى تركه فى كل مجال ليس قليلا.. فلقد كبر الشعب كله مع جمال عبد الناصر.. لم يكن للناس حساب.. أصبح لهم حساب.. لم يكن لكرامة الإنسان وزن.. أصبح لهم وزن.. لم يكن من حق أحد أن يتكلم عن الحق أصبح من حق كل إنسان أن يناقش الحق والعدل والوحدة والتضامن والتماسك وفى الداخل والخارج.. لم يكن هذا الوطن ملكا لكل أهله.. أصبح ملكا للجميع، وكان جمال عبد الناصر واجهة شريفة مشرفة لمصر وللعالم العربى. وكانت مصر صغيرة أصبحت كبيرة، وكانت واحدة من الدول جعلها قاعدة للحرية ومطارا للثورات وحصلنا أمينا لكل صاحب رأى أو صاحب فلسفة فمن دخلها فهو آمن على نفسه وعلى رأسه.
وثانى شئ يجب أن نتعلم هذا الذى حققته مصر فى عهد عبد الناصر كان عظيما.. ولكن هذه العظمة لم تتيسر إلا بصعوبة، ولكن جمال عبد الناصر استطاع بكفاحه وعقله أن يجنب مصر الكثير من الويلات التى عانتها الشعوب. ولو عانيناها لكان طبيعيا.. فلم نعرف الجوع والعطش ولم نعرف الحرمان من الضروريات فى زمن الحرب بل عرفنا الكماليات أيضا - الكثير منها فى كثير من البيوت والأيدى والجيوب. والشئ الثالث الذى يجب أن نتعلمه صغارا وكبار أن هذا الفراغ الهائل الذى تركه عبد الناصر ليس من السهل أن نملأه فى يوم وليلة. ولا فى ألف ليلة وليلة ولكن إذا كان عشرون شاعرا لا يصنعون "شكسبير" كما يقول المثل فإن عشرين شاعرا قادرون على تحقيق الكثير فإذا لم يكن لدينا عبد الناصر الآن فإننا جميعا بالصدق والإخلاص والحب الأمين لمصر وللشعب نستطيع جميعا أن نقترب من الصورة التى كان يتمناها جمال عبد الناصر لبلاده فى غيابه.
والله ولى التوفيق.