‏إظهار الرسائل ذات التسميات القاهرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات القاهرة. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 18 أغسطس 2019

رفعت.. العلم يا «عبد الحكم» (2)

رفعت.. العلم يا «عبد الحكم»
(2)

صلاح عيسى
يروى قصة الشباب سنة 1935 «2»
القاهرة   الثلاثاء 22 فبراير 2011م - 19 ربيع الأول 1432هـ

5
بعد أيام قليلة من تأليف وزارة «عبد الفتاح يحيي»، غادر «محمد عبد الحكم الجراحي»، مصر - في أكتوبر (تشرين الثاني) 1933 - إلي فرنسا، ليدرس الطب بجامعة «ليون».
لم يكن قد أكمل عامه التاسع عشر - فقد ولد في 31 ديسمبر (كانون الأول) 1914- أمضي منها عاما واحدا في مدرسة (كلية) التجارة العليا، قضاه في قرض الشعر، وقراءة كتب الأدب، ليكتشف قرب نهاية العام الدراسي، أنه لا يحب العلوم التجارية، ولا يريد دراستها، قرر في نهايتها العودة إلي مشروعه الأول، وهو الرحيل إلي فرنسا لاستكمال دراسته الجامعية بها.
كانت ظروف حياته، قد صنعت منه شابا، بالغ الحساسية، كثير القلق، مشبوب العاطفة، وانعكس هذا علي اختياره لنوع الدراسة التي يرغب فيها.
وكانت أمه سيدة حازمة، قوية الإرادة، تنتسب إلي أب تركي صارم.. بينما كان والده مصريا من أصول عربية، يفخر بالانتساب إلي الصحابي الجليل «أبوعبيدة بن الجراح»، ويتميز بمزاج فني، فهو يعشق الأدب، ويميل لقراءة الكتب، ويتذوق قراءة الشعر، ويغرم بالموسيقي، ويعزف علي العود، ويحيي في منزله، ليالي أنس وسرور.. تزوج وهو علي مشارف الخمسين، فأحب ولديه «عبد الحكم» و«علي» - الذي ولد في عام 1918 - وأغرم بهما، لكنه وجد نفسه مضطرا إلي تسليمهما إلي خالتهما، لكي تتولي تربيتهما مع أولادها، إذ ماتت أمهما فجأة، بعد ميلاد الابن الأصغر بقليل، وكان «عبد الحكم» آنذاك في الثالثة من عمره.
ولم يكد يمر عام علي وفاة الأم، حتي لحق بها الأب.
ولا بد أن يتمه المبكر، قد أثر علي شخصيته التي جمعت بين مزاج الأب الفني، وصرامة الأم، والواقع أنه لم يعان في طفولته حرمانا اقتصاديا يشغله عن الاحساس باليتم.. فقد كان الأب موظفا حكوميا مرموقا، ورث عن أبيه أنصبة في عقارات ومنازل من وقف «السلطان المؤيد»، كانت تدر علي الطفلين دخلا لا يقل عن تسعين جنيها شهريا.. فضلا عن تاريخ وظيفي للأب الراحل كفل لوريثيه معاشا لا بأس به، إذ توفي وهو رئيس لمخازن وزارة المعارف.
وكانت الأسرة نموذجا للأسر المصرية، التي يشغفها الاهتمام بالشئون العامة، ويحتل التعليم في نسق قيمها الاجتماعية، مكانة مرتفعة، فكان الأب طالبا بكلية الطب، حتي مات الجد، فترك الدراسة ليرعي ممتلكاته، ثم التحق بالكلية ذاتها موظفا، وظل يترقي في جهازها الإداري، إلي أن أصبح «باشكاتب» لها، قبل أن ينقل رئيسا لمخازن وزارة المعارف، وكان فضلا عن هذا من أصدقاء الزعيم «محمد فريد».
وبانتقال الطفلين للإقامة مع خالتهما، أصبحا تحت الرعاية المباشرة لابنها الأكبر «عباس حلمي زغلول»، وكان طالبا بمدرسة الحقوق، ممن ساهموا في ثورة 1919، ونشطوا في تنظيم الحركة الطلابية النشطة التي واكبتها، حتي اختير عضوا في اللجنة التنفيذية للطلاب، ورشح وهو طالب في الليسانس، لبعثة أرسلت إلي انجلترا، لدراسة الفنون الحربية، وعندما عاد بعد عامين ونصف العام، استكمل دراسته للقانون، وعين مدرسا بالمدرسة الحربية، غير أنه سرعان ما وجد نفسه محالا للتحقيق، بسبب كتاب ألفه عن جغرافية مصر العسكرية، وكيفية الدفاع عنها، فسعي لترك العمل بالكلية، والانتقال إلي النيابة العامة، أو العمل بالمحاماة، لولا أنه اختير ليكون ضابطا بالحرس الملكي، فانتقل للعمل به.
وكان «عبد الحكم»، في الرابعة من عمره، حين فكر خاله «محمد علي عثمان» في اصطحابه معه إلي فرنسا، حيث كان يستعد للحصول علي الدكتوراه في الطب من «جامعة ليون».. ولكن خالته عارضت لصغر سنه، وفي عام 1921 ألحق بمدرسة «الليسيه فرنسيه»، ليقضي بها عامين، انتقل بعدهما إلي إحدي المدارس الأميرية، فحصل منها علي الشهادة الابتدائية سنة 1927، ثم التحق بمدرسة «فؤاد الأول الثانوية»، حيث حصل علي شهادة البكالوريا - القسم العلمي - سنة 1932.
والظاهر أنه كان قد التحق بالقسم العلمي خضوعا لاستهواء المناخ العام في الأسرة، لكن مزاجه الأدبي كان غلابا، لذلك لم يكن طالبا متفوقا في دراسته الثانوية، لكنه لم يكن طالبا فاشلا. ومع أنه لم يرسب في أي سنة دراسية، وحصل علي الكفاءة والبكالوريا وعمره لم يبلغ ثمانية عشر سنة، إلا أن درجاته كانت تدور غالبا حول المتوسط.
وإبان دراسته الثانوية، كشف عن اهتمام مبكر بالعمل العام، في مجالات كانت جديدة آنذاك، هي مجالات الإصلاح الاجتماعي، فقد اشترك في «جمعية منع المسكرات والمخدرات»، وكانت تقوم بدور بارز في هذا المجال، و«جمعية المصري للمصري»، التي قام بها المفكر المعروف «سلامة موسي»، لتنشط في مجال الدعوة للاستقلال الاقتصادي لمصر، وكان عضوا ظاهرا في لجانها، كما شغفته الدعوة لإلغاء البغاء، واستهواه التطوع في «جمعية الرواد» وهي جمعية للخدمة الاجتماعية، كانت تنشط في مجال تعليم الفقراء وتنمية الخدمات في الأحياء الفقيرة، فضلا عن اهتمامه بالقراءة في الأدب، ومحاولاته لقرض الشعر.
ولعله لم يكتشف التناقض بين مزاجه الفني الرومانسي، وطبيعته المثالية التطهرية من جانب، واختيار القسم العلمي، إلا أنه بعد أن ظهرت نتيجة امتحان الشهادة الثانوية «البكالوريا»، فعلي عكس ما كان متوقعا سافر إلي الإسكندرية ليمضي إجازة الصيف، دون أن يهتم الاهتمام الواجب، بتقديم أوراقه لمدرسة الهندسة الملكية، وكانت النتيجة أن فاته موعد التقديم، فاقترح علي ابن خالته - وولي أمره - اليوزباشي «الرائد» «عباس حلمي زغلول»، أن يسافر إلي «ليون» ليدرس الطب، في الكلية التي درس بها خاله، وفي الفرع الذي كان والده قد بدأ دراسته، لكن ولي الأمر، اقنعه بأن يبقي في مصر، ويلتحق بمدرسة التجارة.
وهكذا ضاع العام الدراسي دون أن يفتح كتابا، فكان لابد من العودة إلي مشروع دراسة الطب في «ليون»، وكتب الخال رسالة إلي «مدام بروكيز» -التي قضي سنوات دراسته، في «البنسيون»، الذي كانت تديره - يطلب إليها تدبير أمر إقامته لديها، وغادر «عبد الحكم» مصر في أكتوبر 1933 إلي فرنسا.
***
في «ليون» اكتشف «عبد الحكم» ذاته، بشكل أكثر وضوحا عما قبل: فقد شعر بالاختناق، بسبب النظام الصارم الذي أرادت «مدام بروكيز» تطبيقه عليه، استجابة لطبيعتها المتزمتة من جانب، وتنفيذا لوصايا خاله من جانب آخر، فاستأذن ولي أمره، في ترك البنسيون والإقامة مع بعض زملائه، فإذن له.. وشعر بالاختناق من دراسة السنة التمهيدية التي كانت ستؤهله لدخول كلية الطب، فأهملها ليسيح في البلاد الأوروبية المجاورة، يقرأ ويعرف ويناقش، وحين لم يوفق في الامتحان، ترك «ليون» إلي «جرينوبل» ليحاول دراسة الأدب، الذي اكتشف أنه يميل إليه، ولكن العام الدراسي انتهي دون أن يحقق رغبته، وكان كل ما فعله هو أن كتب ديوان شعره الأول والأخير «الروح المسحور».
وحسمت مقابلته للدكتور «طه حسين» - وكان آنذاك وكيلا لكلية الآداب بالجامعة المصرية - كل تردده، خاصة بعد أن علم أن التحاقه بالكلية ليس صعبا.. وهكذا كتب لليوزباشي، «عباس حلمي» رسالة يقول فيها «ساورني في المدة الأخيرة وسواس أقلق بالي.. وهو أن قلبك لم يكن راضيا عن سفري، وأن العقبات التي تقابلني تأتي من ذلك.. إنني أحن إلي أن أعيش بينكم.. وأتم دراستي في مصر، إذا كنت موافقا علي ذلك.. وياحبذا لو نظمت لي برنامجا يطفئ ظمأي من الدراسة الأدبية التي تشغل بالي باستمرار».
وعندما أرسل له ابن خاله، بموافقته كتب لأخيه الأصغر رسالة قال له فيها «لم أخلق لأكون طبيبا.. ولكن لأكون من هؤلاء الذين يمتلكهم الغرام بالأدب وتصوير الحياة ونقدها ووضع المثل العليا لها والنفخ في روحها، والشدو للرقي الإنساني وللمشاعر البشرية العليا».
وهي رسالة، وصلت إلي القاهرة في أول نوفمبر 1935، وبعد ثلاثة أيام من عودة «عبد الحكم» إليها.

