رفعت.. العلم يا «عبد الحكم»
(2)
صلاح عيسى
يروى قصة الشباب سنة 1935 «2»
القاهرة الثلاثاء 22 فبراير 2011م - 19 ربيع الأول 1432هـ
5
بعد أيام قليلة من تأليف وزارة «عبد الفتاح يحيي»، غادر «محمد عبد الحكم الجراحي»، مصر - في أكتوبر (تشرين الثاني) 1933 - إلي فرنسا، ليدرس الطب بجامعة «ليون».لم يكن قد أكمل عامه التاسع عشر - فقد ولد في 31 ديسمبر (كانون الأول) 1914- أمضي منها عاما واحدا في مدرسة (كلية) التجارة العليا، قضاه في قرض الشعر، وقراءة كتب الأدب، ليكتشف قرب نهاية العام الدراسي، أنه لا يحب العلوم التجارية، ولا يريد دراستها، قرر في نهايتها العودة إلي مشروعه الأول، وهو الرحيل إلي فرنسا لاستكمال دراسته الجامعية بها.
كانت ظروف حياته، قد صنعت منه شابا، بالغ الحساسية، كثير القلق، مشبوب العاطفة، وانعكس هذا علي اختياره لنوع الدراسة التي يرغب فيها.
وكانت أمه سيدة حازمة، قوية الإرادة، تنتسب إلي أب تركي صارم.. بينما كان والده مصريا من أصول عربية، يفخر بالانتساب إلي الصحابي الجليل «أبوعبيدة بن الجراح»، ويتميز بمزاج فني، فهو يعشق الأدب، ويميل لقراءة الكتب، ويتذوق قراءة الشعر، ويغرم بالموسيقي، ويعزف علي العود، ويحيي في منزله، ليالي أنس وسرور.. تزوج وهو علي مشارف الخمسين، فأحب ولديه «عبد الحكم» و«علي» - الذي ولد في عام 1918 - وأغرم بهما، لكنه وجد نفسه مضطرا إلي تسليمهما إلي خالتهما، لكي تتولي تربيتهما مع أولادها، إذ ماتت أمهما فجأة، بعد ميلاد الابن الأصغر بقليل، وكان «عبد الحكم» آنذاك في الثالثة من عمره.
ولم يكد يمر عام علي وفاة الأم، حتي لحق بها الأب.
ولا بد أن يتمه المبكر، قد أثر علي شخصيته التي جمعت بين مزاج الأب الفني، وصرامة الأم، والواقع أنه لم يعان في طفولته حرمانا اقتصاديا يشغله عن الاحساس باليتم.. فقد كان الأب موظفا حكوميا مرموقا، ورث عن أبيه أنصبة في عقارات ومنازل من وقف «السلطان المؤيد»، كانت تدر علي الطفلين دخلا لا يقل عن تسعين جنيها شهريا.. فضلا عن تاريخ وظيفي للأب الراحل كفل لوريثيه معاشا لا بأس به، إذ توفي وهو رئيس لمخازن وزارة المعارف.
وكانت الأسرة نموذجا للأسر المصرية، التي يشغفها الاهتمام بالشئون العامة، ويحتل التعليم في نسق قيمها الاجتماعية، مكانة مرتفعة، فكان الأب طالبا بكلية الطب، حتي مات الجد، فترك الدراسة ليرعي ممتلكاته، ثم التحق بالكلية ذاتها موظفا، وظل يترقي في جهازها الإداري، إلي أن أصبح «باشكاتب» لها، قبل أن ينقل رئيسا لمخازن وزارة المعارف، وكان فضلا عن هذا من أصدقاء الزعيم «محمد فريد».
وبانتقال الطفلين للإقامة مع خالتهما، أصبحا تحت الرعاية المباشرة لابنها الأكبر «عباس حلمي زغلول»، وكان طالبا بمدرسة الحقوق، ممن ساهموا في ثورة 1919، ونشطوا في تنظيم الحركة الطلابية النشطة التي واكبتها، حتي اختير عضوا في اللجنة التنفيذية للطلاب، ورشح وهو طالب في الليسانس، لبعثة أرسلت إلي انجلترا، لدراسة الفنون الحربية، وعندما عاد بعد عامين ونصف العام، استكمل دراسته للقانون، وعين مدرسا بالمدرسة الحربية، غير أنه سرعان ما وجد نفسه محالا للتحقيق، بسبب كتاب ألفه عن جغرافية مصر العسكرية، وكيفية الدفاع عنها، فسعي لترك العمل بالكلية، والانتقال إلي النيابة العامة، أو العمل بالمحاماة، لولا أنه اختير ليكون ضابطا بالحرس الملكي، فانتقل للعمل به.
