تيمورلنك .. سيرة قائد فاتح أو قائد سفاح
1336- 1405
إعداد الباحث : أشرف السيد الشربينى
المقدمة
"تيمورلنك" هو فاتح مغولى مسلم شيعى ينتمى إلى الأسر النبيلة فى بلاد ما وراء النهر. وكان بإعتباره مسلماً يرعى العلماء ورجال الدين وبخاصة أتباع الطريقة النقشبندية. ويـُعد "تيمورلنك" أحد أعظم الفاتحين فى التاريخ وأشدهم قسوة. ولد "تيمورلنك" (أى الحديد)، فى مدينة "كش Kesh" فى بلاد ما وراء النهر، لأمير إحدى هذه القبائل .إشتهر ببطشه وتعطشه إلى القتل .
وفى عام 1369م جلس على عرش (خراسان) وقاعدته (سمرقند), وقد وإجتاح على رأس جحافله كامل المنطقة الممتدة من (منغوليا) إلى البحر الأبيض المتوسط, واستطاع أن يتوسع بجيوشه الرهيبة وأن يهيمن على القسم الأكبر من العالم الإسلامى.
فقد انتشرت قواته الضخمة فى آسيا من (دلهى) إلى دمشق، ومن بحر (آرال) إلى الخليج العربى وأحتل (فارس) و(أرمينيا) وأعالى (الفرات) و(دجلة) والمناطق الواقعة بين بحر (قزوين) إلى البحر الأسود وفى (روسيا) سيطر على المناطق الممتدة بين أنهار (الفولجا) و(الدون) و(الدنيبر) وأعلن بأنه سيسيطر على الأرض المسكونة ويجعلها ملكاً له وكان يردد: "أنه يجب ألا يوجد سوى سيد واحد على الأرض طالما أنه لا يوجد إلا إله واحد فى السماء" وقد إتصف "تيمورلنك" بالشجاعة والعبقرية الحربية والمهارة السياسية وكان قبل أن يقرر أمر يقوم يجمع المعلومات ويرسل الجواسيس ثم يصدر أوامره بعد صبر وتأنى بعيداً عن العجلة وكان من الهيبة بحيث أن جنوده كانوا يطيعون أوامره أيا كانت.
البحث
"تيمورلنك" هو فاتح مغولى مسلم . ولد "تيمورلنك" (أى الحديد)، فى مدينة "كش Kesh" فى بلاد ما وراء النهر، لأمير إحدى هذه القبائل.
نظم عصابات من صغار اللصوص لسرقة الغنم والماشية من المراعى المجاورة . وفقد فى إحدى هذه المغامرات إصبعيه الوسطى والسبابة من يده اليمنى، وفى مغامرة أخرى أصيب بسهم فى ساقه ، ومن ثم عرج بقية أيام حياته فلقبه أعداؤه "تيمورلنج" (لنك) Timur-i-Lang أى "تيمورلنك" الأعرج، ولكن الغربيين غير المدققين، مثل مارلو حرفوا هذا الاسم إلى Tamburlane أو Tamerane. وقد وجد "تيمورلنك" فسحة من الوقت لتلقى قليل من التعليم، وقرأ الشعر، وعرف الفرق بين المبادئ والانحلال. ولما بلغ سن السادسة عشرة ولاه أباه زعامة القبيلة. وآوى أباه إلى أحد الأديار.
وفى سنة 1361 عين خان المغول "خوجة إلياس" حاكماً على بلاد ما وراء النهر، وعين "تيمور" مستشاراً له، ولكن الشاب النشيط لم يكن قد نضج بعد لممارسة فن الحكم، وتشاجر بعنف مع سائر موظفى "خوجة إلياس"، وأجبر على الهروب من (سمرقند) إلى الصحراء... فجمع حوله عدداً من المحاربين الشبان، وضم عصبته إلى عصبة أخيه الأمير "حسين" الذى كان فى مثل ظروفه. وتجولوا من مكمن إلى مكمن، حتى تحجرت أجسامهم ونفوسهم بسب الأخطار والتشرد والفقر، إلى أن جائهم بعض الحظ حين أستخدموا لقمع فتنة فى (سيستان) Sistan ، وما أن اشتد عود الأخوين حتى أعلنا الحرب على "خوجة إلياس" وخلعاه وذبحاه. وأصبحا حاكمين فى (سمرقند) على قبائل (جغتاى) (1365)، وبعد ذلك بخمس سنوات تآمر "تيمورلنك" على ذبح أخاه الأمير "حسين"، وأصبح السلطان الوحيد وإتخذ من (سمرقند) عاصمة له.
