الأحد، 21 مارس 2021

10 البيت الأبيض.. بعد كل هذا

10

البيت الأبيض.. بعد كل هذا

العريضة التي وقعها 76 شيخًا لم تكن تعبر إلا عن رأى 22 شيخًا

الأهرام الثلاثاء 28 أكتوبر 1975م - 24 شوال 1395هـ


ظن الإسرائيليون بعد ذلك أن التحرك نحو السلم قد فقد قوة الدفع اللازمة له واطمأنوا بعض الشئ ولكن يقظتنا كانت تحتم علينا ألا نترك زمم المبادرة لكى يفلت من أيدينا. ولعل هذا هو السبب الجوهرى وراء اجتماعى بالرئيس فورد في سالزبورج في أول يونيو 1975. وهو الاجتماع الذى بدأ بإقامتى مأدبة غداء للرئيس فورد في قلعة فوتشيل شلوس القديمة التي نزلت بها، وتقع على بحيرة في وسط الجبال حيث جمال الخالق يحيطها من كل جانب. حضر فورد الغداء وألقى كلمته. وكانت هذه أول مرة ألقاه فيها.

إن الرئيس فورد من زعماء العالم الذين يرتاح إليهم الإنسان من أول لقاء وهذه يرجع إلى سمات البساطة والوضوح والطيبة التي تبدو على وجهه وفى سلوكه. وكنت قد شاهدت فيلمًا عن الرئيس فورد في أول لقاء له مع أعضاء الكونجرس بعد توليه. ومن الفيلم أدركت أن كل ما في الرئيس فورد ينم على الصدق والصراحة والوضوح، سواء في كلامه أو هيئته أو سلوكه. وعندما قابلته شخصيًا تأكدت لدى الفكرة التي كونتها من الفيلم. فكان أهمها ركز عليه في الكلمة التي ألقاها على الغداء أن أمريكا لن تسمح بتجمد الموقف أو تجميده مرة أخرى. وكان ردى عليه أنه حان وقت اتخاذ القرارات الحاسمة، وأمريكا ليست في حاجة لكى نعيد على مسامعها أن كل الأوراق في يديها، وأنها المصر الرئيس للحياة في إسرائيل سواء في السلم أو في الحرب، وأنها الدولة الوحيدة في العالم التي يمكنها أن تؤثر على إسرائيل تأثيرًا حاسمًا. والتأثير الحاسم لابد وأن يحتاج إلى قرار حاسم وهو ما يتحتم على أمريكا أن تتخذه الآن حفاظًا على وزنها الدولى الكبير في منطقة الشرق الأوسط.

بعد الظهر ذهبنا إلى القصر الذى ستُعقد فيه المباحثات. وكان الوفد الأمريكي مكونًا من الرئيس جيرالد فورد ووزير الخارجية هنرى كيسنجر ومساعد وزير الخارجية جوزيف سيسكو، وكنت على رأس الوفد المصرى الذى تكون من نائب رئيس الجمهورية محمد حسنى مبارك ونائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية إسماعيل فهمى. وبدأت الجلسة الأولى بطريق المشكلة رأسًا.

وطلب الرئيس فورد من أن أشرح له وجهة نظرى، فأوضحتها له في الخطوط الرئيسية التي تتمثل في أن مفتاح الموقف كله في يد أمريكا لأنه لا قائمة لإسرائيل ولا كيان لها بدون أمريكا، ومع ذلك فإنه أمر شاذ للغاية أن تعمل إسرائيل على ضرب سياسية أمريكا في المنطقة القائمة على عدم تجميد الموقف في المنطقة من أجل حل يقوم على العدل، وتعمد إسرائيل إلى تشويه وجه أمريكا بإفشال سياسة الخطوة بخطوة. وهى السياسة التي جوهرها هو دفع الموقف باستمرار لتجنب التجمد، وهى السياسة التي يعمل الاتحاد السوفيتى كل جهده لمهاجمتها وإفسادها والتندر عليها ومحاولة تأليب من يدورون في فلكه في العالم العربى لضرب التضامن العربى. وبهذا تكون إسرائيل متحالفة مع الاتحاد السوفيتى ضد الولايات المتحدة.