6
وعندما تولي «توفيق نسيم» رئاسة الوزارة في 15 نوفمبر 1934، خلفا لوزارة «عبد الفتاح يحيي»، كان الجميع قد تعبوا، وكانوا في حاجة ماسة إلي هدنة لالتقاط الأنفاس، فخمس سنوات من الصدام المستمر ضد طاغية مثل «صدقي» تركت كثيرا من الندوب في الأجسام والأرواح والإرادات، وخاصة في جسد وروح حزب الوطنية المصرية التقليدي «الوفد المصري»، الذي نجح «إسماعيل صدقي» في إجهاد عناصره النشطة من أعيان الريف، ومتوسطي التجار في المدن، عندما شن عليهم حربا اقتصادية، استعان عليهم فيها بالأزمة الاقتصادية العالمية.
ولأن «توفيق نسيم» كان من الوصوليين الأذكياء، فقد احتفظ بصلة طيبة مع «الوفد» لعلاقة صداقة كانت تربطه بزعيمه «سعد زغلول»، منذ كانا يعملان بالقضاء، ولذلك التزم الصمت حين وقع الخلاف الشهير بين «سعد» و«عدلي» وهو ماجعل «سعد زغلول» يختاره وزيراً في الوزارة الشعبية الأولي عام 1924 كما انه توقي ان يؤيد نظام «إسماعيل صدقي».. بل إنه رفض ان يتولي رئاسة مجلس الشيوخ في ظل هذا النظام، وهو ماغلب جانب التفاؤل به، علي جانب التشاؤم، فوجدت القوي والأحزاب الوطنية أنه من المفيد لها ان تنتظر وتترقب.. وتستعد..
وبدأت حكومة «توفيق نسيم» عهدها بخطوات تطمئن بها الجميع، فبعد أسبوعين فقط من توليها الحكم استصدرت مرسوما ملكياً بإلغاء «دستور صدقي».. وبحل مجلس الشيوخ والنواب القائمين علي أساسه، وكانت ترضية كبري للشعب، توج بها نضاله ضد حكم الطاغية.. لكن الفرحة لم تكن كاملة، لأن الأمر بإلغاء «دستور صدقي» لم يصحبه أمر بإعادة «دستور 1923» الملغي.. بل صحبه أمر من الملك بأن يتولي هو السلطة التشريعية وكل السلطات الأخري التي يختص بها البرلمان!
وفهم الناس ان هناك جهة ما تعارض في عودة دستور 1923.
وكانت المؤامرة التي ذهبت بدستور الأمة، شركة بين «الملك فؤاد» و«دار المندوب السامي»، وكانت الفكرة المحورية لها ان يصطنعا نظاماً دستورياً يكفل اقصاء «حزب الوفد» عن الحكم ليتخلصوا بذلك من تشدده في المسألة الوطنية فتضمن انجلترا، التوصل إلي معاهدة تنظم علاقتها بمصر، طبقاً لما فيه مصلحتها هي، وبرضاء من المصريين يوقف حالة عدم الاستقرار التي بدأت مع الثورة، وبانتهاء المسألة الوطنية يتحقق استقرار الحكم، علي نحو يضمن «للملك فؤاد» الانفراد بالسلطة.
لكن المقاومة الجماهيرية الضارية لنظام «صدقي» أضعفت هيبته، وهو ما كان من نتائجه وقوع الاضطراب بين صفوف المتآمرين، فعندما مرض «الملك فؤاد» في خريف 1934، وتردد ان حياته في خطر، تدخلت دار المندوب السامي بفظاظة ووقاحة، ولمحت إلي ضرورة تعيين قائمقام يتولي سلطات الملك نيابة عنه، بل وطالبت بالاطلاع علي اسماء من اختارهم جلالته للوصاية علي ولي العهد «الأمير فاروق» وشعر الملك ان حلفاءه «يمرمطون» به الأرض، وأنه مطالب بالتقرب إلي الشعب للضغط علي هؤلاء الحلفاء، وتهديدهم به، وهكذا وافق «الملك فؤاد» علي إلغاء دستور 1930.. لكنه لم يعد الدستور الملغي، ليظل التلويح بإعادته ورقة يضغط بها علي حلفائه، لعلهم يعتدلون في سلوكهم معه، وعندئذ يمكن وضع دستور آخر شبيه بدستور 1930، وعلي يد أفراد غير مكروهين كـ«صدقي».
وبرغم كل هذا فان أحزاب المعارضة لم تفقد الأمل في عودة دستور 1923، وسارعت بتنظيم صفوفها، وكانت معظم العناصر النشطة من أنصار الأحزاب، قد تعرضت لأضرار بالغة خلال حكم «صدقي».. فصل العديد من الموظفين والعمد، وأضير كثيرون من الأعيان، وتعاون «نسيم باشا» مع الأحزاب في إزالة انقاض هذا الحكم الفاسد، وأخذ «الوفد» ينظم نفسه، ويجبر صفوفه التي أصيبت إصابات قاتلة أثناء المقاومة.. وعقد مؤتمره الأول في يناير 1935.. وقرر فيه ان يعمم لجان الوفد الأصلية والفرعية والانتخابية، وان يحدد اختصاص كل منها، وينظم ماليتها واجتماعاتها، وان ينظم لجاناً للطلبة والشباب والعمال، ويوسع نطاقها، وينشيء «نوادي سياسية» في المدن المختلفة، مع تنظيم محاضرات دورية، يكون الغرض منها ازكاء الروح الوطنية من نواحيها السياسية والدستورية والاقتصادية.
وفي سوق السياسة كانت فكرة دستور جديد تبرز بين الحين والآخر، دستور ليس هو دستور «صدقي».. وليس هو دستور 1923 الذي كان قد اصطلح علي تسميته بـ «دستور الأمة» تمييزاً له عن «دستور صدقي»، الذي وصف بـ «دستور الحكومة»!، ولكنه وسط بينهما.
وقالت لصحيفة «الديلي تلجراف» - اللندنية - في إشارة ذات دلالة «ان دستور 1923 هو دستور أوروبي الطابع لا يصلح للبلاد المتأخرة سياسياً»، وكانت هناك محاولات ومؤامرات تبذل لتلغيم الجو أمام وزارة «توفيق نسيم»، بحيث لا تستنيم لضغط الوفد، وبذل «زكي الإبراشي باشا» - رئيس الديوان الملكي - متحالفاً مع «الشيخ الأحمدي الظواهري» شيخ الجامع الأزهر.. جهدهما في إحداث اضطرابات داخل الأزهر، واستغلا في ذلك بعض مطالب الأزهريين بحقهم في التوظف في وظائف مدرسي اللغة العربية بمدارس الحكومة، فدفعوهم للتمرد، في وقت كان شبح أزمة البطالة يخيم علي الجميع، ويقلق طلاب الجامعات والمعاهد العليا، الذين فشت بينهم البطالة أكثر من غيرهم، ونجح تحالف «الوفد» مع «نسيم» في ان يبتعد به قليلاً عن أحضان القصر، وكان «الملك فؤاد» قد نقم عليه لأنه استقال من رئاسة الديوان ولأنه رفض دستور «صدقي» وهكذا أصر «توفيق نسيم» علي إبعاد «الإبراشي باشا» من القصر و«الشيخ الظواهري» من الأزهر.. وتم له ما أراد.
ورداً علي مناورات القصر وحلفائه أراد «نسيم» ان يتنصل من مسئولية التأخير في إعادة دستور 1923، فرفع مذكرة إلي الملك، استعرض فيها ما أنجزته الوزارة طوال خمسة شهور، ثم فوض إليه في النهاية أمر إعادة دستور 1923 منقحاً طبقاً لنص الدستور المذكور، أو تأليف جمعية وطنية ترضاها البلاد وتمثلها تمثيلاً صحيحاً لوضع دستور جديد.
وتلقف الملك الكرة بعد ان أدرك ان «نسيم» يريد ان يعلق الفأس في عنقه، ويحمله أمام الشعب مسئولية عدم إعادة الدستور، صحيح ان الملك لم يكن يريد الدستور، إلا أنه كان يعرف ان «نسيم» - أيضاً - لم يكن يريده، وكان الطرفان يعلمان، ان هناك عائقاً آخر أقوي وأكثر نفوذا، يحول دون عودة الدستور، هو: الاحتلال البريطاني، ولما لم يكن أحدهما قادرا علي الكشف عن ذلك، فقد أخذا يتلاعبان كالقط والفار، ولذلك رد الملك رداً يتواءم مع أصول لعبة الاستغماية التي كان يلعبها معه «نسيم»، فكتب إلي رئيس وزرائه يقول إنه «يؤثر عودة دستور 1923، علي ان يعد له ممثلو الأمة بما قد تدعو إليه الأحوال».
ورغم ذلك كله، فقد مرت الأشهر والدستور لم يعد..
وفي مايو 1935 «أيار» قابل المندوب السامي البريطاني السير «مايلز لامبسون» نسيم باشا»، وأبلغه شفوياً ان الحكومة البريطانية لا تعارض في ان تتمتع مصر بالحياة الدستورية في «الوقت المناسب» وهي تري ان يوضع هذا الدستور بمعرفة «لجنة حكومية»، يكون من أعضائها ممثلون للأحزاب السياسية المختلفة في مصر، بما فيها «الوفد» ان أراد.
برح الخفاء.. فقد ظل الكلاب يتآمرون مع الاستعمار حتي أعطي نفسه حقوقاً كان قد تنازل عنها بمقتضي تصريح 28 فبراير 1922، الذي أصبحت أمور المصريين الداخلية بمقتضاه بأيديهم، وفي مقدمتها بالطبع قضية الدستور.. ودعا «نسيم» زعيم «الوفد» «مصطفي النحاس» و«مكرم عبيد» سكرتيره العام، واثنين من زملائهما إلي اجتماع عقده في حدائقه بالهرم، وأبلغهم، رأي الحكومة البريطانية كما أخطره به المندوب السامي، وعرض عليهم ان تستقيل الوزارة قائلا:
إن المندوب السامي السير «مايلز لامبسون» يقدر الموقف حق قدره، وأنه كبير الأمل في ان يتمكن خلال الصيف من إقناع حكومته بالعدول عن معارضتها في عودة الدستور.
ورفض «الوفد» ما عرضته الحكومة البريطانية، وأبدي «النحاس» سخطه الشديد علي تدخل الانجليز في مسألة داخلية، وأعلن أنه لا يرضي بغير دستور 1923، لكنه مع ذلك طلب من «نسيم» ان يبقي في منصبه، وان يحتج علي التدخل البريطاني.
وفسر «النحاس» موقفه - فيما بعد - بأنه أراد ان يفسح «الوفد» لـ «نسيم باشا» في الوقت، حتي لا يقال إن «الوفد أضاع الفرصة بتعجله، والحقيقة ان الوفد كان قد تورط في تأييد وزارة «نسيم»، لدرجة ان «مصطفي النحاس» أدلي بحديث لصحيفة «المقطم» قال فيه تعبيراً شهيراً ظل محل طعن وتشهير لفترة طويلة، إذا سأله المحرر عما يقال عن عدم رضائه عن حكم «نسيم».. فقال:
- اكتب ياسيدي نحن مبسوطون من هذه الوزارة..