وتروى سيرة حياته المشكوك فيها، عن عام 769هـ (1367م): "دخلت عامى الثالث والثلاثين، ولما كنت دوماً قلق البال لا يقر لى قرار، فقد كنت تواقاً إلى غزو بعض البلاد المجاورة". وكان يقضى أيام الشتاء فى (سمرقند)، وقل أن انقضى ربيع دون أن يخرج فيه إلى حملة جديدة. وقد علـَّم المدن والقبائل فى بلاد ما وراء النهر أن تتقبل حكمه طواعية أو سلماً لا حرباً. وفتح (خراسان) و(سيستان)، واخضع المدينتين الغنيتين هراة و(كابول)، وأحبط المقاومة والتمرد بما كان ينزل من عقاب وحشى. ولما إستسلمت مدينة (سبزاوار) Sabzawar بعد حصار كلفه كثيراً، أسر ألفين من رجالها، وكدسهم أحياء، الواحد فوق الآخر، وضرب عليهم بنطاق من الآجر والطين، وأقام منهم مئذنة، حتى إذا استقين الرجال جبروت غضبه، لا يعود يغويهم شيطان الصلف والكبرياء. وهكذا روى القصة مادح معاصر. وغفلت مدينة (زيريه) Zirih عن هذه الحقيقة وأبدت مقاومة، فأقام الغازى من رؤوس أبنائها عدداً أكبر من المآذن. واجتاح "تيمورلنك" (أذربيجان) وإستولى على (لورستان) و(تبريز)، وأرسل فنانيهما إلى (سمرقند).
فى عام 1380 قام "تيمورلنك" بإحتلال (أفغانستان) ثم إنقض على (فارس) و(كردستان) .
ولعله بلغ ذروة بطشه فى (أصفهان) فى سنة 1387 , حيث إستسلمت (أصفهان) فى 1387 وارتضت بقاء حامية من التتار بها، فلما غادر "تيمورلنك" المدينة قام السكان بثورة على الحامية ضده وضد جنوده وذبحوا رجالها حيث نجح الثوار فى الفتك بـ 3000 مقاتل من رجاله. وما أسرع ما جاء رد تيمورلنك العنيف حيث عاد "تيمورلنك" بجيشه وإنقض على المدينة وأمر كل فرد فى جيشه أن يأتيه برأس واحد من الفرس. وقيل أنه قد بلغ مجموع من بطش بهم من الثوار سبعين ألفاً (70000) من رءوس الأصفهانيين علقت على أسوار المدينة أو أقيمت منها أبراج تزين الشوارع . فلما سكن روع "تيمورلنك" وهدأت نفسه خفض الضرائب التى كانت المدينة تدفعها لحاكمها، ودفعت سائر مدن (فارس) الفدية دون ضجة.
فى تركيا تولى السلطان "بايزيد الأول" المُلَّقب بالصاعقة الحكم بعد استشهاد أبيه (مراد الأول) 1389 وكانوا يلقبونه (بالصاعقة) وذلك لسرعة تحركاته فى ميادين القتال وانتصاراته الخاطفة. كان فى غاية الشجاعة والحماسة للجهاد فى سبيل الله غير أنه امتاز عن سابقيه بسرعة الحركة وقوة الانقضاض وكان مجرد ذكر اسم (يلدرم) أى (الصاعقة) يوقع الرعب فى قلوب الأوروبيين عموماً وأهل (القسطنطينية) خصوصاً.
