الجمعة، 1 يناير 2010

الهيروغليفية وشامبليون

الهيروغليفية وشامبليون

إعـــداد الباحث: أشرف السيد الشربينى
http://histoc-ar.blogspot.com

مــقــدمــة:
ما بين الماضى والحاضر علاقة.. فالحاضر هو نتاج الماضى.. ولكى نعرف حاضرنا يجب أن نعرف ماضينا.. ومعرفة الماضى لا يمكن أن تكون إلا إذا ترك لنا من كانوا يعيشون فى الماضى ما يحكى تاريخ الماضى..
المشكلة أنهم كتبوا لكننا لم نستطيع أن نقرأ ما كتبوا.. ليس لأننا جاهلون بالقراءة.. ولكن لأن اللغة التى كتبوا بها قد اندثرت لأسباب قد تكون سياسية أو دينية أو غير هذا وذاك..
ظل تاريخ مصر القديم بلا قارئ.. إلا إنه كانت هناك محالات عديدة للقراءة.. قد أخفقت معظمها.. أما ما أصاب منها فكان فى اكتشاف حرف. أو افتراض نظرية يمكن أن تقود إلى حل رموز هذه اللغة المندثرة..
ولقد عجبت أثناء بحثى هذا عندما وجدت الكثير من التضارب فى التواريخ.. حيث وجدت فى بعض المراجع من يقول بأن شامبليون هو أول من توصل إلى أن أسماء الملوك كانت تكتب فى خراطيش، وفى مراجع أخرى نجد أن أول من توصل إلى ذلك هو توماس يونج، وفى مراجع أخرى نجد أنه سلفستر دى ساس، وأخيرًا وجدت أنه "ج بارتلمى" الذى توصل إلى أن الخراطيش تحتوى على أسماء الملوك فى عام 1762 أى قبل كشف حجر رشيد بحوالى ثلث قرن من إطلاعه على الكتابة الهيروغليفية على الآثار المصرية.
كما أن هناك اختلاف بين المراجع على أول من قرأ اسم بطليموس فى الخراطيش..
ومهما كان ما حدث.. المهم أننا قد توصلنا فى النهاية إلى حل رموز اللغة التى يمكننا من خلالها قراءة تاريخ وطننا فى عهده السحيق.
ومن خلال هذا البحث أقوم بعمل دراسة تاريخية عن كيفية حل رموز اللغة الهيروغليفية التى وجدت على حجر رشيد، من خلال تسلسل تاريخى للأحداث منذ مجئ الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 م مرورًا باكتشاف حجر رشيد فى يوم 15 يوليو عام 1799 م، ثم حل شامبليون لرموزه بالكامل فى سنة 1828، وانتهاءًا بوفاة شامبليون فى 4مارس 1832.

نشأة اللغات المصرية القديمة:
تأتى اللغة المصرية القديمة بعد السومرية كأقدم لغة مسجلة.
تطلبت الحاجة إلى الكتابة مع تزايد المتطلبات الإدارية والبيروقراطية لمصر بعد أن قام الملك "مينا" بتوحيد قطرى مصر. وينسب إلى "تحوت" أنه مخترع الكتابة الهيروغليفية، واعتبرت قرينته "سيشت" ربة الكتابة. 
وانقسمت الهيروغليفية إلى فئتين، رموز ذات معان صورية تسمى صوريات، ورموز ذات قيم صوتية تسمى صوتيات، وشكلت الكتابة الصورية أول هيروغليفية، تطورت إلى مجموعة من الرموز، تدمج الفن واللغة معاً، بما يمثل أفكاراً، وأصواتاً، وأشياء. وأطلق المصريون على كتاباتهم "ميدو نتر" ومعناها "كلمات الرب".
وكلمة "الهيروغليفية" ذات أصل إغريقى ومعناه "النقوش المقدسة". واستخدمت "الهيروغليفية" أساساً فى الكتابات أو النقوش الزخرفية، والرسمية، والمقدسة، والدينية، حيث نحتت على الحجر والفخار. كما كتبت بالهيروغليفية أيضاً السجلات المدنية والوثائق الملكية ذات الأهمية الدائمة، فضلاً عن تسجيل الأحداث التاريخية.
وهناك شكل آخر من أشكال الكتابة هو "الهيراطيقية" التى استخدمت لتسجيل المراسلات الأدبية والعلمية، والحكومية، واليومية. وهى كتابة بسيطة وذات حروف متصلة، نشأت عن الهيروغليفية حوالى 1780 قبل الميلاد فى عصر الدولة الوسطى. وتعتبر الهيراطيقية بالنسبة للهيروغليفية، مثل الكتابة اليدوية بالنسبة للكتابة المطبوعة. وظلت هذه الكتابة تستخدم حتى نهاية عصر الدولة الحديثة. وتعنى كلمة "هيراتيق" باليونانية "كتابة الكهنة أو رجال الدين" حيث كان الكهنة هم الذين يكتبون بالهيراطيقية عندما ينسخون الكتب الدينية المقدسة والنصوص الأدبية والتجارية، حيث تكون السرعة مطلوبة، فهى لغة أسرع فى الكتابة من الهيروغليفية. 
وكانت "الديموطيقية" نوعاً آخر من أنواع الكتابة، ظهر نحو نهاية العصر المتأخر. وتعنى "ديموتيكس" باليونانية "عام" أو "شعبى" أى الكتابة الشعبية. ونشأت "الديموطيقية" عن الهيراطيقية حوالى عام 700 قبل الميلاد، وهى تكتب على نحو أسرع وحروفها متصلة بصورة تزيد عن شكل الكتابة الهيراطيقية. واستخدم هذا النوع فى كل نواحى الحياة مثل الكتابات اليومية، والتجارية، والحكومية، والقانونية. واستمرت كتابة النصوص الدينية بالهيراطيقية، وظلت النقوش المقدسة المنحوتة على الحجر مسجلة بالهيروغليفية، غير أن الديموطيقية صارت تستخدم فى الكتابات الأدبية، فضلاً عن المراسيم الملكية المنقوشة على الأعمدة الحجرية. وكانت الديموطيقية آخر اللغات المصرية القديمة التى تكتب وانتشرت فى العصور المتأخرة، وعصرى البطالمة والرومان، وهى تقرأ مثل الهيراطيقية من اليمين إلى اليسار.