7
مضت بقية شهور الصيف بطيئة، وخلالها بدأت صفوف «الوفد» حركة معارضة خفية لتأييده المستمر لوزارة «نسيم»، سرعان ما تصاعدت فأصبحت معارضة علنية، وتزعمت جريدة «روزاليوسف اليومية» - وكانت من أشهر صحف الوفد - هذه الحركة، وظل توالي نشر مقالات عنيفة في معارضة «نسيم» كان يكتبها «عباس محمود العقاد»، الذي كان آنذاك كاتب «الوفد» الأول، أخذت تتصاعد بمعارضتها لوزارة «نسيم» محاذرة المساس بالوفد، الذي لم يسترح لحملات الهجوم العنيفة التي كانت المجلة تشنها ضد الوزارة التي يؤيدها بحماس، ويلتمس لها الأعذار في عجزها عن إعادة الدستور، ويخشي ان تسقط فيعود حكم الانقلابيين، الذي كانت مقاومته قد انهكت الوفد وفتت في عضده.
وهكذا أوعز «مكرم عبيد» - سكرتير عام الوفد وأبرز المتحمسين لسياسة تأييد وزارة «نسيم» - إلي صحيفة أخري هي «الجهاد» بالرد علي الانتقادات العنيفة التي كان «عباس محمود العقاد» وفريق كتاب «روزاليوسف اليومية»، يوجهونها إلي وزارة «نسيم» ولما وجد «النحاس» ان خط المعارضة، يكتسب أنصاراً في الرأي العام، استدعي السيدة «فاطمة اليوسف» صاحبة «روزاليوسف» للقائه في «بيت الأمة».
وما كادت تدخل عليه في مكتب «سعد زغلول» حتي استقبلها صاخباً، ملوحاً في يده بعدد اليوم نفسه من جريدتها.. متسائلاً:
- إيه الزفت اللي انتوا بتنشروه ده؟!
- ودهشت «فاطمة اليوسف» لهذه المفاجأة غير المتوقعة، ووقفت ذاهلة لحظة، ثم قالت:
- فيه إيه يا باشا؟!
- فصاح: انتي بتعارضي وزارة «توفيق نسيم» ليه؟!
فأجابت: وزارة «توفيق نسيم» جابها الانجليز والسراي.. وهي التي تؤجل عودة الدستور.. إزاي مهاجمهاش؟!
واندفع يرد عليها بعنف:
لا ياستي.. أنا ما أحبش تناقشيني في السياسة.. انتي يعني عايزة «محمد محمود» و«صدقي» يرجعوا؟.. احنا تعبنا!!
وبهذه العبارة الموجزة، والمؤلمة، فسر «النحاس» موقف «الوفد»، وكشف عن ان جيل ثورة 1919، قد تعب وان سنوات المقاومة الضارية التي اشتبك خلالها مع الطغاة والغزاة، قد أصابته بالوهن، وأطفأت كثيراً من حماسه.
***
وحتي ذلك الحين، كانت قضية إعادة دستور 1923، هي القضية الأساسية المطروحة، صحيح ان قضية الاستقلال، لم تكن غائبة، وخاصة عندما تناثر الحديث عن معارضة بريطانية في إعادة الدستور، لكنها لم تبرز علي السطح، إلا في بداية الصيف، عندما التهب الموقف الدولي فجأة، وأعلن «موسوليني» زعيم إيطاليا الفاشية، عن نيته في الهجوم علي «الحبشة»، وضمها إلي المستعمرات الإيطالية، وبدأ بالفعل يرسل حشداً من قواته المسلحة إلي مستعمراته في شرق أفريقيا، فنقل أفرادا وعتادا إلي «أريتريا»، وأخذ في دعم قواته في «ليبيا»، وأصبح من الواضح ان الموقف العالمي قد ينفجر في أي لحظة، وان الصراع الدولي من أجل إعادة توزيع المستعمرات، والاتفاق علي تسوية جديدة، تختلف عن التسوية التي انتهت إليها الحرب العالمية الأولي في هذا الشأن، قادم لا محالة.
ولوحت تصريحات المسئولين الانجليز بأنه إذا انفجرت الحرب العالمية من جديد، فان مصر ستعود إلي ما كانت عليه إبان الحرب العالمية الأولي، وتوضع في «حماية» انجلترا، طوال مدة الحرب.. وازدحم البحران الأبيض والأحمر بالأساطيل الانجليزية والإيطالية وبدأت قوات عسكرية بريطانية جديدة، تتدفق بكثافة علي مصر، وكان معني اشتعال الحرب العالمية والوضع الداخلي في مصر علي ما هو عليه، هو، علي حد تعبير قاله «مصطفي النحاس» آنذاك: «ان يضع الانجليز - أيديهم باسم التعاون الودي، علي حصوننا وثكناتنا وموانينا، و مطاراتنا، ومواردنا ويتولوا أمرنا، ويوجهوا سياستنا دون ان يكون لنا في ذلك شيء.. من حرية واختيار»..
وفيما بعد قال «مصطفي النحاس» في الخطاب الذي أزاح فيه أسرار علاقة الوفد بالوزارة، ان التطورات في الوضع الدولي، جعلت قضية عودة دستور الأمة أكثر إلحاحاً، إذ تضاعفت حاجة البلاد لاستئناف حياتها الدستورية الصحيحة، كي يتولي نواب الأمة تسيير أمورها في هذا الجو العاصف المضطرب، والأهم من ذلك، ان تداعيات الأزمة الحبشية، وخاصة تدفق مزيد من القوات العسكرية البريطانية علي مصر حتمت- كما يقول «النحاس» «تحديد مركز مصر تحديداً دقيقاً.. حتي إذا جد الجد، ووقعت الواقعة.. كانت مصر علي بينة من أمرها».
وهكذا لم يعد الأمر قاصراً علي المطالبة بعودة دستور الأمة.. بل بات «يستلزم أيضاً.. تصفية الموقف كله علي أساس الاتفاق مع مصر، اتفاقاً حراً شريفاً يحقق لها الاستقلال التام، ويصون مصالح الانجليز التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال».
وكان ذلك، هو ما طالب «توفيق نسيم» من السير «مايلز لامبسون» أن يسعي لإقناع المسئولين البريطانيين به، خلال قضائه لإجازته الصيفية في «لندن».
وعندما ملأت نذر الحرب الأفق، خطب «النحاس» فأكد من جديد، ان الضرورة تقضي والبلاد مستهدفة لخطر حرب لاهبة، يجب «ان يكون للأمة بإزائها مطلب أسمي من عودة الدستور، وأجل خطراً، ذلك هو واجب الاحتفاظ بكيان البلاد والذود عن استقلاليتها»، داعياً إلي عقد معاهدة بين البلدين، حتي يكون التعاون مع الانجليز علي أساس اتفاق لا بالإكراه.
وفي اليوم التالي - 10 سبتمبر «أيلول» 1935 - تلقي «نسيم» من نائب المندوب السامي البريطاني، بلاغاً من حكومته، عبرت فيه عن إدراكها لمصالح مصر، وتقديرها لحالة القلق الذي يساورها في الوقت الحاضر، مؤكدة بأن حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية، سوف تطلع الحكومة المصرية، - إذا دعت الظروف - وتشاورها في جميع تطورات الموقف الدولي، التي قد تمس مصالح مصر من قريب.
وهكذا انتهت مجهودات السير «مايلز لامبسون» في لندن، «إلي مجرد «وعد بالتشاور».. فلا دستور.. ولا معاهدة.. ولا استقلال ولا ديمقراطية.
توقع العليمون بالمناخ السياسي المصري في تلك الأيام، ان ينفجر الموقف الداخلي مع بداية العام الدراسي في مقتبل الخريف.