وفى نهاية تحليلى للموقف ذكرت أننى قلت لكيسنجر أثناء قيامه بمفاوضات الخطوة خطوة أن سياسته لن تنجح لأنه من الواضح أن إسرائيل تستغل الخلاف الراهن بين الكونجرس والحكومة الأمريكية لكى تنفذ منه إلى التخلص من كيسنجر حتى تكسب الوقت وتصل إلى الانتخابات عام 1976، وهو العام الذى تعجز فيه السياسة الأمريكية عن التحرك والحسم. وبعد ذلك يأتي عام 1977 على أمل أن يكون الموقف العربى قد تفتت. فإسرائيل تعتقد أن العرب عاطفيون وانفعاليون، ولذلك فإن السياسة الإسرائيلية تضع في اعتبارها دائمًا أن العرب عاجزون عن التماسك مدة طويلة. وهى في انتظار التفكك إن عاجلا أو آجلا من هنا كانت استماتتها لكى تكسب الوقت بقدر الإمكان.

ومن ناحية أخرى فقد أكدت في مباحثاتى مع فورد أن إسرائيل تخشى السلام ولا تقدر على صنعه. فقد ظلت زهاء 26 أو 27 عامًا تتغنى بكلمة السلام حتى صدق العالم أنها الدولة الوديعة المحبة للسلام وأن مأساتها أنها وقعت وسط غابة من الوحوش المتصارعة. وقد ساعد العرب إسرائيل في تكوين هذه الصورة البشعة لهم بسبب إصرارهم على رفض أي خطوة إيجابية لكسب العالم إلى جانب قضيتهم العادلة وتركوا بذلك الميدان خاليًا لإسرائيل لكى تصول وتجول فيه كما تهوى.

وبذلك أصبحت إسرائيل رمزًا للسلام والحضارة والمدنية والتقدم، بينما صار العرب رمزًا للحرب والتخلف والدمار والرجعية برغم أنهم أصحاب القضية العادلة.

لقد تمكنت إسرائيل من تخدير العالم بأحلام السلام بتأكيدها أن كل أملها في الدنيا يتمثل في إقامة سلام بينها وبين العرب.

وعندما ظهر رئيس عربى قادر على توقيع اتفاقية سلام أسقط في يد إسرائيل التي سحب من يدها أخطر سلاح استعملته لكسب الرأي العام العالمى إلى جانبها. ولم أعلن عن استعدادى لتوقيع اتفاقية سلام بعد المعركة فقط في 1973 بل صرحت بهذا منذ عام 1971. فأين ذهب تغنى إسرائيل بأمل السلام البعيد الذى أصبح قريبًا؟

إن إسرائيل تخشى السلام ولا تحب ولا تقدر على صنعه لأنها دولة أقامت كيانها على الحرب والعدوان. فهى إما تعيش في حرب فعلية أو على أمل حرب مقبلة. وكل المعونات الحربية والسلمية تستمدها من أكاذيبها التي تنشرها في كل مكان، والتي تدعى فيها أن العرب يهددون كيانها بينما الواقع يؤكد أنها هي التي تهدد الكيان العربى كله من حين لآخر بدليل أنها ضاعفت مساحتها عدة مرات، وكان العرب يخسرون دائمًا.

وأوضحت أيضًا أمام فورد أن إسرائيل لا تملك الحكومة القوية التي تستطيع أن تحقق السلام أو حتى تتحرك في اتجاهه. فحكومة رابين حكومة ضعيفة جدًا كقيادة وكزعامة، ورابين لا يستطيع مصارحة شعبه بحقائق الموقف. بينما الشعب الإسرائيلي نفسه يعيش نفس حالات التشتت والتمزق والضياع التي عانيناها في مصر وفى الأمة العربية جمعاء قبل معركة أكتوبر 1973. وما زال الجميع في إسرائيل يتعلقون بنظرية الأمن القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب. وهى النظرية التي تُنادى بفرض الصلح بالقوة على العرب، والتفوق في السلاح والسيادة على الجو وكل العناصر التي من شأنها استمرار الاستسلام العربى كاملا.


ماذا يواجه فورد..