وكان «عبد الحكم»، في الرابعة من عمره، حين فكر خاله «محمد علي عثمان» في اصطحابه معه إلي فرنسا، حيث كان يستعد للحصول علي الدكتوراه في الطب من «جامعة ليون».. ولكن خالته عارضت لصغر سنه، وفي عام 1921 ألحق بمدرسة «الليسيه فرنسيه»، ليقضي بها عامين، انتقل بعدهما إلي إحدي المدارس الأميرية، فحصل منها علي الشهادة الابتدائية سنة 1927، ثم التحق بمدرسة «فؤاد الأول الثانوية»، حيث حصل علي شهادة البكالوريا - القسم العلمي - سنة 1932.
والظاهر أنه كان قد التحق بالقسم العلمي خضوعا لاستهواء المناخ العام في الأسرة، لكن مزاجه الأدبي كان غلابا، لذلك لم يكن طالبا متفوقا في دراسته الثانوية، لكنه لم يكن طالبا فاشلا. ومع أنه لم يرسب في أي سنة دراسية، وحصل علي الكفاءة والبكالوريا وعمره لم يبلغ ثمانية عشر سنة، إلا أن درجاته كانت تدور غالبا حول المتوسط.
وإبان دراسته الثانوية، كشف عن اهتمام مبكر بالعمل العام، في مجالات كانت جديدة آنذاك، هي مجالات الإصلاح الاجتماعي، فقد اشترك في «جمعية منع المسكرات والمخدرات»، وكانت تقوم بدور بارز في هذا المجال، و«جمعية المصري للمصري»، التي قام بها المفكر المعروف «سلامة موسي»، لتنشط في مجال الدعوة للاستقلال الاقتصادي لمصر، وكان عضوا ظاهرا في لجانها، كما شغفته الدعوة لإلغاء البغاء، واستهواه التطوع في «جمعية الرواد» وهي جمعية للخدمة الاجتماعية، كانت تنشط في مجال تعليم الفقراء وتنمية الخدمات في الأحياء الفقيرة، فضلا عن اهتمامه بالقراءة في الأدب، ومحاولاته لقرض الشعر.
ولعله لم يكتشف التناقض بين مزاجه الفني الرومانسي، وطبيعته المثالية التطهرية من جانب، واختيار القسم العلمي، إلا أنه بعد أن ظهرت نتيجة امتحان الشهادة الثانوية «البكالوريا»، فعلي عكس ما كان متوقعا سافر إلي الإسكندرية ليمضي إجازة الصيف، دون أن يهتم الاهتمام الواجب، بتقديم أوراقه لمدرسة الهندسة الملكية، وكانت النتيجة أن فاته موعد التقديم، فاقترح علي ابن خالته - وولي أمره - اليوزباشي «الرائد» «عباس حلمي زغلول»، أن يسافر إلي «ليون» ليدرس الطب، في الكلية التي درس بها خاله، وفي الفرع الذي كان والده قد بدأ دراسته، لكن ولي الأمر، اقنعه بأن يبقي في مصر، ويلتحق بمدرسة التجارة.
وهكذا ضاع العام الدراسي دون أن يفتح كتابا، فكان لابد من العودة إلي مشروع دراسة الطب في «ليون»، وكتب الخال رسالة إلي «مدام بروكيز» -التي قضي سنوات دراسته، في «البنسيون»، الذي كانت تديره - يطلب إليها تدبير أمر إقامته لديها، وغادر «عبد الحكم» مصر في أكتوبر 1933 إلي فرنسا.