نهاية استخدام اللغات المصرية القديمة:
فى جزيرة فيلة، عثر على آخر نقش هيروغليفى معروف، وهو يرجع إلى عام 394 ميلادياً، وبحلول العصر الرابع الميلادى، كان يعتقد أن الكتابة الهيروغليفية معادية للمسيحية، لأنها وثنية بطبيعتها. وفى عام 391 ميلادياً أغلقت الإمبراطورية البيزنطية جميع المعابد المصرية باعتبارها مراكز عبادة وثنية. ودمر السيرابيوم، وغيره من المزارات المصرية. وكان آخر من استخدم الهيروغليفية قلة من الكهنة الذين بقوا على قيد الحياة. وعندما ماتوا، ماتت الهيروغليفية وماتت أيضاً القدرة على تفسير النقوش المقدسة لمصر القديمة.
وفيما بين سنة 100 وسنة 640 الميلاديتين، ظهرت لغة جديدة فى مصر تطورت بوجه خاص واكتسبت شعبية حوالى سنة 300 ميلادية. وتكونت هذه اللغة الجديدة من الأبجدية اليونانية، ومع ست علامات إضافية، تمثل الأصوات المصرية المشتقة من الديموطيقية، غابت عن الأبجدية اليونانية، وعرفت هذه اللغة باسم "القبطية". إلا أن هذه الغة قد ماتت ببطء وحلت محلها اللغة العربية، غير أن الكنائس فى مصر مازالت تستخدم اللغة القبطية فى بعض صلواتها.

فى عام 1762 أى قبل كشف حجر رشيد بحوالى ثلث قرن توصل "ج بارتلمى" من إطلاعه على الكتابة الهيروغليفية على الآثار المصرية إلى أن الخراطيش تحتوى على أسماء الملوك.

حجر رشيد:
"حجر رشيد" عبارة عن كتلة من الجرانيت الرمادى يبلغ وزنه حوالى 1500 رطل (762 كيلوجرام) وارتفاعه ثلاثة أقدام تقريباً (113 سم)، بعرض يزيد عن قدمين (75.5 سم)، وسمك 11 بوصة (27.5 سم). نُقش فى 27 مارس عام 196 ق.م مديح للملك "بطليموس الخامس" بمناسبة الذكرى السنوية لتوليه العرش وحمل شكر من كهنة منف للفرعون ذى الثلاثة عشر عاماً على مكرمته التى منحها للمعبد، وكان هذا الاحتفال الأخير له، وإحتوى الحجر على نفس النص مكتوباً بثلاث لغات مختلفة على هيئة ثلاثة نقوش متوازية، وذلك باللغات الهيروغليفية (14 سطر)، والديموطيقية (32 سطر)، واليونانية (54 سطر). 

ملحوظة:
يقول د. زاهى حواس فى جريدة الأهرام ليوم السبت 26 نوفمبر 2005 بأنهم فى المتحف البريطانى قاموا بنقل حجر رشيد (من مكانه المظلم بقسم النحت بالطابق السفلى، وتم عرضه بأسلوب رائع وبدأوا فى إزالة طبقة الدهان البيضاء، وبقايا الشمع من الحجر الذى اعتقد العالم كله أنه من البازلت، وهذا منشور فى كل الكتب التى تتحدث عن حجر رشيد، ولكنهم اكتشفوا الآن أن حجر رشيد من الجرانيت الرمادى وليس البازلت.)

