الاثنين، 10 مارس 2025

عفوًا.. الفقيه وعصره

 عفوًا

الفقيـــه وعـصـره

بقلم: عبد الله إمام

الجمهورية الخميس 2 أغسطس 2001م - 12 جمادى الأولى 1422هـ


الفقيه ابن عصره.. ومن الصعب أن ننتظر من الفقيه ان يجتهد ليصل برؤيته الى قرون قادمة فيعالج قضاياها ويتعرض لمشاكلها واذا وقعت مصادفة اجتهادية متقدمة من هذا النوع فإنها تحسب لصاحبها وتظل تذكر له حتى ولم يكن لديه إلمام تام بكل أبعاد وتفاصيل القضية المستقبلية التي يعالجها..


ونحن نرى اليوم تفسيرات تتعرض كانت مجهولة من قبل ان يتوصل إليها العلم الحديث وكان خيالا أن ترد على أذهاننا على نحو ما نناقشها به الآن فالنظريات العلمية التى يحاول البعض ان يعتمدوا عليها في شرحهم للنصوص الدينية الكريمة قرآنا أو حديثا شريفًا لم تكن قد ظهرت بعد.

وهكذا ظهر لأول مرة الذين يطلقون على أنفسهم أنهم مفسرون علميون وأنهم يسعون لإيجاد علاقة بين النص الدينى وبين ما أسفر عنه العلم الحديث من مكتشفات وهناك فئة أخرى ترى عدم جواز إخضاع النصوص الدينية الثابتة والمنزلة من عند الله سبحانه وتعالى لقواعد حديثة تحدث عنها البشر وهي بالتأكيد عرضة للتغيير والتبديل على ضوء ظهور حقائق أخرى أو مكتشفات علمية جديدة..

والحقيقة أن كثيرين من ائمة وأعلام الفقه القدامى قد سبقوا عصورهم وافترضوا قضايا مستحيلة أو أنها كانت بعيدة عن التصور في ذلك الوقت ووضعوها للنقاش والجدل النظرى واجتهدوا بآرائهم حولها.. وقد أثبت الزمن بعد نظرهم إذ إن بعض ما تعرضوا له منذ قرون أصبح واقعًا نعيشه ونطلب الفتوى حوله.

وفقهاء آخرون تغير بهم الزمان والمكان فتغيرت بهم الفتوى فنجد انهم ومنذ قرون قد تعرضوا لظروف المجتمع والحياة التي عاشوها فأفتوا في بلد غير ما أفتوا به فى البلد الآخر وبعضهم قال صراحة انه لو كان في مكان غير المكان وفي بلد غير البلد وفى زمان غير الزمان لتغيرت فتاواهم.. فالفتوى اذن هي ابنة الظروف والحياة والمناخ ولا تنفصل عنها وإلا تكون مجرد رؤية غير صالحة للاستخدام لأنها لا تمس حياة الناس.. وما يؤثر في حياة البشر في بلد معين قد لا يحدث نفس الشيء في بلد آخر. كما ان كل أمور الحياة مع تجددها يمكن أن نتلمس حولها رأيا دينيا عن طريق النصوص أو القياس أو إجماع العلماء أو حتى الاجتهاد الفردى بشرط أن يكون المجتهد ممسكًا بزمام الشروط عالمًا فقيهًا بعيدًا عن الغرض والهوى..

فالدولة التي تغزوها القوات الأجنبية وتحتلها وتتحكم في أهلها وتضطدهم وتسومهم سوء العذاب تكون مهمة الفقيه فيها ومهمة عالم الدين بها استنهاض الهمم والتعبئة ضد الأجنبى المحتل واعلان القتال والمقاومة والحرب ضده حتى تتحرر البلاد وهو غير البلد المستقل الذى لا يخضع لاحتلال ويواجه ظروف التنمية حيث يكون للجهاد معنى آخر غير استخدام السلام الذي كان يستخدم ضد أعداء الوطن والدين..

ولقد كانت خطيئة الجماعات التي ادعت الانتساب للإسلام ووصفت نفسها بأنها جهادية انها لم تفرق بين مجتمع وآخر وبين أنواع مختلفة من الجهاد فرضها الإسلام بدءًا من الجهاد الاصغر بالسلاح حتى الجهاد الأكبر ضد النفس وفقًا لحديث رسول الله عقب إحدى الغزوات بعد ان استقر دين الله بأنه قد انتهت معركة الجهاد الأصغر وهي الانتصار على الكفار إلى معركة الجهاد الأكبر وهى البناء والاستقرار والانتصار على النفس الأمارة بالسوء..