***
في «ليون» اكتشف «عبد الحكم» ذاته، بشكل أكثر وضوحا عما قبل: فقد شعر بالاختناق، بسبب النظام الصارم الذي أرادت «مدام بروكيز» تطبيقه عليه، استجابة لطبيعتها المتزمتة من جانب، وتنفيذا لوصايا خاله من جانب آخر، فاستأذن ولي أمره، في ترك البنسيون والإقامة مع بعض زملائه، فإذن له.. وشعر بالاختناق من دراسة السنة التمهيدية التي كانت ستؤهله لدخول كلية الطب، فأهملها ليسيح في البلاد الأوروبية المجاورة، يقرأ ويعرف ويناقش، وحين لم يوفق في الامتحان، ترك «ليون» إلي «جرينوبل» ليحاول دراسة الأدب، الذي اكتشف أنه يميل إليه، ولكن العام الدراسي انتهي دون أن يحقق رغبته، وكان كل ما فعله هو أن كتب ديوان شعره الأول والأخير «الروح المسحور».وحسمت مقابلته للدكتور «طه حسين» - وكان آنذاك وكيلا لكلية الآداب بالجامعة المصرية - كل تردده، خاصة بعد أن علم أن التحاقه بالكلية ليس صعبا.. وهكذا كتب لليوزباشي، «عباس حلمي» رسالة يقول فيها «ساورني في المدة الأخيرة وسواس أقلق بالي.. وهو أن قلبك لم يكن راضيا عن سفري، وأن العقبات التي تقابلني تأتي من ذلك.. إنني أحن إلي أن أعيش بينكم.. وأتم دراستي في مصر، إذا كنت موافقا علي ذلك.. وياحبذا لو نظمت لي برنامجا يطفئ ظمأي من الدراسة الأدبية التي تشغل بالي باستمرار».
وعندما أرسل له ابن خاله، بموافقته كتب لأخيه الأصغر رسالة قال له فيها «لم أخلق لأكون طبيبا.. ولكن لأكون من هؤلاء الذين يمتلكهم الغرام بالأدب وتصوير الحياة ونقدها ووضع المثل العليا لها والنفخ في روحها، والشدو للرقي الإنساني وللمشاعر البشرية العليا».
وهي رسالة، وصلت إلي القاهرة في أول نوفمبر 1935، وبعد ثلاثة أيام من عودة «عبد الحكم» إليها.
6
وعندما تولي «توفيق نسيم» رئاسة الوزارة في 15 نوفمبر 1934، خلفا لوزارة «عبد الفتاح يحيي»، كان الجميع قد تعبوا، وكانوا في حاجة ماسة إلي هدنة لالتقاط الأنفاس، فخمس سنوات من الصدام المستمر ضد طاغية مثل «صدقي» تركت كثيرا من الندوب في الأجسام والأرواح والإرادات، وخاصة في جسد وروح حزب الوطنية المصرية التقليدي «الوفد المصري»، الذي نجح «إسماعيل صدقي» في إجهاد عناصره النشطة من أعيان الريف، ومتوسطي التجار في المدن، عندما شن عليهم حربا اقتصادية، استعان عليهم فيها بالأزمة الاقتصادية العالمية.ولأن «توفيق نسيم» كان من الوصوليين الأذكياء، فقد احتفظ بصلة طيبة مع «الوفد» لعلاقة صداقة كانت تربطه بزعيمه «سعد زغلول»، منذ كانا يعملان بالقضاء، ولذلك التزم الصمت حين وقع الخلاف الشهير بين «سعد» و«عدلي» وهو ماجعل «سعد زغلول» يختاره وزيراً في الوزارة الشعبية الأولي عام 1924 كما انه توقي ان يؤيد نظام «إسماعيل صدقي».. بل إنه رفض ان يتولي رئاسة مجلس الشيوخ في ظل هذا النظام، وهو ماغلب جانب التفاؤل به، علي جانب التشاؤم، فوجدت القوي والأحزاب الوطنية أنه من المفيد لها ان تنتظر وتترقب.. وتستعد..
وبدأت حكومة «توفيق نسيم» عهدها بخطوات تطمئن بها الجميع، فبعد أسبوعين فقط من توليها الحكم استصدرت مرسوما ملكياً بإلغاء «دستور صدقي».. وبحل مجلس الشيوخ والنواب القائمين علي أساسه، وكانت ترضية كبري للشعب، توج بها نضاله ضد حكم الطاغية.. لكن الفرحة لم تكن كاملة، لأن الأمر بإلغاء «دستور صدقي» لم يصحبه أمر بإعادة «دستور 1923» الملغي.. بل صحبه أمر من الملك بأن يتولي هو السلطة التشريعية وكل السلطات الأخري التي يختص بها البرلمان!