فى عهد السلطان "بايزيد الأول" جرت محاولة لفتح (القسطنطينية) , حيث تمكنت قواته من محاصرتها بقوة سنة 796هـ - 1393م ، وأخذ السلطان يفاوض الإمبراطور البيزنطى لتسليم المدينة سلماً إلى المسلمين، ولكنه أخذ يراوغ ويماطل ويحاول طلب المساعدات الأوربية لصد الهجوم الإسلامى عن (القسطنطينية).
وعندما كان "تيمورلنك" فى جنوبى (فارس) جاءته الأنباء بأن "طقطميش" خان القبيلة الذهبية وأنه انتهز فرصة غيابه ليغزو بلاد ما وراء النهر، بل حتى ليعمل السلب والنهب فى المدينة الجميلة (بخارى)، فسار "تيمورلنك" ألف ميل إلى الشمال، ورد "طقطميش" إلى (الفولجا). وسار جنوباً وغرباً وأغار على (العراق) و(جورجيا) و(أرمينية)، وهو يذبح فى طريقه كل السادة, واستولى فى 1393 على بغداد بناء طلب سكانها الذين لم يعودوا يحتملون ظـُلم سلطانهم "أحمد بن أويس". ولما رأى تدهور العاصمة أمر معاونيه بإعادة بنائها، وفى نفس الوقت أضاف إلى حريمه نخبة من الزوجات، وأضاف إلى حاشيته واحداً من أشهر الموسيقيين، ولجأ السلطان "أحمد" إلى "بايزيد الأول" سلطان العثمانيين فى بروسة. وطلب "تيمورلنك" تسليم السلطان "أحمد"، فرد "بايزيد" بأن هذا أمر يخدش تقاليد الضيافة عند الأتراك.
وكان من الممكن أن يتقدم "تيمورلنك" إلى بروسه، لولا أن "طقطميش" عاود غزو بلاد ما وراء النهر، فاكتسح التترى المهتاج جنوبى (روسيا)، وبينما كان "طقطميش" مختبئاً فى البرية، إجتاح مدينتى القبيلة الذهبية: (سراى) و(استراخان). ولما لم يجد "تيمورلنك" أية مقاومة، تقدم بجيشه غرباً من (الفولجا) إلى (الدون)، وربما كان من خطته أن يضم (روسيا) كلها إلى مملكته. وأقسام الروس فى البلاد الصلوات فى حرارة وحمية، وحملت "عذراء فلاديمير" إلى موسكو، بين صفوف الضارعين الراكعين وهم يصيحون: "يا أم الاله، خلصى (روسيا)". وساعد فقر السهوب على إنقاذها. ولما وجد "تيمورلنك" أنه لا غناء فى هذه السهول الجرداء ولا شئ فيها يمكن سلبه، إرتد إلى (الدون) وقاد جنوده المنهوكين الجياع إلى (سمرقند) (1395-1396).
إستطاع "بايزيد" قبل معركة (نيقوبوليس) (1396) أن يشدد النكير على الإمبراطورية البيزنطية وأن يفرض على الإمبراطور أن يعين قاضياً فى (القسطنطينية) للفصل فى شؤون المسلمين وما لبث أن حاصر العاصمة البيزنطية و إرتضى الإمبراطور إيجاد محكمة إسلامية وبناء مسجد وتخصيص 700 منزل داخل المدينة للجالية الإسلامية، كما تنازل لبايزيد عن نصف حى غلطة الذى وضعت فيه حامية عثمانية قوامها 6.000 جندى وزيد الجزية المفروضة على الدولة البيزنطية، وفرضت الخزانة العثمانية رسوماً على الكروم ومزارع الخضروات الواقعة خارج المدينة. وأخذت المآذن تنقل الآذان إلى العاصمة البيزنطية.
