‏إظهار الرسائل ذات التسميات أبحاث أشرف السيد الشربينى. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أبحاث أشرف السيد الشربينى. إظهار كافة الرسائل

السبت، 20 فبراير 2010

حريق القاهرة.. الجريمة والجانى

حريق القاهرة.. الجريمة والجانى


إعداد الباحث: أشرف السيد الشربينى


حكومة الوفد تلغى المعاهدة:
بدأت الشرارة الأولى لحريق القاهرة مع إلغاء معاهدة 26 أغسطس عام 1936, حيث جاء إلغاء المعاهدة ليكشف حقيقة الوجود البريطانى، وينسف كل مبررات بقائه، فقد أعلنت حكومة الوفد فى 16 من يناير 1950م - على لسان "مصطفى النحاس"- أن معاهدة (1936م) قد فقدت صلاحيتها كأساس للعلاقات المصرية / البريطانية، وأنه لا مناص من إلغائها فسقطت دعاوى بريطانيا حول حقوقها فى مصر كما سقطت من قبل دعوى الحماية.
وفى 18 من أكتوبر 1951م الموافق 18 من المحرم 1371هـ وقف "مصطفى النحاس" ليعلن إلغاء المعاهدة وإلغاء اتفاقيتى 19 يناير و10 يوليه عام 1899 فى شأن إدارة السودان، وقدم إلى البرلمان المراسيم بمشروعات القوانين المتضمنة هذا الإلغاء وسط تأييد حافل من نواب الحكومة والمعارضة, وصدر القانون الرقم 175 لعام 1951، بإنهاء العمل بأحكام معاهدة 1936، موقعاً بتوقيع رئيس مجلس الوزراء، مصطفى النحاس، والملك فاروق.


نتائج إلغاء المعاهدة:
أدى إلغاء المعاهدة إلى إلغاء الامتيازات والإعفاءات التى كانت تتمتع بها القوات البريطانية الموجودة فى مصر، مثل: إلغاء جميع الإعفاءات المالية التى تشمل الرسوم الجمركية على المهمات العسكرية والأسلحة والعتاد والمؤن، وكذلك الرسوم المستحقة على السفن التى تمر بالمياه المصرية لخدمة القوات البريطانية.
كما امتنعت السكك الحديدية المصرية عن أداء أية خدمات للقوات البريطانية، أو نقل أى مهمات أو عتاد لها، ومنعت الحكومة المصرية دخول الرعايا البريطانيين إلى البلاد، ما لم يكونوا حاصلين على تأشيرات دخول من السلطات القنصلية المصرية فى البلاد التى قدموا منها، وأنهت تصاريح إقامة البريطانيين الذين يخدمون فى القوات البريطانية.
فكان من شأن إلغاء المعاهدة أن كشفت الغطاء عن الوجود العسكرى البريطانى الكثيف فى منطقة القناة، الذى أصبح بعد إلغاء المعاهدة ليس له أى مبررات للتواجد البريطانى فى هذه المنطقة، وإذا بتسلط الاحتلال الإنجليزى يبلغ مداه، فى الإصرار على بقاء قواتهم هناك زاعمين أن قرار الإلغاء غير صحيح.
ويمكن القول أيضاً إن إلغاء معاهدة ٣٦ قد أشعل نار الغضب الشعبى وبعث الدماء بقوة من جديد فى روح النضال الوطنى المسلح ضد الاحتلال، ومع قوة هذا النضال وزخمه استمر مسلسل العنف الإنجليزى ضد الوطنيين فى منطقة القناة حتى وصل ذروته فى العشرينيات من يناير سنة ١٩٥٢م.
حيث تم تشريد الأهالى بالإسماعيلية والتعامل الوحشى مع رجال المقاومة وشرع الاحتلال فى نبش القبور بحجة البحث عن أسلحة ولم يفرق الرصاص الإنجليزى بين مدنى وعسكرى.


موقف بريطانيا من إلغاء المعاهدة:
صرح هربرت موريسون، وزير خارجية بريطانيا، أن بريطانيا ستقابل القوة بالقوة إذا اقتضى الأمر لبقاء قواتها فى منطقة قناة السويس، وأن الحكومة البريطانية لن تذعن لمحاولة مصر تمزيق المعاهدة. وأصدرت السفارة البريطانية فى القاهرة مساء 8 أكتوبر عام 1951 بياناً أعلنت فيه أن إلغاء الحكومة المصرية للمعاهدة، من جانبها وحدها، عمل غير قانونى ويخالف أحكام المعاهدة، وأن الحكومة البريطانية تعتبرها سارية المفعول، وتعتزم التمسك بحقوقها بمقتضى هذه المعاهدة.
وألقى ونستون تشرشل، زعيم المحافظين وزعيم المعارضة وقتئذ، خطاباً فى مجلس العموم أيد فيه موقف حكومة العمال، وقال إن إقدام حكومة مصر على إجلاء الإنجليز، عن منطقة قناة السويس والسودان، ضربة أخطر وأكثر مهانة لكرامتها من اضطرارها إلى الجلاء عن عبدان بإيران.


خطط بريطانيا ضد قرار إلغاء المعاهدة:
ووجدت بريطانيا نفسها فى موقف صعب، وقررت أن تتخذ عددًا من الإجراءات والتدابير لإجبار حكومة الوفد عن التراجع عن موقفها، ووضعت ثلاث خطط لذلك:
الأولى: خطة للعمل السياسى والدبلوماسى لإحراج الحكومة.
والثانية: خطة عسكرية لاحتلال مدينة القاهرة، أو القيام بانقلاب عسكرى يقوم به الملك بمساعدة الجيش.
والثالثة: خطة تخريبية لحرق القاهرة.
وقد سارت بريطانيا عدة خطوات فى سبيل تحقيق الخطة الأولى، فقامت بعملية هدم كفر أحمد عبده بالسويس فى أوائل ديسمبر 1951م.


نسف قرية كفر عبده:
 قامت الكتائب الفدائية المشكلة من طلبة الجامعات والإخوان ومصر الفتاة باغتيال كثير من العسكريين البريطانيين. وقابل الإنجليز ذلك بمنتهى العنف إلى أن أعلنوا فى أحد الأيام أنهم سيدمرون قرية "كفر عبده" القريبة من السويس بحجة أنها تأوى الفدائيين الذين يحاولون نسف محطة المياه الموجودة بهذه القرية، التى تغذى المعسكرات البريطانية بالمياه. ولما وصل التهديد إلى الحكومة أمر وزير الداخلية قوات بوليس السويس بالمقاومة والدفاع عن القرية وانضمت قوات البوليس للفدائيين ودارت معركة غير متكافئة، بين المصريين والإنجليز، اشتركت فيها (250) دبابة و(500) مصفحة، وعدد من الطائرات، ونسف الإنجليز قرية كفر عبده وأزالوها بمن فيها، ممن تبقى من الأهالى ورجال المقاومة, فى عملية استعراضية ضخمة ، وكانت تهدف من ورائها إلى إظهار الحكومة المصرية بمظهر الضعف، ومحاولة امتهانها والنيل منها، وتحطيم روح المقاومة الشعبية عند المصريين.
وقد ردت الحكومة المصرية على هذا العمل المستفز بسحب السفير المصرى من لندن، وطرد جميع المواطنين البريطانيين من خدمة الحكومة المصرية، وإصدار تشريع جديد يقضى بتوقيع عقوبات على المتعاونين مع القوات البريطانيين، وإباحة حمل السلاح.


معركة زيتية شل:
فى 3 ديسمبر عام 1951، نشبت معركة بين المقاومة المصرية والقوات البريطانية، عند المنطقة المعروفة "بزيتية شل"، وتحصن الفدائيون بالمنازل وانضم إليهم رجال البوليس، وحاصرتهم القوات البريطانية بالدبابات، التى انتشرت حول معمل تكرير البترول الأميرى وتقدم الجنود البريطانيين، يطلقون النار فى جنون، ولكن المقاومة استطاعت أن تقضى على معظم الجنود، وعلى رأسهم قائدهم الضابط الإنجليزى, وعندما وصلت أخبار هذه الخسائر إلى القيادة البريطانية، قررت الانتقام بعنف. 


مزيد من المؤامرات:
وسعت بريطانيا إلى مؤامرة جديدة لبث الفرقة بين صفوف المصريين، فقام عدد من عملائها بإشعال النار فى كنيسة بمدينة "السويس" أثناء غارة بريطانية على المدينة فى 4 من يناير 1952م، وقد حاولت بريطانيا إلصاق التهمة بالفدائيين لزرع الفتنة الطائفية بين المصريين، واستعداء الرأى العام العالمى على الحكومة الوفدية والفدائيين، ولكن ما لبثت التحقيقات أن كشفت عن مسئولية جماعة "إخوان الحرية" - التى تمولها المخابرات البريطانية - عن الحادث.


مجزرة يوم الجمعة 25 يناير بالإسماعيلية:
يوم 24 يناير 1952 نسف الفدائيون قطارا انجليزيا كان يحمل بعض الجنود والضباط الانجليز وبعض العتاد والمؤن من احدى مدن الشرقية فى طريقه إلى الإسماعيلية.. 
نشرت جريدة "المصرى" صور القطار المقلوب بما فيه من الجثث والعتاد والمؤن المبعثرة على الأرض.. نشرت "المصرى" الصورة على ثمانية أعمدة فى صدر الصفحة الأولى بدلاً من المانشيت.. كعمل صحفى فريد لم يتكرر منذ أكثر من نصف قرن.
جن جنون القيادة البريطانية بالقنال فقد كانت ضربة موجعة بحق.. فقرروا فى اليوم التالى الجمعة 25 يناير 1952 احتلال محافظة الإسماعيلية.. 
فى يوم الجمعة 25 يناير 1952 وقعت فى مدينة الإسماعيلية مجزرة بشرية دمغت بريطانيا بالوحشية وسجلها التاريخ فى أسود صفحاته وألبست الإستعمار البريطانى ثوب الخسة والعار, فقبل إنبلاج الفجر وفى طى الظلام فى هذه الليلة تحركت من معسكر الإسماعيلية قوات ضخمة من الجيش البريطانى تقدر بسبعة آلاف ضابط وجندى تضم وحدات من المشاة والعربات المدرعة والدبابات ومدافع الميدان, وقامت بضرب الحصار حول مبنى محافظة الإسماعيلية وثكنات بلوكات النظام المجاورة لها, وفى منتصف الساعة السادسة صباحاً توجه ضابطان بريطانيان إلى منزل البكباشى (المقدم) شريف العبد ضابط الإتصال المصرى وطلبا منه القيام معهما لمقابلة قائد القوات البريطانية فى منطقة الإسماعيلية البريجادير (العميد) اكسهام.
وعندما قابل ضابط الإتصال المصرى القائد البريطانى اكسهام سلمه إنذار شديد اللهجة طلب فيه تسليم أسلحة جميع قوات البوليس بما فيهم بلوكات النظام الموجودين بالإسماعيلية, وجلاء قوات البوليس عن دار المحافظة وعن الثكنات المجاورة لها من أسلحتها, ورحيل كل قوات البوليس الموجودة بالإسماعيلية إلى خارج منطقة القناة, وأبلغ ضابط الإتصال نص هذا الإنذار على الفور إلى اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام وإلى على حلمى وكيل المحافظة (كانت الإسماعيلية تتبع وقتئذ محافظة القناة التى مقرها بورسعيد) فقررا رفض الإنذار, ثم إتصلا على الفور بوزير الداخلية فؤاد سراج الدين وأبلغاه الإنذار وبالقرار الذى إتخذاه, فأقرهما على موقفهما وأمرهما بمقاومة أى عدوان بريطانى يقع على دار المحافظة أو على ثكنات بلوكات النظام أو على أفراد من البوليس أو المواطنين, ودفع القوة بالقوة والصمود حتى آخر طلقة وآخر رجل.
ولما أخطر القائد المصرى القائد البريطانى برفض التسليم أصدر أمره إلى قواته بالمقاومة حتى النهاية نفذ القائد البريطانى إنذاره وأمر قواته بضرب دار المحافظة والثكنات بنيران المدفعية ومدافع الدبابات, وإنهالت القنابل ونيران الرشاشات على حدود البوليس فدمرت الجدران وقتلت وأصابت عشرات الجنود.
وهكذا دارت معركة رهيبة غير متكافئة بين قوات مصرية صغيرة الحجم ضعيفة التسليح, إذ لم يكن عددها يتجاوز ثمانين جندياً بدار المحافظة وثمانمائة جندى فى معسكر بلوكات النظام ولم تكن تملك سلاح سوى بنادق من طراز (لى أنفيلد 303) القديمة التى لا تطلق سوى طلقات فردية, فى مواجهة سبعة آلاف جندى مسلحين بأحدث أسلحة الفتك والدمار من دبابات طراز (سنتوريون) ذات المدفع عيار 100 ملليمتر ومدفعية ميدان ذات المدفع من عيار 25 رطلاً, بخلاف العربات المدرعة والمشاة المزودة بالرشاشات والبنادق الآلية التى تطلق آلاف الطلقات فى دقائق معدودة.
وأبدى ضباط وجنود قوات البوليس فى دار المحافظة والثكنات فى أثناء المعركة شجاعة بالغة وبلاء عظيماً برغم تصدع المبانى وتهدم الجدران وسقوط عشرات القتلى والمصابين من زملائهم, بينما سالت الدماء حولهم أنهاراً وأمر القائد البريطانى بوقف الضرب لعدة دقائق وإنذار قوة البوليس المصرية التى أرهبته بشدة مقاومتها وأدهشته بروحها المعنوية العالية, برغم ضعف أسلحتها وكثرة خسائرها – بأنه سيهدم دار المحافظة وثكنة بلوكات النظام على رؤوسهم إن لم يتوقفوا عن القتال وتسليم اسلحتهم, ولكن رجال القوة وضباطهم رفضوا الإنذار ورفضوا تسليم أسلحتهم وصرخ أحد ضباطهم الشبان وهو النقيب مصطفى رفعت فى وجه الإنجليز قئلاً:
"لن تستلموا منا إلا جثثاً هامدة"
وإستمرت القوة المصرية فى القتال وظل أفرادها يقاومون ببسالة لمدة ساعتين حتى نفذت ذخيرتهم, وعندئذ إقتحمت الدبابات والعربات المدرعة البريطانية دار المحافظة والثكنات وأسرت من بقى على قيد الحياة من رجال البوليس, وأحنى البريجادير أكسهام رأسه إحتراماً لهم وقال لضابط الإتصال بأن رجال القوة المصرية جميعاً قد دافعوا بشرف فحق علينا إحترامهم جميعاً ضباطاً وجنوداً, وقد سقط فى ساحة الشرف فى هذه المعركة من جنود البوليس 50 شهيداً وأصيب 80 ضابطاً وجندياً بجراح بالغة, وأسر الإنجليز من بقوا من القوة المصرية على قيد الحياة وكان عددهم يتجاوز 700 ضابط وجندى وعلى رأسهم اللواء أحمد رائف والنقيب مصطفى رفعت, ولم يفرج عنهم إلا فى شهر فبراير 1953, ونتيجة لهذه المجزرة الوحشية تم تدمير دار المحافظة وثكنة بلوكات النظام تدميراً تاماً وأعلنت القيادة البريطانية أن خسائرها فى هذه المعركة 13 قتيلاً و12 جريحاً.