وفهم الناس ان هناك جهة ما تعارض في عودة دستور 1923.
وكانت المؤامرة التي ذهبت بدستور الأمة، شركة بين «الملك فؤاد» و«دار المندوب السامي»، وكانت الفكرة المحورية لها ان يصطنعا نظاماً دستورياً يكفل اقصاء «حزب الوفد» عن الحكم ليتخلصوا بذلك من تشدده في المسألة الوطنية فتضمن انجلترا، التوصل إلي معاهدة تنظم علاقتها بمصر، طبقاً لما فيه مصلحتها هي، وبرضاء من المصريين يوقف حالة عدم الاستقرار التي بدأت مع الثورة، وبانتهاء المسألة الوطنية يتحقق استقرار الحكم، علي نحو يضمن «للملك فؤاد» الانفراد بالسلطة.
لكن المقاومة الجماهيرية الضارية لنظام «صدقي» أضعفت هيبته، وهو ما كان من نتائجه وقوع الاضطراب بين صفوف المتآمرين، فعندما مرض «الملك فؤاد» في خريف 1934، وتردد ان حياته في خطر، تدخلت دار المندوب السامي بفظاظة ووقاحة، ولمحت إلي ضرورة تعيين قائمقام يتولي سلطات الملك نيابة عنه، بل وطالبت بالاطلاع علي اسماء من اختارهم جلالته للوصاية علي ولي العهد «الأمير فاروق» وشعر الملك ان حلفاءه «يمرمطون» به الأرض، وأنه مطالب بالتقرب إلي الشعب للضغط علي هؤلاء الحلفاء، وتهديدهم به، وهكذا وافق «الملك فؤاد» علي إلغاء دستور 1930.. لكنه لم يعد الدستور الملغي، ليظل التلويح بإعادته ورقة يضغط بها علي حلفائه، لعلهم يعتدلون في سلوكهم معه، وعندئذ يمكن وضع دستور آخر شبيه بدستور 1930، وعلي يد أفراد غير مكروهين كـ«صدقي».
وبرغم كل هذا فان أحزاب المعارضة لم تفقد الأمل في عودة دستور 1923، وسارعت بتنظيم صفوفها، وكانت معظم العناصر النشطة من أنصار الأحزاب، قد تعرضت لأضرار بالغة خلال حكم «صدقي».. فصل العديد من الموظفين والعمد، وأضير كثيرون من الأعيان، وتعاون «نسيم باشا» مع الأحزاب في إزالة انقاض هذا الحكم الفاسد، وأخذ «الوفد» ينظم نفسه، ويجبر صفوفه التي أصيبت إصابات قاتلة أثناء المقاومة.. وعقد مؤتمره الأول في يناير 1935.. وقرر فيه ان يعمم لجان الوفد الأصلية والفرعية والانتخابية، وان يحدد اختصاص كل منها، وينظم ماليتها واجتماعاتها، وان ينظم لجاناً للطلبة والشباب والعمال، ويوسع نطاقها، وينشيء «نوادي سياسية» في المدن المختلفة، مع تنظيم محاضرات دورية، يكون الغرض منها ازكاء الروح الوطنية من نواحيها السياسية والدستورية والاقتصادية.
وفي سوق السياسة كانت فكرة دستور جديد تبرز بين الحين والآخر، دستور ليس هو دستور «صدقي».. وليس هو دستور 1923 الذي كان قد اصطلح علي تسميته بـ «دستور الأمة» تمييزاً له عن «دستور صدقي»، الذي وصف بـ «دستور الحكومة»!، ولكنه وسط بينهما.
