عبقرية مصر تجسدت فى مشروعه الثقافى
لماذا خاصم جمال حمدان أحمد بهاء الدين؟يجيب عنه: د. خالد منتصر
نصف الدنيا العدد 586 الأحد 6 مايو 2001م - 12 صفر 1422هـ
جمال حمدان.. الراهب
"أبريل أقسى الشهور" هكذا بدأ الشاعر ت. س. إليوت قصيدته الشهيرة "الأرض الخراب"، وهكذا أيضا رسم لنا هذا الشهر العاصف الكئيب أكثر الصور قسوة وعبثية، فقد رحل عنا فيه أهم عشاق مصر المحروسة والذى كتب فيها أطول قصيدة حب فى التاريخ، قصيدة من 3552 صفحة، تغنى فيها بجمال وتاريخ وعبقرية تلك المعشوقة التى ذاب فى غرامها وترهبن فى محراب حبها واكتوى أيضا بنار هجرها وصدها وجفوتها، فجمال حمدان هو العاشق الوحيد فى هذا الكون الذى أحب وظل على العهد، ولم يتسلل إلى قلبه أبدا مشاعر كراهية أو ندم أو حتى عتاب لهذه المحبوبة والتى للأسف لم تبادله نفس الحب، بل أنها فى معظم الأحيان قابلت حبه بالغدر وعشقه بالتمنع واقترابه بالبعد وذوباه بالبرود وتبتله وولهه باللامبالاة والطناش!!
وفى هذا الشهر من عام 1993 قرأنا خبر وفاة جمال حمدان فى ركن منزو من إحدى الجرائد "انفجار أنبوبة بوتاجاز فى دكتور جغرافيا"، كان الخبر مليئا بالأخطاء المطبعية والعلمية أيضا، وبدون صورة فوتوغرافية واحدة، والسبب فى منتهى البساطة فقد كان المحرر لا يعرف من هو جمال حمدان وكان الأرشيف الصحفى لا يحتفظ إلا بصورة المهيمن "الفى. آى. بى" ذوى الحيثية من رجال البلد وبالطبع لم يكن الدكتور جمال حمدان من ضمن هؤلاء المهمين، وبالطبع لم يلتفت التلفزيون لخبر وفاته بينما أذاع خبرا عاجلا عن مشكلة الملعب المحايد الذى سيلعب عليه الإسماعيلى والأهلى مباراة نهائى الدورى!!، وفى نفس يوم وفاته كانت نادية الجندى تستعد لفيلمها الجديد، ووزارة الصحة تعلن عن نجاح حملتها على تجار الفسيخ، والحكومة تعلن عن نجاح خطتها فى الخصخصة، وإسرائيل تبدى ارتياحا لمسيرة السلام، ومسئولو الجمارك يرفعون الحظر عن الكافيار والسيجار الكوبى، ووزير التربية والتعليم يدلى بتصريحات عن استعدادات الوزارة لامتحانات نهاية العام، وماسبيرو على قد وساق استعدادا لليالى التلفزيون، والمفكرون يبحثون تأثير الفيديو كليب على الشباب، والمثقفون من فئة تجار الشنطة يحزمون حقائبهم على مهرجان خليجى ثمين، والضرائب تتصالح مع الراقصة فلانة التى دفعت مليون جنيه، والمودعون فى الريان وفلاحو العراق مازالوا فى رحلة البحث عن فلوسهم الضائعة، وبواب العمارة رقم 25 شارع أمين الرافعى بالدقى يقتحم شقة جمال حمدان فيجده ملقى على أرضية المطبخ وقد تفحم نصفه الأسفل تماماً!!
إنها أنبوبة بوتاجاز قضت فى ثوان على مشروع ذلك الراهب العملاق، والذى اعتزل الناس ولكنه لم يعتزل الحياة، فقد كان يؤمن بمقولة سارتر "الجحيم هم الآخرون" فاختار العزلة فى بيته المتواضع، حيث الدولاب المتهالك والسرير السفرى والترابيزة المختفية تحت ركام الكتب وبوتوجاز المصانع الحربية والراديو الترانزستور وسيلته الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجى فقد كان رافضا للتليفون والتلفزيون.
