الخميس، 15 أغسطس 2019

رفعت.. العلم يا «عبد الحكم» (1)

رفعت.. العلم يا «عبد الحكم»
(1)
صلاح عيسى
يروى قصة الشباب سنة 1935 «1»
القاهرة   الثلاثاء 15 فبراير 2011م - 12 ربيع الأول 1432هـ


1
وكان خريف
سنوات طويلة مرت منذ أن انطفأ وهج الثورة..
جرت في النهر مياه كثيرة فبهتت ذكري الشهداء وابتسمت شفاه أقسمت ألا تكف عيونها عن بكائهم، لكن الزمن ـ كالقلب ـ قلب.
ترهل ثوار ربيع 1919.. شابوا في ستة عشر عاما فقط، وتواضعت أحلام الثورة من المطالبة بالاستقلال التام إلي مجرد المطالبة بحرية الرأي وحق التعبير، ومات «سعد زغلول» تاركا أقسي كلماته.
ـ كانت غلطتنا عندما صدقنا أننا مستقلون.
نجح الطغاة والغزاة في أن يلزموا الشعب موقف الدفاع، كلما تقدم «بالدم» خطوة للأمام، أعادوه «بالقهر» خطوتين للوراء. لكنه برغم هذا كله ملك ـ وفي أحلك اللحظات ـ القدرة علي الربط بين مسألة الديمقراطية وقضية الاستقلال، فحرص علي ألا يترك الطغاة ينفردون بالأمر، وحرمهم حلم حياتهم: أن يتكلموا باسمه.. فيبيعوا البلد لأسيادهم.. وينفض المولد.
وكان خريف من سنة 1935..
جاء مبكرا وبنسمات أكثر برودة من المعتاد، فأجبر الناس علي ارتداء ملابسهم الثقيلة في المساء. سقطت الأمطار مبكرة، فغسلت أشجارا بلا خضرة، لكن الشمس عادت تشرق من جديد. أما الجو السياسي، فكان ملبدا بالغيوم.. وأيامها لم يكن أحد في مصر كلها يعرف بالضبط ما سوف تجيء به الأيام..
***
في صباح يوم الجمعة 25 أكتوبر من ذلك العام لامست أقدام «محمد عبد الحكم الجراحي» رصيف ميناء الإسكندرية، ووسط زحام المستقبلين، استطاع أن يلمح بصعوبة وجه ابن خالته ولي أمره، وصديقه اليوزباشي - الرائد - «عباس حلمي زغلول»، وهو يحتضنه مشوقا، كانت عيناه تدوران في المكان: ها هو يعود مرة أخري إلي مصر بعد عامين من الغربة.. فماذا تغير فيك يا بلدنا؟
ـ لا شيء.. غادرتها و«إسماعيل صدقي» يحكمها بدستور مزيف.. وها أنت تعود و«توفيق نسيم» يحكمها بلا دستور علي الإطلاق، لا مزيف ولا حقيقي والإنجليز يستغلون الحرب الإيطالية الحبشية، ليرجعوا بنا إلي أيام الحماية.
ضاعت ضحكة «عباس» التي ختم بها كلماته في ضجة القطار الذي استقلاه إلي القاهرة، وغابت عيون «عبد الحكم» في خضرة المزارع:
قال اليوزباشي: ـ وافق الدكتور «طه حسين» علي التحاقك بكلية الآداب..
وجدته يتذكر لقاءكما جرينوبل جيدا.. حتي أنه سألني عن أشعارك.
.....................
ما أسرع ما يعدو الزمن:
في مثل هذه الأيام من خريف 1933 سافرت إلي فرنسا.. وكان الظن أنك ستدرس الطب. تسعة أشهر طويلة بـ «ليون» بنسيون «مدام بروكيز»: العجوز الطيبة الشرسة. ما كان أجمل حديثها عن بطولات جنرالها الشهيد.. لكن ما أسمج ما ورثته من تقاليده العسكرية الصارمة، كل شيء بميعاد: الإفطار وشاي العصر وساعة إشعال المدفأة. أما الذي لا موعد له، فهو ذكريات الجنرال العجوز الذي أحبته وعشقته وتزوجته وبكته حين استشهد من أجل فرنسا، التي أحبها ربما أكثر منها. أكانت تفيض في الحديث عنه فخرا به أم غيرة عليه؟.. والمشكلة هي كيف تحتمل روحها الشاعرة كل هذه القيود؟!