ثم حدثت معركة (نيقوبوليس) بعد ذلك حيث أنه فى عام 1395 غزا السلطان العثمانى "بايزيد الأول" (هنغاريا), فأدى ذلك إلى توجيه حملة صليبية هنغارية – فينيسية ضد العثمانيين, ولكن "بايزيد الأول" أنزل بالصليبيين الجدد هزيمة منكرة فى (نيقوبوليس) عام 1396.
وتجمع كل الروايات على أنه كان فى (الهند) ثروات تشترى مائة (روسيا)، وأعلن "تيمورلنك" أن حكام المسلمين فى شمال (الهند) شديدو التسامح مع الهندوس الوثنيين الذين يجب عليهم اعتناق الاسلام أو تحويلهم إليه. وسار "تيمور"، وهو فى الثالثة والستين من العمر على رأس جيش قوامه 92.000 رجل (1398). وعلى مقربة من (دلهى) التقى بجيش سلطانها "محمود"، فهزمه، وذبح مائة ألف أو ثمانية ألفاً من سكانها حسب روايات أخرى، ونهب العاصمة، وجلب معه إلى (سمرقند) كل ما استطاعت جنوده ودوابه أن تحمل من ثروات (الهند) الأسطورية.
وفى 1399، ولم تكن قد محيت من ذاكرته قصة "أحمد" و"بايزيد الأول"، تقدم مرة ثانية، وعبر (فارس) إلى (أذربيجان)، وخلع ابنه المبذر المضيع الذى كان حاكماً عليها، وشنق الشعراء والوزراء الذين كانوا قد أغروا الشاب بالانغماس فى اللهو، واجتاح (جورجيا). ولما دخل آسيا الصغرى حاصر (سيواس)، واغتاظ لطول مقاومتها، فدفن أربعة آلاف جندى مسيحى أحياء- أو أن مثل هذه القصص من دعاية الحرب؟ ورغبة منه فى حماية جناح جيشه عند مهاجمة العثمانيين، أرسل رسولاً إلى مصر مقترحاً ميثاق عدم اعتداء، ولكن سلطان المماليك أودع الرسول السجن، واستأجر سفاحاً لقتل تيمور. وباء المشروع بالإخقاق.
وفى فبراير 1401 (803هـ) إكتسح جيوش المماليك المدافعين عن دمشق فى الشام وتم الإستيلاء على العاصمة الشامية . وقام "تيمورلنك" الذى أدى به التحول إلى الإسلام إلى إعتناق الهرطقة الشيعية بنهب وتدمير المدينة وإحراق كل شئ فيها وخرب واستباح مدينة حلب ثلاثة أيام وكانت أهرام الجماجم التى أقامها تضم عشرين ألفاً من رءوس ضحاياه . وقد دمر كافة المساجد والمدارس التى بناها صلاح الدين. وفى نفس العام سقطت حمص وحماة وبعلبك فى يديه. ولم يقنع تيمورلنك بهذا بل حمل معه إلى عاصمته فى (سمرقند) خيرة الصناع وأرباب الحرف فى المدينة . وفى طريق عودته توقف فى بغداد حيث قـُتل بعض ضباطه بأيدى أهلها الغاضبين , فأمر بإعدام الرهائن بالجملة إنتقاماً , وأقام فى أرجاء المدينة أهرام الجماجم المعهودة . وكما فعل فى دمشق , فقد نقل معه إلى ممتلكاته فى الشرق مهرة الصناع والحرفيين .
وبعد إخضاع حمص وحلب وبعلبك ودمشق، سار "تيمورلنك" إلى بغداد التى طردت كل الموظفين الذين عينهم هو. واستولى عليها بثمن باهظ، وأمر جنوده البالغ عددهم عشرين ألفاً بأن يحضر إليه كل منهم رأس واحد من الأهالى. وتم له ما أراد- أو هكذا قيل: أغنياء وفقراء، رجالاً ونساء، شيباً وشباناً، فكلهم دفعوا ضريبة الرأس هذه، وكدست رءوسهم على شكل أهرام مروعة أمام أبواب المدينة (1401). وأبقى الغزاة على مساجد المسلمين وعلى أديار الرهبان والراهبات ، وسلبوا ودمروا ما عداها تدميراً تاماً .