وبعد الانتهاء من تحليلى للموقف قلت لفورد صراحة أنها أمام امتحان ونأمل أن يجتازه بنجاح. وموقفه يشبه إلى حد كبير موقف الرئيس أيزنهاور عام 1956 عندما هجمت إسرائيل - بتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا - على مصر في 31 أكتوبر أي قبل الانتخابات الأمريكية بأسبوع واحد فقط على أساس أن الرئيس الأمريكي سيكون مشغولا بالانتخابات، وعاجزًا عن اتخاذ أي قرار حاسم ضد العدوان. ولكن أيزنهاور كان زعيمًا شريفًا ووقف بكل حزم واتخذ قراره بكل حسن. ولم يكن قراره ضد إسرائيل فقط، بل كان ضد بريطانيا وفرنسا أيضًا. ومع ذلك نجح في الانتخابات ضاربًا بأصوات اليهود الأمريكيين عرض الحائط. إذن فالقضية تحتاج إلى جرأة وإقدام، وكل المطلوب هو اتخاذ موقف حازم يتوجه قرار حاسم.

عقب فورد على كلمتى باقتناع كامل في أن لا يتجمد الموقف مهما كان الجهد الذى يُبذل لكى تستمر قوة الدفع لعملية السلام واقترح أن تقوم أمريكا بمحاولة أخرى على طريق الخطوة خطوة.. ووافقت بعد أن حللنا الموقف تحليلا كاملا من وجهة نظر استمرار الدفع. وصرح بأنه وصل إلى هذا الاقتناع بالفعل.

وعندئذ تدخل كيسنجر مستفسرًا عن النقطة التي توقفت عندها المفاوضات في المرحلة الماضية. وكنا قد وقفنا عند نقطتين:

الأولى: مدة صلاحية الاتفاق.

والثانية: جهاز الإنذار المبكر [المونيتور] الذى تضعه إسرائيل على المضايق لكى تكشف به كل التحركات على جبهتنا.

وفيما يختص بالنقطة الأولى كان الإسرائيليون يطالبون بأن ينص الاتفاق على أن تكون مدته من ثلاث إلى خمس سنوات. وبالطبع رفضنا هذا الشرط الذى نوقش في مفاوضات كيسنجر في مارس 1975. وحددت موقفى بأننى بكلمة واحدة أقولها وهى أننى مستعد لتحديد بقاء قوات الطوارئ الدولية سنويا بدلا من كل ستة أشهر. ولا يمكن أن أعد بأكثر من هذا في نقطة مدة صلاحية الاتفاق، فسأجددها سنويًا على أساس أن عملية السلام مستمرة ومتقدمة. ولا يعقل أن أجددها كل سنة بينما عملية السلام متجمدة واقفة في محلها. أي لا يمكن الفصل بين شرط تجديد المدة وشرط تقدم عملية السلام. وأعطيت كلمتى للرئيس فورد أن أراعى في حساباتى سنة الانتخابات.

أما بالنسبة للنقطة الثانية التي تدور حول جهاز الإنذار المبكر [المونيتور] الذى يكشف عن تحركاتنا وموضوع بقائهم في ممر من الممرات، فإن الإسرائيليين يبدون استعدادهم للخروج من الضايق بشرط استبقاء الجهاز في موقعه. ولكننى رفضت هذا العرض.

عندئذ قال كيسنجر أنه بما أننا وقفنا عند هاتين النقطتين في المفاوضات السابقة، فهل هناك أمل في تحرك جديد من ناحية مصر يمكن الرئيس الأمريكي من طرحه على إسرائيل والدخول معها في جولة جديدة من سياسة الخطوة خطوة بصرف النظر عن استغلالها للخلاف الراهن بين الكونجرس والحكومة الأمريكية؟

أدركت في الحال السبب الذى دفع كيسنجر لكى يطلب هذا الطلب. فعندما فشلت مهمة كيسنجر وطلب اجتماع الرئيس فورد بى في سالزبورج، كان معنى هذه الخطوة أن الرئيس فورد قرر أن يدخل الميدان بشخصه وثقله كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية بهدف الوصول إلى حل للمشكلة.

والحل الأمثل طبعًا هو أن يتم حل نهائي للمشكلة ولكن بالنسبة للظروف التي يجتازها الموقف الأمريكي داخليًا بعد ووترجيت وموقف الكونجرس من الرئيس الأمريكي فإن المتاح هو محاولة الخطوة خطوة مرة أخرى. وكانت هذه الحلول المطروحة سواء في إعادة تقييم السياسة الأمريكية من ناحية أمريكا أو من جانب مجموعة العمل المصرية التي تعمل معى في هذه القضية.