أحداث حريق القاهرة:
لم تشهد القاهرة فى تاريخها الحافل الطويل يوماً أشد شؤماً وإيلاماً من يوم السبت 26 يناير 1952 فقد تعرضت فيه عاصمة مصر لفتنة جامحة هوجاء تألبت عليها خلالها عناصر الشر والإجرام فأشعلت النار فى مختلف أرجائها وأشاعت الخراب والدمار فى أجمل أحيائها وتركتها طوال النهار وجانباً من الليل طعمة للنيران والدخان, وتحولت معالم وسط المدينة وقلبها النابض إلى خرائب وأطلال ينعق فيها البوم والغربان كما دمرت الحرائق المنشآت الإجتماعية والثقافية والتجارية وبذا أصاب التخريب والدمار جانباً كبيراً من تاريخ عاصمة تعد من أعرق عواصم العالم, وزالت منشآت ومعالم إرتبطت بأحداث مهمة فى تاريخ مصر المحروسة.
وقد بدأت الأحداث المباشرة والمتسببة فى وقوع هذه الحريق فى مساء يوم الجمعة ‏25‏ يناير ‏1952‏, فقد أذاعت وزارة الداخلية عن طريق الإذاعة أنباء مجزرة الإسماعيلية التى وقعت صباح ذلك اليوم والتى أسفرت عن قتل 50 من رجال البوليس وإصابة نحو 80 منهم, وهدم دار المحافظة وثكنة بلوكات النظام المجاورة لها, فاشتعلت نفوس المصريين غضبا وازداد سخطهم على فظائع الاحتلال البريطانى, وتوقع الناس أن يشتد الكفاح المسلح ضد الاحتلال فى منطقة القناة, ولكن أحدا لم يكن يتوقع أن يكون رد الفعل هو حرائق مشتعلة فى شتى أنحاء العاصمة تهدد بالقضاء على تراثها وعمرانها وجمالها‏.‏
وقد توالت النذر بعد إستفاضة الأنباء عن وقوع تلك المجزرة الوحشية بالإسماعيلية بأن اليوم التالى لوقوعها وهو يوم السبت سيكون يوماً عصيباً فى كل أرجاء مصر ولكن وزارة الداخلية المسئولة عن الحفاظ على الامن وخاصة فى العاصمة لم تتخذ التدابير والإحتياطات اللازمة لمنع أية محاولات للإخلال بالأمن أو بإثارة الفتنة والفوضى فى البلاد, وكانت أولى تلك النذر التى تشير إلى هول ما ينتظر وقوعه هو ما جرى فى مطار ألماظة (مطار القاهرة وقتئذ) بعد وصول أربع طائرات كبيرة لشركة الخطوط الجوية البريطانية فى الساعة الثانية بعد منتصف الليل, فقد تجمع عمال المطار حول هذه الطائرات بصورة عدائية ورفضوا وضع السلالم لنزول ركاب الطائرات وكلهم من الأجانب, كما إمتنعوا عن تزويد تلك الطائرات بالوقود وحالوا دون إستئنافها للسفر, وحاول بعضهم إضرام النار فيها ولكن بعض زملائهم منعوهم من الإستمرار فى محاولتهم, وعندما بلغ النبأ وزارة الداخلية أوفدت إلى المطار أحد كبار ضباطها فأقنع العمال المحتشدين حول الطائرات بالعدول عن نواياهم العدوانية لما يترتب عليها من عواقب دولية وخيمة, فإقتنعوا بكلامه وعادوا إلى عملهم وبذا تمكنت الطائرات من إستكمال رحلتها.
وقد بدأت أحداث أحداث الفوضى وعدم الإنضباط فى ذلك اليوم المشئوم فى الساعة السادسة صباحاً, فقد تمرد جنود بلوكات نظام الأقاليم فى ثكناتهم بالعباسية وامتنعوا عن الذهاب إلى الأماكن المخصصة لهم للحفاظ على الأمن فى العاصمة, وبدلا من ذلك خرجوا من معسكرهم وهم يحملون أسلحتهم فى مظاهرة كبيرة متعللين بأن ما فعلوه إنما هو نتيجة لسخطهم على ما أصاب زملاءهم بالإسماعيلية‏ فى اليوم السابق من قتل ودمار وأسر, وإتجهت مظاهراتهم من العباسية إلى الأزهر ثم إلى ميدان العتبة ومنه إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير), وفى الساعة التاسعة صباحا وصلت مظاهرة جنود بلوكات النظام إلى جامعة فؤاد بالجيزة (جامعة القاهرة حالياً) فانضم إليهم طلاب الجامعة وسار الجميع فى مظاهرة ضخمة متجهين إلى وسط المدينة‏, وقد بادر أحد كبار الضباط المسئولين عن الأمن بالجيزة بتقديم إقتراح إلى المسئولين بمديرية الجيزة بفتح الكبارى بين الجيزة والقاهرة لمنع المظاهرة الحاشدة من الوصول إلى القاهرة وحصرها فى داخل الجيزة ولكن إقتراحه لم يصادفه القبول.
وفى منتصف الساعة الثانية عشرة ظهرا وصلت المظاهرات القادمة من الجيزة ومن مختلف أرجاء القاهرة تباعا إلى دار رئاسة مجلس الوزراء, فاحتشد الآلاف منهم فى حديقة المجلس وأخذوا يرددون هتافاتهم ضد الإستعمار البريطانى, وطلبوا أن يخرج إليهم مصطفى النحاس رئيس مجلس الوزراء, ولكن لم يلبث أن أطل عليهم عبد الفتاح حسن وزير الشئون الاجتماعية وألقى فيهم خطاباً حاول فيه تهدئتهم إلا أنهم صرخوا فى وجهه وهتفوا بسقوطه.
وكانت المفاجأة ظهور أحد ضباط الجيش وإسمه محمد عبد الخالق وقد حمله المتظاهرين على الأعناق.. وباعلى صوته صاح هذا الضابط فى عبد الفتاح حسن: "أيها الوزير .. الجيش للحرب.. لماذا لم ترسلونا إلى القتال دفاعاً عن إخواننا جنود البوليس".
زادت حماسة المتظاهرين, وحاول عبد الفتاح حسن تهدئتهم فأخذ يخطب فيهم خطاباً حماسياً اختتمه بهتافاته ضد الإستعمار وضد الانجليز الطغاة التى أخذ المتظاهرون يرددونها خلفه, ثم إنطلقت هذه الجموع الحاشدة إلى قلب العاصمة وهى تطالب فى هتافاتها بالحصول على السلاح لقتال قوات الإحتلال فى منطقة القناة‏, وكان منظر المظاهرات التى تضم عدة آلاف من المتظاهرين أغلبهم من الطلاب وجنود بلوكات النظام وهم يخترقون الميادين والشوارع مرددين الهتافات العدائية ضد الإستعمار وضد قوات الإحتلال بمنطقة القناة فى حماسة وعصبية يدل على قرب حدوث إنفلات فى الأمن والنظام, خاصة بعد أن إندس إلى صفوفهم الكثير من الغوغاء, ولذا فما كاد فريق المتظاهرين يصلون إلى ميدان الأوبرا حتى هاجموا كازينو أوبرا (بديعة) وانهالوا عليه بالإتلاف والتخريب, ولما جاء رجال المطافئ إلى مكان الحريق لإخماده تصدى لهم المتظاهرون وحالوا بينهم وبين أداء واجبهم كما عمد بعضهم إلى قطع خراطيم المياه.
وقد بدأ الحريق فى كازينو (بديعة) بميدان الأوبرا فى الساعة 12.27 ظهراً, وتوالت حوادث إشعال النار فاجتاحت شوارع وميادين بأكملها، مثل ميدان إبراهيم باشا "الأوبرا"، و شارع فؤاد "٢٦ يوليو"، وشارع إبراهيم باشا "الجمهورية" وشارع عدلى باشا، وشارع قصر النيل وشارع سليمان باشا, وشارع عبد الخالق ثروت وميدان مصطفى كامل، وشوارع شريف، ورشدى، ومحمد فريد، وعماد الدين، ونجيب الريحانى، ومحمود بسيونى، والبورصة الجديدة، وشارع توفيق "أحمد عرابى"، وميدان التوفيقية "أحمد عرابى"، وشارعى جلال، ورمسيس، وميدان الإسماعيلية "التحرير"، وشارع الخديو إسماعيل "التحرير"، وشوارع الشواربى، والفلكى، ومحمد صدقى، وسكة المغربى, وشوارع الأنتكخانة, وشامبليون، والألفى، وكلوت بك، ودوبريه, وكامل صدقى "الفجالة"، والظاهر, ومحمود فهمى المعمارى، وميدان باب الحديد، وشوارع المهرانى, والخليج الحور, ومحمد على "القلعة"، والهرم, وتخللت الحرائق حوادث السلب والنهب لمعظم المنشآت والمبانى والمحال المحترقة‏.‏
وقد بلغ عدد المحال التجارية والمنشآت التى أصابها الحريق ما يزيد عن سبعمائة منشأة وسبعمائة حريق, شملت أكثر من 30 محلاً تجارياً منها: (شيكوريل, وسلسلة المحلات اليهودية), 300 متجراً و30 مكتباً لشركات كبرى, و١١٧ مكتباً وشقة سكنية و١٣ فندقاً من بينها: (فندق شبرد, وفندق متروبوليتان, وفندق فيكتوريا)، و٤٠ داراً للسينما من بينها: (سينما ريفولى, وراديو, وميامى, وديانا, ومتروبول)، و73 مقهى ومطعماً من بينها: (الأمريكين, وجروبى), و16 نادياً من بينها: (نادى محمد على والنادى اليونانى), و8 محلات ومعارض سيارات, و10 محلات لبيع السلاح, و٩٢ بار "حانة", وبنك "باركليز الإنجليزى.
وبلغ عدد القتلى فى هذا اليوم 26 فرداً منهم 13 فى بنك باركليز وتسعة فى الترف كلوب والباقى داخل بعض المبانى والشوارع, وبلغ عدد من أصيبوا بحروق أو كسور أو جروح 552 فرد وكان من بين هؤلاء القتلى والمصابين عدد كبير من الأجانب, وقد قدرت خسائر الحريق المالية بما يزيد عن المائة مليون جنيه مصرى.
وقد أدى وقوع هذه الحوادث الخطيرة إلى تشريد عدد كبير من الموظفين والعمال المصريين الذين كانوا يعملون فى المحال والمنشآت والمتاجر التى أصابها الحريق, وقد بلغ عددهم عدة آلاف كانوا يعولون مئات من الأسر ذات المستوى المتواضع أو الفقير.
وهكذا خيم الخراب والدمار على منطقة كبيرة فى قلب القاهرة كانت تعد من أرقى مناطقها عمراناً وأكثرها روعة وجمالاً وأكبرها إزدهاراً بالتجارة وأشدها إزدحاماً بالرواد وظلت رائحة الدخان تنبعث من مبانيها أياماً.
وقد ظهر بوضوح خلال أحداث الحرائق وعمليات السلب والنهب أن رجال البوليس أبدوا تهاونا جسيماً فى أداء واجبهم, فلم يحاولوا التصدى للمتظاهرين أو منعهم من إشعال الحرائق أو القبض على الجناة الذين استغلوا الفرصة لنهب وسلب المحال المحترقة, وربما كان السبب فى ذلك وجود زملائهم من جنود بلوكات النظام ضمن المتظاهرين وكان بعضهم مسلحين بالبنادق, فضلاً عن إحساسهم بالسخط والمرارة بسبب ما جرى لزملائهم من قوات الإحتلال فى مجزرة الإسماعيلية من قتل وإصابات جسيمة, ثم تجريدهم من أسلحتهم وإقتيادهم إلى معسكر الإعتقال بسبب وضعهم فى معركة غير متكافئة واجهوا فيها الإنجليز المزودين بأقوى وأحدث أسلحة الفتك والدمار بأسلحتهم القديمة والعتيقة الطراز‏.‏


الوزير يطلب الجيش:
فى الساعة الثانية عشرة والنصف إتصل وزير الداخلية بقائد القوات المسلحة الفريق محمد حيدر طالباً إليه نزول القوات المسلحة للسيطرة على الموقف بعد أن تبين للوزير أن قواته من البوليس غير قادرة على السيطرة على الموقف, بل أن معظمها مشارك فى المظاهرات.
وكان رد قائد الجيش على وزير الداخلية أنه لابد من عرض الأمر على الملك وحصوله من جلالته على أمر بذلك.
وبعد نصف ساعة – فى حوالى الواحدة – عاود وزير الداخلية الإتصال بقائد الجيش ليبلغه عدوله عن طلب الجيش لأنه إطمأن إلى أن قوات البوليس تسيطر على الموقف.
ولما لم يجد وزير الداخلية قائد الجيش فى مكتبه فإنه إتصل برئيس الديوان الملكى حافظ عفيفى وأبلغه رأيه بالإستغناء عن نزول الجيش.
ولكن.. بعد حوالى ربع ساعة فقط.. فى حوالى الواحدة والربع ظهراً – عاد وزير الداخلية يطلب نزول الجيش لأن المتظاهرين أشعلوا النار فى سينما ريفولى وسينما مترو بينما رجال البوليس لا يقاومون الذين يشعلون النيران!
وبحث وزير الداخليه طويلاً عن الفريق حيدر حتى وجده.
كان حيدر فى هذا الوقت جالساً إلى جانب الملك فاروق فى المأدبة التى أقامها الملك ودعا إليها منذ اليوم السابق قائد الجيش وكبار الضباط والمسئولين عن أمن القاهرة..