- مسيو عبد الحكيم.. إذا تأخرت عن العاشرة فلا تزعج نفسك بدق الباب..
وتنتهي السنة الدراسية دون أن تقبلك «جامعة ليون».. ضاعت الشهور في تعاطي الشعر والأدب.. فلتدر ظهرك للطب. ولتشد الرحال إلي جرينوبل، وداعا «مدام بروكيز»، وإلي بنسيون آخر في مدينة أخري ذلك قدر الغريب، كما كان قدره أن يجاوره في «بنسيون جرينوبل «ذلك العجوز العطوف»، دكتور «دريفيه»: تسعون عاما طويلة وأبوة دافقة، احتضنت غربتك ويتمك فما أقسي أن يكون الإنسان يتيما وغريبا في نفس اللحظة.. ماتت الأم وأنت في الثالثة، وتبعها الأب في العام التالي.. ضاعت من الذاكرة ملامح مغاني الطفولة بالحلمية الجديدة.
مضي العام الثاني أكثر هدوءًا تجمع صغير من الطلبة المصريين يلتقي في مقاهي جرينوبل وحدائقها.. ويتحلق أحيانا حول العجوز «دريفيه» مستمعا إلي ذكرياته، وصحف تأتي من القاهرة تحمل أنباء بعضها طيب، ومعظمها يملأ القلب أسي.. عن هذا تحدث الدكتور «طه حسين» عندما التقي به «عبد الحكم» في الصيف.. كان «طه حسين» قد جاء كعادته يمضي صيفه في المدينة التي درس فيها، فشد الطلاب المصريون رحالهم إليه، يناقشون الرجل الذي كان مثار إعجابهم والذي هز فصله من الجامعة، قبل سنوات قليلة أركان ديكتاتورية «إسماعيل صدقي» واستمع «طه حسين» بصبر لما ألقاه «عبد الحكم» من أشعار وناقشه فيما يقرأ وفي نهاية المقابلة قال «عبد الحكم»:
- أود أن استكمل دراستي في القاهرة.. فهل تقبلني الكلية؟
ورحب الرجل الطيب وعندما عاد «طه حسين» إلي القاهرة ذكره «عباس» بوعده وكان وفيا.. قام إلي الدكتور «منصور فهمي» عميد الكلية.. وعاد بعد لحظة فأمر بقبول الأوراق..
علي رصيف القطار في جرينوبل ودعه الأصدقاء المصريون، ومعهم «دريفيه» عانقوه بقوة بكي العجوز شد «عبد الحكم» علي يديه، وعده أن يكتب إليه، فهل تذكر هذا يا عبد الحكم؟! أم تنساه في زحام القاهرة الذي بدت بشائره في هذا الاختناق الرهيب في محطة باب الحديد..
فماذا تغير فيك يا بلدنا؟!


2
في اللحظة نفسها التي كان عبد الحكم يغادر فيها محطة القاهرة بصحبة ابن خالته، لم يتنبه لشاب نزل من نفس القطار، ومر بجواره، وربما التقت نظراتهما فوق تمثال نهضة مصر المشرف علي الميدان.. أشار كل منهما لعربة حانطور.. فمضي عبد الحكم وقريبه إلي شارع الصليبة بالقلعة.. أما «عبد المجيد مرسي» فقد اتجه إلي «شارع عبد المنعم» بعابدين.