ومن هنا جاء استفسار كيسنجر عن إمكانية تحرك مصري جديد يُشكل نقطة انطلاق لفورد وفى الوقت ذاته يتحول إلى سلاح يواجه به جماعات الضغط الصهيوني في الكونجرس ومجلس الشيوخ وكل المواقع السياسية الحساسة في الولايات المتحدة، وذلك بعد أن اتفقنا أن الممكن فى هذه المرحلة هو الخطوة خطوة مرة أخرى في سبيل الحل النهائي الذى يكون في جنيف بحضور جميع الأطراف وبعد أن يكون الموقف الأمريكي قد استجمع كل قوته.

والدليل على وجود هذه الضغوط الصهيونية، أنه قبل أن يُغادر فورد واشنطن في طريقه إلى سالزبورج وقع ستة وسبعون من الشيوخ الأمريكيين على عريضة تطالب الرئيس الأمريكي بتقديم كافة الأسلحة الحديثة والمعونات الاقتصادية والمساعدات العينية إلى إسرائيل، لأن تفوق إسرائيل هو الضمان الوحيد لاستقرار السلام في المنطقة. ولكن فورد نبهنى إلى أن هذا الموضوع لا يجب أن يشغلنا عن المضي في عملنا، فهذه هي عادة المجال النيابية التي عمل بها طويلا، وأضاف أننى اشتغلت أيضًا رئيسًا لمجلس الأمة في مصر، ولذلك فنحن نعرف أن هذا التقليد النيابى القديم الذى لا يمنع أي نائب في المجلس من أن يكتب عريضة ثم يمر على زملائه لكى يجمع توقيعاتهم. ومعظم الأعضاء يلقون بنظرة غير متفحصة ثم يوقعون من فورهم. ومن حساباتنا في مجموعة العمل المصرية فإن الرقم الحقيقى للشيوخ المتعاطفين بالكامل مع إسرائيل لا يزيد عن 22 من الستة والسبعين نائبًا الذين وقعوا العريضة كالمعتاد واضعين في اعتبارهم النفوذ الصهيوني على دوائرهم الانتخابية(1) وقد علمنا بعد ذلك من سفارتنا في واشنطن أن بعض الموقعين على العريضة اتصل تليفونيًا بالرئيس فورد بعد ذلك: وقالوا له أن توقيعاتهم لا تعنى أنهم يرفضون السلام، ولكنهم يهدفون فقط إلى الحفاظ على الكيان الإسرائيلي.

ولم أسأل الرئيس الأمريكي في ذلك.


حل لمواجهة الضغط

ولكن لكى يرتفع الرئيس فورد فوق كل هذه الاعتبارات المحلية والصراعات الداخلية، فإنه يحتاج إلى سلاح جوى جديد في يده يواجه به جماعات الضغط في كل مكان. هكذا كان رأى كيسنجر حتى تدخل القضية مرحلة جديدة. ولكننى أكدت أننى لا أملك عرضًا جديدًا فيما يختص بالنقطة الأولى وهى مدة صلاحية الاتفاق، وأنا مازلت عند كلمتى في حالة انسحابهم من المضايق والبترول، سأمد بقاء قوات الطوارئ الدولية سنويًا بدلا من ستة أشهر..

عندئذ قال كيسنجر أن إسرائيل تتخوف من أن يستخدم الاتحاد السوفييتى حق الفيتو ضد بقاء قوات الطوارئ الدولية على سبيل خلق المتاعب، لأنه لم يكن له دور في هذه الخطوة إذا تمت، أو أن يعترض في مجلس الأمن على وجود قوات الطوارئ. فماذا سيكون الوضع عندئذ؟

قلت لكيسنجر أن هذا لن يُقدم ولن يؤخر شيئًا بالنسبة لى طالما أننى موافق على وجود قوات الطوارئ على أرضى نتيجة لدفع عملية السلام. هذا بالإضافة إلى أننى عندما أرغب شخصيًا في إنهاء بقاء قوات الطوارئ الدولية فسأفعل هذا في الحال دون الحاجة إلى قرار من مجلس الأمن أو فيتو من الاتحاد السوفيتى. فهذه ليست مشكلة على الإطلاق فالمسألة مسألة نية وليست مجرد إجراءات شكلية. وقد سبق لنا أن نفذنا كل ما قمنا به من تعهدات. والأمريكان يعلمون جيدًا أن إسرائيل هي التي تخل دائمًا بالتزاماتها اعتمادًا على معاملة التدليل التي تلقاها من الأمريكان أنفسهم.