وصلت أخبار هذه الطائفة المغولية المدمرة إلى القاهرة فخرج السلطان "الناصر فرج بن برقوق" منها على رأس جيشه متجها نحو الشام ووصل إلى دمشق فى جمادى الأولى سنة (803 هـ) واشتبك الجيش الإسلامى مع جيش المغول فى معارك جزئية ثبت فيها الجيش الإسلامى أمام هجمات المغول الشديدة وبرهن على مقدرته الحربية.
ثم بدأت مفاوضات الصلح بين الطرفين غير أن السلطان "فرج" اضطر إلى مغادرة الشام لإحباط مؤامرة فى مصر دبرت لخلعه فرأى علماء دمشق وفقهاؤها ومعهم "ابن خلدون" المؤرخ العربى المشهور أنه لامناص من التماس الأمان والصلح مع "تيمورلنك" فتظاهر بإجابة ملتمسهم ولكنه غدر بهم وأسلم المدينة للنيران.
وبعد أن عاد "الناصر فرج" إلى القاهرة أرسل رسالة شديدة اللهجة إلى "تيمورلنك" يخبره فيها أنه عائد إلى الشام ليطرده منها وأنه لم يترك الميدان خوفا منه ولا ضعفا عن منازلته ولكن أمورا داخلية اضطرته إلى الرجوع إلى عاصمة ملكه وأنه سوف يعود إلى ميدان القتال بمجرد انتهاء مهمته فى القاهرة.
وقد أشعلت هذه الرسالة نار الحقد فى نفس "تيمورلنك" فصمم على الانتقام.
ولكنه غادر الشام قبل أن ينفذ ما صمم عليه. وقبل أن يغادر تيمورلنك دمشق نقل صفوة علمائها ونخبة من صناعها وأهل الفن فيها إلى عاصمته (سمرقند) فبدأت الصناعات الدقيقة والفنون الجميلة تزدهر هناك وانحطت الصناعة فى دمشق، وندرت الفنون الجميلة.
بعد الانتصار العظيم الذى حققه العثمانيون فى معركة (نيقوبوليس) ثبت العثمانيون أقدامهم فى البلقان، حيث انتشر الخوف والرعب بين الشعوب البلقانية، وخضعت البوسنة وبلغاريا إلى الدولة العثمانية واستمر الجنود العثمانيون يتتبعون فلول النصارى فى ارتدادهم . وعاقب السلطان "بايزيد" حكام شبه جزيرة المورة الذين قدموا مساعدة عسكرية للحلف الصليبى وعقاباً للإمبراطور البيزنطى على موقفه المعادى طلب بايزيد منه أن يسلم (القسطنطينية) وإزاء ذلك استنجد الإمبراطور "مانويل" بأوروبا دون جدوى. والحق أن الاستيلاء على (القسطنطينية) كان هدفاً رئيسياً فى البرنامج الجهادى للسلطان "بايزيد الأول". ولذلك فقد تحرك على رأس جيوشه وضرب حصاراً محكماً حول العاصمة البيزنطية وضغط عليها ضغطاً لا هوادة فيه واستمر الحصار حتى أشرفت المدينة فى نهايتها على السقوط - بينما كانت أوروبا تنظر سقوط العاصمة العتيدة بين يوم وآخر إذا السلطان ينصرف عن فتح (القسطنطينية) لظهور خطر جديد على الدولة العثمانية.