اكتشاف حجر رشيد:
بعد مجىء الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 م، وبعد عام من مجيئها وبالتحديد فى يوم 15 يوليو عام 1799 م عثر أحد ضباط الحملة الفرنسية ويدعى "بيير فرانسو كسافيير بوشارد Pierre Francois Xavier Bouchard" (1772 - 1832) وكان ضابطاً مهندساً على "حجر رشيد" بالقرب من مدينة "رشيد" المصرية، أثناء قيامه بأعمال هندسية عند "قلعة جوليان" قرب رشيد وهى ثغر على مسافة 70 كم شرق الإسكندرية. وكان هذا الضابط مع بعض ضباط الحملة حين كانوا يقومون بإزالة حائط قديم، فلما لاحظ لوحة حجرية غريبة مستعملة فى بناء حائط قديم، أخطر القائد مينو باكتشافه، فنقل ذلك الأثر إلى المعهد العلمى الذى كان نابليون قد أنشأه فى القاهرة، وأعلنت جريدة قوات الحملة "لاكورييه ديجيت" نبأ الاكتشاف وتساءلت عما إذا كان وجود الكتابة الإغريقية، التى يبدوا أنها ترجمة للنص الهيروغليفى المصرى، يمكن أن يزودنا بمفتاح لقراءة وكشف معانى اللغة الهيروغليفية المصرية القديمة.
ولما احتل الإنجليز مصر فى سنة 1801، قام الفرنسيون بتسليم جميع القطع الأثرية وبينها حجر رشيد إلى الإنجليز، وذلك طبقاً لاتفاقية بينهما على اقتسام مناطق النفوذ فى العالم العربى، وكان الفرنسيون قد قاموا بطبعه على الورق ليحتفظوا بالصورة، وقام كلاً علماء الحملة الفرنسية والمعهد البريطانى بتوزيع نسخ من هذا الحجر على المعاهد والجامعات الأوربية وفى العام التالى لتسليم الحجر إلى الإنجليز أى فى عام 1802 تمت ترجمة النص اليونانى إلى 3 لغات هى: اللاتينية والإنجليزية والفرنسية. 
ونظراً لأن نفس النص مدون باليونانية القديمة والديموطيقية، صار تفسير النص المكتوب بالهيروغليفية ممكناً. غير أن الكتابة الهيروغليفية المنقوشة فى الجزء الأعلى، لم تحتوى إلا على قدر قليل من الرموز، حيث لحقها الضرر الأكبر بين اللغات الثلاثة. ولم يتسن العثور على الأجزاء المفقودة أبداً.
كانت اليونانية والديموطيقية معروفتين خلال القرن التاسع عشر الميلادى، ومن ثم تبين أن ما كتب على الحجر بكل منهما نصاً متطابقاً. فكان من الطبيعى افتراض أن النص الهيروغليفى أيضاً يحتوى نفس المعلومات.

جهود "سلفستر دى ساسى":
كان أول من حاول فك رموز حجر رشيد هو العالم الفرنسى"سلفستر دى ساس" عالم اللغة العربية عام 1802 أى بعد أن قام الإنجليز بترجمة النص اليونانى بعام واحد، وقد كانت محاولته منصبة على القسم الديموطيقى، ظناً منه أنه لتشابه الخط هذا الخط بالكتابة العربية الرقعة وجود علاقة بينهما، واستطاع أن يحدد ويحصر، وهى 25 حرف حروف الأبجدية التى تتكون منها اللغة الديموطيقية، وبذلك استطاع قراءة ونطق الكلمات المكتوبة بالديموطيقية دون أن يعرف معناها، وقد تعرف على اسم الملك بطليموس من خلال الخط الديموطيقى.

القبطية والهيروغليفية:
استعان بعض العلماء بما توصل به عالم ألمانى فى القرن السابع عشر هو الأب كريشر من ان اللغة القبطية هى نفسها اللغة المصرية القديمة التى كان يتحدث بها المصريون، ولكنها مكتوبة بحروف يونانية وبعض الحروف الديموطيقية، وبذلك تمكن العلماء من عقد مقارنة بين نطق الكلمات والجمل المكتوبة بالديموطيقية والنطق طبقاً للدلالات الصوتية للغة القبطية. كما لاحظ العلماء أن أسماء الملوك المذكورين فى النص مكتوبة داخل "خراطيش" أما النص المكتوب بالخط الهيروغليفى فقد كان من الصعب معرفة نطقه، وفهم ألغازه ورموزه.
وكان أول من استخدم اللغة القبطية فى حل رموز اللغة المصرية القديمة هو العالم السويدى "جوهان ديفيد أكربلاد Johann David Akerblad" عام 1802.