الخميس، 15 أغسطس 2019

رفعت.. العلم يا «عبد الحكم» (1)

رفعت.. العلم يا «عبد الحكم»
(1)
صلاح عيسى
يروى قصة الشباب سنة 1935 «1»
القاهرة   الثلاثاء 15 فبراير 2011م - 12 ربيع الأول 1432هـ


1
وكان خريف
سنوات طويلة مرت منذ أن انطفأ وهج الثورة..
جرت في النهر مياه كثيرة فبهتت ذكري الشهداء وابتسمت شفاه أقسمت ألا تكف عيونها عن بكائهم، لكن الزمن ـ كالقلب ـ قلب.
ترهل ثوار ربيع 1919.. شابوا في ستة عشر عاما فقط، وتواضعت أحلام الثورة من المطالبة بالاستقلال التام إلي مجرد المطالبة بحرية الرأي وحق التعبير، ومات «سعد زغلول» تاركا أقسي كلماته.
ـ كانت غلطتنا عندما صدقنا أننا مستقلون.
نجح الطغاة والغزاة في أن يلزموا الشعب موقف الدفاع، كلما تقدم «بالدم» خطوة للأمام، أعادوه «بالقهر» خطوتين للوراء. لكنه برغم هذا كله ملك ـ وفي أحلك اللحظات ـ القدرة علي الربط بين مسألة الديمقراطية وقضية الاستقلال، فحرص علي ألا يترك الطغاة ينفردون بالأمر، وحرمهم حلم حياتهم: أن يتكلموا باسمه.. فيبيعوا البلد لأسيادهم.. وينفض المولد.
وكان خريف من سنة 1935..
جاء مبكرا وبنسمات أكثر برودة من المعتاد، فأجبر الناس علي ارتداء ملابسهم الثقيلة في المساء. سقطت الأمطار مبكرة، فغسلت أشجارا بلا خضرة، لكن الشمس عادت تشرق من جديد. أما الجو السياسي، فكان ملبدا بالغيوم.. وأيامها لم يكن أحد في مصر كلها يعرف بالضبط ما سوف تجيء به الأيام..
***
في صباح يوم الجمعة 25 أكتوبر من ذلك العام لامست أقدام «محمد عبد الحكم الجراحي» رصيف ميناء الإسكندرية، ووسط زحام المستقبلين، استطاع أن يلمح بصعوبة وجه ابن خالته ولي أمره، وصديقه اليوزباشي - الرائد - «عباس حلمي زغلول»، وهو يحتضنه مشوقا، كانت عيناه تدوران في المكان: ها هو يعود مرة أخري إلي مصر بعد عامين من الغربة.. فماذا تغير فيك يا بلدنا؟
ـ لا شيء.. غادرتها و«إسماعيل صدقي» يحكمها بدستور مزيف.. وها أنت تعود و«توفيق نسيم» يحكمها بلا دستور علي الإطلاق، لا مزيف ولا حقيقي والإنجليز يستغلون الحرب الإيطالية الحبشية، ليرجعوا بنا إلي أيام الحماية.
ضاعت ضحكة «عباس» التي ختم بها كلماته في ضجة القطار الذي استقلاه إلي القاهرة، وغابت عيون «عبد الحكم» في خضرة المزارع:
قال اليوزباشي: ـ وافق الدكتور «طه حسين» علي التحاقك بكلية الآداب..
وجدته يتذكر لقاءكما جرينوبل جيدا.. حتي أنه سألني عن أشعارك.
.....................
ما أسرع ما يعدو الزمن:
في مثل هذه الأيام من خريف 1933 سافرت إلي فرنسا.. وكان الظن أنك ستدرس الطب. تسعة أشهر طويلة بـ «ليون» بنسيون «مدام بروكيز»: العجوز الطيبة الشرسة. ما كان أجمل حديثها عن بطولات جنرالها الشهيد.. لكن ما أسمج ما ورثته من تقاليده العسكرية الصارمة، كل شيء بميعاد: الإفطار وشاي العصر وساعة إشعال المدفأة. أما الذي لا موعد له، فهو ذكريات الجنرال العجوز الذي أحبته وعشقته وتزوجته وبكته حين استشهد من أجل فرنسا، التي أحبها ربما أكثر منها. أكانت تفيض في الحديث عنه فخرا به أم غيرة عليه؟.. والمشكلة هي كيف تحتمل روحها الشاعرة كل هذه القيود؟!
- مسيو عبد الحكيم.. إذا تأخرت عن العاشرة فلا تزعج نفسك بدق الباب..
وتنتهي السنة الدراسية دون أن تقبلك «جامعة ليون».. ضاعت الشهور في تعاطي الشعر والأدب.. فلتدر ظهرك للطب. ولتشد الرحال إلي جرينوبل، وداعا «مدام بروكيز»، وإلي بنسيون آخر في مدينة أخري ذلك قدر الغريب، كما كان قدره أن يجاوره في «بنسيون جرينوبل «ذلك العجوز العطوف»، دكتور «دريفيه»: تسعون عاما طويلة وأبوة دافقة، احتضنت غربتك ويتمك فما أقسي أن يكون الإنسان يتيما وغريبا في نفس اللحظة.. ماتت الأم وأنت في الثالثة، وتبعها الأب في العام التالي.. ضاعت من الذاكرة ملامح مغاني الطفولة بالحلمية الجديدة.
مضي العام الثاني أكثر هدوءًا تجمع صغير من الطلبة المصريين يلتقي في مقاهي جرينوبل وحدائقها.. ويتحلق أحيانا حول العجوز «دريفيه» مستمعا إلي ذكرياته، وصحف تأتي من القاهرة تحمل أنباء بعضها طيب، ومعظمها يملأ القلب أسي.. عن هذا تحدث الدكتور «طه حسين» عندما التقي به «عبد الحكم» في الصيف.. كان «طه حسين» قد جاء كعادته يمضي صيفه في المدينة التي درس فيها، فشد الطلاب المصريون رحالهم إليه، يناقشون الرجل الذي كان مثار إعجابهم والذي هز فصله من الجامعة، قبل سنوات قليلة أركان ديكتاتورية «إسماعيل صدقي» واستمع «طه حسين» بصبر لما ألقاه «عبد الحكم» من أشعار وناقشه فيما يقرأ وفي نهاية المقابلة قال «عبد الحكم»:
- أود أن استكمل دراستي في القاهرة.. فهل تقبلني الكلية؟
ورحب الرجل الطيب وعندما عاد «طه حسين» إلي القاهرة ذكره «عباس» بوعده وكان وفيا.. قام إلي الدكتور «منصور فهمي» عميد الكلية.. وعاد بعد لحظة فأمر بقبول الأوراق..
علي رصيف القطار في جرينوبل ودعه الأصدقاء المصريون، ومعهم «دريفيه» عانقوه بقوة بكي العجوز شد «عبد الحكم» علي يديه، وعده أن يكتب إليه، فهل تذكر هذا يا عبد الحكم؟! أم تنساه في زحام القاهرة الذي بدت بشائره في هذا الاختناق الرهيب في محطة باب الحديد..
فماذا تغير فيك يا بلدنا؟!