فى تلك اللحظات الفاصلة فى التاريخ التى وقفت فيها جيوش الدولة العثمانية المسلمة على أعتاب فتح القارة الأوروبية الصليبية بأكملها فى الشمال والغرب تعرضت الدولة لإعصار مضاد جاءها من الجنوب والشرق حيث أيقن آنذاك "تيمورلنك" أنه يمكنه أن يطمئن على ملكه عن اليمين وعن الشمال فأرسل إلى بايزيد إنذاراً نهائياً للتسليم . فاضطر السلطان بايزيد لسحب قواته وفك الحصار عن القسطنطينية و أوقف "بايزيد" تقدمه فى أوروبا ورفع الحصار عن (القسطنطينية) واتجه جنوبا لمواجهة المغول بنفسه ومعه بقية القوات العثمانية ولكن سلطان الأتراك الذى زادت ثقته بنفسه بفضل انتصاره فى معركة (نيقوبوليس) 1396، أجاب بأنه سوف يسحق جيش التتار ويتخذ من زوجة "تيمورلنك" الأثيرة جارية له.
تقدم تيمورلنك بجيوشه واحتل (سيواس)، وأباد حاميتها التى كان يقودها الأمير أرطغرل بن بايزيد والتقى الجيشان قرب أنقرة فى عام 804هـ/1402م وكانت قوات بايزيد تبلغ 120.000 مجاهد لملاقاة خصمه وزحف تيمورلنك على رأس قوات جرارة فى 20 يوليو 1402 (804هـ) وإلتقى أقدر قائدين فى زمانهما, ولم يكد يلتقى الجيشان فى أنقرة حتى فـر الجنود التتار الذين كانوا في جيش يزيد وجنود الإمارات الآسيوية التى فتحها منذ عهد قريب وانضموا إلى جيش تيمورلنك ولم يجد السلطان العثمانى بعد ذلك ما أظهره هو وبقية جيشه من الشجاعة والاستماتة فى القتال, وأرغمت إستراتيجية "تيمورلنك" أعدائه الأتراك على القتال بعد أن أرهقهم وأنهك قواهم طول السير. وانتصر المغول ووقع "بايزيد" فى الأسر وظل يرسف فى أغلاله حتى وافاه الأجل فى السنة التالية 1403م, وكانت الهزيمة بسبب اندفاع وعجلة بايزيد فلم يحسن اختيار المكان الذي نزل فيه بجيشه الذي لم يكن يزيد عن مئة وعشرين ألف مقاتل بينما كان جيش خصمه لا يقل عن ثمانمائة ألف، ومات كثير من جنود بايزيد عطشاً لقلة الماء وكان الوقت صيفاً شديد القيظ, وابتهجت (القسطنطينية) وفرحت الدول النصرانية فى الغرب بنصر تيمورلنك وهزها الطرب لمصرع بايزيد وما آلت إليه دولته من التفكك والانحلال وبعث ملوك انجلترا وفرنسا وقشتالة وإمبراطور القسطنطينية إلى تيمورلنك يهنئونه على ما أحرزه من النصر العظيم والظفر المجيد واعتقدت أوروبا أنها قد تخلصت إلى الأبد من الخطر العثمانى الذى طالما روعها وهددها، وظل العالم المسيحى بمنجاة من الأتراك لمدة نصف قرن بفضل التتار.
وكانت الهزيمة بسبب اندفاع وعجلة "بايزيد" فلم يحسن اختيار المكان الذى نزل فيه بجيشه الذى لم يكن يزيد عن مئة وعشرين ألف مقاتل بينما كان جيش خصمه لا يقل عن ثمانمائة ألف، ومات كثير من جنود بايزيد عطشاً لقلة الماء وكان الوقت صيفاً شديد القيظ. ولم يكد يلتقى الجيشان فى أنقرة حتى فـر الجنود التتار الذين كانوا فى جيش يزيد وجنود الإمارات الآسيوية التى فتحها منذ عهد قريب وانضموا إلى جيش تيمورلنك ولم يجد السلطان العثمانى بعد ذلك سوى ما أظهره هو وبقية جيشه من الشجاعة والاستماتة فى القتال.