ولذلك فأنا أرى أن الأساس في حل المشكلة هو دخول أمريكا كضامنة بيننا وبين إسرائيل، وخاصة أن الامريكان يعرفوننا جيدًا ويثقون في كلمتنا كما نثق نحن في صدق الجهد الذى يبذله كيسنجر منذ أول لقاء لى معه في نوفمبر 1973 بعد الحرب مباشرة لإقامة سلام مبنى على العدل. وقد حان الوقت أن تثق إسرائيل فيهم. لأنها على الرغم من كل ما تحصل عليه من أمريكا التي أنقذتها وأوقفتها على قدميها سواء في وقت الحرب أو السلم، على الرغم من كل هذ فإن إسرائيل لا تثق في أمريكا أبدًا كما أنها لا تثق في أية دولة أخرى. وهذه هي السمة الرئيسية لسلوك اليهود على مر العصور، فهم يشكون في كل الناس. وكانت نتيجة هذا الشك الأزلى أنهم كانوا يرفضون معاشرة الناس أو الاختلاط بهم على مر العصور: فانعزلوا في الجيتو والأحياء التي أغلقت عليهم في معظم مدن العالم.

وقد طلبت من جانبي أربعة مطالب لإكمال هذا التحرك هي:

أولا: أن يتم فض اشباك على الجبهة السورية.

ثانيًا: أن أحصل على ضمان أمريكى بعدم عدوان إسرائيل على سوريا.

ثالثًا: أن يشترك الفلسطينيون في التسوية في مؤتمر جنيف.

رابعًا: أن ينعقد مؤتمر جنيف بعد إتمام فض الاشتباك على الجبهتين..

وبالنسبة لمساهمة الأمريكان في حل القضية، فقد أردت أن يدخلوا كشهود على ما يجرى بيننا وبين إسرائيل لكى يحكموا بأنفسهم: من الذى يكذب ومن الذى يفى بتعهداته؟ فالقضية أصبحت لا تحتمل أي تلاعب أكثر من ذلك.


مشكلة جهاز الإنذار

وبالنسبة للنقطة الثانية الخاصة بجهاز الإنذار المبكر [المونيتور] فقد نوقشت في جلسة المباحثات الأخيرة في اليوم التالى وأكدت على عملية دخول أمريكا بكل وزنها في القضية عن طريق التقدم بعرض أمريكى يحدد المواقف بعد ذلك بناء على من سيقبله ومن سيرفضه. وبذلك يتحول تلاعب إسرائيل إلى التزام أمام الدولة الكبرى التي تمنحها كل شيء. وهناك سابقة مشابهة في فك الارتباط الأول الذى عندما أوشك على الانهيار، طلبت من كيسنجر أن يتقدم بعرض أمريكى إلى كل من مصر وإسرائيل. فقد كانت إسرائيل معبأة بعقد العظمة المنهارة وأحلام السيادة التي تلاشت أمام أكتوبر المجيد وغير قادرة على اتخاذ أي قرار. ولكن عندما تقدم كيسنجر بالعرض الأمريكي قبله الطرفان. ومن الصعب على إسرائيل بالطبع أن ترفض عرض الدولة التي بدونها لا حياة لها على الإطلاق.

ولكى تدخل أمريكا بكل وزنها في القضية وتتحول من موقع الخصم المعادى لنا إلى موقف الشاهد المحايد، طلبت منها أن تقوم ببناء جهاز إنذار مبكر شبيه بذلك الذى أقامته لإسرائيل حتى يكشف لنا نحن أيضًا عن التحركات الإسرائيلية.

وهذا الجهاز أحدث ما في العصر الإلكترونى من ابتكارات لأنه لا يكشف التحركات العسكرية فقط، ولكنه يقوم بالتشويش على أجهزة الرادار، واللاسلكى، وبطاريات الصواريخ، أي كل الأجهزة الحربية التي تستخدم الرادار واللاسلكى.

وكنت أعلم أن الاتحاد السوفيتى يملك هذا الجهاز، ولكننى إذا طلبته منهم فلن أحصل عليه بالتأكيد. وقد حكيت للشعب عن حكاية الأجهزة البدائية التي كانت لدينا ورفضوا أن يعمل عليها المصرين ثم سحبوها مع قرار سحب الخبراء ورفضوا بيعها لنا برغم أننى طلبت شراءها أكثر من مرة وكانت حجتهم أنها تحت التجربة مع أنها أجهزة عادية وبدائية ولديهم ما هو أحدث منها بمراحل. أما أمريكا ففي إمكانى أن أصل إلى قرار حاسم معها، وهذه هي السياسة الأمريكية التي لا ترتاح إلى أنصاف الحلول بصفة عامة.