وقالت لصحيفة «الديلي تلجراف» - اللندنية - في إشارة ذات دلالة «ان دستور 1923 هو دستور أوروبي الطابع لا يصلح للبلاد المتأخرة سياسياً»، وكانت هناك محاولات ومؤامرات تبذل لتلغيم الجو أمام وزارة «توفيق نسيم»، بحيث لا تستنيم لضغط الوفد، وبذل «زكي الإبراشي باشا» - رئيس الديوان الملكي - متحالفاً مع «الشيخ الأحمدي الظواهري» شيخ الجامع الأزهر.. جهدهما في إحداث اضطرابات داخل الأزهر، واستغلا في ذلك بعض مطالب الأزهريين بحقهم في التوظف في وظائف مدرسي اللغة العربية بمدارس الحكومة، فدفعوهم للتمرد، في وقت كان شبح أزمة البطالة يخيم علي الجميع، ويقلق طلاب الجامعات والمعاهد العليا، الذين فشت بينهم البطالة أكثر من غيرهم، ونجح تحالف «الوفد» مع «نسيم» في ان يبتعد به قليلاً عن أحضان القصر، وكان «الملك فؤاد» قد نقم عليه لأنه استقال من رئاسة الديوان ولأنه رفض دستور «صدقي» وهكذا أصر «توفيق نسيم» علي إبعاد «الإبراشي باشا» من القصر و«الشيخ الظواهري» من الأزهر.. وتم له ما أراد.
ورداً علي مناورات القصر وحلفائه أراد «نسيم» ان يتنصل من مسئولية التأخير في إعادة دستور 1923، فرفع مذكرة إلي الملك، استعرض فيها ما أنجزته الوزارة طوال خمسة شهور، ثم فوض إليه في النهاية أمر إعادة دستور 1923 منقحاً طبقاً لنص الدستور المذكور، أو تأليف جمعية وطنية ترضاها البلاد وتمثلها تمثيلاً صحيحاً لوضع دستور جديد.
وتلقف الملك الكرة بعد ان أدرك ان «نسيم» يريد ان يعلق الفأس في عنقه، ويحمله أمام الشعب مسئولية عدم إعادة الدستور، صحيح ان الملك لم يكن يريد الدستور، إلا أنه كان يعرف ان «نسيم» - أيضاً - لم يكن يريده، وكان الطرفان يعلمان، ان هناك عائقاً آخر أقوي وأكثر نفوذا، يحول دون عودة الدستور، هو: الاحتلال البريطاني، ولما لم يكن أحدهما قادرا علي الكشف عن ذلك، فقد أخذا يتلاعبان كالقط والفار، ولذلك رد الملك رداً يتواءم مع أصول لعبة الاستغماية التي كان يلعبها معه «نسيم»، فكتب إلي رئيس وزرائه يقول إنه «يؤثر عودة دستور 1923، علي ان يعد له ممثلو الأمة بما قد تدعو إليه الأحوال».
ورغم ذلك كله، فقد مرت الأشهر والدستور لم يعد..
وفي مايو 1935 «أيار» قابل المندوب السامي البريطاني السير «مايلز لامبسون» نسيم باشا»، وأبلغه شفوياً ان الحكومة البريطانية لا تعارض في ان تتمتع مصر بالحياة الدستورية في «الوقت المناسب» وهي تري ان يوضع هذا الدستور بمعرفة «لجنة حكومية»، يكون من أعضائها ممثلون للأحزاب السياسية المختلفة في مصر، بما فيها «الوفد» ان أراد.
برح الخفاء.. فقد ظل الكلاب يتآمرون مع الاستعمار حتي أعطي نفسه حقوقاً كان قد تنازل عنها بمقتضي تصريح 28 فبراير 1922، الذي أصبحت أمور المصريين الداخلية بمقتضاه بأيديهم، وفي مقدمتها بالطبع قضية الدستور.. ودعا «نسيم» زعيم «الوفد» «مصطفي النحاس» و«مكرم عبيد» سكرتيره العام، واثنين من زملائهما إلي اجتماع عقده في حدائقه بالهرم، وأبلغهم، رأي الحكومة البريطانية كما أخطره به المندوب السامي، وعرض عليهم ان تستقيل الوزارة قائلا:
إن المندوب السامي السير «مايلز لامبسون» يقدر الموقف حق قدره، وأنه كبير الأمل في ان يتمكن خلال الصيف من إقناع حكومته بالعدول عن معارضتها في عودة الدستور.
ورفض «الوفد» ما عرضته الحكومة البريطانية، وأبدي «النحاس» سخطه الشديد علي تدخل الانجليز في مسألة داخلية، وأعلن أنه لا يرضي بغير دستور 1923، لكنه مع ذلك طلب من «نسيم» ان يبقي في منصبه، وان يحتج علي التدخل البريطاني.