جهود توماس يونج:
ولم يتيسر استكمال أعمال الترجمة قبل عشرين عاماً، وحقق الإنجليزى "توماس يونج Thimas Young " (1773 - 1824) أول خطوة ناجحة فى هذا المجال. وكان يونج أول من خلص إلى أن الهيروغليفية ربما تمثل صوتيات متجمعة فى كلمات. كما استنتج أن بعض الرموز الديموطيقية والهيراطيقية نشأت عن الكتابة الهيروغليفية. وحالفه الصواب عندما افترض أن الهيروغليفية تحتوى على كل من الأبجدية والرموز. ولم يتقن "يونج" المصرية القديمة بطلاقة، الأمر الذى جعل تقدمه محدوداً للغاية. ومع ذلك اكتشف المعانى الحقيقة لعدة رموز صوتية وحروف. وقد كان يعلم من جهود من سبقه أن الأسماء الملكية تنقش داخل "خراطيش"، وعلى ذلك رتب العلامات التى وجدت فى الخرطوش كحروف تمثل رمز "بطليموس"، وقد نجح نجاحاً جزئياً فى معرفة مجموعة الحروف الهيروغليفية التى يتكون منها اسم "بطليموس" عام 1814، وفى ذلك الوقت كشف المغامر الإيطالى "بلزونى" عن مقبرة "سيتى الأول"، واستطاع يونج أن يفسر حرف "ب" فى إسم سيتى ولكنه لم يعرف أن الاسم يمكن أن ينطق "بسيتى"، ومع ذلك فقد ترك بعض العلامات بغير تفسير، فساقه ذلك إلى الوقوع فى بعض الأخطاء، فقرأ "يورجيتيس" و"أوتوقراطور" على أنها "قيصر" و"أرسينوى".
وقد أضاف الإنجليزى "بانكس Bankes" فى عام 1819 إلى هذه النتائج قراءة الاسم الهيروغليفى "كيلوباترا" على مسلة فى أسوان.

كان هؤلاء العلماء السابقين وغيرهم يرسلون ما يتوصلون إليه إلى الهيئات العلمية فى أوربا، فتقوم هذه الهيئات بنشرها حتى تكون متاحة للجميع.

شامبليون .. العالم والإنسان:
ولد "جان فرانسو شامبليون Jean François Champollion" (1790 - 1932) فى مدينة فيجاك بمقاطعة لوت فى 23 ديسمبر عام 1790، وقد كان والد شمبليون قد استقر فى مدينة فيجاك، حيث كان يبيع الكتب فى مكان صغير كان عمدة المدينة قد خصصه له لعرض الكتب وبيعها.
مات أبواه وهو فى سن صغيرة، وانتقل إلى مدينة جرينوبل حيث كان أخوه الأكبر جاك جوزيف يعمل هناك باحثاً فى معهد البحوث الفرنسى فأصبح فى رعايته، قد بدأ جان فرانسوا وهو لا يزال فى الثالثة عشر من عمره فى الاهتمام باللغات العربية والكلدانية والسريانية بعد أن كان قد درس اللاتينية والعبرية. وكان من العادات والتقاليد أن يحمل الابن الأكبر فقط لقب العائلة، إلا أن شقيق شامبليون قد أعطاه اسم العائلة وهو فى سن السادسة عشرة لأنه كان على ثقة بأن أخيه الصغير سوف يعلو شأنه وسوف يصبح من المشاهير نظراً لعبقريته ونبوغه، وهو ما جعل اسم العائلة يتردد فى كل مكان، ولحسن حظه كان حاكم المقاطعة ليس سوى عالم الرياضيات جاك فورييه الذى طلب مقابلة هذا الصبى العجيب الذى يعرف الكثير بالرغم من صغر سنه، وقام باطلاعه على أوراق بردى وعلى مقتطفات من اللغة الهيروغليفية المنقوشة فوق حجر رشيد.
بدأ فى سنة 1812 وهو فى الثانية والعشرين من عمره فى دراسة اللغة القبطية، وكان شقيقه الأكبر يتابعه خطوة بخطوة، ويقوم بتمويل مشترياته من الكتب، وكان من النادر أن يفترقا، كانا يفعلان سوياً كل شئ حتى التصرفات الخاطئة.