القاهرة تحترق وفاروق يحتفل بسبوع إبنه:
وفى الوقت الذى كانت فيه الحرائق تشتعل وألسنة اللهب تتصاعد وتتوهج وحوادث السلب والنهب على أشدها ومبانى ومحال وسط المدينة تتحول إلى أنقاض وخرائب, كان المسئولين فى قصر عابدين مشغولين تماماً وغافلين عما يجرى على بعد عدى أمتار من قصر مليكهم, فقد كان إهتمامهم وإنشغالهم مركزاً فى الإعداد لمأدبة الغداء الكبرى التى دعا إليها الملك السابق فاروق ستمائة من ضباط الجيش والبوليس احتفالاً بسبوع صاحب السمو الملكى ولى العهد الأمير أحمد فؤاد, وهى واحدة من سلسلة المآدب التى أخذ الملك السابق فاروق فى إقامتها إبتهاجا بميلاد ولى عهده, وتم له من قبل دعوة أمراء البيت المالك والوزراء وكبار رجال الدولة لحضورها‏.‏
وقبيل الظهر بدأ الضباط المدعوون يتوافدون على قصر عابدين لحضور المأدبة الملكية, وكنت وقتئذ برتية الصاغ (الرائد)‏ وأتولى منصب أركان حرب سلاح المشاة الذى كان قائده وقتئذ اللواء محمد نجيب‏. وخامرتنى الدهشة وكذا الكثير من زملائى لإصرار الملك السابق على إقامة تلك المأدبة على الرغم من أنباء المذبحة الأليمة التى وقعت فى اليوم السابق فى الإسماعيلية, وكنا ننتظر إلغاء هذه المأدبة وغيرها مجاراة لمشاعر الرأى العام فى مصر ومشاركة لأحزان رجال الشرطة الذين تعرض زملاؤهم فى الإسماعيلية لهذه المجزرة الوحشية من قوات الإحتلال البريطانية‏.‏
وكانت نذر الشر وحشود الغوغاء التى رأيناها بأعيننا تملأ الميادين والشوارع حينما كنا فى طريقنا إلى قصر عابدين لا تدع مجالا للشك فيما ينتظر وقوعه بعد قليل من أحداث رهيبة, وكان السؤال الذى يدور فى أذهان الجميع هو كيف يمكن للسلطات المسئولة عن الحفاظ على الأمن القيام بواجبها والسيطرة على الموقف المتدهور فى العاصمة فى الوقت الذى يحتجز فيه الملك فى قصر عابدين صفوة القادة والضباط الذين يمثلون القوة الحقيقية القادرة على سحق أى أحداث مهددة للأمن, والضرب بشدة على أى عناصر تهدف إلى إثارة الفتنة أو أعمال التخريب والتدمير‏.‏
وما أن حلت الساعة الثانية ظهرا حتى حضر الملك ببزته العسكرية إلى قاعة الطعام وجلس على المائدة الرئيسية يحيط به قادة الجيش والبوليس وكبار رجال السراى, وبدأ الغداء الذى لم نحس مطلقا بأى طعم أو مذاق له, فقد كان القلق يستبد بالجميع لما كان يجرى خارج القصر الملكى من أحداث بعد أن رأينا أثناء قدومنا نذر العاصفة التى ينتظر أن تجتاح العاصمة‏.‏
ما كاد الخدم يقدمون أطباق الطعام حتى دخل القاعة أحد موظفى القصر حاملاً ورقة مطوية إتجه بها إلى الفريق حيدر والذى كان يجلس بجوار الملك, ففتحها وقرأها ثم مال نحو الملك يقول له إنها رساله من وزير الداخلية يطلب نزول الجيش, وكان يهمس فى أذن الملك بحديث خافت يكاد لا يسمعه أحد.
وبدون تفكير أجاب الملك: أجلها إلى ما بعد الغداء.
ولما استبطأ وزير الداخلية رد الفريق حيدر على مطلبه حضر بنفسه إلى قصر عابدين, وعندما خرج الفريق حيدر من قاعة الطعام لمقابلته كرر له فى قلق وانزعاج أنباء المظاهرات واشتعال الحرائق وأحداث السلب والنهب وطلب منه أن يسرع بإبلاغ الملك بحقيقة المأساة التى تتعرض لها القاهرة كى يأمر بوصفه القائد الأعلى بإنزال قوات الجيش فورا إلى شوارع المدينة لفرض الأمن والنظام فيها‏, فوعده الفريق حيدر بأنه سينقل طلبه إلى الملك فوراً ولكن وعد الفريق حيدر لم يتحقق من جهة سرعة نزول الجيش, فقد إستكمل الملك طعام الغداء دون أى تعجل وبعد أن إنتهى منه مشى فى هدوء إلى الفسقية المجاورة لقاعة الطعام وطلب من الضباط اللحاق به فالتفوا حوله فى دائرة كبيرة ليستمعوا إلى الكلمة التى توقعوا أنه سوف يلقيها عليهم, وقبل أن يتحدث الملك جرت بين بعض ضباط الجيش والبوليس مباراة مؤسفة فى إبداء الولاء.
فما كاد أحد كبار الضباط وهو القائم مقام (العقيد) الدغيدى يهتف "الجيش سيف الملك" ويردد بعض ضباط الجيش الهتاف خلفه حتى انبرى أحد كبار ضباط البوليس ليهتف فى حماسه‏: "البوليس درع الملك" وردد خلفه بعض ضباط البوليس هتافهم, وسرعان ما انفرجت أسارير فاروق بعد سماعه هذه الهتافات من ضباطه‏ وبدا سعيدا منشرحا فى الوقت الذى كانت فيه عاصمة ملكه فريسة للحرائق والتخريب وعصابات السلب والنهب‏.
وخطب فاروق فى الضباط قائلا:
"لكل شئ وقته ولكل عمل مناسبة وأنا أدرك تماما شعوركم وأعلم أن كل ضابط يدخر جهوده للوقت الذى يدعوه فيه داعى الوطن".
وكان مثيرا للعجب أن يطلب الملك من ضباطه ادخار جهودهم كأن ما يحدث فى القاهرة من حرائق ودمار ليس هو الوقت المناسب بعد للقيام بواجبهم, وكان مثيرا للدهشة كذلك أن يقف الفريق عثمان المهدى رئيس أركان حرب الجيش على درج القصر المؤدى إلى الخارج ليواجه الضباط أثناء انصرافهم من المأدبة ليأمرهم لا بالتوجه مباشرة إلى مقر قياداتهم وإلى وحداتهم كما كان الجميع يتوقعون ولكن بوجوب استخدام أبعد الطرق عن وسط العاصمة وتجنب السير بعرباتهم فى الشوارع المزدحمة‏.‏


الملك يقيل حكومة مصطفى النحاس:
لم تتمكن قوات الجيش التى صدرت الأوامر بنزولها من سرعة النزول إلى شوارع العاصمة لمواجهة الحالة الخطيرة نظراً لما حدث من احتجاز القادة والضباط داخل قصر عابدين عدة ساعات ثمينة, ثم فقدهم وقتاً ثمينا آخر أمضوه فى التحرك للعودة إلى منازلهم‏ قبل إستدعائهم بعد ذلك للذهاب إلى وحداتهم. وعندما تفاقم الوضع فى القاهرة وخشى الملك وحاشيته من أن تمتد الحرائق لتصل إلى سراى الملك وأن يتعرضوا جميعا لهجمات الغوغاء أمر الملك قائده العام الفريق محمد حيدر بسرعة إنزال الجيش إلى الشوارع ونظرا للتأخير الذى حدث فلم تتمكن وحدات الجيش من النزول إلا قبيل الغروب, وكان أول تشكيل عسكرى تم التحرك له من معسكره فى ألماظه إلى وسط المدينة هو اللواء السادس مشاة بقيادة الأميرالاى (العميد) محمود حمزة, وتم توزيع وحدات هذا اللواء على المرافق الحيوية والسفارات الأجنبية والبنوك والأماكن المهمة ليتولى حراستها, واتخذت قيادة اللواء السادس المشاة من حديقة الأزبكية مركزا لها, وبفضل نزول الجيش ساد الأمن والهدوء والنظام أرجاء العاصمة الحزينة وتوقفت حوادث اشعال الحرائق وتم ضرب الشغب والفوضى بيد من حديد, واختفت عصابات الغوغاء التى استغلت الفرصة للقيام بسلب ونهب المنشآت والمحال المحترقة‏.‏
وفى اليوم نفسه وعقب توقف تلك الأحداث الخطيرة بعد نزول الجيش عقد مجلس الوزراء برياسة مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد إجتماعاً عاجلاً فى الساعة السابعة مساء فى دار مصطفى النحاس بجاردن سيتى وإنتهى الإجتماع فى الساعة العاشرة مساء, وقرر المجلس إعلان الأحكام العرفية فى جميع البلاد كما تقرر تعطيل الدراسة فى جميع الجامعات والمعاهد, والمدارس إلى أجل غير مسمى.
وفى الساعة العاشرة والنصف مساء قامت دار الإذاعة بإذاعة المرسوم الملكى الذى وقعه الملك السابق فاروق وكان يقضى بإعلان الأحكام العرفية إبتداء من مساء اليوم نفسه وتعيين مصطفى النحاس حاكماً عسكرياً عاماً, ووجه رئيس الوزراء والحاكم العسكرى بعد ذلك نداء عن طريق الإذاعة وجهه إلى الشعب قال فيه إن عناصر من الخونة المارقين إنتهزوا فرصة غضب الشعب من عدوان الإنجليز الوحشى فى منطقة القناة فاندسوا فى صفوف المواطنين وإرتكبوا جرائم الإعتداء على المتاجر والمنشآت والمنازل وإشعال النيران والتخريب والتدمير والنهب والسلب, وإن علاج تلك الحالة الشاذة الخطيرة قد إقتضى إعلان الأحكام العرفية مؤقتاً فى جميع البلاد حتى تتمكن الحكومة من القضاء على الفتنة المدبرة والمؤامرات المبيتة, وتبادر إلى إقرار الأمن ولإشاعة الهدوء والطمأنينة فى البلاد, ودعا مصطفى النحاس المواطنين إلى الإخلاد إلى الهدوء والسكينة وأن ينصرف كل فرد إلى عمله.
وكان أول قرار أصدره الحاكم العسكرى مصطفى النحاس تعيين عبد الفتاح حسن وزير الشئون الإجتماعية رقيباً عاماً, وتعيين المحافظين ومديرى المديريات حكاماً عسكريين فى مناطقهم ومنع التجول فى القاهرة وضواحيها وكذا مدينة الجيزة منعاً باتاً فيما بين الساعة السادسة مساء والساعة السادسة من صباح اليوم التالى, وأصدر أمراً عسكرياً آخر بمنع التجمهر وإعتبار كل تجمهر يزيد عن خمسة أشخاص مهدداً للسلم والنظام العام يستحق مرتكبوها الحبس مدة لا تزيد عن سنتين, وإذا كان حاملاً سلاحاً يعاقب بالحبس خمس سنوات كما أصدر أمراً آخر بغلق المحال العامة والتجارية فى القاهرة والإسكندرية من الساعة السادسة مساء إلى السادسة صباحاً.
وفى مساء اليوم التالى (27 يناير 1952) تسلم مصطفى النحاس فى منزله كتاب إقالة وزارته موقعاً عليه من الملك السابق فاروق, وورد فى هذه الكتاب إنه "نظراً لما أصيبت به العاصمة أمس من إضطرابات نجم عنها خسائر فى الأرواح والأموال وسارت الأمور سيراً يدل على أن جهد الوزارة التى ترأسونها قد قصر عن حفظ الأمن والنظام لذلك رأينا إعفاءكم من منصبكم" وجاءت هذه الإقالة بعد أن مكثت آخر حكومة وفدية برئاسة مصطفى النحاس فى الحكم عامين وبضعة أيام.
وفى يوم 28 يناير 1952 صدر البيان الملكى الذى يبرر إقالة حكومة النحاس باشا.. واتهم البيان فؤاد سراج الدين وزير الداخلية بأنه هو الذى حرق القاهرة!! وأنه كان يبيع احدى عماراته فى الشهر العقارى فى نفس لحظات الحريق!!
ما إن وصل هذا البيان المطلوب نشره فى الصفحات الأولى بحروف بارزة.. حتى اتصل احمد أبو الفتح رئيس تحرير "المصرى" بفؤاد سراج الدين وطلب منه المجىء بسرعة إلى الجريدة وأطلعه على البيان فهز الباشا رأسه وقال: ماذا نستطيع أن نفعل أمام الملك؟! فقال له أبو الفتح: تستطيع أن ترد.. فقال الباشا: معى مستندات ضد كل هذا.. ولكن الرقابة عادت على الصحف.. فقال له أبو الفتح: ولا يهمك سأنشر مقالك رغم انف الرقابة, وفى ليلة 10 فبراير 1952 قدم المسئولين فى جريدة "المصرى" صفحات الجريدة كاملة للرقيب فى وقت مبكر فراجعها وأعطى موافقة بالنشر عليها, ودارت المطبعة وخرجت النسخ الأولى من العدد وتأكد الرقيب من أنها خالية من أى موانع, وما كاد الرقيب يغادر الجريدة حتى أوقفت ماكينات الطباعة, لتحل محل الصفحات التى وافق عليها الرقيب صفحات أخرى, وصدرت "المصرى"  صباح يوم 10 فبراير 1952 وفى الصفحة الأولى بيان السراى وبجواره وبنفس البنط بيان فؤاد سراج الدين يروى فيه بالتفصيل وقائع يوم 26 يناير والمحاولات التى بذلتها الحكومة لنزول الجيش للقضاء على الفتنة, وعمليات التسويف التى مارستها السراى, وإفتعال الحجج لكى تحرق المدينة بالفعل قبل أن ينزل الجيش إلى شوارعها, وإنتظرت قوات الجيش فى حديقة الأزبكية أكثر من ساعتين تنتظر إذناً كتابياً من وزير الداخلية بالضرب فى المليان, وكانت خطوة جريئة من صاحبى الجريدة محمد وأحمد أبو الفتوح, ونفذت الجريدة بسرعة البرق من الأسواق, ولم تنتبه الدولة إلى الأمر إلا الساعة العاشرة, وعندما بدأ البوليس فى جمع أعدادها من السوق كانت قد نفذت.
هاجت السراى وطالبت بغلق الجريدة ومحاكمة رئيس التحرير بل وصاحب الجريدة محمود أبو الفتح أيضا.. بل تم إرسال هذا الأمر لعلى ماهر باشا الذى هرول إلى السراى واقنع الملك بأن الشعب يغلى الآن.. ولا داعى لزيادة حالة الاحتقان الشعبى, فعطلت الجريدة ليوم واحد فقط.