وفسر «النحاس» موقفه - فيما بعد - بأنه أراد ان يفسح «الوفد» لـ «نسيم باشا» في الوقت، حتي لا يقال إن «الوفد أضاع الفرصة بتعجله، والحقيقة ان الوفد كان قد تورط في تأييد وزارة «نسيم»، لدرجة ان «مصطفي النحاس» أدلي بحديث لصحيفة «المقطم» قال فيه تعبيراً شهيراً ظل محل طعن وتشهير لفترة طويلة، إذا سأله المحرر عما يقال عن عدم رضائه عن حكم «نسيم».. فقال:
- اكتب ياسيدي نحن مبسوطون من هذه الوزارة..
7
مضت بقية شهور الصيف بطيئة، وخلالها بدأت صفوف «الوفد» حركة معارضة خفية لتأييده المستمر لوزارة «نسيم»، سرعان ما تصاعدت فأصبحت معارضة علنية، وتزعمت جريدة «روزاليوسف اليومية» - وكانت من أشهر صحف الوفد - هذه الحركة، وظل توالي نشر مقالات عنيفة في معارضة «نسيم» كان يكتبها «عباس محمود العقاد»، الذي كان آنذاك كاتب «الوفد» الأول، أخذت تتصاعد بمعارضتها لوزارة «نسيم» محاذرة المساس بالوفد، الذي لم يسترح لحملات الهجوم العنيفة التي كانت المجلة تشنها ضد الوزارة التي يؤيدها بحماس، ويلتمس لها الأعذار في عجزها عن إعادة الدستور، ويخشي ان تسقط فيعود حكم الانقلابيين، الذي كانت مقاومته قد انهكت الوفد وفتت في عضده.وهكذا أوعز «مكرم عبيد» - سكرتير عام الوفد وأبرز المتحمسين لسياسة تأييد وزارة «نسيم» - إلي صحيفة أخري هي «الجهاد» بالرد علي الانتقادات العنيفة التي كان «عباس محمود العقاد» وفريق كتاب «روزاليوسف اليومية»، يوجهونها إلي وزارة «نسيم» ولما وجد «النحاس» ان خط المعارضة، يكتسب أنصاراً في الرأي العام، استدعي السيدة «فاطمة اليوسف» صاحبة «روزاليوسف» للقائه في «بيت الأمة».
وما كادت تدخل عليه في مكتب «سعد زغلول» حتي استقبلها صاخباً، ملوحاً في يده بعدد اليوم نفسه من جريدتها.. متسائلاً:
- إيه الزفت اللي انتوا بتنشروه ده؟!
- ودهشت «فاطمة اليوسف» لهذه المفاجأة غير المتوقعة، ووقفت ذاهلة لحظة، ثم قالت:
- فيه إيه يا باشا؟!
- فصاح: انتي بتعارضي وزارة «توفيق نسيم» ليه؟!
فأجابت: وزارة «توفيق نسيم» جابها الانجليز والسراي.. وهي التي تؤجل عودة الدستور.. إزاي مهاجمهاش؟!
واندفع يرد عليها بعنف:
لا ياستي.. أنا ما أحبش تناقشيني في السياسة.. انتي يعني عايزة «محمد محمود» و«صدقي» يرجعوا؟.. احنا تعبنا!!
وبهذه العبارة الموجزة، والمؤلمة، فسر «النحاس» موقف «الوفد»، وكشف عن ان جيل ثورة 1919، قد تعب وان سنوات المقاومة الضارية التي اشتبك خلالها مع الطغاة والغزاة، قد أصابته بالوهن، وأطفأت كثيراً من حماسه.
***
وحتي ذلك الحين، كانت قضية إعادة دستور 1923، هي القضية الأساسية المطروحة، صحيح ان قضية الاستقلال، لم تكن غائبة، وخاصة عندما تناثر الحديث عن معارضة بريطانية في إعادة الدستور، لكنها لم تبرز علي السطح، إلا في بداية الصيف، عندما التهب الموقف الدولي فجأة، وأعلن «موسوليني» زعيم إيطاليا الفاشية، عن نيته في الهجوم علي «الحبشة»، وضمها إلي المستعمرات الإيطالية، وبدأ بالفعل يرسل حشداً من قواته المسلحة إلي مستعمراته في شرق أفريقيا، فنقل أفرادا وعتادا إلي «أريتريا»، وأخذ في دعم قواته في «ليبيا»، وأصبح من الواضح ان الموقف العالمي قد ينفجر في أي لحظة، وان الصراع الدولي من أجل إعادة توزيع المستعمرات، والاتفاق علي تسوية جديدة، تختلف عن التسوية التي انتهت إليها الحرب العالمية الأولي في هذا الشأن، قادم لا محالة.