رحبت به المدام وسألته عن أحوال الإسكندرية دلف «عبد المجيد مرسي» إلي حجرته الصغيرة بالبنسيون: سرير ودولاب ومكتب يختفي سطحه تحت أكوام من الكتب. مرآه في المواجهة، وشماعة، فتح أبواب الشرفة، حملت نسمات الخريف رائحة الفل. ذهب الصيف وذهبت معه رائحة التمرحنة، وهذه المرة تحدث الأب ـ أيضا ـ عن الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي جاءت مع ديكتاتورية «إسماعيل صدقي»، وظلت قائمة حتي بعد أن غادر «صدقي» الحكم ليخلفه «عبد الفتاح يحيي» ثم يغادره هو الآخر ليحل محلهما «توفيق نسيم»، لكن الأزمة لا تغادر ونصائح الوالد بالتوفير لا تتوقف.
والمهم الآن هو أن يزور عمه وأن يسلم الرسالة التي حملها من والده إلي عم علي الحمزاوي.
بعد العصر كان «عبد المجيد مرسي» في الروضة.. جلس مع عمه قليلا، كانت مصادفة سعيدة، أن تأتي شقيقته «إحسان» لتزور- أيضا - عمهما فتلقاه وهو في طريقه إلي الانصراف. عطوفة أنت يا إحسان كقلب الأم وما أجملك حقا في هذه الملابس البيضاء، ولابد أن الذي أطلق علي الممرضات صفة «ملائكة الرحمة» كان يعلم أنك ستلتحقين يوما بمدرسة حكيمات القصر العيني، أما الزحام في شارع الموسكي فما أخنقه.. هل أجدك حقا يا «عم علي».. بالأحضان أخذك «علي الحمزاوي»، فما أعمق الصداقة التي تجمعه بالوالد.. فكيف ومتي نشأت؟.. والدكان لا يختلف عن غيره من دكاكين النحاسين في هذا الحي.. وها هو النحاس الأصفر والأحمر يملأ رفوفه.. قرأ الرجل الخطاب بإمعان.. طلب له شايا. طوي الخطاب عدة طيات، قبل أن يطلعه علي واحدة منها، كأنه يخطره بما يخصه في الرسالة، وكان والده قد كتب يقول للحمزاوي:
«إذا احتاج عبد المجيد شيئا خلال العام الدراسي فاعطه له يا حاج علي، وسلمه علي الفور مبلغ عشرة جنيهات لشراء كتب العام الجديد، وإذا وجدت وقتا فمر عليه بالبنسيون لتتأكد من أنه يذاكر ولا يلعب».
في زحام «شارع الموسكي» تحسس «عبد المجيد» الجنيهات العشرة خشية أن ينشلها من جيبه لص.. لم تعد الدنيا أمانا كأيام زمان، خربها «صدقي باشا» الله يلعنه. تحالف الوغد مع الأزمة الاقتصادية، وأذاقا البلد الأمرين وجالد الوالد الزمن والأزمة، وكاد البيت الذي بناه بشقاء العمر يضيع هدرا، فينزع الدائنون ملكيته لولا أن الله سلم، ولو كان «صدقي» مازال حاكما ما وجدت لدي «علي الحمزاوي» عشرة مليمات.. ولاعتذر الرجل الطيب بسوء الحال، الذي لم يتحسن إلا قليلا: صحيح أن الأزمة قد تراجعت إلا أن حال الدنيا لم ينصلح بعد تماما.. وأمس قرأت في الصحف أن مجلس الوزراء سيصدر قرارا بتعيين حملة الشهادات العليا بمرتب شهري يصل إلي ثمانية جنيهات ونصف الجنيه، وقد هنأت «الأهرام» الحكومة بهذا الإنصاف.. ولكن هل يكفي المبلغ حقا؟.. أهذه نهاية التعب؟ لعله أفضل من البطالة التي تخنق بحبالها خريجي المدارس العليا والجامعات.. فلنحمد الله وندعوه أن يصدر مجلس الوزراء القرار، وأن نكون من أصحاب الحظ الحسن الذين يجدون فرصة لوظيفة في الميري.
في ذلك العام كان «محمد عبد المجيد مرسي» قد أوشك أن يتم عامه الثاني والعشرين، فهو من مواليد الإسكندرية في 18 ديسمبر 1923. عاش طفولته حتي السابعة يمرح في شوارع واحد من أشهر أحيائها الشعبية، هو حي كرموز. وكان والده تاجرا للنحاس من مستوري الحال.. وقد ورث عن أبيه مهنته والمنزل الذي ولد فيه ابنه، والذي باعه في عام 1920، لتنتقل الأسرة بعدها إلي حي أقل ازدحاما.