من الجانى:
أجمع شهود العيان أن الحادث كان مدبرًا وأن المجموعات التى قامت بتنفيذه كانت على مستوى عالٍ من التدريب والمهارة، ويعرفون جيدا كيفية إشعال الحرائق كما كانوا على درجة عالية من الدقة والسرعة فى تنفيذ العمليات ويحملون معهم أدوات لفتح الأبواب المغلقة ومواقد إستيلين لصهر الحواجز الصلبة على النوافذ والأبواب وقد استخدموا نحو 30 سيارة لتنفيذ عملياتهم كما أن اختيار التوقيت يعد دليلاً آخر على مدى دقة التنظيم والتخطيط لتلك العمليات.
التحقيقات التى أجرتها النيابة أثبتت أن السرعة التى إقتحمت بها المبانى كشفت أن الذى قام بذلك تنظيم فريد إستعان فيه المخربون بشخص أو إثنين على دراية تامة بكل مبنى والنقاط الحيوية به وأن إشعال الحرائق تم بإستخدام الكيروسين والبنزين وبعض المواد الفوسفورية مثل البودرة الحارقة وشهد رجل له ملامح أوروبية يرتدى (مريلة) يكتبش من هذه البودرة ويقوم بإلقائها وكانت مادة نادرة غير متوافرة فى الجيش ذاته ولا تباع فى مصر!! كما شوهد أعضاء عديدون لجماعة (إخوان الحرية) وهم يشاركون فى أعمال التخريب يوم الحريق وهى الجماعة المريبة التى تأسست بواسطة المخابرات البريطانية برئاسة "روبرت فاى" البريطانى مع الأخذ فى الإعتبار أن يوم الحريق (السبت) كان عطلة فى معظم المحال الأجنبية مثل شيكوريل فتمت الإستعانة بالبلط لكسر هذه المحال وفتحها وقذفها بكرات مغموسة بالبنزين وصفائح البنزين لتتحول إلى قطعة من جهنم.. أما الشئ المؤسف حقاً الذى إكتشفته النيابة فيتعلق بإستخدام علب البنزين الصغيرة المخصصة لملء الولاعات التى كانت تنتجها شركة شل الإنجليزية.. وأثبتت التحقيقات أن رصيد الشركة نفذ منذ 18 ديسمبر 1951.. أى أن جهة ما قامت بشراء كل المخزون لإستخدامه يوم 26 يناير 1952.
وأشارت الصحافة آنذاك بأصابع الإتهام إلى الإنجليز حيث غادر موظفو الشركات الإنجليزية مكاتبهم قبل الحريق بساعات وقام بنك باركليز بنقل جميع تعاملاته من فرع قصر النيل إلى الموسكى قبل الحريق بيوم واحد وخلا النادى الإنجليزى (الترف كلوب) من الرواد على غير عادته.. ومن الشائع أن الجنرال أرسكين كما جاء فى كتاب أدجوبى عن (مصر المعاصرة) قد حذر كبار الإنجليز من أصدقائه ونصحهم بمغادرة القاهرة قبل 26 يناير ببضعة أيام قليلة.
ومن المعروف أن فؤاد سراج الدين حين ذهب للإستنجاد بقائد الجيش محمد حيدر إنتظره فى غرفة رئيس الديوان الملكى حافظ عفيفى. وإبان إنتظاره حين يستأذن محمد حيدر من مأدبة الملك سأل حافظ عفيفى فؤاد سراج الدين: هل حقيقة أنكم تنوون قطع علاقة مصر الدبلوماسية بإنجلترا؟ ومن الغريب أن ذلك كان يدور فى أذهان الكثير من وزارة الوفد. فقال فؤاد سراج الدين: ليس صحيحاً. من الذى أبلغك بذلك؟ فقال حافظ عفيفى: السفير البريطانى. إذن هناك صلة قائمة ومستمرة بين رئيس الديوان الملكى والسفارة البريطانية.
ثم يبدوا غريباً أن يدعو الملك ضباط الجيش وضباط البوليس كذلك على مأدبة الغداء فلقد جرت العادة أن تكون الدعوة على العشاء ولكن توقيتها للغداء مرتبط تماماً بالحرائق فى القاهرة التى بدأت فى الساعة 12 و 27 دقيقة ظهراً.
ويرى إبراهيم فرج باشا فى حوار سجله معه الصحفى والمؤرخ جمال الشرقاوى أن المخابرات الأمريكية والمخابرات البريطانية هما اللذان أحرقا القاهرة, وأن الأساس فى العملية هو المخابرات المركزية الأمريكية, حيث كانت أمريكا هى القوة الرئيسية المحركة للأحداث فى تلك الفترة, ولم تكن راضية عن سياسة حكومة الوفد برئاسة النحاس باشا, ولذلك قد أدت كل عمليات الضغط التى مورست على الحكومة.. فهم الذى قادو عملية الحلف الرباعى ، وكانوا القوة الأساسية فيه وحركوا بقية الدول.. كمل بذلوا ضغوطا شديدة علينا لكى نحارب معهم فى كوريا. لكن النحاس باشا والحكومة رفضوا.. وقال النحاس باشا: إحنا لا نحارب لصالح أمريكا.
وقد لقيت هذه الحرائق رضا الملك.. لكن أفلت الزمام.. كانوا لا يريدون ألا تصل إلى هذا الحد.. وإنما إلى حد يكفى لإقالة حكومة الوفد.
أما عن محاولة الإخوان إلصاق التهمة بجمال عبد الناصر فيرد على هذه التهمة فؤاد سراج الدين (رغم إختلافه مع جمال عبد الناصر .. والعداء بينهما) قائلاً رداً على حسن عشماوى:
"الذين يهمون جمال عبد الناصر رغم ما بيننا من خلاف أقول لهم, فلنتسائل: لماذا يفعل ذلك؟ أنا أريد من الذين يتهمون عبد الناصر أو الضباط الأحرار أن يردوا علىَّ بالعقل والمنطق: لماذا لم يستولوا على الحكم وجميع المؤسسات تحت سيطرتهم وكانت العملية سهلة جداً قيامها فى يوليو بل كانت معرضة للفشل فى 23 يوليو أما 26 يناير فالعملية ناجحة مائة فى المائة"


المراجع
- كتاب مقدمات ثورة 23 يوليو -- بقلم: عبد الرحمن الرافعى -- الهيئة العامة المصرية للكتاب – مكتبة الأسرة 1997
- كتاب أسرار ثورة 23 يوليو -- بقلم: جمال حماد -- الزهراء للإعلام العربى
- مصر فى 150 سنة -- ملحق مجلة الأهرام الرياضى  عدد 31 أغسطس 2005 -- إعداد أ.د: عطية القوصى
الوفد -- الخميس 4 أكتوبر 2007 -- مقال: عندما شتم سراج الدين الملك!! -- بقلم: عبد الرحمن فهمى
- موقع إسلام أون لاين -- http://www.islamonline.net  -- سمير حلبى
- المصرى اليوم -- الجمعة  26 يناير 2007 -- كتب: أحمد أبوهميلة
- جريدة الدستور -- الأربعاء 27 أغسطس 2008    26 شعبان 1429
- الأهرام -- ملحق الجمعة     5 فبراير 2010 -- حوار سهير حلمى مع المؤرخ والصحفى جمال الشرقاوى
- مجلة روز اليوسف -- 20 أكتوبر 2007
- جريدة القاهرة -- الثلاثاء  31 أغسطس 2004 -- مقال: قال الراوى
- مذكرات مرتضى المراغى     دار المعارف
- كتاب حريق القاهرة  -- الدكتور محمد أنيس -- المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت

الأحد، 7 فبراير 2010

سرابيس.. إله "سينوب" الغامض فى مصر

سرابيس.. إله "سينوب" الغامض فى مصر

إعـــداد: أشرف السيد الشربينى معوض البحيرى

مجئ "سرابيس" إلى مصر:
يرى بعض المؤرخون أن عبادة "سرابيس" نشأت من تلقاء نفسها بين إغريق مصر ويرى البعض الآخر أن "الإسكندر" هو الذى أنشأ هذه العبادة ولكن الرأى السائد أن "بطليموس الأول" الذى انشأ هذه العبادة.
ويرجع "بلوتارخوس" و"تاكتيوس "أن الذى أنشأ هذه العبادة "بطليموس الأول" ويؤيد ذلك ما كشفت عنه مصادرنا القديمة من إيمان بعض الشخصيات بهذه العبادة مثل الشاعر "ماندروس" وهو الذى توفى فى عام (291 -290), و"دميتريوس الفاليرى" الذى إستضافه "بطليموس الأول" فترة من الزمن.
عندما تولى بطليموس الأول حكم مصر واستقلاله بها (306 ق.م) كانت سياسة بطليموس الخارجية أن ينشىء إمبراطورية بحرية تضم الحوض الشرقى للبحر المتوسط (بحر إيجة) من اجل ذلك لابد من وجود أحوال اقتصادية وافرة الثراء فى البلاد ولكى يتحقق ذلك لابد من أن يؤلف بين كلاً من العنصرين المشكلين للمجتمع المصرى بعد فتوحات الإسكندر مهما المصريون والإغريق لاسيما انه كان يعرف أن للمصريين ديانة موروثة راسخة القدم وأن الإغريق احضروا  معهم ديانتهم لذلك وجه همه إلى التغلب على النفور الدينى.
كان يتعين أن يكون محور الديانة الجديدة مذهبا مصريا يمكن إقناع الإغريق بالإقبال على اعتناقه وذلك لأنه بقدر ما أصاب إيمان الإغريق من ضعف وما ساورهم من شكوك فى مقدرة آلهتهم (بعد الحروب البلوبونيزيه وبعدها زعامة مقدونيا) كان المصريون مستمسكين بمعتقداهم الدينية ويفخرون بها.
وإذا قمنا بالبحث داخل كافة الآلهة المصرية فأننا لانجد إلها يمكن أن تتوافر فيه هذه الشروط أكثر من اوزير (أوزيريس) فقد كان يحتل مكانا ساميا بين المصريين, ومن جهة أخرى يمكن إقناع الإغريق بأنه إلههم "ديونسيوس زاجريوس" الذى قتله "التيتانو" لذلك فان مثل هذا الإله كان خير من يصلح لان تقوم حول عبادة تجمع بين معتقدات المصريون والإغريق.
فى ذلك الوقت كان المصريون فى مدينة "منف" يعبدون إلهاً يدعى "أوزيرابيس", وكانت رغبة "بطليموس الأول" فى إدخال عبادة "سرابيس" إلى مصر كفيلة بإقناع الكهنة بأن "سرابيس" لم يكن سوى "أوزيرابيس" ومنذ ذلك الوقت كان "سرابيس" هو التسمية الإغريقية لـ "أوزيرابيس", وإتخذه "بطليموس الأول" إلهاً يتجمع حوله سكان مصر من مصريين وإغريق, وأصبحت الأيمان الرسمية تعقد على النحو التالى: (بسم "سرابيس" و"إيزيس" والآلهة الأخرى).
ومما يرواه "بلوتارخوس" نقلا عن "مانثون" عن قصة مجئ الإله "سرابيس" إله "سينوب" الغامض إلى مصر أن "بطليموس الأول" قد رأى الإله "سرابيس" فى منامه وأخذ يرجوه أن يجلب تمثاله إلى مصر, وبالتالى تنتقل عبادته مع التمثال إلى مصر, ولما كان "بطليموس الأول" لم يرى هذا الاله من قبل فانه إستدعى رجلا من رجاله يدعى "سوسيوس" وكان قد جاب أقطار العالم ووقف على أخبارها وقص عليه فقال لـ "بطليموس" أنه شهد ذلك الإله فى مدينة سينوب وتبعا لذلك أحضره "بطليموس" إلى الإسكندرية حيث أقام "بطليموس الأول" معبدا عظيما فوق أطلال معبد شيد قديما لـ "إيزيس" و"سرابيس", ويذكر "هيرونيوس" نقلا عن "يوسبيوس" أن إحضار تمثال سرابيس الى مصر كان عام 286 ق.م.وكان الإله" سرابيس"، الذى اشتق اسمه من المعبودين "أوزيريس" والعجل "أبيس"، إله الخصوبة والشفاء والقيادة العليا والحياة الآخرة.

تشييد معبد "سرابيس" الإسكندرية:
وقد أقام البطالمة معبد "سرابيس" فى مدينة "منف" مكان عبادة المصريين, ولما إنتقلت عاصمة الملك إلى الإسكندرية كان من الطبيعى أن يتبع ذلك تشييد معبد كبير لكبير آلهتها فى "الإسكندرية" بصفتها العاصمة وإقامة تمثال له فى هذا المعبد.
كان  "الإسكندر" قد وضع أساساً لمعبداً كبيراً لـ "إيزيس" فى الإسكندرية, ولما كان من الواضح أن "بطليموس الأول" لم يشيد معبد لـ "سرابيس" فى الإسكندرية فقد أقام هذا التمثال فى معبد "إيزيس" الذى وضع "الإسكندر" أساسه, وأغلب الظن أن "فليو ميتور" أقام دعائمه بدلاً من إقامته فى معبد جديد لـ "سرابيس" وذلك لشدة حرص "بطليموس" على المال بطبيعة الحال فأصبح هذا المعبد يعرف منذ ذلك الوقت بإسم معبد "إيزيس" و"سرابيس", لذا فإنه لما كان معروفا أن "بطليموس الأول" هو الذى أنشأ العبادة الجديدة وإختار تمثال "سرابيس" وكان من المعروف أنه أقيم لـ "سرابيس" معبداً كبيراً مكان معبد "إيزيس" القديم  فلابد من أنه بعده بفترة طويلة تصور الكثيرون  من القدماء أن "بطليموس الأول" هو منشأ المعبد الكبير فى حين أن "بطليموس الأول" قد أقام معبد "السرابيوم" الضخم مكان المعبد الكبير وعلى دعائمه ليضم عبادة كلاً من "سرابيس" و"إيزيس".
وفى هذا المعبد الضخم نجد الإله "سرابيس" يستوى على عرشه فى الهيئة التى شاهده الملك عليها فى رؤياه, ولهذا أقام المثال الأثينى "برياكسيس" صورته بشعر ولحية أشعثين وعلى رأسه مكيال الحبوب, وعلى قاعدة تمثال نقشا يتضمن إهداء لـ "سرابيس" بحروف يونانية وإغريقية يدل شكلها على أن النقش يرجع إلى النصف الأول من القرن الثالث إلى ما قبل الوقت الذى شيد فيه "السرابيوم".