كانت هذه مفردات المعيشية أما مفرداته الفكرية فقد كانت باتساع العالم كله، ونستعير هنا لغة الجغرافيا التى علمنا جمال حمدان عشقها المزمن، فهو إنسان بلا حدود جغرافية واضحة، فيه من صفات الوادى مداه اللانهائى وفيه من الغابة أحراشها المتشابكة المعقدة، فيه من النيل فيضانه وفيه من الجمل شممه وإباؤه، ويحنو كما يحنو النيل على أبنائه بالخير ويثور أيضا كما يثور النيل حافرا مجراه نحو الغابة والمصب، وجهه الجرانيتى لا تستطيع أن تخطئ مصريته بلونه الأسمر المتشرب بطمى النيل وأنفه البارز وعينيه المكحلتين وشعره المجعد ووجنتيه المتحديتين وكأنهما نحتا بأزميل فنان فرعونى قديم، لم تستطع نظارته السميكة أن تخدعنا وتخفى هذه الملامح المصرية بل على العكس فهى وضعتها فى البرواز فبدت وكأنها ملامح فلاح مصر الفصيح الذى صناعته الخلود وقدره أن يظل بطل مظلوما إلى الأبد.
وقصة ظلم د. جمال حمدان بدأت منذ أن تفتحت زهور عبقريته وحصل على الدكتوراه من بريطانيا فى سن صغيرة جدا فى الخامسة والعشرين وكان موضوعها عن سكان وسط الدلتا، أما جائزة الدولة التشجيعية فقد حصل عليها سنة 1959 وهو فى الواحدة والثلاثين فقط، وفى الخامسة والثلاثين ترك الفارس جواده الجامح الذى كان يعتز به ونزل ليترجل دروب الحياة القاسية، استقال من الجامعة احتجاجا على الظلم، فها هو زميله الذى حصل على الليسانس بدرجة مقبول ليعمل بعدها رساما للخرائط فى القسم ومساعدا للأساتذة فى إعداد كتبهم يتساوى معه ويحصل على الأستاذية، ويترقى أحد المحظوظين وتكون أوراق اعتماده الوحيدة أنه من أصحاب الحظوة والمرضى عنهم، مجرد واحد من حارقى البخور حول الكرسى، ولكن هذا الواحد نافس جمال حمدان الذى أبى ضميره أن ينضم إلى القطيع الذى يبيع العلم لقاء السلطة، واستقال عام 1963 أخذا قراره بالانعزال أو بمعنى أصح الاعتصام احتجاجا على زمن ردئ يصعد فيه الأقزام سلم المجد والشهرة، ويمارس فيه الأفاقون ألاعيب الحواة ليحققوا أحلامهم، وينزوى العباقرة والعمالقة لأنهم لا يجيدون الطبل والزمر فى زمن الموالد الثقافية وحلقات الذكر الفكرية.
اعتصم جمال حمدان فى بيته المتواضع، والمدهش أن إحساس الثأر والانتقام لم يستغرقاه، بل على العكس حاول أن يبحث عن هوية مصر فظل عاكفا على تأليف موسوعته العبقرية "شخصية مصر" ويجدد فيها منذ 1967 حتى صدر المجلد الأول منها فى بداية الثمانينات، فأثبت أنه جامعة مستقلة بذاتها من الممكن أن يتخرج منها الآلاف من التلاميذ عبر قراءة هذا السفر والتزود من هذه الملحمة، وظل جمال حمدان معتصما فى هذا البيت رافضا الانخراط فى تفاهات الحياة، لا يفتح الباب لأحد إلا البواب وخاصة الأصدقاء الحميمين، منكبا على قصيدته العاشقة يكتبها بشرايينه قبل عقله وكأنه يسبق الزمن الذى كان متأكدا أنه لا يسعف العباقرة ولا يحنو عليهم، وبعد هذا الرحيل العبثى المفاجئ خرجت جنازته وبها ثلاثون شخصا فقط وكأنه نكرة وليس علما من المفروض أن يشار له بالبنان، واخترق التابوت الذى يحمل جثمانه الطاهر شوارع القاهرة التى ذاب فيها عشقا، وللأسف كانت هذه الشوارع تعرفه جيدا وتحفظ ملامحه أما البشر فقد كانوا يتهامسون وهم يشيرون للجثمان "جنازة مين دى؟؟!" وكذلك كسب جمال حمدان رهانه على ذاكرة جغرافية الأرض التى حفظت تضاريسه بينما خسر رهانه على ذاكرة البشر الذين نسوا اسمه.