ولوحت تصريحات المسئولين الانجليز بأنه إذا انفجرت الحرب العالمية من جديد، فان مصر ستعود إلي ما كانت عليه إبان الحرب العالمية الأولي، وتوضع في «حماية» انجلترا، طوال مدة الحرب.. وازدحم البحران الأبيض والأحمر بالأساطيل الانجليزية والإيطالية وبدأت قوات عسكرية بريطانية جديدة، تتدفق بكثافة علي مصر، وكان معني اشتعال الحرب العالمية والوضع الداخلي في مصر علي ما هو عليه، هو، علي حد تعبير قاله «مصطفي النحاس» آنذاك: «ان يضع الانجليز - أيديهم باسم التعاون الودي، علي حصوننا وثكناتنا وموانينا، و مطاراتنا، ومواردنا ويتولوا أمرنا، ويوجهوا سياستنا دون ان يكون لنا في ذلك شيء.. من حرية واختيار»..
وفيما بعد قال «مصطفي النحاس» في الخطاب الذي أزاح فيه أسرار علاقة الوفد بالوزارة، ان التطورات في الوضع الدولي، جعلت قضية عودة دستور الأمة أكثر إلحاحاً، إذ تضاعفت حاجة البلاد لاستئناف حياتها الدستورية الصحيحة، كي يتولي نواب الأمة تسيير أمورها في هذا الجو العاصف المضطرب، والأهم من ذلك، ان تداعيات الأزمة الحبشية، وخاصة تدفق مزيد من القوات العسكرية البريطانية علي مصر حتمت- كما يقول «النحاس» «تحديد مركز مصر تحديداً دقيقاً.. حتي إذا جد الجد، ووقعت الواقعة.. كانت مصر علي بينة من أمرها».
وهكذا لم يعد الأمر قاصراً علي المطالبة بعودة دستور الأمة.. بل بات «يستلزم أيضاً.. تصفية الموقف كله علي أساس الاتفاق مع مصر، اتفاقاً حراً شريفاً يحقق لها الاستقلال التام، ويصون مصالح الانجليز التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال».
وكان ذلك، هو ما طالب «توفيق نسيم» من السير «مايلز لامبسون» أن يسعي لإقناع المسئولين البريطانيين به، خلال قضائه لإجازته الصيفية في «لندن».
وعندما ملأت نذر الحرب الأفق، خطب «النحاس» فأكد من جديد، ان الضرورة تقضي والبلاد مستهدفة لخطر حرب لاهبة، يجب «ان يكون للأمة بإزائها مطلب أسمي من عودة الدستور، وأجل خطراً، ذلك هو واجب الاحتفاظ بكيان البلاد والذود عن استقلاليتها»، داعياً إلي عقد معاهدة بين البلدين، حتي يكون التعاون مع الانجليز علي أساس اتفاق لا بالإكراه.
وفي اليوم التالي - 10 سبتمبر «أيلول» 1935 - تلقي «نسيم» من نائب المندوب السامي البريطاني، بلاغاً من حكومته، عبرت فيه عن إدراكها لمصالح مصر، وتقديرها لحالة القلق الذي يساورها في الوقت الحاضر، مؤكدة بأن حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية، سوف تطلع الحكومة المصرية، - إذا دعت الظروف - وتشاورها في جميع تطورات الموقف الدولي، التي قد تمس مصالح مصر من قريب.
وهكذا انتهت مجهودات السير «مايلز لامبسون» في لندن، «إلي مجرد «وعد بالتشاور».. فلا دستور.. ولا معاهدة.. ولا استقلال ولا ديمقراطية.
توقع العليمون بالمناخ السياسي المصري في تلك الأيام، ان ينفجر الموقف الداخلي مع بداية العام الدراسي في مقتبل الخريف.