ولذلك قبلت بقاء جهاز الإنذار المبكر الإسرائيلي على أساس حصولى على جهاز مثله وبشرط أن يشرف على الجهاز مدنيون أمريكيون، أي شهود على تحركات إسرائيل وتحركات على الجبهة منعًا لأية أكاذيب أو ادعاءات أو تلاعب في المستقبل.

وفى تلك اللحظة أدركت أن الرئيس فورد سياسى من الطراز الأول وليس رئيسًا مترددًا أو خائفًا وتنقصه الخبرة والباع الطول. كان يدخن البايب - مثلى تمامًا - ومن خلال الدخان المتصاعد صاح قائلا لكيسنجر "إن هذه العملية يمكن أن تكون مفتاحًا لحل الموقف"، أي أنها ستلقى قبولا من كل الدوائر المعنية. كان كيسنجر مذهولا من المفاجأة ولكننى أضفت أن بقاء قوات الطوارئ الدولية لا يساوى شيئًا بجانب هذا العرض المصرى الجديد الذى كنت أهدف منه إلى أن أحصل على جهاز مثل هذا يعتبر إضافة كبيرة إلى قواتنا المسلحة. وأن لا يبقى أبنائى في القوات المسلحة في وضع يحصلون فيه على معلوماتهم عن عدوهم بطرق متخلفة خاصة وأن الاتحاد السوفيتى رفض أيضًا أن يجرى لنا الاستطلاع. بطائرات الفوكسبات وقد سحبها أخيرًا. كما أعلنت للشعب.


دهاء كيسنجر

ولكن كيسنجر لم يرغب في التخلي عن دهائه، فسألنى عن المصدر الذى سأحصل منه على جهاز الإنذار المبكر.

فأجبته بمنتهى البساطة أننى سأقوم بشرائه من أمريكا نفسها فكما أنهم أرسلوا هذا الجهاز إلى الإسرائيليين كأصدقاء، فنحن نطلب الجهاز بنفس الشروط لأننا أصدقاء الأمريكان أيضًا، ولكن ليس على سبيل المنحة لأننا سنشتريه. وسيقوم بالعمل عليه مصريون وبذلك ندخل عصر أحدث تكنولوجيا ويحصل أبنائى في القوات المسلحة على أرقى ما وصل إليه العلم.

وبالفعل حاز هذا العرض إعجاب الرئيس فورد ووافق على أن يبيعنى هذا الجهاز بكل ما فيه من تكنولوجيا غالية ويتكلف ثمنه كثر من مائة مليون دولار.


الناحية الاقتصادية

بالنسبة للناحية الاقتصادية أفهمت الأمريكان أن المطلوب لتدعيم اقتصادنا ليس 1500 مليون دولا كما يتصورون، ولكنه 1500 مليون جنيه استرلينى. وسأحصل على نصف المبلغ من العرب كقروض طويلة وبفوائد مخففة، وبفترة سماح أربع أو خمس سنوات بحيث أبدأ في لدفع المنتظم بمجرد أن يقف اقتصادنا على قدميه، وأخذ نقطة الابتداء ثم الانطلاق بعدها.

أما المعونات الخيرية فأنا أرفضها رفضًا باتًا على سبيل المبدأ. والسعودية والكويت وقطر وأبو ظبى على أتم استعداد لإقراضى بأكثر من نصف المبلغ. أما عن أمريكا فأنا أعلم أنها لم تستطيع معونتى بأكثر من 500 مليون دولار - كما علمت من الرئيس الأمريكي من قبل - على أساس 250 مليون دولار للصندوق و250 للمعونة العادية مثل تلك التي حصلنا عليها في العام الماضى [1974].

وطلبت من فورد أن يعمل على تدبير النصف الآخر كقروض طويلة الأجل منه ومن حلفائه وقد قبل الرئيس فورد.