وأصدقكم القول كانت الجغرافيا بالنسبة لى كما هى بالنسبة لكل الطلبة فى مصر مادة جافة عقيمة بل وسخيفة، كنت لا أعرف لماذا أدرسها وما هى جدوى معروفة هذه الخرائط الملونة الخرساء، وما الضر فى إلغائها من المقرر الدراسى حتى نتفرغ لما هو أهم؟!، كان هذا هو السائد عن علم الجغرافيا حتى خرج علينا جمال حمدان بملحمته عن شخصية مصر فأثبت لنا أن الجغرافيا هى كائن من لحم ودم، يتنفس ويثور ويغضب، نعرف منها تضاريس الروح وليس تضاريس الأرض، ونشم رائحة البشر لا رائحة حبر الخرائط، ونلمس فيها ملامح الحياة لأموات الحفريات، ونسمع منها موسيقى الكون المنطلق لا صمت السكون الأخرس، فقد خلع جمال حمدان فى هذا الكتاب ثوب الأكاديمى المتخصص وارتدى عباءة الفيلسوف وجلباب الفلاح وأفرول العامل، وقلل من جفاف الإحصائيات لصالح اللغة الأدبية لدرجة يحس معها القارئ فى بعض الأحيان أنه يقرأ شعرا أو يشاهد لوحة، وهذا ليس بمستغرب على هذا العبقرى الذى كان يجيد الغناء الشرقى والأوبرالى ويمارس الرسم والخط ويصر على تصميم أغلفة كتبه بنفسه، والمدهش أن جمال حمدان ذلك الرجل الذى كان يحمل ملامح صارمة وشخصية تفتقد اللباقة الاجتماعية وسلوكا كحد السيف، هذا الرجل كان فى غاية الرومانسية ويحكى أصدقاؤه المقربون عن تلك الفتاة الشقراء التى أحبها أثناء البعثة، وانتهى هذا الحب بالفشل لأسباب غامضة، ولكنه ظل مخلصا لها طيلة حياته محتفظا بصورتها التى لم تلتهمها نار أنبوبة البوتوجاز وكأنها أرادت أن تصالحه فتركت له صورتها بعيدة عن ألسنة اللهب.
لا أستطيع منادة جمال حمدان يلقب الجغرافى فهذا يقلل من حجمه وقامته الأسطورية ويحبسه فى إطار أكاديمى متخصص ضيق، ولكنى أناديه بالفيلسوف الذى استطاع صياغة الجغرافيا وتكثيفها وتقطيرها فى قارورة عطر خاصة جدا يفوح عطرها إلى الأبد، ألقاها فى حجر وحضن الوطن ليتعطر بها عند اللزوم ويتذكر هويته أثناء المواجهات المصيرية، وبرغم أنه كتب فى مواضيع كثيرة قبل هذا الكتاب مثل كتبه عن الثورة وعن البترول وعن اليهود وحرب أكتوبر والاستعمار، إلا أن كتابه "شخصية مصر" هو درة هذا العقد الفريد وملخص مشروعه الفكرى كله وبصمته المميزة التى لن تتكرر، وظروف كتابة هذه المجلدات الأربعة هى التى جعلته بحثا فى الهوية وليس بحثا فى الجغرافيا، فقد صدر ملخصه الأول عن دار الهلال إبان هزيمة 1967 والتى شرخت الجميع وكسرت أرواحهم إلى شظايا تحتاج إلى عملية تجبير أسطورية شبه مستحيلة، وتصدى جمال حمدان لهذه المهمة الصعبة، وكما كانت العزلة دافعا لاستكمال هذا الإنجاز بعد الهزيمة، كانت أيضا حاجزا وسببا لتشوش الرؤية قبلها، فقد كان الراهب جمال حمدان فى صومعته لا يدرك كم تغيرت الأمور فى الخارج وكم نخر السوس فى المؤسسة العسكرية ولذلك كتب بتفاؤل مفرط قبل هزيمة 1967 بشهور قليلة فى جريدة الأهرام ثلاث مقالات، وتحدث عن كيفية مواجهة إسرائيل وتصفيتها مستهينا فيها بقوة إسرائيل العسكرية ومضخما من قواتنا المسلحة التى تستطيع فصل الجزء الشمالى عن الجزء الجنوبى من إسرائيل، وكان فى هذه المقالات يكتب بروح الفنان عما يتمناه ويأمل فيه ويحلق بخياله بعيدا عن أرض الواقع الذى للأسف كان بعيدا عنه آنذاك فلم يعرف أن قواتنا المسلحة فى هذه الأحيان كانت غارقة فى مشاكل جانبية أبعدتها عن مهمتها الأساسية، ولذلك كانت صدمة جمال حمدان فى منتهى العنف حين استيقظ على هزيمة 1967 فوجد جيشنا يتقهقر فى صحراء سيناء بعضه يموت من العطش وبعضه فى دروبها الثعبانية، والبعض الآخر يسقط فى أيدى الجنود الإسرائيليين أو فى أيدى الإحباط والانكسار، وزادت عزلة الراهب، وراح جمال يلملم أوراقه ويعيد ترتيبها ويتساءل هل تمتلك مصر بالفعل مقومات النصر؟ وهل فى مقدور الإنسان المصرى أن يكسر دائرة الإحباط الجهنمية ليبعث من جديد مقاتلا شرسا قادرا على كسب معركة المصير؟ وجاءت الإجابة بنعم وأتى نصر أكتوبر ليؤكد صدق حدسه وجدوى بحثه، ليتشجع ويكتب كتابه التالى عن نصر أكتوبر وأهميته الاستراتيجية.