ومع بداية مرحلة الدراسة الثانوية، انتقل الابن إلي القاهرة ليحصل علي شهادة البكالوريا من «مدرسة المرقصية الثانوية».. وعلي العكس مما كان والده يريد فإنه لم يلتحق بكلية الشرطة، والتحق بكلية الزراعة بالجامعة المصرية التي لم تكن تجذب الدارسين عادة، إذ كان تحويل الزراعة إلي دراسة جامعية في بلد توارث الخبرة الزراعية عبر سبعة آلاف سنة، أمرا جديدا خاصة أن الجامعة ذاتها كانت لا تزال مؤسسة جديدة في مصر.
ولم يكن الأب واسع الثراء، لكنه أيضا لم يكن كثير الأعباء، إذ لم يرزق من الأبناء ـ غير ابنه «محمد» - سوي بأخت له، هي «إحسان»، والظاهر أنه كان رجلا متفتح العقل، عمليا وواقعيا، وإلا ما سمح لابنه بأن يغادر الإسكندرية ليلتحق بمدارس القاهرة الثانوية، فيقيم بعيدا عنه، مع عمه أولا، ثم وحده بعد ذلك في بنسيون متوسط الحال، بشارع عبد المنعم بعابدين، أما الدليل المؤكد علي واقعيته، فهو أنه سمح لابنته، بأن تغادره هي الأخري، لتقيم وتدرس بـ «بمدرسة حكيمات القصر العيني»، علي أن تمضي إجازاتها الأسبوعية في بيت عمها وهو دليل ـ كذلك ـ علي أن الرجل كان من المستورين الذين لا تستغني أسرهم عن عمل الأبناء، حتي الإناث منهم.
ويثير اختيار «عبد المجيد مرسي» لدراسة الزراعة الدهشة، فقد كان والده تاجرا لا صاحب أطيان، كوالد زميله «إبراهيم شكري» الذي كان من طلائع أغنياء الفلاحين، الذين أدركوا أهمية الاستفادة بالعلم إلي جوار الخبرة في إدارة مزارعهم، فدفعوا بأبنائهم للدراسة في كلية الزراعة، والغريب أن «عبد المجيد» كان هو الذي اختار الالتحاق بكلية الزراعة علي غير رغبة والده، الذي كان يحلم بأن يراه يختال في زي ضابط الشرطة، بعد دراسة لا تتعدي سنتين ولا تتطلب انفاقا ينوء به كاهله.
أما والدافع الحقيقي لاختيار «عبد المجيد» دراسة الزراعة، هو هوايته لتربية الزهور وحبه لها وحرصه علي أن يزرعها وينسقها، فإن ذلك يكون منطقيا تماما مع شخصية يفتنها الجمال، فهو يرسم ويصور ويقرأ الشعر، ويسعي لكي يكون كل ما حوله جميلا ومنسقا، ولعل ذلك أحد آثار طفولته التي قضاها في مواطن الجمال التي كانت تحفل بها إسكندرية ذلك الزمان، وكانت مدينة نصف شرقية، نصف أوروبية، تختال بكبرياء علي شاطئ البحر المتوسط.
ومع أن ذلك كله كان يجعله باسم الثغر دائما، لتبدو سنته الذهبية، التي كان أصدقاؤه يعابثونه فيؤكدون أنها من الصفيح، إلا أن ما حوله لم يكن ـ في تلك الأيام ـ جميلا كما يريد، فالحرب الحبشية المشتعلة في أفريقيا توشك أن تجر مصر إليها، وحشود الجيوش والأساطيل، قد عادت تزحم الإسكندرية، فتذكره بأصداء بعيدة لسنوات الحرب العالمية الأولي التي واكبت السنوات الأربع الأولي من عمره، والأخبار التي تحملها الصحف عن المرتب الموعود، لا تدعو للاطمئنان بالمستقبل.