إنتشار عبادة "سرابيس":
وأصبح الإله "سرابيس صاحب المكانة الأولى فى "الإسكندرية", ثم أقيم له معابد كثيرة فى القطر المصرى, حتى أنه كان للإله "سرابيس" فى مصر إثنان وأربعون معبداً غير أن معابده الرئيسية كانت فى "الإسكندرية" و"منف".
كان من الضرورى بعد أن توطدت عبادة الإله "سرابيس" فى "الإسكندرية" على يد "بطليموس الأول" أن يظهر هذا الإله الجديد بالمظاهر الإغريقية التى كان يتصف بها الآلهة الإغريق, حيث وصفوه بالإله الشافى حيث كان يذهب إليه المرضى وينامون فى معبده حيث يـُملى عليهم هذا الإله فى نومهم ما يجب عمله لشفاء كل مرض, وقد تم إكتشاف نقش إغريقى لا يتخطى تاريخه 300 ق.م فى معبد إغريقى صغير بجوار الطريق الذى يربط بين "سيرابيوم منف" ومعبد "أنوبيس" وفيه نقرأ أن إغريقياً يقدم الشكر للإله "سرابيس" على شفائه من المرض الذى أصابه.
كما أن بعض من الوثائق البردية الإغريقة التى وصلت إلينا فى هذا الصدد وهى الآن محفوظة فى المكتبة الأصلية بفيينا عبارة عن إلتماس من إمرأة إغريقية تدعى "أرتيمسيا" إلى الإله "سرابيس" لينزل نقمته على رجل أنجبت منه إبنة توفيت وباع جثتها ولم يف بدينه, ونستنتج من ذلك أن "سرابيس" الإله الذى عبد فى الإسكندرية كان اله العالم الآخر الذى يعبد فى المعبد المقام فوق مقابر العجول المحنطة فى "منف".
كانت عبادة "سرابيس" فى بادئ الأمر قاصرة على مجتمعات خاصة , ولكنها أصبحت رسمية كما حدث فى "أثينا" و"ديمترياس" و"لندوس" و"ديلوس" وغيرها, وقد وجدت دعاية قوية للإله "سرابيس" فى مصر, وإنتشرت عبادته بسرعة فى العالم "الأيونى" وفى "أثينا".
ومع حلول القرن الأول قبل الميلاد كانت عبادة "سرابيس" و"إيزيس" تعتبر الديانة العالمية, فقد إنتشرت عبادتهما إنتشاراً واسعاً حتى أن عبادة "إيزيس" قد وصلت إلى "بابل" فى حين وصلت عبادة "سرابيس" إلى الهند.
هذا وقد كان الآلهة "زيوس" و"هاريس" و"سكليبوس" يـُعدون من العناصر التى تتألف منها طبيعة "سرابيس" حيث أنه كان من خصائص الديانة المصرية القديمة أن الآلهة فيها فى عهد الدولة الحديثة وما بعدها كان عندما يرتفع شأن أحد الآلهة فإنه يطغى على صفات الآلهة الأخرى.
إنصهر الإله سرابيس فى مفاهيم الديانات المصرية واليونانية أساسا في الإسكندرية حيث بدأ بطليموس الأول ثقافته وأنشئ له أول ضريح لتقديسه وأطلق عليه سيرابيوم، واستمر تقديسه خلال العصر الروماني وانتشرت معابده في الإمبراطورية الرومانية. 
وفي بعض الأحيان تم إدماج الإله سرابيس مع آلهة أخري مصرية ويونانية. هذا الاندماج مثل "سرابيس- زيوس"، و"سرابيس - هيليو"، و"سرابيس - آمون".

النهاية:
طغت شهرة "إيزيس" فى العصر الرومانى على شهرة الإله "سرابيس" فكانت تلك بداية النهاية لعبادة هذا الإله حيث جاءت الديانة المسيحية بعد ذلك على يد القديس "مرقص" فبدأت نهاية عصر تعدد الآله وبدأ عصر عبادة "الله" الإله الواحد و سقطت عن الوثنية قدستيها وأصبحت المسيحية هى الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية وقد بدأت المسيحية فى عصر سيادتها متسامحة متسمة بالإعتدال فتركت للوثنين حريتهم الدينية ومعابدهم يمارسون فيها عباداتهم وطقوسهم, ولكن سرعان ما تمكنت المسيحية من الدولة الرومانية وبدأت موجات الإضطهاد لخصومهم الوثنيون ومعابدهم وبلغت تللك الموجات ذروتها فى عصر الإمبراطور "ثيودوسيوس الأول" (379-395 م) الذى شن حملة مشددة ضد الوثنية وجميع معابدها فى أرجاء الإمبراطورية, وفى إحدى مراحل هذه الحملة حصل "ثيوفيلوس" أسقف الإسكندرية على إذن من الإمبراطور بتحويل معبد "ديونيسوس" إلى كنيسة فاستفز بذلك مشاعر الوثنيين والمسيحيين ولم يجد الوثنيون مكاناً أمنع ولا أنسب من موقع "السرابيوم" الذى كان أشبه بقلعة أو حصن منيع بسبب ضخامته وإرتفاعه فوق ربوة من الأرض.
وأرسل الأسقف "ثيوفيلوس" إلى الإمبراطور "ثيودوسيوس" يعرض عليه أمر هدم "السرابيوم" وجاء الامر سنة (391 م) محققا لكل آمال الأسقف "ثيوفيلوس" إذ أمر الإمبراطور بتدمير المعابد التى فى الإسكندرية فسار "ثيوفيلوس" ومعه جمع غفير من أتباعه إلى ساحة معبد "السرابيوم" فقرأ الأمر الأمبراطورى على جمع غفير من الوثنيين فدب فيهم الذعر وفروا هاربين فصعد "ثيوفيلوس" إلى المعبد وقام بنفسه بضرب تمثال الإله سرابيس الضربة الأولى وتبعه المسيحيون الأرون الذين أخذوا يدمرون فى المعبد ما إستطاعوا  من تدمير  ونهب وسلب وبعد ان نفذ "ثيوفيلوس" الأمر أمر بتحويل البناء إلى كنيسة القديس "يوحنا المعمدان" التى تهدمت فى عام 600 م واعاد البطريرك "إسحاق" بناءها (681-684م) وإستمرت حتى تهدمت فى القرن العاشر الميلادى.
ثم جاءت الديانة الإسلامية بعد ذلك لتكمل ما بدأته الديانة المسيحية من القضاء على عصر تعدد الآلهة وتوطيد عبادة "الله" وحده.

المراجع
موسوعة مصر القديمة       تأليف: سليم حسن       مكتبة الأسرة 2001
كتاب: معجم الحضارة المصرية القديمة     تأليف:جورج بوزنر وآخرين     ترجمة: أمين سلامة   مكتبة الأسرة 2001
كتاب: ديانة مصر القديمة     تأليف: أدولف إرمان    ترجمة: د.عبد المنعم أبو بكر & د. محمد أنور شكرى   مكتبة الأسرة 1997

الأربعاء، 20 يناير 2010

أبو بكر الصديق .. أول الخلفاء

أبو بكر الصديق .. أول الخلفاء

إعداد الباحث: أشرف السيد الشربينى

مقدمة:
توفى النبى محمد بن عبد الله فى عام 632 ميلادى ، تاركا للمسلمين قواعد دين واضحة و كتاب الله القرآن، لكن قضية إدارة شؤون الأمة السياسية لم تكن واضحة ومتفقا عليها عند الجميع، لذلك فإن أول مشكلة كانت ستواجه المسلمين هى قضية الخلافة أو قيادة الأمة..
كان "أبو بكر الصديق" هو أول من آمن من الرجال, وأول المبشرين بالجنة وأول الخلفاء الراشدين بعد وفاة الرسول, وكان ممن رافقوا النبى صل الله عليه وسلم منذ بدء الإسلام، ويعتبر الصديق المقرب له. 
ولد سنة 51 ق.هـ (573 م) بعد عام الفيل بحوالى ثلاث سنوات. كان سيداً من سادة قريش وغنيا من كبار موسريهم, وكان ممن رفضوا عبادة الأصنام فى الجاهلية، بل كان حنيفاً على ملة إبراهيم. 
وهو والد "عائشة" زوجة الرسول وسانده بكل ما يملك فى دعوته، وأسلم على يده الكثير من الصحابة.
ويعرف بـ "أبى بكر الصديق" لأنه صدق محمداً فى قصة الإسراء والمعراج، وقيل لأنه كان يصدق النبى فى كل خبر يأتيه, وقد وردت التسمية فى آيات قرآنية وأحاديث نبوية. وكان يدعى بالعتيق والأوّاه.. وعن تسميته بـ "أبى بكر" قيل لحبه للجـِمال، وقيل لتبكيره فى كل شئ.
بويع بالخلافة يوم الثلاثاء 2 ربيع الأول سنة 11هـ، واستمرت خلافته قرابة سنتين وأربعة أشهر. توفى فى يوم الاثنين فى الثانى والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة.
حارب المرتدين عن دفع الزكاة.
جمع القرآن فى مصحف واحد حتى لا يضيع أو يشوبه التاويل والتحريف.
نشر الإسلام خارج حدود المدينة.
إنه أول من أسلم من الرجال, وأول من صدق الرسول فى دعوته, أول المبشرين بالجنة, ورفيق الرسول فى الهجرة, وأول الخلفاء الراشدين, وأول من أمر جمع القرآن.
إنه أبو بكر الصديق.

نسبه ومولده:
أبوه "أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان". ويلتقى فى نسبه مع النبى "محمد بن عبد الله" عند "مرة بن كعب"، وينسب إلى "تيم قريش"، فيقال: "التيمي".
أمه "أم الخير سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان". وهى بنت عم أبيه، وتُكنَى "أم الخير". ولدته بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر؛ وقيل إنها كان لا يعيش لها ولد ، فلما ولدته استقبلت به الكعبة، فقالت : "اللهم إن هذا عتيقك من الموت ، فهبه لى", ويقال إن هذا سبب تسميته بالعتيق. يروى أن اسمه كان قبل الإسلام عبد الكعبة؛ وحين أسلم سماه النبى "عبد الله".. كانت أم الخير من أوائل النساء إسلاماً.

تجارة أبو بكر:
نشأ أبو بكر فى مكة، ولما جاوز عمر الصبا عمل بزازاً - أى بائع ثياب - ونجح فى تجارته وحقق من الربح الكثير, وكان يشارك فى رحلتى الشتاء والصيف, وكان قد إشتهرت تجارته, كان يعرف برجاحة العقل ورزانة التفكير، وأعرف قريش بالأنساب, وكان ممن حرموا الخمر على أنفسهم فى الجاهلية، وكان حنيفياً على ملة النبى إبراهيم. كان أبو بكر يعيش فى حى حيث يسكن التجار وحيث كان يسكن النبى قبل بعثته, ومن هنا تعرف بالنبى قبل البعثة بعام واحد, فنشأت بينهم الصداقة, حيث كانا متقاربين فى السن والأفكار والكثير من الصفات والطباع..
وفى إحدى رحلاته للشام وبعد أن أنهى رحلته وقبل أن يعود إلى مكة رأى رؤيا ملأت وقته بالتفكير والتأمل, حيث رآى "أن القمر قد غادر مكانه فى الأفق الأعلى, ونزل على مكة حيث تجزأ إلى قطع وأجزاء تفرقت على جميع منازل مكة وبيوتها, ثم تقاربت هذه الأجزاء مرة أخرى, وعاد القمر إلى كيانه وإستقر فى حجر (أبو بكر)", فسارع إلى أحد الرهبان الصالحين وقص عليه مارآه, فتهلل وجه الراهب الصالح وقال لـ (أبى بكر): "لقت أهلت أيامه"
وتساءل (أبو بكر): "من تعنى؟ النبى الذى ننتظر؟"
ويجيبه الراهب: "نعم وستؤمن به وستكون أسعد الناس به"
ويعود (أبو بكر) إلى مكة, وتصل إلى أذنية كلمات قريش التى تتردد بشأن (محمد) صل الله عليه وسلم.
ويقترب أحد الرجال من (أبى بكر) ويقول له: "أعلمت ما فعل صاحبك؟"
فيتساءل (أبو بكر) قائلاً: "وماذا فعل يا أخا العرب؟"
فحكى له الجل بأن محمداً قد صعد إلى جبل الصفا وهتف معلناً نبوته: "إنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد"
فقال أبو بكر كلمته الخالدة وهو سعيداً بما حدث: "إن كان قائله فقد صدق"
فكان "أبو بكر" أول من أسلم من الرجال.

حياته بعد الإسلام:
وبعد أن أسلم "أبا بكر"، ساند النبى فى دعوته للإسلام مستغلاً مكانته فى قريش وحبهم له، فأسلم على يديه الكثير، منهم خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم: "عثمان بن عفان"، و"الزبير بن العوَّام"، و"عبد الرحمن بن عوف"، و"سعد بن أبى وقاص"، و"طلحة بن عبيد الله".
كذلك فقد جاهد "أبا بكر" بماله فى سبيل الدعوة للإسلام حيث قام بشراء وعتق الكثير ممن أسلم من العبيد المستضعفين منهم: "بلال بن رباح"، و"عامر بن فهيرة"، "وزِنِّيرة"، و"النَّهديَّة"، وابنتها، وجارية بنى مؤمّل، و"أم عُبيس".
من مواقفه الهامة كذلك أنه صدَّق النبى فى حادثة الإسراء والمعراج على الرغم من تكذيب قريش له، وأعلن حينها دعمه الكامل للنبى وأنه سيصدقه فى كل ما يقول، لهذا لُقب بالصِّديق. بقى أبو بكر فى مكة ولم يهاجر إلى الحبشة حين سمح النبى لبعض أصحابه بهذا، وحين عزم النبى على الهجرة إلى يثرب, صحبه أبو بكر فى الهجرة النبوية.

حياته فى المدينة:
بعدما وصل الرسول وأبى بكر للمدينة، قام النبى بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، اخى بين أبى بكر وعمر بن الخطاب. عاش أبو بكر فى المدينة طوال فترة حياة النبى وشهد معه الكثير من المشاهد، تقول الروايات أنه ممن حاولوا اقتحام حصن اليهود فى غزوة خيبر، وأنه ممن ثبتوا مع النبى فى معركة حنين حين انفض عنه المسلمين خوفاً وتفرقوا، كذلك يقال أنه حامل الراية السوداء فى غزوة تبوك حيث كان هناك رايتان إحداهما بيضاء وكانت مع الأنصار والأخرى سوداء وقد اختلفت الروايات على حاملها فقيل على بن أبى طالب وقيل أبو بكر. تزوج من حبيبة بنت زيد بن خارجة فولدت له أم كلثوم، ثم تزوج من أسماء بنت عميس فولدت له محمدًا.

زوجاته وأولاده:
- تزوج "أبو بكر" فى الجاهلية (قتيلة بنت سعد) فولدت له "عبد الله" و"أسماء" . أما "عبد الله" فإنه شهد يوم الطائف مع النبى صل الله عليه وسلم وبقى إلى خلافة أبيه ومات فى خلافته وترك سبعة دنانير فاستكثرها أبو بكر . وولد لـ "عبد الله" "اسماعيل" فمات ولا عقب له . وأما "أسماء" فهى ذات النطاقين و هى التى قطعت قطعة من نطاقها فربطت به على فم السفرة فى الجراب التى صنعت لرسول الله صل الله عليه وسلم و"أبى بكر" عند قيامها بالهجرة وبذلك سميت (ذات النطاقين) وهى أكبر من "عائشة". وكانت أسماء أشجع نساء الإسلام وأثبتهن جأشا وأعظمهن تربية للولد على الشهامة وعزة النفس تزوجها الزبير بمكة فولدت له عدة أولاد ثم طلقها فكانت مع ابنها "عبد الله بن الزبير" حتى قتل بمكة وعاشت مائة سنة حتى عميت وماتت.
وتزوج "أبو بكر" أيضا فى الجاهلية (أم رومان) فولدت له "عبد الرحمن" و"عائشة" زوجة رسول الله توفيت فى حياة رسول الله فى سنة ست من الهجرة فنزل رسول الله قبرها واستغفر لها وكانت حية وقت حديث الإفك.
وتزوج أبو بكر فى الإسلام (أسماء بنت عميس) وكانت قبله عند "جعفر بن أبى طالب". فلما قتل "جعفر" تزوجها "أبو بكر الصديق" فولدت له "محمد بن أبى بكر".
وتزوج أيضا فى الإسلام (حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبى زهير الخزرجى) فولدت له جارية سمتها "عائشة أم كلثوم" . تزوجها "طلحة بن عبيد الله" فولدت له "زكريا" و"عائشة" ثم قتل عنها فتزوجها "عبد الرحمن بن عبيد الله بن أبى ربيعة المخزومى".