الفضل لحرب أكتوبر

وهكذا كان اجتماع سالزبورج اجتماعًا مثمرًا وبناء للغاية. فلم يقتصر فقط على جس النبض والتعارف، بل تخطى هذه المرحلة إلى مرحلة الالتقاء في وجهات نظر عديدة مما أضاف أبعادًا جديدة إلى العلاقات المصرية الأمريكية التي كان الفضل في عودتها إلى مجاريها الطبيعية يرجع إلى حرب أكتوبر والمساعى الحميدة والجهود المشكورة التي بذله الدكتور كيسنجر في فض الاشتباك الأول.

وفى اعتقادى أن أهم شيء خرجنا به من اجتماع سالزبورج - وهذا ما قلته لحسنى مبارك وإسماعيل فهمى - تلك الصداقة التي ترعرعت بيننا وبين فورد: حتى لو لم يتم شيء بخصوص النقاط التي نوقشت. فمجرد الاحتفاظ بأمريكا إلى جانبنا مكسب كبير في حد ذاته. ولذلك نبهت الرئيس الأمريكي إلى هذا وأعربت له عن إصرارى على الاختيار الأول الذى يحمل في طياته التصور الشامل والحل الكامل لمشكلة الشرق الأوسط من جانب أمريكا. وخاصة أن وقوف أمريكا إلى جانب الحق العربى في جنيف سيغير الوضع كلية بما يتيح للمشكلة أن تتحرك في طريق الحل أخيرًا. أما إذا نجحت إسرائيل في أن تجعل أمريكا تنحاز كلية إلى جانبها فمعنى ذلك أن المشكلة ستتجمد إلى ما لا نهاية. هذا إذا لم تتعقد أكثر وتصبح مستعصية على الحل بحيث لا تجرؤ أية قوة في العالم على الاقتراب منها.


المزايدون العرب

ومنذ فض الاشتباك الأول مع أمريكا قررت التعامل مع الأصل وليس مع الفرع. فأمريكا تملك مفتاح الموقف كله، أما إسرائيل فكلها متاهات جانبية وطرق مسدودة. ولكن بعض العرب يزايد عن خبث وسوء نية، والبعض الآخر يتصرف بناء على انفعال أهوج، وضيق أفق، وعدم استيعاب لمتغيرات العصر. ولذلك لا يفهمون معنى إصرارى على التعاون مع أمريكا فهى تملك مفتاح الموقف كله وفى يدها كل أوراق اللعبة أو القضية في الشرق الأوسط سواء شئنا أو لم نشأ، رضينا أو لم نرض. فإذا فشلت الخطوة خطوة يمكننا الذهاب إلى جنيف دون شك أو تخوف من الموقف الأمريكي. وبذلك نمنع الاستقطاب وحالة الركود الناتجة عنه عندما تنحاز أمريكا تمامًا إلى جانب إسرائيل، ويقف الاتحاد السوفيتى إلى جانب العرب بأسلوبه المعروف.

ومن هنا كان حرصى على أن تظل أمريكا محايدة إلى الحد الذى تسمح به الأوضاع الأمريكية بيننا وبين إسرائيل في حالة إذا لم نجعلها إلى جانبنا. فالنظرة الأمريكية عندما تكون موضوعية وغير منحازة انحيازًا أعمى كما كان الحال في سنة 1967 وما قبلها وما بعدها مكسب كبير في حد ذاته وفى أية مرحلة من المراحل سواء نجح كيسنجر في سياسة الخطوة خطوة أم فشل، سواء نجح في مؤتمر جنيف أم فشل. فلابد وأن نواجه مشكلتنا ونحلها طالما أن الله عز وجل قد منحنا العقل الذى نفكر به، والإرادة التي نستمر بها، والقرار المستقل الذى يمكن أن نصدره دون خوف من أحد. فنحن نعرف صالحنا والقرار الذى يمكن أن يصدر عنه.

وأمريكا تعلم جيدًا أننا خرجنا نهائيًا من المأزق الذى وقعنا فيه منذ عام 1967. وبعد أكتوبر 1973 صدرنا المأزق بالكامل إلى إسرائيل التي أصبحت تواجه بمأزق جديد في كل خطوة تخطوها. وأصبح الانسحاب ضرورة حتمية لا مفر منها بالنسبة لها. وسواء رفضت سياسة الخطوة خطوة كما أحرجت أمريكا في مارس 1975، أو رفضت مؤتمر جنيف، فكل هذا الرفض تأكيد للمأزق الذى عجزت عن الخروج منه.