3
انفلت «علي طه عفيفي» من زحام «سكة الشيخ سلامة» تاه في زحام غروب «شارع الموسكي»، لا شيء يدعوه للخروج في هذا الوقت المتأخر، لكن لا بأس من الترويح عن النفس قليلا. المسكن الضيق لعنة، وضجيج الحارة لا يحتمل، والسنة الدراسية لم تبدأ بعد بشكل جدي.. فهل تقودك أقدامك إلي «درب الجماميز»؟.. أم تصلي العشاء بمسجد السيدة زينب؟.. رحل الوالد قبل الأوان فألف رحمة عليه. ولم تخلع الوالدة من يومها ثياب الحداد. جاءت المصائب تباعا رزئت بفقد الأبناء وغاب الأخوة واحد بعد آخر في شارع الموت، تعلمتْ - مبكرا - معني الثكل، وملأت الدنيا نواحا، لذلك لا يطربك إلا شجي الغناء، ستة عشر أخا وأختا ذهبوا جميعا ولم يبق لها بعدك سوي أختك الكبري، فكيف تخلع ثياب الحداد؟ بقيت سنة دراسية واحدة تنال بعدها الدبلوم من دار العلوم وتصبح مدرسا فإلي أين تلقي بك المقادير؟.. الصعيد الجواني أم براري الوجه البحري.. ها أنت تسبق الحوداث، وعليك أن تعود بسرعة.. فهي تخاف عليك شر السكك.. وتظل ساهرة تدعو الله ألا يحرمها منك وكفي القلب ما تحمل من أحزان الثكل.. مجلس الوزراء يحدد مرتب خريجي المدارس العليا هذا الأسبوع.. ستكون مفاجأة طيبة علي أي حال.. ثمانية جنيهات ونصف الجنيه في الشهر نقلة كبيرة إلي الأمام، فهم يعينوهم ـ إذا عينوهم ـ بأربعة وإذا بحبحوها فبخمسة جنيهات؟
فهل ننتظر منك خيرا يا وزارة «نسيم باشا»؟!


4
لم يكن توفيق نسيم بعيدا عن ثلاثتهم.. بل كان قصره في الحلمية الجديدة «مركز الدائرة التي تجمعهم وإن لم يتعارفوا، علي بعد أمتار منه يقيم «عبد الحكم الجراحي»، بـ «شارع الصليبة» وعلي مسافة أبعد قليلا كانت «سكة الشيخ سلامة» التي خرج منها «علي طه عفيفي»، و«شارع عبد المنعم» الذي عاد إليه «عبد المجيد مرسي» بعد لقائه بصديق والده «علي الحمزاوي».
بيد أن أحدهم لم يكن ينتظر خيرا حقيقيا علي يد «توفيق نسيم باشا».
أيامها كان «توفيق نسيم» في الخامسة والستين من عمره نموذجا للجيل ذي الأصول التركية من الساسة المصريين، فقد كان جده لأبيه أحد أعيان الأناضول، ومع أنه كان قد نشأ وتربي وتعلم في مصر، وتولي الحقائب الوزارية ثلاث مرات، وجمع بينها وبين رئاسة الوزارة ثلاث مرات أخري، إلا أنه ظل في كل ما يتولاه من مناصب يعالج الأمور المصرية بلا حماس وبدرجة من الشعور بالغربة تجاهها.