من أجل ذلك استوردوا الفتاوى التي صدرت من بعض العلماء والفقهاء في ظروف خاصة بمجتمعاتهم فى أوقات معينة وحاولوا تعميمها ويكشف سوء النية عندهم أن هؤلاء الفقهاء أنفسهم قد غيروا بعض آرائهم وتراجعوا عن فتاواهم عندما زالت الأسباب التي دعتهم الى إصدارها وظلت هذه التيارات متمسكة بتلك الآراء التي أعلن اصحابها أنفسهم أنهم كانوا مخطئين فيها.

ولم يكن ذلك عن جهل.. ولكنه تعمد واضح من الذين دفعوهم إلى تبنى هذه الآراء وأغلبها مدسوس على.. الإسلام وأمتنا العربية على امتداد تاريخها العريق والطويل كان فيها دائمًا وفى كل عصر علماء أفاضل ومجتهدون كبار ولم يخل بلد عربي واحد فى أى زمن من مثل هؤلاء الفقهاء الذين قدرناهم وحفظنا لهم قيمتهم.. والمسلم العادى العارف بأمور دينه والذي يواظب على الفرائض ويسمع الدروس الدينية ويسأل ويقرأ يُصاب بالدهشة البالغة عند سماعه الآراء التي تطرحها هذه الجماعات لأنه لم يسبق ان سمع بها من قبل على كثرة ما سمع من اجتهادات ومن إجابات على تساؤلاته من العلماء.. وهذه الآراء الغريبة على المجتمعات العربية الوافدة عليها هى في حقيقتها فتاوى سياسية يدور البحث لها عن غطاء لإخفاء المطامع السياسية وإلباسها رداء دينيًا.

وأسوأ ما في الدينا وما سيعاقب الله عليه فى الأخرة استخدام الدين لغير ما شرع له والعبث بالنصوص الإسلامية المقدسة لخدمة أغراض دنيوية وأهداف ذاتية بحتة سواء كانت هذه الأهداف سياسية أو اقتصادية. فينبغي أن تظل للدين قداسته وجلاله وأن نحافظ على نقائه فنبعده عن الألاعيب السياسية وأيضًا نرفض توظيفه فى الأعمال التجارية التي تسعى للربح على نحو ما يقوم به الذين يحاولون التربح بالتمسح بالإسلام بإطلاق اسمه أو مصطلحاته على أعمالهم التجارية خاصة إذا شاب التعامل سلوكيات غير إسلامية من كذب وغش وغيرها..

وهكذا استغل المخططون والمدفوعون وأصحاب المصالح الخاصة والنوايا السيئة براءة الشباب ونقاءه ووضعوا هذه الآراء الغريبة ودفعوهم لاعتناق مذاهب شاعت فى ظروف مختلفة وآراء جاءت في كتب وافدة مكتوبة لغير العرب وبغير لغتهم وقاموا بعملية نشر واسعة وبحركة نشيطة ربما تكون مغرضة لترجمة هذه الكتب وطرحوا ما جاء فيها من أفكار وروجوها على أنها هي الإسلام.

ولا يصدق ملايين المسلمين أن هناك من يطعنهم في دينهم ويعتبرهم كفارا يعيشون فى جاهلية وكأنه لم تصلهم الدعوة الإسلامية.

وقد استغرب المصريون خلال سنوات الستينات عندما سمعوا أن مُفكرًا إسلاميًا كبيرًا يقول انهم يعيشون في جاهلية كالتى عاش فيها الناس قبل ظهور الإسلام ويساويهم بعبدة الاصنام.

وقد يزول العجب إذا عرفنا أن تكفير المجتمع وجاهليته لم تكن من بنات أفکار سيد قطب ولا من إلهاماته ولا هى جاءت نتيجة لدراسات فقهية متعمقة قام بها رحمه الله وغفر له ما تقدم من ذنبه فإن هذا الفكر الذي روع المصريين وكان منهاجًا ودستورًا لتنظيم جديد للإخوان وضع على أساسه خططًا للاغتيال وللقتل وإغراق البلاد في بحور من الدماء ومن الماء وإظلامها ونسف منشآتها الأساسية باعتبار أن ذلك يغير المجتمع كطريق لإقامة المجتمع الاسلامى الذى ليس جاهليًا ولا كافرًا من وجهة نظرهم.

إن ما يروجونه هو بالتأكيد أفكار معادية للإسلام تظهره على غير طبيعته وتشوه حقائقه وتبدد أبرز الأسس التي يقوم عليها وهى ما اتبعته - بعد ذلك هذه الجماعات التي نشأت تحت خيمة تنظيم الإخوان المسلمين وحاولت أن تحتكر الإسلام لصالحهم ولصالح أجهزتها السرية والعلنية وتسخره لخدمة دعوتهم فى الاستيلاء على السلطة تحقيقًا لأطماع الذين يتقاتلون من قادتها.


صورة المقال:



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.