وواصل "تيمورلنك" سيره بعد هزيمة بايزيد فى اتجاه أوربا زاحفاً على الأناضول فى عام 1402 واستولى على بروسه وأحرقها، وحمل معه من المدينة المكتبة البيزنطية والأبواب الفضية. وتقدم نحو البحر المتوسط، ثم دك أسوار أزمير وخلصها من قبضة فرسان (رودس) (فرسان القديس يوحنا) ، محاولاً بذلك أن يبرر موقفه أمام الرأى العام الإسلامى الذى أتهمه بأنه وجه ضربة شديدة إلى الإسلام بقضائه على الدولة العثمانية وحاول تيمورلنك بقتاله لفرسان القديس يوحنا أن يضفى على معارك الأناضول طابع الجهاد.
وقدمت جنوه التى كانت لا تزال تحتفظ (بخيوس) و(فوشيا) و(ميتلين) خضوعها ودفعت الجزية. وأفرج سلطان مصر عن رسول ملك التتار، وانخرط فى الزمرة الممتازة، زمرة التابعين الخاضعين لسلطان تيمور. وعاد "تيمورلنك" أدراجه الى (سمرقند)، وهو أقوى حكام عصر، حيث امتد ملكه من أواسط آسيا إلى النيل ومن (البسفور) إلى (الهند). وبعث إليه "هنرى الرابع" ملك إنجلترا بالتهنئة، كما أوفدت إليه فرنسا أسقفاً يحمل الهدايا. وأرفد إليه هنرى الثالث ملك قشتالة بعثة شهيرة برياسة روى جونزاليز كلافيجو.
وإنا لمدينون لمذكرات كلافيجو بمعظم ما نعلمه عن بلاط "تيمور". فقد غادر قادس فى 13 مايو 1403، ومر بـ (القسطنطينية) و(طرابزون) و(أرضروم), و(تبريز) و(طهران), و(نيسابور)، و(مشهد)، حتى وصل (سمرقند) فى 31 أغسطس 1404. وكان قد توقع لسبب ما، أن هناك قوماً من السفاكين الكريهى الطلعة. وما كان أشد دهشته لكبر عاصمة "تيمورلنك" وازدهارها، وفخامة المساجد والقصور، وسلوك سادتها وعاداتهم الحميدة، وثراء البلاط وترفه، واحتشاد للفنانين والشعراء حول "تيمورلنك" احتفاء به وتكريماً له.
وكانت المدينة آنذاك قد مضى على بنائها أكثر من ألفى عام، وكانت تضم نحو مائة وخمسين ألف نسمة مع "مجموعة من أعظم الدور وأجملها"، مع كثير من القصور "التى تضللها الأشجار"، بهذا كله رجح كلافيجو أن (سمرقند) "أكبر من (أشبيلية)"، هذا بخلاف الضواحى المترامية. وكان الماء يرفع إلى البيوت من نهر يجرى بالقرب من المدينة، وكست مياه الرى المنطقة الخلفية بالخضرة. وتضوع الهواء بعبير البساتين والكروم. وتوافرت المراعى للأغنام والماشية، ونمت المحاصيل الكثيرة. وكان فى المدينة مصانع للمدافع والدروع والأقواس والسهام والزجاج والخزف، والمنسوجات المتناهية فى اللمعان بما فيها "القرمزى" وهو الصباغة الحمراء، ومنه اشتقت اللفظة الإنجليزية Crimson. وكانت المدينة تضم التتار والأتراك والعرب والفرس والعراقيين والأفغانيين والكرجيين والأرمن والكاثوليك والنساطرة والهندوس، ممن يعملون فى الحوانيت أو فى الحقول، ويسكنون فى بيوت من الطوب أو من الطين أو الخشب، أو يسرحون ويمرحون فى المدينة على ضفة النهر، كل يمارس شعائره الدينية فى حرية تامة، ويدعو لعقيدته المتعارضة مع سائر العقائد. وكانت تحف على جوانب الشوارع الرئيسية الأشجار والحوانيت والمساجد والمدارس والمكتبات، وكان هناك مرصد، وكان ثمة جادة رئيسية عريضة تقطع، فى خط مستقيم، المدينة من أحد طرفيها إلى الطرف الآخر، وكان القطاع الرئيسى من هذا الطريق العام مغطى بالزجاج.