كان واحدا من باشوات الطراز القديم.. وصفه معاصروه فقالوا إنه مدرسة في الوصولية والنفاق والصعود فوق كل القيم.. بدأ حياته وهو وكيل للنيابة بالتحقيق مع الزعيم «محمد فريد» لأنه كتب مقدمة لديوان شعر يحمل اسم وطنيتي جمع فيه صاحبه الشاعر «علي الغاياتي» ما كان يكتبه من أشعار تتغني بالوطن وتدعو لاستقلاله وتهاجم محتليه، ولم يجد «توفيق نسيم» حرجا في أن يقف في المحكمة فيترافع بحماس لمدة نصف ساعة، داعيا «المستر دلبروجلي» - رئيس المحكمة الإنجليزي ـ لمعاقبة «محمد فريد» لأنه تجرأ فحبذ قراءة ديوان يحرض الناس علي حب أوطانهم ويستثيرهم للثورة علي الحكومة بأوهام الوطنية وتستجيب المحكمة له، فتسجن فريد ستة أشهر، ويصعد نجم «توفيق نسيم» فيلي الوزارة في مايو 1919، عندما كانت الأمة تغلي بالثورة، وتطلب صراحة من كل السياسيين أن يضربوا عن تولي الحكم في ظل الاحتلال، لكي تضطر السلطة الاستعمارية للتحدث مباشرة مع الممثل الوحيد للشعب المصري آنذاك: «سعد زغلول» الذي كان قد غادر منفاه في جزيرة مالطة إلي باريس ليعرض قضية مصر علي مؤتمر الصلح.
لكن توفيق نسيم لم يكن من الرجال الذين يهتمون بالأمة، أو ينزعجون منها، أو يضعونها في حسابهم، حتي أنه كان يجاهر أثناء ثورة 1919، بمعارضته لها.. لذلك قبل الاشتراك في وزارة «محمد سعيد باشا» وزيرا للأوقاف، ثم انتقل إلي وزارة الداخلية، في وزارة، «يوسف وهبة باشا» التي خلفتها وقبلت ما رفضته، فوافقت ـ وسط احتجاج شعبي عارم ـ علي التفاوض مع «لجنة ملنر»، وخرقت قرار مقاطعتها الذي كان يهدف إلي إجبارها علي التفاوض مع الوفد المصري، وهما وزارتان احتجت الأمة علي تأليفهما بالتظاهرات، والمنشورات، وتصاعد الاحتجاج في وزارة «يوسف وهبه» إلي حد تدبير أربع محاولات لاغتيال رئيسها وثلاثة من وزرائها، خلال عمرها القصير الذي لم يزد علي سبعة أشهر.
وخلال تلك الأشهر أصبح «توفيق نسيم» مقربا من القصر السلطاني فاختاره السلطان فؤاد رئيسا للوزارة التي خلفت وزارة «يوسف وهبة» إذ عرض - بصفته وزيرا للداخلية - ترتيب زيارات لأفواج من أعيان البلاد ووجهائها إلي القصر، لتهنئة السلطان باعتراف الحكومة البريطانية، بولي عهده «الأمير فاروق» الذي ولد آنذاك، وعندما تخوف «يوسف وهبة باشا» من أن يرفض أعيان البلاد المشاركة في تلك الوفود فيحرجون الوزارة والسلطان، أخذ «توفيق نسيم» الأمر علي عهدته، ونجح في حشد وفود من العمد والأعيان والمديرين لتهنئة السلطان وأهّله هذا النجاح لكي يكلف بتشكيل الوزارة، بدلا من «وهبة باشا» الذي طلب إليه السلطان الاستقالة.
وعاشت وزارة توفيق نسيم الأولي حوالي عشرة أشهر حتي طلب إليه السلطان كارها ـ في 15 مارس 1921 ـ أن يخلي مكانه في رئاسة الوزارة ليتولاها «عدلي يكن باشا» بعد أن تغيرت الظروف السياسية وتطلبت تشكيل وزارة تحوز ثقة «الوفد المصري» فتستكمل المفاوضات بين مصر وبريطانيا حول الاستقلال وتعد مشروع الدستور الذي ستحكم به البلاد وهي صفات كان توفيق نسيم آخر من يحوزها أو يصلح لها.
ويختفي «توفيق نسيم» علي امتداد الشهور العشرين التالية التي توالت علي الحكم خلالها وزارة «عدلي يكن» إلي أن اختلفت مع الوفد لتمسك «سعد زغلول» بأن يترأس وفد المفاوضات وأن تكون أغلبيته من الوفديين فاستقالت لتخلفها وزارة «عبد الخالق ثروت» التي رفض رئيسها أن يقبل مطالب الإنجليز بإلغاء النصوص الخاصة بالسودان من مسودة الدستور، بدعوي أن السودان من المسائل الأربع المتحفظ عليها بمقتضي تصريح فبراير 1922، فقدم ثروت استقالته ليعود «توفيق نسيم» لتولي رئاسة الوزارة، فلا يغادرها - هذه المرة - قبل أن يعبث بمشروع الدستور فيمسخه، ويستجيب لمطالب الإنجليز بشأن العبث بمواد السودان في الدستور ولمطالب الملك بشأن تعديل المواد التي تعلي سلطة الأمة علي سلطة الملك.