شامبليون وحجر رشيد:
عندما كان شاملبيون فى التاسعة عشر من عمره قدم أول مذكرة إلى أكاديمية العلوم والفنون فى جرينوبل والتى أشار فيها إلى أنه يجب على الحروف الهيروغليفية أن تصدر أصواتاً لكى يمكنها التعبير عن أسماء يونانية.
وفى الخامسة والعشرين من عمره أصدر كتابه "مصر فى عهد الفراعنة" والذى أوضح فيه أن المصريين لم يكونوا دائماً يكتبون حروف العلة.
لم يتفق "شامبليون" فى أول الأمر مع فكرة "يونج" أن الهيروغليفية تجمع كلا من الأشكال الصورية والصوتية. واعتقد "شامبليون" أنها مجرد أشكال صورية أكثر منها أبجدية، إلا أنه عدل عن رأيه بعد ذلك.
فى أغسطس 1821 برهن شامبليون على وجود علاقة قرابة لغوية بين الخطوط المصرية الثلاثة (الهيروغليفى، والهيراطيقى الكهنوتى، والديموطيقى)، وأكد أمام أكاديمية الكتابات المنقوشة والآداب القديمة أن هذه الخطوط تنتمى إلى منظومة واحدة، ولقد تم اشتقاق هذه الخطوط الثلاثة الواحد من الآخر فالخطوط الهيروغليفية أنتجت الخط الهيراطيقى الكهنوتى الذى هو مخطوط يدوى عادى، والخطوط الهيراطيقية أنتجت الخط الديموطيقى الذى هو صورة تبسيطية لاحقة، وهكذا كانت مصر تمتلك ثلاثة خطوط للتعبير عن لغة واحدة. الأول خطاً مقدساً والثانى خطاً عادياً مكتوباً باليد والثالث والأخير خطاً شعبياً يستخدمه المصريون فى حياتهم اليومية.
ومضى قداماً فى نشر هذه النظرية عام 1821، وقد ساعده نقش من جزيرة فيلة يحتوى اسمى بطليموس وكليوباترا، ووجد فى كتاب قديم أن القيمة الصوتية للرموز المصرية تؤخذ من الحرف الأول لاسم الشئ، فأخذ فى التعرف على الرموز وكلما تعرف على رمز بحث عن اسمه باللغة القبطية، وبذلك أمكنه معرفة القيمة الصوتية للرمز الهيروغليفى من الحرف الأول للكلمة القبطية، وبعد ذلك ساعدته النصوص الإغريقية، فأمكنه ملأ الفراغات بتخمين المعنى القبطى للكلمة الإغريقية بين الحروف التى تعرف عليها بالطريقة السابقة، واستطاع بذلك قراءة رموز 79 اسما ملكياً مختلفاً، عرف جميع حروفها ورتبها فى جدول حرفاً حرفاً، وبواسطة جميع الحروف الهجائية التى عرفها نجح فى معرفة عدد من الكلمات، وبدأ فى كتابة معجم خاص للغة المصرية القديمة.

وقد استخدم شامبليون ثلاث وسائل في حل الرموز:
1- اسم الملك رمسيس المكتوب بالهيروغليفية على جدران معبد أبو سمبل (وقد وصلته نسخه من نقوشها من خلال أحد أصدقائه الذى زار مصر).
2- ترجمة مفردات اسم رمسيس على حجر رشيد في النص اليوناني، وبالطبع فاسم رمسيس لم يرد على حجر رشيد، ولكن وردت مفرداته ضمن كلمات أخرى وهى "رع" وكلمة "م س".
3- مقابلة معانى الكلمات السابقة في اللغة القبطية.

وفى يوم 14 سبتمبر 1822 أمسك شامبليون بأوراقه فى يده وأخذها معه تاركاً بيته فى شارع مازارين فى باريس وذهب مسرعاً نحو أكاديمية الكتابات المنقوشة القريبة من البيت حيث يعمل شقيقه الأكبر جاك جوزيف، ودخل عليه المكتب صائحاً: "المسألة فى حوزتى !" ثم سقط مغشياً عليه.
 وأخذ شامبليون يكتب ما توصل إليه من نتائج وقام بإرسال هذه النتائج فى خطابه المشهور إلى "مسيو داسييه M.Dacier" أمين أكاديمية العلوم والفنون فى 27 سبتمبر عام 1822 والذى لم يكشف فيه شامبليون سوى عن جزء من اكتشافاته، حيث كان فى حاجة إلى إجراء مراجعة وإعادة فحص. ولم يصرح بمفتاح اكتشافه سوى بعد عامين وذلك فى دراسته "موجز المنظومة الهيروغليفية عند قدماء المصريين" حيث قام بتوضيح هذه المنظومة بعبارة بليغة، قال فيها: "إنها منظومة مركبة، فكل نص وكل جملة تشتمل على كتابة منقوشة ورمزية ومنطوقة فى آن واحد".