2
في اللحظة نفسها التي كان عبد الحكم يغادر فيها محطة القاهرة بصحبة ابن خالته، لم يتنبه لشاب نزل من نفس القطار، ومر بجواره، وربما التقت نظراتهما فوق تمثال نهضة مصر المشرف علي الميدان.. أشار كل منهما لعربة حانطور.. فمضي عبد الحكم وقريبه إلي شارع الصليبة بالقلعة.. أما «عبد المجيد مرسي» فقد اتجه إلي «شارع عبد المنعم» بعابدين.
رحبت به المدام وسألته عن أحوال الإسكندرية دلف «عبد المجيد مرسي» إلي حجرته الصغيرة بالبنسيون: سرير ودولاب ومكتب يختفي سطحه تحت أكوام من الكتب. مرآه في المواجهة، وشماعة، فتح أبواب الشرفة، حملت نسمات الخريف رائحة الفل. ذهب الصيف وذهبت معه رائحة التمرحنة، وهذه المرة تحدث الأب ـ أيضا ـ عن الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي جاءت مع ديكتاتورية «إسماعيل صدقي»، وظلت قائمة حتي بعد أن غادر «صدقي» الحكم ليخلفه «عبد الفتاح يحيي» ثم يغادره هو الآخر ليحل محلهما «توفيق نسيم»، لكن الأزمة لا تغادر ونصائح الوالد بالتوفير لا تتوقف.
والمهم الآن هو أن يزور عمه وأن يسلم الرسالة التي حملها من والده إلي عم علي الحمزاوي.
بعد العصر كان «عبد المجيد مرسي» في الروضة.. جلس مع عمه قليلا، كانت مصادفة سعيدة، أن تأتي شقيقته «إحسان» لتزور- أيضا - عمهما فتلقاه وهو في طريقه إلي الانصراف. عطوفة أنت يا إحسان كقلب الأم وما أجملك حقا في هذه الملابس البيضاء، ولابد أن الذي أطلق علي الممرضات صفة «ملائكة الرحمة» كان يعلم أنك ستلتحقين يوما بمدرسة حكيمات القصر العيني، أما الزحام في شارع الموسكي فما أخنقه.. هل أجدك حقا يا «عم علي».. بالأحضان أخذك «علي الحمزاوي»، فما أعمق الصداقة التي تجمعه بالوالد.. فكيف ومتي نشأت؟.. والدكان لا يختلف عن غيره من دكاكين النحاسين في هذا الحي.. وها هو النحاس الأصفر والأحمر يملأ رفوفه.. قرأ الرجل الخطاب بإمعان.. طلب له شايا. طوي الخطاب عدة طيات، قبل أن يطلعه علي واحدة منها، كأنه يخطره بما يخصه في الرسالة، وكان والده قد كتب يقول للحمزاوي:
«إذا احتاج عبد المجيد شيئا خلال العام الدراسي فاعطه له يا حاج علي، وسلمه علي الفور مبلغ عشرة جنيهات لشراء كتب العام الجديد، وإذا وجدت وقتا فمر عليه بالبنسيون لتتأكد من أنه يذاكر ولا يلعب».
في زحام «شارع الموسكي» تحسس «عبد المجيد» الجنيهات العشرة خشية أن ينشلها من جيبه لص.. لم تعد الدنيا أمانا كأيام زمان، خربها «صدقي باشا» الله يلعنه. تحالف الوغد مع الأزمة الاقتصادية، وأذاقا البلد الأمرين وجالد الوالد الزمن والأزمة، وكاد البيت الذي بناه بشقاء العمر يضيع هدرا، فينزع الدائنون ملكيته لولا أن الله سلم، ولو كان «صدقي» مازال حاكما ما وجدت لدي «علي الحمزاوي» عشرة مليمات.. ولاعتذر الرجل الطيب بسوء الحال، الذي لم يتحسن إلا قليلا: صحيح أن الأزمة قد تراجعت إلا أن حال الدنيا لم ينصلح بعد تماما.. وأمس قرأت في الصحف أن مجلس الوزراء سيصدر قرارا بتعيين حملة الشهادات العليا بمرتب شهري يصل إلي ثمانية جنيهات ونصف الجنيه، وقد هنأت «الأهرام» الحكومة بهذا الإنصاف.. ولكن هل يكفي المبلغ حقا؟.. أهذه نهاية التعب؟ لعله أفضل من البطالة التي تخنق بحبالها خريجي المدارس العليا والجامعات.. فلنحمد الله وندعوه أن يصدر مجلس الوزراء القرار، وأن نكون من أصحاب الحظ الحسن الذين يجدون فرصة لوظيفة في الميري.
في ذلك العام كان «محمد عبد المجيد مرسي» قد أوشك أن يتم عامه الثاني والعشرين، فهو من مواليد الإسكندرية في 18 ديسمبر 1923. عاش طفولته حتي السابعة يمرح في شوارع واحد من أشهر أحيائها الشعبية، هو حي كرموز. وكان والده تاجرا للنحاس من مستوري الحال.. وقد ورث عن أبيه مهنته والمنزل الذي ولد فيه ابنه، والذي باعه في عام 1920، لتنتقل الأسرة بعدها إلي حي أقل ازدحاما.
ومع بداية مرحلة الدراسة الثانوية، انتقل الابن إلي القاهرة ليحصل علي شهادة البكالوريا من «مدرسة المرقصية الثانوية».. وعلي العكس مما كان والده يريد فإنه لم يلتحق بكلية الشرطة، والتحق بكلية الزراعة بالجامعة المصرية التي لم تكن تجذب الدارسين عادة، إذ كان تحويل الزراعة إلي دراسة جامعية في بلد توارث الخبرة الزراعية عبر سبعة آلاف سنة، أمرا جديدا خاصة أن الجامعة ذاتها كانت لا تزال مؤسسة جديدة في مصر.
ولم يكن الأب واسع الثراء، لكنه أيضا لم يكن كثير الأعباء، إذ لم يرزق من الأبناء ـ غير ابنه «محمد» - سوي بأخت له، هي «إحسان»، والظاهر أنه كان رجلا متفتح العقل، عمليا وواقعيا، وإلا ما سمح لابنه بأن يغادر الإسكندرية ليلتحق بمدارس القاهرة الثانوية، فيقيم بعيدا عنه، مع عمه أولا، ثم وحده بعد ذلك في بنسيون متوسط الحال، بشارع عبد المنعم بعابدين، أما الدليل المؤكد علي واقعيته، فهو أنه سمح لابنته، بأن تغادره هي الأخري، لتقيم وتدرس بـ «بمدرسة حكيمات القصر العيني»، علي أن تمضي إجازاتها الأسبوعية في بيت عمها وهو دليل ـ كذلك ـ علي أن الرجل كان من المستورين الذين لا تستغني أسرهم عن عمل الأبناء، حتي الإناث منهم.
ويثير اختيار «عبد المجيد مرسي» لدراسة الزراعة الدهشة، فقد كان والده تاجرا لا صاحب أطيان، كوالد زميله «إبراهيم شكري» الذي كان من طلائع أغنياء الفلاحين، الذين أدركوا أهمية الاستفادة بالعلم إلي جوار الخبرة في إدارة مزارعهم، فدفعوا بأبنائهم للدراسة في كلية الزراعة، والغريب أن «عبد المجيد» كان هو الذي اختار الالتحاق بكلية الزراعة علي غير رغبة والده، الذي كان يحلم بأن يراه يختال في زي ضابط الشرطة، بعد دراسة لا تتعدي سنتين ولا تتطلب انفاقا ينوء به كاهله.
أما والدافع الحقيقي لاختيار «عبد المجيد» دراسة الزراعة، هو هوايته لتربية الزهور وحبه لها وحرصه علي أن يزرعها وينسقها، فإن ذلك يكون منطقيا تماما مع شخصية يفتنها الجمال، فهو يرسم ويصور ويقرأ الشعر، ويسعي لكي يكون كل ما حوله جميلا ومنسقا، ولعل ذلك أحد آثار طفولته التي قضاها في مواطن الجمال التي كانت تحفل بها إسكندرية ذلك الزمان، وكانت مدينة نصف شرقية، نصف أوروبية، تختال بكبرياء علي شاطئ البحر المتوسط.
ومع أن ذلك كله كان يجعله باسم الثغر دائما، لتبدو سنته الذهبية، التي كان أصدقاؤه يعابثونه فيؤكدون أنها من الصفيح، إلا أن ما حوله لم يكن ـ في تلك الأيام ـ جميلا كما يريد، فالحرب الحبشية المشتعلة في أفريقيا توشك أن تجر مصر إليها، وحشود الجيوش والأساطيل، قد عادت تزحم الإسكندرية، فتذكره بأصداء بعيدة لسنوات الحرب العالمية الأولي التي واكبت السنوات الأربع الأولي من عمره، والأخبار التي تحملها الصحف عن المرتب الموعود، لا تدعو للاطمئنان بالمستقبل.