وفاة النبى وتولى "أبى بكر" الخلافة (11 هجرية):
لما إشتد المرض على رسول الله وجاء بلال يأذنه بالصلاة, قال الرسول صل الله عليه وسلم: مروا أبا بكر فليصل بالناس)
فقالت "عائشة": (يارسول الله إن أبا بكر رجل أسيف, وإنه متى يقم مقامك لا يُسـِمع الناس فلو أمرت عـُمر)
فرد الرسول قائلاً: (مروا أبا بكر يصلى بالناس)
فطلبت "عائشة" من "حفصة" أن تردد عليه ما طلبته منه بأن يأمر "عمر" بالصلاة بالمسلمين, فلما طلبت حفصة من النبى صل الله عليه وسلم ذلك قال النبى صل الله عليه وسلم: (أنكم لأنتن صواحب يوسف, مروا أبا بكر فليصل بالناس).
لم يكن إختيار النبى صل الله عليه وسلم لـ "أبى بكر" لأنه أول من أسلم, ولا لأنه ثانى إثنين إذ هما بالغار, ولا لأنه أقرب الناس إلى قلب الرسول... ولكن قد يكون ذلك لأن الرسول كان أعرف الناس بطبيعة المرحلة القادمة التى ستمر بها الأمة الإسلامية بعد وفاته, وهو أقدر الناس معرفة بالرجال, ولعله رأى أن "أبا بكر" هو أقدر الناس على تحمل التبعة والقيام بتلك المهمة.
وفى بيعة "السقيفة" أجمع المسلون على خلافة "أبو بكر". وقال له "عمر بن الخطاب": (ألم يأمر النبى بأن تصلى أنت بالمسلمين, فأنت خليفته, ونحن نبايعك, فنبايع خير من أحب رسول الله منا جميعاً).
وفى اليوم التالى (الثلاثاء 13 من ربيع الأول) جلس أبو بكر على منبر المسجد وبايعه الناس البيعة الكبرى أو العامة, ثم خطب خطبة قصيرة أعلن فيها: (أما بعد .. أيها الناس .. فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم).

أبو بكر وبعثة أسامة إبن زيد:
كان الرسول صل الله عليه وسلم قد جهز جيش "أسامة بن زيد" وأمره بالتوجه إلى حدود الشام للأخذ بثأر الذين قتلوا فى غزوة مؤتة, وبينما كان المسلمون معترضون على إمارة "أسامة"، لأنه كان شابا فى السادسة عشر من عمره, فقد خرج رسول اللّه عاصبا رأسه فقال: (أيها الناس أنفذوا جيش أسامة) ورددها ثلاث مرات. وقال: (إن تطعنوا فى إمارته فقد كنتم تطعنون فى إمارة أبيه من قبله، وايم اللّه إنه كان خليقا للإمارة، وايم اللّه إنه لمن أحب الناس إلى من بعده).
وتوفى الرسول صل الله عليه وسلم وكان جيش "أسامة" معسكراً بالجُرْف على بعد ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام, فأجلت وفاة الرسول زحفه.
ثم إختلفت المسلمون بعد وفاة الرسول فى أمر إرسال جيش "أسامة" إلى فريقين:
فريقاً رأى أن إرسال جيش أسامة مخاطرة رهيبة فى الوقت الذى أصبحت فيه المدينة نفسها مهددة بغزو المرتدين.
وفريقاً آخر رأى أنه لابد من إرسال هذا الجيش مهما كانت الظروف ولا يجوز بأى حال من الأحوال حل عقدة عقدها رسول الله صل الله عليه وسلم, وكان يمثل هذا الفريق "أبا بكر" الذى قال: (والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله, ولو ان الطير تخطفتنا والسباع من حول المدينة .. ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش "أسامة" إلى وجهته).
فكان أول ما قام به "أبو بكر" بعد بيعته بالخلافة, أن جهز جيش "أسامة بن زيد" فقد كان إرسال الجيش بعد بيعة أبى بكر بيوم أى يوم الأربعاء 14 من ربيع الأول سنة 11 هـ.
وخرج "أبو بكر" حتى وصل إلى جيش "أسامة" وكان ماشياً و"أسامة" راكباً و"عبد الرحمن بن عوف" يقود دابة "أبى بكر" فقال له أسامة: (يا خليفة رسول اللّه، واللّه لتركبن أو لأنزلن). فقال "أبو بكر: (واللّه لا تنزل وواللّه لا أركب وما على أن أغبر قدمى فى سبيل اللّه ساعة. فإن للغازى بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له وسبعمائة درجة ترفع له وترفع عنه سبعمائة خطيئة) ثم قال "أبا بكر": (إن رأيت أن تعيننى بعمر فافعل)، حيث كان "عمر بن الخطاب" فى جيش "أسامه" ومعنى ذلك أن "أبا بكر" يستأذن "أسامة" - قائد الجيش – فى أن يترك له "عمر" الذى كان فى الجيش فأذن له "أسامة".

وصية أبى بكر الجيش: 
ثم أوصى "أبو بكر" جيش "أسامة" فقال:
(يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني:
لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نحلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم فى الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا فاذكروا اسم اللّه عليها. وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم اللّه).
فوضع بذلك "أبو بكر" فى هذه الوصية دستوراً للحرب الهادفة وقانوناً للمعارك الشريفة.
وقال لـ "أسامة": (إصنع ما أمرك به نبى اللّه صل الله عليه وسلم. ابدأ ببلاد قضاعة ثم ائت آبِلَ ولا تقصرن من شئ من أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا تعجلن لما خلفت عن عهده).
فسار أسامة وأوقع بقبائل من قضاعة التى ارتدت وغنم وعاد وكانت غيبته أربعين يوما سوى مقامه ومنقلبه راجعا من غير أن يفقد أحدا من رجاله.
عاد الجيش بعد أربعين يوماً سالماً غانماً لينضم فى قتال المرتدين

معركة اليمامة وقتال المرتدين :
المرتدين:هم الذين عادوا لأديان الجاهلية ، والذين توقفوا عن الزكاة، وادعى بعضهم النبوة مثل مسيلمة الكذاب، فقد أرسل أبو بكر أحد عشر جيشا على رأسهم خير القادة مثل: خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص لقتالهم وأوصاهم بمراعاة آداب الحرب.
وفى معركة اليمامة – وهى الحرب التى دارت بين جيش المسلمين بقيادة "خالد بن الوليد" و"مسيلمة الكذاب" كان فى الجيش عدد كبير من حملة القرآن وحفظته إستشهد منهم نحو 70 صحابياً.
نجحت الجيوش فى مهمتها وعادت القبائل المرتدة للإسلام وعادت للجزيرة العربية وحدتها.

جمع القرآن :
أشار عمر بن الخطاب على أبو بكر بجمع القرآن, لإستشهاد عدد كبير من حفظه القرآن فى حروب الردة, وحتى لا يضيع القرآن أو يصيبه التأويل والتحريف, فإتفق "أبو بكر" و"عمر" على جمع القرآن الكريم.
فأمر "أبو بكر" بجمع القرآن فى مصحف واحد وكلف كاتب وحى الرسول "زيد بن ثابت" بهذه المهمة، وظل "أبو بكر" و"عمر" يراجعان "زيداً" حتى تمت المهمة, وبهذا تم حفظ كتاب الله.

نشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية: 
أرسل أبو بكر الجيوش الإسلامية لكل من العراق والشام لتخليصهما من ظلم الفرس والروم, ولنشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية وتامين حدود الدولة الإسلامية.
فأرسل الخليفة ابو بكر خمسة جيوش كالأتى-
- جيش العراق: أرسل خالد بن الوليد إليه ففتح أكثر من نصفه فى عدة شهور.
- جيوش الشام :
- "أبو عبيدة بن الجراح" لفتح حمص شمال بلاد الشام.
- "يزيد بن أبى سفيان" لفتح دمشق وسط بلاد الشام.
- "شرحبيل بن حسنة" لفتح الأردن.
- "عمرو بن العاص" لفتح القدس بفلسطين.

وصية أبى بكر الصديق لجنود الإسلام قبل فتح بلاد الشام (12 هجرية):
قال:
(يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمآكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم فى الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإن أكلتم منها شيئاً بعد شئ فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله، أفناكم الله بالطعن والطاعون).

معركة أجنادين 13 هـ:
كانت جيوش الشام بقيادة أبوعبيدة بن الجراح ثم أمرالصديق خالد بن الوليد بالتوجه لبلاد الشام وقيادة الجيوش الإسلامية.
نجح خالد فى الانتصار على الروم فى موقعة أجنادين 13 هـ .. لكن, فى تلك الأثناء توفى الخليفة أبو بكر الصديق عن عمر 63 عاماً فخلفه الفاروق عمر بن الخطاب.

مواقف فى وقت خلافته:
ومن سيرة ابن هشام نقرأ بأن عمر بن الخطاب كان يَرَى أبا بكر يخرج كل يوم من صلاة الفجر إلى ضاحية من ضواحى المدينة، فكان يتساءل فى نفسه إلى أين يخرج! ثم تَبِعَه مرة فإذا هو يدخل إلى خيمة منزوية، فلما خرج أبا بكر دخل عمر فإذا بالخيمة عجوزاً كسيرة عمياء معها طفلين، فقال لها عمر: يا أمة الله، من أنتِ ؟!
قالت: أنا عجوزاً كسيرة عمياء فى هذه الخيمة، مات أبونا ومعى بنات لا عائل لنا إلا الله –عز وجل- قال عمر: ومن هذا الشيخ الذى يأتينكم ؟ قالت: هذا شيخ لا أعرفه يأتى كل يوم فيكنس بيتنا ويصنع لنا فطورنا ويحلب لنا شياهنا! فبكى عمر وقال: أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر!

وصية أبو بكر ووفاته (13 هجرية):
حين مرض أبو بكر عاده الناس وسألوه أن يحضروا طبيباً فرد قائلاً: (لقد رآنى الطبيب وقال إنى فعالُ لم أريد).
وقبل موته عادت مشكلة الخلافة من جديد فما كان من "أبى بكر" إلا أن حلها بالوصية إلى "عمر بن الخطاب" الذى أصبح خليفة لـه, فدعا "عمر", وقال له: 
(إنى مُستخلفك من بعدى, وموصيك بتقوى الله.
إن لله عملاً بالليل لا يَقبله بالنهار, وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل, إنه لا تُـقبـَل نافلة حتى تؤدى الفريضة, فإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق فى الدنيا, وثقله عليهم, وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً.
 وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الباطل, وخفته عليهم, وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل ان يكون خفيفاً!.
إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم, وتجاوز عن سيئاتهم.
فإذا ذكرتهم قلت: غن أخاف أن لا أكون من هؤلاء.
وذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم.
وذكر آية الرحمة مع آية العذاب, ليكون العبد راغباً راهباً, ولا يمنى على الله غير الحق, ولا يلقى بيده إلى التهلكة.
فإذا حفظت وصيتى, فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو آتيك! وإن ضيعت وصيتى فلا يكن غائب أبغض إليك من الموت, ولست بمعجز الله!)
وحين إشتد عليه المرض سأل من حوله: (أى يوم هذا؟) وحين علم أنه يوم الإثنين, تمنى ان يقبض روحه ليوافق نفس يوم وفاة النبى صلى الله عليه وسلم, ثم وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس وابنه عبد الرحمن وأن يكفنوه فى ثوبه القديم مع ثوبين آخرين, فقالوا: (نجعلها كلها جديدة) فقال: (إن الحى أحق بالجديد, وإنما هى للمهلة "فترة القبر").
توفى أبو بكر الصديق وعمره 63 عاماً فى توفى ليلة يوم الثلاثاء 21 جمادى الثانى عام 13 هجرية  (22 أغسطس 634م) فى المدينة المنورة, فدفن فى حجرة عائشة - إلى جوار الرسول صل الله عليه وسلم, بعد أن أمضى فى الخلافة عاماين وثلاثة أشهر, وإرتجت المدينة كلها بالبكاء, ورثاه "على بن أبى طالب" قائلاً: (كنت كما قال عنك رسول الله صلى الله عليك وسلم ضعيفاً فى بدنك قوياً فى أمر الله. متواضعاً فى نفسك عظيما عند الله تعالى. إعتدل بك الدين وقوى بك الإيمان)
وبويع "عمر بن الخطاب" فى اليوم التالى لوفاة "أبو بكر الصديق".

المراجع:
كتاب: رجال ونساء أنزل الله فيهم قرآناً مجلد 2       تأليفد. عبد الرحمن عميرة      مكتبة الأسرة 2003
كتاب: أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين      تأليف: محمد رضا      كتاب إليكترونى
كتاب: العشرة المبشرون بالجنة        تأليف: عبد اللطيف عاشور      مكتبة القرآن


الأربعاء، 13 يناير 2010

فرسالوس.. معركة العقول الحربية

فرسالوس.. معركة العقول الحربية


إعداد الباحث: أشرف السيد الشربينى

مقدمة:

(فرسالوس) أو (فرسالس) أو (فارسال) (فارسالا حاليًا فى اليونان) هى إسم المعركة الشهيرة التى وقعت بين "يوليوس قيصر" و"بومبى", والتى كان تنظيمها القتالى هو من أهم العوامل التى ساعدت "يوليوس قيصر" على النصر, وبالرغم من أن قصة المعركة نفسها قصيرة, إلا أنها قد إكتسبت شهرتها فى التاريخ من حيث التطور الجديد فى إدارة الحرب والذى إبتدعته عبقرية "يوليوس قيصر", وبسب نتائج المعركة أيضاً التى ضمنت لـ "يوليوس قيصر" السيطرة على العالم.
وبالنسبة لإدارة الحرب, تبرز عبقرية "يوليوس قيصر" فى إيجاد التنظيم الناسب لطبيعة الأرض, وكذلك فى الإستخدام الجيد للقوات وتكوين نوعين من القوات الإحتياطية لهما واجباتهما الواضحة والمحددة, ثم التنسيق الرائع للتعاون بين مختلف القوى, وفوق ذلك الإستخدام الماهر لمبادئ الحرب والإعتماد على المباغتة والمبادأة, والقدرة الحركية العالية.
لقد إستمدت هذه المعركة شهرتها من العبقرية الحربية التى إبتدعها "يوليوس قيصر" مما جعل جيش "بومبى" يفر هارباً رغم قوته. مما يدل أن المعركة لم تكن معركة جيوش بل معركة عقول.