والسؤال هنا: إذا كان شامبليون قد استفاد من جهود من سبقوه في التوصل إلى حل رموز حجر رشيد.. فما كان دور شامبليون؟ وفيما كانت عبقريته؟
ويجيب هذا السؤال الدكتور عبد المنعم عبد الحليم سيد قائلاً: (الحقيقة أن عبقرية شمبليون تجلت أولا في أنه أول من قرأ اسماء الفراعنة لأن هذه الأسماء كتبت بعلامات هيروغليفية تختلف عن العلامات التي كتبت بها اسماء ملوك البطالة وأباطرة الرومان (التي كانت علامات أبجدية) وثانيا لأنه نبذ الفكرة التي كانت سائدة بين العلماء الذين سبقوه‏،‏ والتي كانت سببا في اخفاقهم في التقدم في قراءة الكتابة الهيروغليفية وهذه الفكرة هي اعتقادهم أن العلامات الهيروغليفية كلها هي علامات رمزية بمعني أن العلامة الواحدة تعبر عن معني كامل أو عن كلمة كاملة أو عن معني متصل بشكلها‏،‏ ومن هنا فشلت جهود هؤلاء العلماء في التقدم في حل رموز حجر رشيد لأن العلامات الهيروغليفية علي هذا الحجر لم تكن كلها علامات رمزية.)