3
انفلت «علي طه عفيفي» من زحام «سكة الشيخ سلامة» تاه في زحام غروب «شارع الموسكي»، لا شيء يدعوه للخروج في هذا الوقت المتأخر، لكن لا بأس من الترويح عن النفس قليلا. المسكن الضيق لعنة، وضجيج الحارة لا يحتمل، والسنة الدراسية لم تبدأ بعد بشكل جدي.. فهل تقودك أقدامك إلي «درب الجماميز»؟.. أم تصلي العشاء بمسجد السيدة زينب؟.. رحل الوالد قبل الأوان فألف رحمة عليه. ولم تخلع الوالدة من يومها ثياب الحداد. جاءت المصائب تباعا رزئت بفقد الأبناء وغاب الأخوة واحد بعد آخر في شارع الموت، تعلمتْ - مبكرا - معني الثكل، وملأت الدنيا نواحا، لذلك لا يطربك إلا شجي الغناء، ستة عشر أخا وأختا ذهبوا جميعا ولم يبق لها بعدك سوي أختك الكبري، فكيف تخلع ثياب الحداد؟ بقيت سنة دراسية واحدة تنال بعدها الدبلوم من دار العلوم وتصبح مدرسا فإلي أين تلقي بك المقادير؟.. الصعيد الجواني أم براري الوجه البحري.. ها أنت تسبق الحوداث، وعليك أن تعود بسرعة.. فهي تخاف عليك شر السكك.. وتظل ساهرة تدعو الله ألا يحرمها منك وكفي القلب ما تحمل من أحزان الثكل.. مجلس الوزراء يحدد مرتب خريجي المدارس العليا هذا الأسبوع.. ستكون مفاجأة طيبة علي أي حال.. ثمانية جنيهات ونصف الجنيه في الشهر نقلة كبيرة إلي الأمام، فهم يعينوهم ـ إذا عينوهم ـ بأربعة وإذا بحبحوها فبخمسة جنيهات؟
فهل ننتظر منك خيرا يا وزارة «نسيم باشا»؟!