مقدمة تاريخية:

إنضم "يوليوس قيصر" إلى صفوف الجيش الرومانى كضابط ومحاسب تابع للحكومة الرومانية إلى أن قاد جيشه الخاص المعروف كأكثر جيوش روما إنضباطاً على الإطلاق.
وقف قيصر إلى جانب "بومبى" مؤيداَ له بصورة صريحة عام 71 ق.م, وفى سنة 60 ق.م شكل قيصر وبومبي و كراسوس أول (تريومفيرات "إئتلاف أو حكومة ثلاثية") وذلك للعمل ضد مجلس الشيوخ.
وخلال السنوات التسع التالية انشغل قيصر بقيادة حملاته فى بقاع مختلفة من العالم شملت توسعة نفوذ روما إلى كل من بلاد الغال (فرنسا) و سوريا و مصر و غيرها، حيث كانت معظم حملاته ناجحة إلى حد مثير حيث عين حاكما لإسبانيا البعيدة ليتم انتخابه قنصلاَ. ونصب بعد ذلك حاكماَ على بلاد الغال، وكانت تلك مهمة شغلته لتسعة سنوات كان خلالها تاركاَ لبومبي وكراسوس أمر حماية مصالحه في روما. إلا إنه كانت هناك خلافات كثيرة بينهم عند هذا الوقت جعلتهم يعقدون لقاءَ فيما بينهم في لوكا عام 56 ق.م. في محاولة لحل تلك الخلافات.
فى ذلك الوقت كان "يوليوس قيصر" يشعر بالضيق والحرج بسبب سوء المحصول الزراعى وصعوبة الإمداد, مما إضطره إلى إستدعاء رؤساء كل مدينة, وإستخدم معهم الوعد والوعيد, وإستطاع بذلك السيطرة على قسم كبير من شعوب الغول (فرنسا), وفى هذه الأثناء كان شعب "السينون" الذى يعتبر من أقوى شعوب الغول قد إتخذ قراره بإعدام الملك "كافا رينو" الذى كان قيصر قد نصبه عليهم بدلاً من أخيه الملك الشرعى, فطلب قيصر إرسال كل الشيوخ لمفاوضتهم غير أنهم رفضوا طلب قيصر, وأعلنوا الثورة.
لم يكن بإستطاعة قيصر الإنتظار طويلاً لمعرفة ما يمكن أن تتطور إليه أخطر ثورة يقوم بها الغول. فطلب إلى معاونيه الإستعداد بقواتهم, وفى ذات الوقت أرسل إلى "بومبى" يطلب إليه إرسال وحدات الغول التى أقسمت يمين الولاء, فأرسل إليه "بومبى" قوات الدعم المطلوبة, وهكذا لم ينتهى فصل الشتاء حتى كان لدى قيصر قوات متفوقة, أرسل منها ثلاث ليجيونات (فيالق أو كتائب) فى إتجاه بلاد الغول.
وتلقى "يوليوس قيصر" أول وأكبر هزيمة له سنة 52 ق.م إذ دافع الغول بضراوة أذهلت قيصر وقواته, غير أن فرسان الرومان حاولوا بعد ذلك التعويض عن هزيمتهم بسحق (أليسيا) بعد حصارها وعزلها وبعد معارك مريرة وقاسية, وقد تم تسجيل إنتصار (أليسيا) كنهاية لمقاومة الغول.

صراع "يوليوس قيصر" و"بومبى":

لم يلبث "بومبى" أن دخل المنافسة ضد "قيصر" سنة 54 ق.م. وكان "بومبى" مدعماً من مجلس الشيوخ الذى عمل فى سنة 52 ق.م على تسميته (القنصل الوحيد) بعد موت "كراسوس". وقاد "بومبى" صراعاً مريراً ضد قيصر.
كان قيصر فى ذلك الوقت فى الرابعة والخمسين من عمره، وما من شك فى أنه قد أوهنته حروبه الطويلة فى غالة "فرنسا"، وأنه لم يكن يحب أن يتورط فى محاربة مواطنيه وأصدقائه السابقين، ولكنه كان على علم بالمؤامرات التى تحاك له، وكان يؤلمه أشد الألم أن تكون هذه المؤامرات والفخاخ هى الجزاء الذى يجزى به من أنجى إيطاليا من الدمار والخراب. وكانت مدة حكمه فى (غالة) تنتهى فى اليوم الأول من شهر مارس سنة 49 ق.م، ولم يكن فى وسعه أن يتقدم للقنصلية إلا فى خريف ذلك العام، وفى الفترة الواقعة بين الزمنين يفقد الحصانة التى يسبغها عليه منصبه، ولا يستطيع دخول رومه دون أن يعرض نفسه للإتهام بأنه خارج على القانون، وهو السلاح المألوف الذى كانت تلجأ إليه الأحزاب المختلفة فى رومه فى نزاعها على السلطة. وكان "ماركس مارسلس" قد عرض قبل ذلك على مجلس الشيوخ أن يعزل "يوليوس قيصر" من الولاية قبل انتهاء مدتها، ومعنى هذا الغزل هو البقاء خارج البلاد أو المحاكمة، وكان التريبيونان (التريبيون: موظف رسمى فى روما القديمة يقوم بمهنة المحاماة. وكان ثمة نوعان منهم: التريبيون العسكرى، والتريبيون الشعبى.) قد أنجياه من هذه المكيدة باستخدام ما لهما من حق الاعتراض، ولكن مجلس الشيوخ كان بلا ريب راضياً عن هذا الاقتراح، وقال "كاتو" بصريح العبارة إنه يرجو أن توجه التهمة إلى "يوليوس قيصر"، وأن يحاكم وينفى من إيطاليا.
كان واضحاً بالنسبة لـ "يوليوس قيصر" بأنه سيفقد كل شئ إذا ما خضع لـ "بومبى" ومجلس شيوخه فذلك يعن تنازله عن حكومات الغول التى أقامها, كما أن عودته إلى روما بدون جيوشه إنما تعنى تجريده من سلطته الشرعية.
أما "يوليوس قيصر" نفسه فلم يدخر جهداً فى العمل على إزالة أسباب النزاع بينه وبين خصومه. فلما أن طلب مجلس الشيوخ بإيعاز "بومبى" أن يتخلى له كلا القائدين عن فيلق يرسله لقتال (بارثيا)، أجابه "يوليوس قيصر" من فوره إلى طلبه، وإن لم تكن القوة التى لديه كبيرة. ولما طلب "بومبى" إلى "يوليوس قيصر" أن يعيد إليه الفيلق الذى أرسله له قبل عام من ذلك الوقت، بادر أيضاً بإرساله إليه، وإن كان أصدقاؤه قد أبلغوه أن الفيلقين لم يرسلا إلى (بارثيا) بل بقيا فى (كابوا).
كان لدى "بومبى" ومجلس شيوخه القانون الذى يتمسكون به, ولكن ليس بإمكانهم الإفادة من هذا القانون تماماً, ذلك أنهم رفضوا أن يضعوا فى إعتبارهم الأداة الوسيطة والتى تتمثل بمعارضة التريبيون العسكرى الذى كان يدعم قيصر, والذى كان يقوده "مارك أنطونيو" و"كوريون".
ولقد تجاوز "بومبى" ومجلس الشيوخ حدودهما القانونية عندما أرغما قائدى التريبيون "مارك أنطونيو" و"كوريون" وحملاهما على الفرار واللجوء إلى معسكر "يوليوس قيصر", ولم يكن هذا عملاً قانونياً أو شرعياً, فى الوقت الذى لم يظهر فيه مجلس الشيوخ مثل هذه الجرأة إلا بفضل إعتماده على حماية "بومبى".
كان جيش "يوليوس قيصر" يضم عشرة ليجيونات (فيالق),  وقد تولى "يوليوس قيصر" قيادة وحدات هذه الليجيونات طوال عشرة أعوام, وخاض معها أقسى المعارك فى بلاد الغول والجرمان وبريطانيا, ومقابل هذا الجيش كان جيش "بومبى" يضم ليجيونين تم إختلاسهما من "يوليوس قيصر" قبل سنوات عديدة, وذلك بحجة دعم "كراسوس" الذى كان يخوض عملياته الثائرة فى الشرق, ثم إحتفظت روما بهما فوق الأرض الإيطالية, وبالإضافة إلى ذلك كان هناك أربعة ليجيونات إسبانية لم يمارس "بومبى" قيادتها أبداً بصورة شخصية, إلا أنها أقسمت يمين الولاء له, وإلى جانب ذلك كان لدى "بومبى" أسطول ضخم يغطى البحر الداخلى, كما كان لـ "بومبى" علاقاته الجيدة وشبكة إتصالاته مع كل مناطق الشرق التى فتحها.
إستخدم "بومبى" بعض أعمال العنف, وبعض الأعمال غير الشرعية من أجل فرض الشرعية المناسبة له, فأحرج بذلك "يوليوس قيصر" الذى رد على هذا الإنتهاك بإنتهاك مماثل بأن عبر نهر الروبيكون.

"يوليوس قيصر" يعبر نهر (روبيكون):

كان "يوليوس قيصر"يعلم أن إستسلامه معناه إسلام الإمبراطورية للعجز وللرجعية، وكان صديقاً من أقرب الأصدقاء إليه ومن أقدر مؤيديه وهو "تيتس لبيينس" قد انشق عليه وانضم إلى "بومبى"، فما كان منه إلا أن استدعى الليجيون الثالث عشر، أكثر ليجيوناته ولاء له وأحبها إلى قلبه، وكانت أول كلمة نطق بها أمامهم وهى "زملائى الجنود" كافية لكسب قلوبهم، ولم يكونوا ينكرون عليه حقه فى استعمال هذا اللفظ لأنهم رأوه من قبل يشترك معهم فى الصعاب ويتعرض معهم للأخطار, وكان هو على الدوام يخاطبهم بهذا اللفظ. وكان معظم رجاله من بلاد الغالة الجنوبية، وهى البلاد التى جعل لأهلها حق المواطنين الرومان، وكانوا يعرفون أن مجلس الشيوخ قد أبى أن يعترف لهم بهذه المنحة, وكان "يوليوس قيصر" قد علمهم فى أثناء حروبهم الطويلة أن يحترموه - بل أن يحبوه على طريقتهم الخشنة الصامتة فى الحب. وكان قاسياً على الجبناء ومن لا يرعون النظام، ولكنه كان سمحاً ليناً لا يقسو عليهم ويتغاضى عن أخطائهم ويجنبهم ما لا ضرورة له من الأخطار، وكثيراً ما أنجاهم من الهلاك بحنكته وحسن قيادته. وهذا إلى أنه ضاعف أجورهم، ووزع عليهم كثيراً من غنائمه الحربية، ولما جاءوا إليه شرح لهم ما عرضه على مجلس الشيوخ، وكيف قابل المجلس هذه العروض، وسألهم هل يتبعوه؟ فلم يعارض واحد منهم، ولما قال لهم إنه ليس لديه مال يؤدى منه أجورهم جاءوا إلى خزائنه بكل ما كان مدخراً لديهم.
بعد أن عمل "يوليوس قيصر" على معرفة إتجاهات تفكير رجاله, وإطمأن إلى ولائهم, توجه إلى (أريمينون) على رأس الليجيون الثالث عشر من ليجيوناته, للقاء مجلس الطبقة المتوسطة الذى كان قد إلتجأ إليه, مجتازاً فى اليوم العاشر من شهر يناير عام 49 ق.م نهر (روبيكون) الذى لم يكن مسموحاً للقادة بتجاوزه مع قواتهم إلا بموجب موافقه مسبقة من مجلس الشيوخ, وقد فوجئ "بومبى" مفاجئة تامة عندما علم بعبور "يوليوس قيصر" لنهر (روبيكون).
وانضم بعدئذ إلى "يوليوس قيصر" الفيلق الثانى عشر من فيالقه عند (بسينوم Picenum)، والفيلق الثامن عند (كورفنيوم Corfinium)، ثم أنشأ ثلاثة فيالق جديدة من أسرى الحرب ومن المتطوعين ومن أهل البلاد, ولم يكن يلقى صعوبة فى جمع الجنود لأن إيطاليا لم تكن قد نسيت بعد ما قاسته فى الحرب الاجتماعية، وكانت ترى فى "يوليوس قيصر" البطل المدافع عن حقوق الإيطاليين. فكانت مدائنها تفتح أبوابها لاستقباله واحدة بعد أخرى، وكثيراً ما خرج سكان بعض هذه المدائن على بكرة أبيهم ليحيوه ويرحبوا به.
وقاومت (كورفنيوم) مقاومة قصيرة الأجل، ثم استسلمت له ولم يسمح لجنوده أن ينهبوها، وأطلق سراح منه قبض عليهم من الضباط، وبعث إلى معسكر "بومبى" بكل ما تركه "لبيينس" من المال والعتاد. ولم يشأ أن يصادر ضياع من وقع فى يده من الأعداء وإن كان فى ذلك الوقت معدماً فقيراً لا يكاد يملك شيئاً من المال- وكانت هذه خطة حميدة يمتاز بها "يوليوس قيصر"، كان من أثرها أن وقفت كثرة الطبقة الوسطى من الأهلين على الحياد. وأعلن فى ذلك الوقت أنه سيعد كل المحايدين أصدقاء له وأنصاراً. وكان فى كل خطوة يخطوها إلى الأمام يعرض عروضاً للصلح على أعدائه.