وظل جمال حمدان عاكفا طوال هذه الفترة على بحثه يواصل الليل بالنهار لدرجة أنه كان يصل فى بعض الأحيان إلى 18 ساعة يوميا من العمل المتواصل، والمدهش أنه كتب قصيدة العشق الملحمية هذه وهو محروم من المعاش الذى حرم منه بسبب الروتين الغبى الذى تسمح لوائحه بالمعاش لمن قضى عشر سنوات فأكثر فى الجامعة، وكان المذكور أعلاه بلغة أوراق شئون العاملين لم يقض هذه المدة المذكورة أعلاه أيضا!! والأكثر إدهاشا أن جمال حمدان خاصم أحمد بهاء الدين حى طالب الدولة بمعاش استثنائى له، وكأنه كان مصرا أن يستكمل ملحمته من لحمه الحى ويقتات بالكفاف حتى لا يضطر أن يكتب غير ما يقتنع به إرضاء لسلطة ما أو تملقا لجهة مهما كانت هذه الجهة، وكما تمرد على نظام المؤسسة تمرد أيضا على نظان التدجين الثقافى ورفض التعيين وقتها فى أى جهة صحفية أو مجالس تابعة لوزارة الثقافة حتى لا يضطر إلى أن يصبح دجاجة ضعيفة الذاكرة تبيض بالأمر لتفقس بعدها كتاكيت النفاق والمجاملة لمن يمنحه المرتب الشهرى، فقرر أن يصبح موظفا فى مؤسسة اسمها مؤسسة جمال حمدان للإبداع!!
وكان اكتشافه الأول هو اكتشافه لمعادلة قوة مصر فى الموضع Site والموقع وبينهما فرق كبير فالموضع Situation الذى هو خصائص وبيئة وموارد داخلية لا يتناسب ولا يتكافأ مع خطورة الموقع، وحين يزدهر الموضع تتم حماية الموقع وهذا مدخل لتفسير تاريخ مصر عبر القرون المتتالية، وتحدث حمدان عن تجانس مصر ووحدتها والتى أدت بالتالى إلى مركزيتها، وكانت هذه المركزية هى سر أمراض مصر المزمنة.
ولكن هل أدى هذا التوحد وهذا التجانس لانكفاء مصر على ذاتها؟ يجيب د. جمال حمدان على هذا السؤال بالنفى ويقول أن مصر محكوم عليها بالعروبة والزعامة أيضا ولنقرأ ماذا قال فى هذه النقطة "مصر بالحجم والموقع هى الرأس والقلب وضابط الإيقاع، إنها فى العالم العربى كالقاهرة فى مصر نفسها، أن العرب أكثر منها ابنتهم، إنها مرآة العالم العربى لا ظله، ومرآة مكبرة بالتحديد، فيها يستطيع أن يرى مستقبله".