4
لم يكن توفيق نسيم بعيدا عن ثلاثتهم.. بل كان قصره في الحلمية الجديدة «مركز الدائرة التي تجمعهم وإن لم يتعارفوا، علي بعد أمتار منه يقيم «عبد الحكم الجراحي»، بـ «شارع الصليبة» وعلي مسافة أبعد قليلا كانت «سكة الشيخ سلامة» التي خرج منها «علي طه عفيفي»، و«شارع عبد المنعم» الذي عاد إليه «عبد المجيد مرسي» بعد لقائه بصديق والده «علي الحمزاوي».
بيد أن أحدهم لم يكن ينتظر خيرا حقيقيا علي يد «توفيق نسيم باشا».
أيامها كان «توفيق نسيم» في الخامسة والستين من عمره نموذجا للجيل ذي الأصول التركية من الساسة المصريين، فقد كان جده لأبيه أحد أعيان الأناضول، ومع أنه كان قد نشأ وتربي وتعلم في مصر، وتولي الحقائب الوزارية ثلاث مرات، وجمع بينها وبين رئاسة الوزارة ثلاث مرات أخري، إلا أنه ظل في كل ما يتولاه من مناصب يعالج الأمور المصرية بلا حماس وبدرجة من الشعور بالغربة تجاهها.
كان واحدا من باشوات الطراز القديم.. وصفه معاصروه فقالوا إنه مدرسة في الوصولية والنفاق والصعود فوق كل القيم.. بدأ حياته وهو وكيل للنيابة بالتحقيق مع الزعيم «محمد فريد» لأنه كتب مقدمة لديوان شعر يحمل اسم وطنيتي جمع فيه صاحبه الشاعر «علي الغاياتي» ما كان يكتبه من أشعار تتغني بالوطن وتدعو لاستقلاله وتهاجم محتليه، ولم يجد «توفيق نسيم» حرجا في أن يقف في المحكمة فيترافع بحماس لمدة نصف ساعة، داعيا «المستر دلبروجلي» - رئيس المحكمة الإنجليزي ـ لمعاقبة «محمد فريد» لأنه تجرأ فحبذ قراءة ديوان يحرض الناس علي حب أوطانهم ويستثيرهم للثورة علي الحكومة بأوهام الوطنية وتستجيب المحكمة له، فتسجن فريد ستة أشهر، ويصعد نجم «توفيق نسيم» فيلي الوزارة في مايو 1919، عندما كانت الأمة تغلي بالثورة، وتطلب صراحة من كل السياسيين أن يضربوا عن تولي الحكم في ظل الاحتلال، لكي تضطر السلطة الاستعمارية للتحدث مباشرة مع الممثل الوحيد للشعب المصري آنذاك: «سعد زغلول» الذي كان قد غادر منفاه في جزيرة مالطة إلي باريس ليعرض قضية مصر علي مؤتمر الصلح.
لكن توفيق نسيم لم يكن من الرجال الذين يهتمون بالأمة، أو ينزعجون منها، أو يضعونها في حسابهم، حتي أنه كان يجاهر أثناء ثورة 1919، بمعارضته لها.. لذلك قبل الاشتراك في وزارة «محمد سعيد باشا» وزيرا للأوقاف، ثم انتقل إلي وزارة الداخلية، في وزارة، «يوسف وهبة باشا» التي خلفتها وقبلت ما رفضته، فوافقت ـ وسط احتجاج شعبي عارم ـ علي التفاوض مع «لجنة ملنر»، وخرقت قرار مقاطعتها الذي كان يهدف إلي إجبارها علي التفاوض مع الوفد المصري، وهما وزارتان احتجت الأمة علي تأليفهما بالتظاهرات، والمنشورات، وتصاعد الاحتجاج في وزارة «يوسف وهبه» إلي حد تدبير أربع محاولات لاغتيال رئيسها وثلاثة من وزرائها، خلال عمرها القصير الذي لم يزد علي سبعة أشهر.
وخلال تلك الأشهر أصبح «توفيق نسيم» مقربا من القصر السلطاني فاختاره السلطان فؤاد رئيسا للوزارة التي خلفت وزارة «يوسف وهبة» إذ عرض - بصفته وزيرا للداخلية - ترتيب زيارات لأفواج من أعيان البلاد ووجهائها إلي القصر، لتهنئة السلطان باعتراف الحكومة البريطانية، بولي عهده «الأمير فاروق» الذي ولد آنذاك، وعندما تخوف «يوسف وهبة باشا» من أن يرفض أعيان البلاد المشاركة في تلك الوفود فيحرجون الوزارة والسلطان، أخذ «توفيق نسيم» الأمر علي عهدته، ونجح في حشد وفود من العمد والأعيان والمديرين لتهنئة السلطان وأهّله هذا النجاح لكي يكلف بتشكيل الوزارة، بدلا من «وهبة باشا» الذي طلب إليه السلطان الاستقالة.
وعاشت وزارة توفيق نسيم الأولي حوالي عشرة أشهر حتي طلب إليه السلطان كارها ـ في 15 مارس 1921 ـ أن يخلي مكانه في رئاسة الوزارة ليتولاها «عدلي يكن باشا» بعد أن تغيرت الظروف السياسية وتطلبت تشكيل وزارة تحوز ثقة «الوفد المصري» فتستكمل المفاوضات بين مصر وبريطانيا حول الاستقلال وتعد مشروع الدستور الذي ستحكم به البلاد وهي صفات كان توفيق نسيم آخر من يحوزها أو يصلح لها.
ويختفي «توفيق نسيم» علي امتداد الشهور العشرين التالية التي توالت علي الحكم خلالها وزارة «عدلي يكن» إلي أن اختلفت مع الوفد لتمسك «سعد زغلول» بأن يترأس وفد المفاوضات وأن تكون أغلبيته من الوفديين فاستقالت لتخلفها وزارة «عبد الخالق ثروت» التي رفض رئيسها أن يقبل مطالب الإنجليز بإلغاء النصوص الخاصة بالسودان من مسودة الدستور، بدعوي أن السودان من المسائل الأربع المتحفظ عليها بمقتضي تصريح فبراير 1922، فقدم ثروت استقالته ليعود «توفيق نسيم» لتولي رئاسة الوزارة، فلا يغادرها - هذه المرة - قبل أن يعبث بمشروع الدستور فيمسخه، ويستجيب لمطالب الإنجليز بشأن العبث بمواد السودان في الدستور ولمطالب الملك بشأن تعديل المواد التي تعلي سلطة الأمة علي سلطة الملك.
كان رجلا من رجال الملك «فؤاد» الذين يصطنع بهم الوزارات ليحكم سافرا وبلا أقنعة، تولي رئاسة الوزارة ثلاث مرات فلم يكتب في خطاب قبولها مرة - كما يلاحظ المؤرخ «عبد الرحمن الرافعي» - برنامجا لوزارته يلتزم به أمام الشعب، لكنه ملأ تلك الخطابات بعبارات من مثل «لما كنت في سعة دائمة من فضل مولاي، تعطف فدعاني لتولي الحكم، وما أنا إلا عبد من رعاياه فرضت علي طاعته».
حتي أنه عندما طلب منه القصر الملكي، أن يشطب من مشروع الدستور المادة التي تقول إن جميع السلطات مصدرها الأمة، فعلها بلا معارضة.. وزعم أنها تحصيل حاصل!
كان باختصار وصوليا ضعيفا.. يؤمن أن مقاومة الأقوياء خطل في الرأي، ونقص في العقل. وأن الإنجليز الذين يحكمون مصر سينفذون إرادتهم فيما يريدون، وإذن فما الداعي لمقاومتهم؟.. وكان الرجل محصنا ضد الطيش والثورية.. لأنه كان يعتبر الوطنية مرضًا خبيثا يصيب الناس. فقد حدث، أثناء التخطيط للإضراب الذي قام به الموظفون خلال ثورة 1919 أن فوتح لكي يشارك فيه فقال عبارة أصبحت أمثولة هي:
- الحمد لله الذي عافاني منذ طفولتي.. من حمي الوطنية.
أما كيف عاد الرجل الذي كان يحمد الله لأنه لم يصب بداء الوطنية، فتولي رئاسة الوزارة، بعد عشر سنوات من تركه للمناصب الوزارية، فإذا به هو الصحيح من داء الوطنية مؤيدا من الشعب، ومن حزب الأغلبية وهو الذي كانت المظاهرات تهتف ضده، قائلة: «أحيّه يا نسيم يا أبو مخ تخين»، فلأن الكلاب كانوا قد ألزموا الشعب موقف الدفاع، فجاء «إسماعيل صدقي» في سنة 1930 ليحكم مصر بالحديد والنار والمعتقلات والسجون، ويتحالف نظامه الدكتاتوري مع الأزمة الاقتصادية العالمية في تجويع الشعب وقهره.. وتخوض القوي الوطنية حربا ضارية لكي تسقط نظامه، وتلغي الدستور الذي بني عليه هذا النظام، لأنه لا يعطي للأمة سلطة ويركز السلطات كلها في يد القصر الملكي والحكومة، وكانت القوي الوطنية تدرك أن انفراد القصر بالحكم وإلغاء الدستور واستبعاد حزب الأغلبية الشعبية، هو الخطوة الأولي في طريق سينتهي حتما بإتمام تسوية مع البريطانيين تقر الأمر الواقع وتعترف بشرعية الاحتلال وهو ما يدعم استمرار القصر الملكي يحكم منفردا، بواسطة رجال مثل «صدقي» لذلك ساندت السراي ودار المندوب السامي البريطاني نظام «صدقي» بكل طاقتها، وعلي الرغم من أن كل الأحزاب قد قاطعت الترشيح للانتخابات التي أجراها، واستجاب الناس لدعوتها بعدم التصويت فيها، إلا أن الإدارة لم تعدم وسيلة لتزوير إرادة الأمة.. وهكذا ضمت كشوف الانتخابات الأموات والمساجين.. وأسماء وهمية.. وأعلن صدقي حصول «حزب الشعب» الذي أنشأه، علي الأغلبية بنسبة 67%.




القاهرة

أسرار لا تزال خفية فى مصر

أسرار لا تزال خفية فى مصر
روجر أوين
جريدة القاهرة الثلاثاء 17 سبتمبر 2002م - 10 رجب 1423هـ