الأعصاب الهادئة

أما أنا فأعصابى هادئة تمامًا، وتفكيرى بعيد كل البُعد عن الانفعال والتشنج، وتصرفاتى محسوبة ومدروسة، وقراراتى حرة وملك يدى بالكامل، ولك خطوة جديدة في المستقبل هي لصالح وطنى طالما أننا نملك اليقظة الكاملة لكل مناورات إسرائيل وتلاعبها.

وهذا - للأسف - ما لا يدركه المزايدون العرب، أو ما لا يريدون إدراكه. ومع ذلك فإنه لا يصح إلا الصحيح. والدليل على ذلك أننى نجحت في كسب صداقة الرئيس الأمريكي علاوة على الأرض التي كسبناها داخل الشعب الأمريكي لدرجة أنه عندما تسببت إسرائيل في فشل مهمة كيسنجر، أجرى استفتاء لقياس الرأي العام الأمريكي. وكانت نتيجة الاستفتاء أن 50% من الرأي العام الأمريكي يعرف أبعاد موقفى تمامًا. مع أنه كان من المفروض أن يحدث العكس نظرًا لسيطرة الصهيونية على وسائل قياس الرأي العام، وأجهزة الإعلام والدعاية(2). فيكفى أن تدرك أمريكا أن إسرائيل لا تعبأ بالوزن العالمى للسياسة الأمريكية في المنطقة، بل أنها تعمل على تشويه صورتها بوضعها في موقف الدولة العاجزة عن اتخاذ أي قرار حاسم. وهذا ما يثير حنق الولايات المتحدة وخاصة في مواجهة الاتحاد السوفيتى.


البيت الأبيض أخيرًا

هكذا أصبح البيت الأبيض بيتًا صديقًا لأول مرة منذ عشرين عامًا من العلاقات المتوترة والمتدهورة والمقطوعة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية.

ولم يكن الطريق إلى البيت الأبيض محاطًا بالورود، بل كان مُلغمًا بالأشواك والمتفجرات. وللحقيقة والتاريخ فقد أثبت البيت الأبيض نيته الطيبة من خلال مساعيه الحميدة وجهوده المشكورة لنزع الأشواك والمتفجرات. وكان عند كلمته دائمًا احترامًا لمكانته العالمية. وكان من الطبيعى أن تقابل هذه الروح الطيبة والمساعى الحميدة والجهود المشكورة بكل ترحاب من جانبنا.

وبذلك أصبح الطريق إلى البيت الأبيض طريقًا مأمونًا بعد أن طهره الجانبان: المصرى والأمريكى من كل قطاع الطرق الذين أغرمت إسرائيل بإرسالهم من حين لآخر، وبثهم على جانبي الطريق حتى يقضوا على كل احتمالات اللقاء بين جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة الأمريكية.

ولقد كان أول اتصال لى كما قلت بالرئيس الأمريكي بعد انتخابى رئيسًا لمصر أقول كان أول اتصال لى مع البيت الأبيض يوم 24 ديسمبر 1970(3) أي بعد ولايتى بشهرين وقلت يومها في رسالتى للرئيس نيكسون ضمن ما قلت في رسالتى أن لكل فعل منكم رد فعل منا فإن كان خيرًا خطونا نحوكم بالخير. وأنا كان سيئًا رددنا عليه بمثله.

ولقد خطا البيت الأبيض خطوته بالخير بعد أكتوبر المجيد.. وسيكون ردنا بالزيارة للبيت الأبيض وكلنا ثقة بأنفسنا بخطوة أكثر خيرًا..

هذه هي مصر العربية الخالدة.. أصالة وصلابة وإيمان.


* تم ما سُمِح بنشره من المذكرات *

------------

هوامش:

(1) السادات كان يعلم بأن هناك نفوذ صهيونى على الدوائر الانتخابية في أمريكا.. ومع ذلك كان يعتقد بأنه يمكن من خلال التنازلات التي قدمها لأمريكا أن يكسب صداقة أمريكا.. وأن تعامله كمعاملتها بإسرائيل.

(2) يؤكد السادات من قبل على سيطرة النفوذ الصهيوني على الدوائر الانتخابية الأمريكية.. وهنا يؤكد على سيطرتهم على وسائل الإعلام.. ورغم ذلك كان مُصرًا على أنه يمكن أن يكون صديقًا لأمريكا من خلال تقديم التنازلات.

(3) الخميس 24 ديسمبر 1970م - 26 شوال 1390هـ







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.