قام الملك لويس الثامن عشر بمنح شامبليون صندوقاً من الذهب، ثم سافر شامبليون إلى الفاتيكان حيث استقبله البابا ليون الثانى عشر بابا الفاتيكان واقترح عليه تعيينه كاردينالاً، إذ كان يعتقد أن اكتشافه يعزز التسلسل التاريخى التوراتى الذى وضعته الكنيسة، إلا أن شامبليون رفض بأدب رتبة كاردينال، ولكنه قبل الحصول على جوقة الشرف.
بعد ذلك سافر شامبليون إلى إيطاليا (من سنة 1824 - 1826)، وكان فى حاجة إلى أن يتحقق من صحة نتائجه، ولهذا ذهب أولاً إلى متحف تورين بإيطاليا الذى يمتلك مجموعة رائعة من الآثار المصرية، حيث ظل يفتش فى مجموعات الآثار المصرية، وينسخ النصوص ويضيف كلمات جديدة إلى معجمه.
وبعد زيارته إلى تورين ذهب شامبليون إلى ليفورنو حيث توجد مجموعة تحف أخرى.
وفى سنة 1827 تم تعيينه أميناً عاماً للآثار المصرية بمتحف اللوفر فى باريس، الذى إفتتح فى نوفمبر 1827 بإسم متحف شارل الثامن. وفى أثناء ذلك تقدم لعضوية أكاديمية الكتابات المنقوشة والآداب القديمة "Inscriptions & Bells Letters" سنة 1828 لكنه لم يقبل بها.
ولم يستطع شامبليون أن يحقق نجاحاً كبيراً، سوى لاحقاً عندما درس نظرية "يونج" بمرونة أكثر. وقام مستعينا باللغة القبطية بها فى تصحيح الأبجدية التى وضعها توماس يونج، وفى نهاية الأمر نجح فى ترجمة النص المنقوش على حجر رشيد بالكامل وقام بنشره عام 1828.
فى سنة 1828 تم تشكيل بعثة فرنسية – توسكانية (توسكانيا هى منطقة فى شمال إيطاليا) بموافقة ملكى فرنسا وتوسكانيا، وقد ضمت البعثة 12 عضواً بينهم شامبليون، متجهين إلى مصر.
وصلت البعثة إلى مصر فى يوم 18 أغسطس 1828، ونزل شامبليون وأعضاء البعثة من السفينة إلى أرض الإسكندرية. واستمر وجود شامبليون فى مصر من سنة 1828 إلى سنة 1830.
لم تعرب لجنة الاستقبال فى الإسكندرية عن ترحيبها الحار بالزائرين حيث أبدى "دورفيتى" قنصل فرنسا ذهوله لحضور البعثة فى حين أنه كتب إلى باريس مبيناً تحفظاته الشديدة على مثل هذه الزيارة، فالوقت غير مناسب إطلاقاً للحضور ومقابلة الوالى "محمد على" وتقديم طلبات إليه بينما كانت السفن الحربية الفرنسية قد اشتركت أخيراً فى تحطيم الأسطول التركى - المصرى فى نافارين، ولكن خطاب "دورفيتى" وصل باريس متأخراً.
وعلى كل حالى فقد خضع دورفيتى، فقد هدد شامبليون بإبلاغ الصحافة الأوروبية إذا ما رفضوا منحه التراخيص اللازمة.
واستقبل "محمد على" "شامبليون" الذى حصل منه على فرمان وعلى حراسة وتسهيلات متنوعة أخرى وأصبح من الممكن للبعثة أن تبدأ عملها.
وبعد وصوله إلى مصر بعشرة أيام كتب إلى شقيقة جاك جوزيف يقول: " إننى أتحمل حرارة الجو بأقصى ما أستطيع، يبدوا أننى قد ولدت فى هذه البلاد فالفرنج يرون أن سماتى تتشابه تماماً مع سمات رجل قبطى، إن لون شنبى الأسود الذى أصبح محترماً فعلاً يساهم كثيراً فى جعل وجهى شرقياً، فضلاً عن أننى اكتسبت عادات وأعراف البلاد فأشرب الكثير من القوة وأدخن النارجيلة ثلاث مرات يومياً "
دامت رحلة شامبليون فى مصر تسعة عشر شهراً اكتشف خلالها خمسين موقعاً، وقام بتدوين نتائج هذه الرحلة فى ست مجلدات كبيرة بعنوان "آثار مصر والنوبة".
وكانت نتيجة هذه الرحلة مجموعة من المؤلفات الأخرى أيضاً منها: مخطوط "المذكرات التفسيرية" و"مذكرات عن مصر والنوبة" الذى سجل فيه مشاهداته عند زيارته للآثار الفرعونية وتعليقاته المستفيضة عنها، وكذلك قراءاته للأسماء والنصوص التاريخية خطوة بخطوة خلال إعادة اكتشاف لمصر القديمة.
وقد كتب إلى مسيو داسيه ظافراً: "يحق لى أن أبشرك بأنه لا يوجد ما يلزم تغييره فى "رسالة حول الحروف الأبجدية الهيروغليفية" التى وضعناها، إن هذه الأبجدية صالحة، وتنطبق بنجاح متساوٍ على الصروح المصرية فى زمن الرومان كما فى زمن البطالمة، ومن المهم للغاية أن تنطبق أيضأ على الكتابات المنقوشة فى جميع معابد وقصور ومقابر العهود الفرعونية."
وعند عودته من صعيد مصر قابل "شامبليون" الوالى "محمد على" الذى طلب منه كتابة مذكرة عن تاريخ الآثار القديمة، وكان من الطبيعى أن يستجيب "شامبليون" لهذا الطلب ولكنه استغل الفرصة لكى يكتب مذكرة ثانية تلفت انتباه "محمد على" إلى ما شاهده من تخريب وحشى للآثار فى جميع أنحاء مصر، واقترح تنظيم الحفريات للمحافظة على هذا التراث من تعديات الجهل والجشع الأحمق.
وكتب "شامبليون" خطاباً لأخيه "جاك جوزيف" يقول فيه: "لقد جمعت أعمالاً تكفينى العمر كله !"
ولما عاد شامبليون إلى فرنسا تم تعيينه أخيراً كعضواً فى أكاديمية " الكتابات المنقوشة والآداب القديمة Inscriptions & Bells Letters" فى مايو سنة 1830، ثم أستاذاً فى "الكوليج دى فرانسCollege de France" سنة 1831، ولم يـُلق بها سوى بضع محاضرات فى الكرسى الذى أنشئ خصيصاً له، حيث سرعان ما اضطره المرض إلى التوقف عن إلقاء هذه المحاضرات، وتوفى شامبليون فى 4مارس 1832 وهو فى الثانية والأربعين من عمره، وجرت مراسم الجنازة بسان - روش بحضور جمهور كبير كان يشترك فى كرنفال عيد المرفع (عيد مسيحى غربى)، وكان شامبليون قد طلب دفنه فى مقابر بير – لاشيز، وأقيمت بجوار قبره مسلة من الصلصال الرملى محاطة بسياج مشبك.
ولم يكن شامبليون قد تمكن من إتمام كتابه عن "النحو المصرى" ولا القاموس الذى كان يقوم بإعداده، إلا أن شقيقه الأكبر "جاك جوزيف" قد قام بإتمامهما ونشرهما.