كان رجلا من رجال الملك «فؤاد» الذين يصطنع بهم الوزارات ليحكم سافرا وبلا أقنعة، تولي رئاسة الوزارة ثلاث مرات فلم يكتب في خطاب قبولها مرة - كما يلاحظ المؤرخ «عبد الرحمن الرافعي» - برنامجا لوزارته يلتزم به أمام الشعب، لكنه ملأ تلك الخطابات بعبارات من مثل «لما كنت في سعة دائمة من فضل مولاي، تعطف فدعاني لتولي الحكم، وما أنا إلا عبد من رعاياه فرضت علي طاعته».
حتي أنه عندما طلب منه القصر الملكي، أن يشطب من مشروع الدستور المادة التي تقول إن جميع السلطات مصدرها الأمة، فعلها بلا معارضة.. وزعم أنها تحصيل حاصل!
كان باختصار وصوليا ضعيفا.. يؤمن أن مقاومة الأقوياء خطل في الرأي، ونقص في العقل. وأن الإنجليز الذين يحكمون مصر سينفذون إرادتهم فيما يريدون، وإذن فما الداعي لمقاومتهم؟.. وكان الرجل محصنا ضد الطيش والثورية.. لأنه كان يعتبر الوطنية مرضًا خبيثا يصيب الناس. فقد حدث، أثناء التخطيط للإضراب الذي قام به الموظفون خلال ثورة 1919 أن فوتح لكي يشارك فيه فقال عبارة أصبحت أمثولة هي:
- الحمد لله الذي عافاني منذ طفولتي.. من حمي الوطنية.
أما كيف عاد الرجل الذي كان يحمد الله لأنه لم يصب بداء الوطنية، فتولي رئاسة الوزارة، بعد عشر سنوات من تركه للمناصب الوزارية، فإذا به هو الصحيح من داء الوطنية مؤيدا من الشعب، ومن حزب الأغلبية وهو الذي كانت المظاهرات تهتف ضده، قائلة: «أحيّه يا نسيم يا أبو مخ تخين»، فلأن الكلاب كانوا قد ألزموا الشعب موقف الدفاع، فجاء «إسماعيل صدقي» في سنة 1930 ليحكم مصر بالحديد والنار والمعتقلات والسجون، ويتحالف نظامه الدكتاتوري مع الأزمة الاقتصادية العالمية في تجويع الشعب وقهره.. وتخوض القوي الوطنية حربا ضارية لكي تسقط نظامه، وتلغي الدستور الذي بني عليه هذا النظام، لأنه لا يعطي للأمة سلطة ويركز السلطات كلها في يد القصر الملكي والحكومة، وكانت القوي الوطنية تدرك أن انفراد القصر بالحكم وإلغاء الدستور واستبعاد حزب الأغلبية الشعبية، هو الخطوة الأولي في طريق سينتهي حتما بإتمام تسوية مع البريطانيين تقر الأمر الواقع وتعترف بشرعية الاحتلال وهو ما يدعم استمرار القصر الملكي يحكم منفردا، بواسطة رجال مثل «صدقي» لذلك ساندت السراي ودار المندوب السامي البريطاني نظام «صدقي» بكل طاقتها، وعلي الرغم من أن كل الأحزاب قد قاطعت الترشيح للانتخابات التي أجراها، واستجاب الناس لدعوتها بعدم التصويت فيها، إلا أن الإدارة لم تعدم وسيلة لتزوير إرادة الأمة.. وهكذا ضمت كشوف الانتخابات الأموات والمساجين.. وأسماء وهمية.. وأعلن صدقي حصول «حزب الشعب» الذي أنشأه، علي الأغلبية بنسبة 67%.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.