وفى 8 سبتمبر استقبل إمبراطور التتار كلافيجو، الذى مر بساحة فسيحة "نصبت فيها خيام كثيرة من الحرير"، وسرادقات مطرزة بالحرير، وكانت الخيمة هى المسكن المألوف لدى التتار، وكان لتيمور نفسه فى هذه الساحة خيمة يبلغ 300 قدم، كما كان هناك أيضاً قصور ذوات أرضية من الرخام أو القرميد، مزودة بأثاث متين مرصع بالأحجار الكريمة، وكله مصنوع أحياناً من الفضة أو الذهب. ووجد كلافيجو ملك التتار جالساً القرفصاء على وسائد من الحرير "تحت مدخل أجمل قصر" قبالة نافورة يندفع منها عامود من الماء الذى انصب فى حوض يتحرك فيه التفاح بلا انقطاع. وكان "تيمورلنك" يرتدى عباءة من الحرير ويلبس قبعة عالية واسعة مرصعة بالياقوت واللآلىء. وكان هذا العاهل طويل القامة نشيطاً يقظاً، أما الآن وهو فى سن الثامنة والستين، فقد كان منحنياً ضعيفاً متوجعاً، وكاد أن يكون كفيفاً. وكان يستطيع بشق النفس أن يرفع جفنيه ليرى السفير.
وحصل "تيمورلنك" من الثقافة على ما يمكن أن يحتمله رجل عمل، فقرأ التاريخ؛ وجمع الفن والفنانين، وصادق الشعراء والعلماء، واستطاع عند الاقتضاء أن يتحلى بأجمل العادات. واستوى غروره مع قدرته، مما لم يتفوق فيه أحد عليه فى زمانه. وقدر "تيمورلنك" على العكس من قيصر، أن القسوة جزء ضرورى من الاستراتيجية، ولكنه، إذا صدقنا ضحاياه، غالباً ما يبدو آثماً متهماً بالقسوة لمجرد الانتقام. فإنه حتى فى إدارته المدنية كان يسرف فى الحكم بالإعدام، حتى على محافظ اتبع سياسة الظلم فى المدينة، أو على جزار تقاضى للحم ثمناً أكثر مما ينبغى . إنه نفذ سياسة القسوة والعنف بوصفها ضرورية لحكم شعب لم يألف القانون بعد. وبرر مذابحه على أنها وسيلة لإرغام القبائل المخالفة للقانون والنظام على اتباع النظام ومتطلبات الأمن فى دولة موحدة قوية. ولكنه مثل سائر الغزاة والفاتحين أحب القوة لذاتها، وأحب الغنائم والأسلاب من أجل العظمة التى يمكن أن تغطى الغنائم تكاليفها.
وفى 1405 شرع فى فتح (منغوليا) و(الصين)، يراوده حلم إنشاء دولة تضم نصف العالم، وتربط بين البحر المتوسط وبحر (الصين). وكان جيشه يتألف من مائتى الف من الرجال الأشداء. ولكنه قضى نحبه فى (أتار) Ottar على الحدود الشمالية من مملكته، وكانت آخر أوامره أن يتابع جيشه سيره، ولبرهة بسيطة تقدم جواده الأشهب المسرج، دون أن يمتطيه صاحبه، وهو يسير فى خطى متزنة متقدماً الحشد. ولكن جنوده كانوا على يقين من أن عقل قائدهم وإرادته كانتا تشكلان نصف قوتهم، فعادوا على عجل إلى أوطانهم وهم فى حداد على موت القائد، وقد كتب لهم الخلاص من هذه المهمة. وشيد له بنوه فى (سمرقند) مقبرة فخمة هى "مقبرة الأمير"، وهى عبارة عن برج تعلوه قبة ضخمة بصلية الشكل، مكسوة واجهتها بالآجر ذى الطلاء الأزرق الجميل الفيروزى المائل للخضرة. وتحطمت إمبراطورية "تيمورلنك" بموته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.