الهيروغليفية .. بين شامبليون وابن وحشية:
يتساءل د. على فهمى خشيم فى كتابه "آلهة مصر العربية" عما إذا كان العرب قد عرفوا شيئاً عن الهيروغليفية قبل شامبليون.. حيث يذكر أن العالم العربى العراقى أحمد إبن وحشية المتوفى فى أوائل القرن العاشر الميلادى كان مهتماً باللغات القديمة وأن له كتاب فى هذا المجال هو "شوق المستهام فى معرفة رموز الأقلام".
كان كتاب "آلهة مصر العربية" قدر صدر فى طبعته الأول سنة 1990 وفى جريدة القاهرة ليوم الثلاثاء 29 أكتوبر 2007 خبراً فى الصفحة الأولى بعنوان "العرب سبقوا "شامبليون"فى فهم اللغة الهيروغليفة" ويقول الخبر: 
(فى احتفالية نظمتها كلية الآثار فى جامعة القاهرة بالتعاون مع معهد الآثار الفلمنكى وكلية الآثار فى جامعة الفيوم وكلية الآداب فى جامعة المنصورة، لتكريم الدكتور عبد الحليم نور الدين أستاذ الآثار والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار المصرية،
فجر الدكتور عكاشة الدالى الخبير بمتحف بترى فى العاصمة البريطانية لندن مفاجأة من العيار الثقيل حين أشار إلى أن العلماء العرب هم أول من اكتشف أسرار اللغة الهيروغليفية قبل أن يتوصل إليها العالم الفرنسى شامبليون، وقد تم ذلك على يد عالم عراقى بارز من أهل القرن العاشر الميلادى هو "إبن وحشية"صاحب الكتاب المعروف "الفلاحة النبطية" وله مؤلفات أخرى فى الكيمياء ولابن وحشية كتاب من أهم الكتب فى دراسة اللغات القديمة سماه "شوق المستهام فى معرفة رموز الأقلام" وكان المستشرق النمساوى المعروف يوسف همر قد نشر النص العربى مع ترجمة إنجليزية لهذا الكتاب إدراكاً منه لأهميته القصوى فى مجال دراسة الكتابة الهيروغليفية.
وأضاف أنه تم طبع الكتاب فى لندن سنة 1806 أى قبل أن يتوصل العالم الفرنسى شامبليون إلى حل رموز الكتابة المصرية القديمة عن طريق فك رموز حجر رشيد بـ 16 سنة.)
وبعد.. فهل استطاع شامبليون بالفعل من التوصل إلى حل رموز الهيروغليفية من خلال جهد متواصل فى محاولة فهم النصوص المكتوبة على حجر رشيد، أم أنه توصل إلى مثل هذا الكتاب وقام بالنقل عنه، وخصوصاً أن هناك بعض من يتهمونه بأنه توصل إلى ما توصل إليه من خلال مخطوط عربى قديم.
وهل استطاع ابن وحشية فى كتابه معرفة كل رموز اللغة الهيروغليفية أم أنه قد عرف بعضها فقط مثلما فعل العلماء الذين سبقوا شامبليون فى هذا المجال ؟!
وعموماً.. سواء كان شامبلون هو الذى حل رموز الهيروغليفية أو ابن وحشية. فإن من قام بحل هذه الرموز قد قام بحل رموز تاريخ أمة بأكملها.. حيث لم يكن بوسع أحد أن يعرف شيئاً عن تاريخ مصر القديمة وتاريخ علاقاتها مع الدول المحيطة وطبيعة الحياة فى المنطقة بأكملها دون التعرف على اللغة التى تمت به كتابة هذا التاريخ بأكمله..


المراجع:
كتب:
اسم الكتاب
تأليف
ترجمة
دار النشر
مصر.. ولع فرنسى
روبير سوليه
لطيف فرج
الهيئة العامة المصرية للكتاب
آلهة مصر العربية
على فهمى خشيم

الهيئة العامة المصرية للكتاب
روح مصر القديمة
آنا رويز
إكرام يوسف
الهيئة العامة المصرية للكتاب
معجم الحضارة المصرية القديمة
جورج بوزنر وآخرون
أمين سلامة
الهيئة العامة المصرية للكتاب
مصر القديمة – الجزء الأول
سليم حسن

الهيئة العامة المصرية للكتاب

دوريات:
الدورية
المقال أو الخبر
الكاتب
تاريخ النشر
جريدة الأهرام
آثار وأسرار
د. زاهى حواس
السبت 2 أغسطس 2003
4 جمادى الآخرة 1424
جريدة الأهرام
آثار وأسرار
د. زاهى حواس
السبت 16 أكتوبر 2004
2 رمضان 1425
جريدة الأهرام
آثار وأسرار
د. زاهى حواس
السبت 26 نوفمبر 2005
24 شوال 1426
جريدة القاهرة
العرب سبقوا شامبلون فى فهم الهيروغليفية

الثلاثاء 9 أكتوبر 2007
27 رمضان 1428
جريدة الأهرام
شامبليون.. والآثار المصرية!
محمد صالح
السبت 1 فبراير 2003
29 ذو القعدة 1423
جريدة الأهرام
حول دور شمبليون في حل رموز حجر رشيد
د. عبدالمنعم عبدالحليم سيد
أستاذ التاريخ القديم والآثار بآداب الإسكندرية
الخميس 2 سبتمبر 1999
22 جمادى الأولى 1420

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.