ولا أستطيع وأنا أقرأ هذا التحليل المبهر وهذه النظرة الثاقبة أن أقول أن جمال حمدان كان يعيش فى برج عاجى، بل الأصح أن أقول إنه كان يعيش فى مرصد يراقب منه مصر بنظرة طائر محمى من الانغماس فى نظرة الزووم لتفاصيل الحياة التى من الممكن أن تحيد بنظرته عن الهدف الأساسى، فلنقل أنه قد حول هذا البيت المتواضع إلى معمل تحاليل لأنسجة ودماء ووظائف وشخصية هذا الوطن ولحسن الحظ كانت هذه التحاليل من الدقة والموسوعية بحيث تعدت تقاريرها الثلاثة آلاف تقرير وهو عدد صفحات كتاب شخصية مصر، وكانت أهم توصيات هذه التقارير هى ألا نجعل سيناء تضيع منا فمن يسيطر على سيناء يسيطر على مصر، وإذا كان حمدان قد اهتم بالصحراء فى كلامه عن سيناء فهو لم ينس القرية المصرية التى قال عنها "القرية المصرية وصمة فى جبين مصر، وهى التحدى الحقيقى فى مصر، ولن تتغير مصر، وتتطور جذريا إلا إذا تم هز الريف المصرى بجسمه الثقيل ولن يتغير وجه مصر تحت الجلد ما لم تتغير القرية المصرية حتى النخاع، ولن تصبح مصر دولة متقدمة لا نامية إلا يوم تهدم آخر قرية باللبن".
ومن جغرافيا الأرض إلى جغرافيا البشر، وتحويل جمال حمدان علم الجغرافيا إلى عجينة من رائحة الناس وسلوكياتهم، ننتقل معه إلى الحديث عن الشخصية المصرية وسماتها وسلبياتها، وكالطبيب الجراح الماهر يضع يده على مكان الورم الخبيث فى جسد هذه الشخصية ويقول "إن معظم سلبيات وعيوب الشخصية المصرية إنما يعود أساسا إلى القهر السياسى الذى تعرضت له بشاعة وشناعة طوال التاريخ، هذه ولا سواها نقطة الابتداء والانتهاء مثلما هى نقطة الاتفاق والالتقاء، السلطة، الحكم، النظام، الطغيان، الاستبداد الديكتاتورية، البطش، التعذيب، التنكيل، الإرهاب، الترويع، التخويف، تلك هى الآفة الأم، وأم المأساة، ومن هنا يجمع الكل على أن النغمة الأساسية أو اللحن الخفى المستمر وراء الشخصية المصرية فى علاقتها بالسلطة، ومفتاح هذه العلاقة التعسة هو العداء المتبادل، والريبة المتبادلة، هى الحب المفقود، والبغض الموجود بلا حدود "ثم يهاجم ما يسمى بسماحة المجتمع التى تسمح للرجل المتوسط فقط بأن يصل وتضيق بالرجل الممتاز ويصبح شعارها هو "شرط النجاح فى مصر أن تكون اتباعيا لا ابتداعيا".
ولجمال حمدان أسلوب أدبى يقترح من روح الشعر، ومقولات هى أقرب للحكم والأمثال منها إلى النثر والكتابة الأكاديمية، ويصك حمدان تعبيرات أؤكد أنها ستجرى مجرى أبيات الشعر المحفوظة للمتنبى وشوقى وغيرهم من فطاحل الشعراء، وهذه التعبيرات المصكوكة صنعت فى معمل جمال حمدان الخاص ومختومة بخاتمه السرى، ولنقرأ تلك التعبيرات لنرى صدق هذه المقولة، يقول جمال حمدان "مصر فى النهاية ليست شعبا له حكومة بقدر ما هى حكومة لها شعب".. "كانت مصر الطبيعية حديقة لا غابة، وكانت على العكس بشريا غابة لا حديقة، وإن كانت زراعيا مزورعة لا مرعى، فقد كانت سياسيا مرعى لا مزرعة".. "الديمقراطية لا تمنح بل تنتزع".. "مصر سيدة الوسط الذهبى".. مصر كانت تمصر كل جديد، تهضمه وتمثله وتفرزه كائنا مصريا جديدا.. إلخ.
إنه متفرد حتى فى صياغته اللغوية، كان هذا المتفرد جمال حمدان ضحية تفرده وتمسكه بعملة منقرضة لفظها هذا الزمان اسمها الكرامة، ظل محتفظا بها فى صومعته كأهل الكهف ولكنه للأسف لم يخرج مثلهم ليعرف أن هذه العملة قد اندثرت فى هذا الزمان، ولذلك خرج من كهفه محروقا بنار اللامبالاة قبل أن يحرق بنار أنبوبة البوتاجاز!!