من الأمور التى لم يُشر إليها إلا نادرا خلال الاحتفالات الأخيرة بمناسبة الذكرى الخمسين للثورة هو أداء مصر الكارثى، عسكريًا وسياسيًا ودبلوماسيًا، قبل حرب يونيه عام 1967 مباشرة وخلالها. ومن الواضح أنها قضية حساسة إذ لا تتعلق بسمعة الرئيس جمال عبد الناصر بشكل مباشر فحسب، بل أيضًا بعلاقته المثيرة للجدل مع صديقه وزميله قائد الجيش المشير عبد الحكيم عامر.
وعلى الرغم من أن الحقائق الرئيسية للقضية أصبحت معروفة الآن بشكل جيد من الكتب والمذكرات، لا يزال المرء يصاب بدهشة عندما يقرأ عن مدى طموح عامر والجموح الذى استبد به آنذاك، وهذه إحدى النقاط الرئيسية التى يتناولها الكتاب الجديد لمايكل ب. أورن بعنوان "ستة أيام من الحرب"، الذى صدر أخيرا عن دار "إكسفورد يونيفرسيتى برس" للنشر فى نيويورك.
يتبع "أورن" عموما المنهج المعتاد إذ يلفت إلى الحادثتين اللتين وضع فيهما جمال عبد الناصر أمام أمر واقع من جانب عامر فى بداية الأزمة، أولًا بإصدار أوامر إلى القوات بالتقدم فى سيناء، وبعدئذ بإرسال وحدات من المظليين إلى شرم الشيخ بغرض إجلاء قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة. وفى كلتا الحالتين سايره عبد الناصر، لكنه حسب رواية "أورن" لم ينظر إلى هاتين الحادثتين كتنبيه إلى ضرورة أن يسترد سيطرته على عامر وزملائه العسكريين الذين كانوا عازمين بتهور، كما يؤكد "أورن" على استخدام الأزمة لبدء حرب مع إسرائيل واثقين بأنهم سينترون فيها.
كما لا يخرج "أورن" عن الإجماع التاريخى بالتأكيد على أن عامر هو الذى أصدر الأمر الانتحارى بجلاء عسكرى كامل عن سيناء بعد ظهر اليوم الثانى من القتال الفعلى. ومرة أخرى سايره عبد الناصر، لأنه مثل عامر، ضخم بشكل كبير الخطر الذى كان يهدد قوات مصر بعد الأربع والعشرين ساعة الأولى من الهجوم الإسرائيلى. لكن هذا القرار مثل - حسب وجهة نظر "أورن" - خطأ جسيمًا ف التقدير عندما كان ما لا يقل عن نصف الوحدات المصرية ما يزال سليما بينما لم يكن بعضها، مثل اللواء المدرع بقيادة الجنرال الشاذلى، قد أطلق النار بعد، فيما كانت القوات الإسرائيلية مجهدة ومشتتة. وكان الأفضل بكثير أن يأمر بعض قواته بأن تصمد بعناد لتخوض قتالًا مديدًا بينما يصدر تعليمات إلى بقية القوات لتقوم بتحصين خطوط الدفاع على امتداد سيناء المصممة لحماية الممرات المؤدية إلى قناة السويس، وأن يقرن ذلك بحملة دولية مكثفة تهدف إلى الحصول على وقف نار فورى يعقبه انسحاب إسرائيلى.
وأبدى "أورن" أيضًا بعض الملاحظات المثيرة للاهتمام بشأن حادثة أخرى عندما تحرك عبد الناصر لضبط عامر، وكان يمكن للوضع أن يكون أفضل بكثير بالنسبة لمصر لو أنه لم يفعل ذلك. كان هذا يتعلق بخطة اقترحها عامر لشن هجوم على النقب فى إسرائيل تعرف بـ "عملية الفجر"، وكان يفترض أن تبدأ صباح 27 مايو. وتضمنت الخطة هجومًا مدرعًا من رفح وقصف أهداف إسرائيلية كان يمكن أن تشمل المفاعل النووى فى ديمونا.
ومن الأدلة الظرفية على هذا الادعاء الأخير الحماس الكبير الذى أبداه إثر نجاح عملية الاستطلاع الت نفذتها طائرات مصريتان من طراز "ميج" فوق ديمونا فى 17 مايو قبل أن يتمكن سلاح الجو الإسرائيلى من الرد.
ألغيت "عملية الفجر" قبل بضع ساعات فحسب من الموعد المقرر لتنفيذها، وكان أحد الأسباب الضغوط الأمريكية على الاتحاد السوفيتى لإقناع مصر بأن تكف عن القيام بتحرك، إذ كانت كلا القوتين العظميين تشعر بقلق بشأن مخاطر الانجرار إلى حرب فى الشرق الأوسط على طرفين متقابلين، لكن "أورن" يجادل بأن سببًا أهم وراء هذا الموقف كان اعتقاد عبد الناصر بأن خطط العملية وقعت فى أيدى الإسرائيليين. كما أنه يستخدم الحادثة كدليل إضافى على مدى اختلال العلاقة بين عامر وعبد الناصر آنذاك، إذ تجاهل عامر متعمدا الأمر الأول الذى أصدره عبد الناصر بإلغاء العملية ولم يستجب إلا للأمر الثانى بعد ذلك بخمسة وأربعين دقيقة عندما كان الطيارون فى مقاعدهم يتأهبون للانطلاق وللأسف فإن "أورن" لا يوضح لماذا حدث ذلك. وفى الوقت نفسه يبدوا مبهمًا على نحو متعمد بشأن مدى ما كان يعرفه الإسرائيليون فعلًا.
وعلى مستوى أعم، يستخدم "أورن" حوادث من هذا النوع للتأكيد على الطبيعة العرضية للكثير من التطورات التى سبقت الحرب ليثير بالتالى - بشكل ضمنى - أسئلة كثيرة من نوع "ماذا لو؟".
على سبيل المثال. ماذا كان سيحدث لو أن هجوم "الفجر" وقع فعلًا؟ يبدو من المعقول الافتراضى أنه مهما كان مستوى تنفيذ العملية سيئًا وحتى إذا كان جرى احتواؤها بسرعة، فإن النتيجة كانت ستكون بالتأكيد أفضل لمصر مما حدث بعد عشرة أيام فى 6 يونيه، فالنجاح المحدود هو بالطبع أفضل من عدم تحقيق أى نجاح إطلاقًا، ومن منظور الثقة بالنفس والجانب المعنوى، كما أن هجومًا كهذا ربما كان سيربك خطط إسرائيل لدرجة تكفى لجعل هجومها اللاحق أقل نجاحًا بكثير.
وعل نحو مماثل يثير "أورن" ملاحظات مهمة بشأن السؤال المناقش مطولًا عن سبب قيام الروس بإعطاء المصريين تحذيرًا مبالغًا فيه بأن إسرائيل كانت قد تحشد قواتها لشن هجوم كبير على سوريا، وهو شئ اعتبر منذ وقت طويل العامل الذى فجر الأزمة كلها. وكما يلفت، فإن مثل هذه التحذيرات كانت أصبحت شيئًا روتينيًا، ولذا فإن السؤال الحقيقى هو ليس لماذا كان الاتحاد السوفيتى قلقًا بشأن احتمال وقوع هجوم قد يطيح بالنظام البعثى فى دمشق، بل لماذا تعامل عبد الناصر وعامر مع التحذير بهذا المستوى من الجدية؟ وهنا يجادل "أورن" بأن عبد الناصر اعتقد بأن أمن مصر وهيبتها كانا يتوقفان على القيام بشئ للتصدى لخطر يهدد حليفًا عربيًا. أما بالنسبة إلى عامر، فإنها كانت فرصة لاستعادة بعض من سمعة الجيش التى فقدها جراء المأزق فى اليمن، بدلًا من ذلك، كما أظهرت الأحداث لاحقًا، حصل عبد الناصر وعامر بالضبط على عكس ما كانا يطمحان إليه.
ما لا يقوله "أورن" فى هذا الكتاب، لكن قاله بالفعل خلال حديث فى جامعة "هارفرد"، هو أنه كانت هناك خطة إسرائيلية حقيقية لشن هجوم على مواقع سورية على مرتفعات الجولان بتاريخ 17 / 18 أبريل، لكنه أرجئ لأسباب كان يجهلها أو اختار ألا يطرحها.
لابد من الترحيب بأية محاولة جدية لمراجعة وإعادة تقويم علاقة عبد الناصر المطربة مع عامر. فهى تكمن فى صلب أكبر فشل للنظام وتثير أسئلة شتى حول السبب الذى جعل الرئيس لا يسمح لقائد جيشه أن يكون خارج سيطرته فحسب، بل أن يكون أيضا فى موقع يتيح له اتخاذ الكثير من القرارات المهمة بمفرده. لا يمكن بلا ريب تفسير هذا الأمر بمجرد أن عامر كان صديقه، أيا كان ما يعنيه ذلك فى مثل هذا السياق التاريخى المهم. ويرى "أورن"، الذى يؤلف الآن كتابًا حول الموضوع مع إفراهام سيلا، أن الأمر يرجع إلى غياب الإرادة السياسية. لكن الجواب المرجح أكثر يمكن كما يبدو فى بنية النظام ذاته بأكملها، وفى التوازن الذى سعى عبد الناصر إلى الحفاظ عليه بين جناحيه السياسى والعسكرى، وفى الثمن الذى كان مستعدا لأن يدفعه لضمان ألا يقع أبدا انقلاب عسكرى آخر.
حاشية أخيرة: يعيد "أورن" عرض صورة فوتوغرافية تظهر إسرائيليين يأمرون جنودًا أسرى مصريين بأن ينزعوا أحذيتهم، وهو ما يدحض واحدة من أخبث أكاذيب الدعاية الإسرائيلية التى ادعت بأن المجندين من الفلاحين المصريين كانوا يتخلصون من أحذيتهم كى يتمكنوا من العدو بسرعة أكبر عبر سيناء والعودة إلى مزارعهم فى الدلتا.

نقلا عن الحياة "اللندنية"