"يوليوس قيصر" يدخل روما:

ولما تقدم "يوليوس قيصر" نحو العاصمة انسحب "بومبى" وجنوده منها وإن كانت جيوشه وقتئذ لا تزال أكثر من جيوش "يوليوس قيصر" عدداً. وانسحب من ورائه فى غير نظام عدد كبير من الأشراف تاركين وراءهم زوجاتهم وأبناءهم تحت رحمة "يوليوس قيصر". ورفض "بومبى" عروض الصلح جميعها، وأعلن أنه سيعدّ كل من لم يغادر رومه وينضم إلى معسكره عدواً له. ولكن الكثرة العظمى من أعضاء مجلس الشيوخ بقيت فى رومه، وسار "بومبى" إلى (برنديزيوم) وعبر بجنوده البحر (الأدرياوى). وكان يعرف أن جيشه ينقصه النظام، وأنه فى حاجة إلى كثير من التدريب قبل أن يستطيع الصمود فى وجه ليجيونات "يوليوس قيصر"، وكان يرجو أن يستطيع الأسطول الرومانى الذى يسيطر هو عليه أن يجوع إيطاليا فى هذه الأثناء ويدفعها إلى إبادة عدوه.
ودخل "يوليوس قيصر" رومه فى اليوم السادس عشر من مارس دون أن يلقى فى دخولها أية مقاومة، ودخلها وهو مجرد من السلاح لأنه ترك جنوده فى البلدان المجاورة لها, وأعلن حين دخولها العفو العام عن جميع أهلها، وأعاد إليها الإدارة البلدية والنظام الإجتماعى. ودعا التريبيونان مجلس الشيوخ إلى الانعقاد وطلب إليه "يوليوس قيصر" أن يعينه حاكماً بأمره (دكتاتوراً)، ولكن المجلس لم يجبه إلى طلبه، ثم عرض على المجلس أن يبعث رسلاً إلى "بومبى" ليفاوضوه فى عقد الصلح فرفض ذلك أيضاً. فطلب المال من الخزانة العامة فوقف فى سبيله التربيون "لوسيوس متلس Lucius Metellus" فلما قال "يوليوس قيصر" إن النطق بعبارات التهديد أصعب عليه من تنفيذها خضع "متلس". واستطاع من ذلك الوقت أن يكون حر التصرف فى أموال الدولة، ولكنه كان نزيهاً كل النزاهة، فأودع فى الخزانة العامة كل ما غنمه من الأموال فى حروبه الأخيرة. ولما تم له ذلك عاد إلى جنوده واستعد لملاقاة الجيوش الثلاثة التى كان "بومبى" وأنصاره يعدونها فى بلاد اليونان وأفريقيا وأسبانيا، وأراد أن يضمن لإيطاليا كفايتها من الحبوب التى تعتمد عليها فى حياتها، فأرسل "كوريو "Curio المتهور العنيف ومعه فيلقان من جيشه ليستولى على صقلية، فلما نزل فى الجزيرة سلمها إليه "كاتو" وانسحب منها إلى إفريقيا، فاندفع وراءه "كوريو"، واشتبك معه فى معركة لم يكن قد كمل استعداده هو لها، فهزم وقتل فى ميدان القتال.

أسبانيا تخضع لـ "يوليوس قيصر":

وكان "يوليوس قيصر" فى هذه الأثناء قد سار على رأس جيش إلى أسبانيا وكان غرضه من هذا الزحف أن يضمن عودتها إلى تصدير الحبوب إلى إيطاليا، وأن يحول بينها وبين الهجوم على مؤخرته حين يزحف لملاقاة "بومبى"، وارتكب فى إيطاليا كما ارتكب فى غالة عدة أغلاط عسكرية فنية، كانت عاقبتها أن تعرض جيشه - الذى كان أقل من جيش أعدائه عدداً - للهزيمة وللهلاك جوعاً. ولكنه أنجاه وأنجى نفسه، كمألوف عادته، بسرعة خاطره وشجاعته، فقد حول مجرى أحد الأنهار واستحال الحصار الذى كان مضروباً عليه حصاراً على أعدائه، وظل صابراً زمناً طويلاً حتى يستسلم له الجيش المحاصر وإن كان جنوده قد ملوا الانتظار طويلاً يطالبون بالهجوم على العدو. ثم استسلم أنصار "بومبى" آخر الأمر وخضعت أسبانيا كلها إلى "يوليوس قيصر" (أغسطس سنة 49). وعاد بعدئذ إلى إيطاليا براً، ولكنه وجد الطريق مغلقاً فى وجهه عند (مرسيليا)، وقد وقف أمامه جيش يقوده "لوسيوس دمتيوس Lucius Domitius" وهو القائد الذى أسره فى (كورفنيوم) ثم أطلق سراحه. واستولى "يوليوس قيصر" على المدينة بعد أن حاصرها حصاراً شديداً، ثم أعاد تنظيم الإدارة فى غالة، ولم يحل شهر ديسمبر حتى عاد ظافراً إلى رومه.
وقوت هذه الحملات مركزه السياسى، كما طمأنت البطون المتخوفة فى العاصمة على كفايتها من الطعام، فلم يمانع مجلس الشيوخ وقتئذ فى أن يعينه دكتاتوراً. ولكن "يوليوس قيصر" تخلى عن هذا اللقب بعد أن اختير أحد القنصلين فى عام 48 ق.م. ولما وجد أزمة النقد مستحكمة فى إيطاليا، لأن اختزان النقود قد سبب انخفاض الأثمان، وأبى المدينون أن يؤدوا بالنقود الغالية ما استدانوه بالنقود الرخيصة - لما وجد هذا أصدر قراراً يهيج أداء الديون سلعاً بقدر أثمانها محكمون من قبل الحكومة كما كانت تقدر قبل الحرب. وكان يرى أن هذه "خير وسيلة للاحتفاظ بشرف المدينين ولتبديد أو تقليل الخوف الذى كان يساور البعض من أن تلغى هذه الديون إلغاء تاماً، وهو الإلغاء الذى يحتمل حدوثه فى أعقاب الحروب".

ما قبل الحرب:

وفى ليلة 4 – 5 يناير سنة 48 ق.م نجح قيصر فى العبور من (بريند) إلى (بالاسا) على الشاطئ المقابل, ومعه سبعة ليجيونات, أما الليجيونات الخمسة الباقية فقد تركها فى (بريند) بقيادة "مارك أنطونيو".
سيطر "يوليوس قيصر" بليجيوناته السبعة على ساحل الإيبر بكامله, غير أن موقف "يوليوس قيصر" كان خطيراً, إذ كان مهدداً بإستمرار أن تسحقه قوات "بومبى" المتفوقة, طالما أن "مارك أنطونيو" لم يتمكن من نقل ليجيوناته الخمسة, وقد بذلت القوات جهوداً رائعة وإستطاع "مارك أنطونيو" فى النهاية قيادة الليجيونات الخمسة والإنضمام إلى قوات قيصر, وبذلك زال التهديد الذى كان يتعرض له "يوليوس قيصر" وقواته.
وكان "بومبى" فى هذه الأثناء قد استولى بأربعين ألفاً من رجاله على (ديراكيوم (Dyrrhachium ومخازنها الغنية، ولكنه عجز عن مهاجمة جيش "يوليوس قيصر" الذى تناقص عدده وقلت مؤونته، وكان "بومبى" فى تلك الأيام قد أصابه التردد وضعف العزيمة. وبينا كان هو فى تردده جمع "مارك أنطونيو" أسطولاً جديداً حمل عليه ما كان باقياً من جيش "يوليوس قيصر" فى إيطاليا.
وبذلك أصبح "يوليوس قيصر" متأهباً للقتال، ولكنه ما زال يكره أن يقاتل الرومانى رومانياً مثله، فأرسل رسولاً إلى "بومبى" يعرض عليه أن يتخلى القائدان كلاهما عن قيادتهما، ولكن "بومبى" لم يرد عليه فهاجمه وأخفق فى هجومه، غير أن "بومبى" عجز أن يتبع النصر بمطاردة عدوه. ثم قتل ضباط "بومبى" جميع من وقع فى أسرهم من أعداءهم الضباط على الرغم من نصيحة قائدهم الأعلى، أما "يوليوس قيصر" فلم يقتل أحداً من أسراه، وهو عمل رفع من قوة جنوده المعنوية بقدر ما أضعف من قوة "بومبى". وطلب رجال "يوليوس قيصر" إلى قائدهم أن يعاقبهم على ما أظهروه من الجبن فى حربهم الأولى ضد الفيالق الرومانية، فلو لم يجبهم إلى ما طلبوه توسلوا إليه أن يعود بهم إلى ساحة القتال، ولكنه رأى من الحكمة أن يرتد إلى تساليا ليستريحوا فيها بعض الوقت.
واستقر رأى "بومبى" وقتئذ على القرار الذى قضى على حياته. فقد أشار عليه "أفرانيوس Afranius" أن يعود إلى إيطاليا الخالية من وسائل الدفاع ويستولى عليها؛ ولكن معظم مستشاريه ألحوا عليه أن يطارد "يوليوس قيصر" ويقضى عليه. وبالغ الأشراف الذين كانوا فى معسكر "بومبى" فيما أحرزه من النصر فى (درهشيوم) وظنوا أن القضية الكبرى قد فصل فيها فى ذلك المكان.
وكان "بومبى" نفسه أميل إلى التريث وعدم الاشتباك فى معركة فاصلة، ولكنه إضطر إلى العمل برأى مستشاريه عندما عيروه بالجبن والخور، فأصدر أمره بالزحف.

فرسالوس .. والنهاية:

ودارت رحى المعركة الفاصلة فى (فرسالوس) (فارسالا حاليًا فى اليونان) فى اليوم التاسع من شهر أغسطس عام 48 ق.م، وكانت معركة طاحنة دام فيها القتال حتى نهايتها المريرة. وكان جيش "بومبى" يتألف من ثمانية وأربعين ألفاً من المشاة، وسبعة آلاف من الفرسان, أما جيش "يوليوس قيصر" فلم يكن يزيد على اثنين وعشرين ألفاً من المشاة, وألف من الفرسان.
إعتمد "بومبى" فى تنظيم قواته على توجيه ضربة قوية من خلال فرسانه إلى جناح جيش "يوليوس قيصر" ومؤخرته, فاستند بجناحه الأيمن إلى حافة النهر الحادة, ووضع فرسانه ومشاته على الجناح الأيسر... أما "يوليوس قيصر" فقد وضع جناحه الأيسر على النهر, وركز على جناحه الأيمن الفرسان والمشاة الخفيفة وبعض أفراد المشاة الثقيلة, وكان على المشاة الثقيلة أن تدعم الفرسان.
بدأت المعركة بإشارة من "يوليوس قيصر" وإندفعت مشاته الثقيلة إلى الأمام حيث إشتبكت مع جيش "بومبى" بالسلاح الأبيض, وفى ذلك الوقت إنطلق فرسان "بومبى" الموجودة على الجناح الأيسر لمهاجمة الجناح الأيمن لقوات "يوليوس قيصر", ولم يستطع فرسان "يوليوس قيصر" القليلون أن يتصدوا لهجمات فرسان "بومبى" على الرغم من دعم المشاة الثقيلة لها, وأخذت فى التراجع إلى الخلف وهى تسحب فرسان "بومبى" معها نحو الإحتياط السرى المختفى خلف الجناح الأيمن والمكون من ست ليجيونات, وفى اللحظة المناسبة إستدارت هذه الليجيونات الستة إلى اليمين وهاجمت فرسان "بومبى" الذين لاذوا بالفرار من جراء هذه الضربة القوية, متوجهة إلى المرتفع حيث يوجد معسكر "بومبى", ولم تتوقف كتائب "يوليوس قيصر" الستة الإحتياطية بل إندفعت إلى الأمام ملتفة حول الجناح الأيسر لقوات "بومبى", وفى الوقت ذاته إنتظم فرسان "يوليوس قيصر" وأخذوا بالتعاون مع المشاة الثقيلة فى مطاردة جيش "بومبى" الهارب, وقد دخلت فى المعركة بقايا كتائب "يوليوس قيصر" التى كانت موجودة فى الخط الثالث كإحتياط, حيث تقدمت إلى الأمام عبر فراغات الخطوط المشتبكة, وهاجمت بشكل حاسم مشاة "بومبى", وبعد مقاومة ضعيفة إنهزمت قوات "بومبى" ولاذت بالفرار.
لقد كان أقرب الأقارب، بل كان الأخوة أنفسهم، يقاتل بعضهم بعضاً فى الجيشين المتعاديين. وقد أمر "يوليوس قيصر" رجاله أن يبقوا على حياة كل من يستسلم من الرومان، وروع البمبيون لتفوق أعدائهم القيادة، والتدريب، والقوة المعنوية. وقُتل منهم وجُرح خمسة عشر ألفاً، واستسلم عشرون ألفاً، وولى الباقون الأدبار. ونزع "بومبى" شارة القيادة عن رجاله وفر مع من فروا من رجاله. ويخبرنا "يوليوس قيصر" أنه لم يفقد من رجاله إلا مائتين- وهو قول يحملنا على الشك فى كتبه كلها. وأخذ رجاله يتندرون بما فى خيام أعدائهم من وسائل الزينة، وبما وجدوه فيها من الموائد المثقلة بالطعام الشهى الذى أعد لساعة الاحتفال بالنصر. وأكل "يوليوس قيصر" عشاء "بومبى" فى خيمة "بومبى" نفسه.
وسار "بومبى" على ظهر جواده الليل كله حتى وصل إلى (لارسا Larissa)، وعرج فى طريقه على متلينى Mytilene حيث انضمت إليه زوجته وطلب إليه سكانها أن يقيم معهم، ولكنه رفض طلبهم فى أدب ومجاملة، ونصحهم أن يستسلموا للفاتح فى غير خوف لأن "يوليوس قيصر" على حد قوله "رجل عامر القلب بالصلاح والرحمة"، وركب منها سفينة أقلته إلى الإسكندرية.
فر "بومبى" إلى الإسكندرية التى كان يرتبط بحكامها الفراعنة بعلاقات جيدة, وأكبر الظن أن بعضهم قد حذر "يوليوس قيصر" من أن "بومبى" يفكر فى معاودة القتال معتمداً على جيش مصر ومواردها، وعلى القوة التى كان "كاتو" و"لبينس" و"متلس" يعدونها فى (يتكا Utica).
ولكن عند وصوله إلى الإسكندرية و أثناء تفاوضه مع مستشارين "بطليموس الثالث عشر" وصلت أنباء قدوم "يوليوس قيصر" إلى مصر متتبعا بومبى مما جعل "بوثينس" أحد مستشارين الفرعون "بطليموس الثانى عشر" يأمر بقتل "بومبى" عدو "يوليوس قيصر" وذلك لتحسين علاقتهم معه وتقديم خاتمه لـ "يوليوس قيصر" عند وصوله الإسكندرية كترحيب به ولعله فعل ما فعل رجاء أن يكافئه عليه "يوليوس قيصر", فقد طعن القائد طعنة قوية حين وطئت قدماه شاطئ مصر، بينما كانت زوجته تنظر إليه فى هلع وهى على ظهر السفينة التى أقلتهما إلى تلك البلاد.
فلما جاء "يوليوس قيصر" إلى الإسكندرية فى 2 أكتوبر من عام 48ق.م أهدى إليه رجال "بوثينس" رأس القائد الذى فصل عن جسده, ولكن "يوليوس قيصر" لم يكن سعيدا بهذه المفاجأة حيث كان "بومبى" حليفه بالسابق وزج ابنته "جوليا قيصر" مما أدى "يوليوس قيصر" لقتل مستشارين الفرعون المسئولين عن اغتيال "بومبى" و تنحيه "بطليموس الثالث عشر" عن الحكم وتقليد "كليوباترا السابعة" حاكمة.

المراجع
كتاب سلسلة: مشاهير قادة العالم ... يوليوس قيصر            تأليف : بسام العسيلى               المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1980
موسوعة : قصة الحضارة              ول ديورانت                       الهئية الهامة المصرية للكتاب - مكتبة الأسرة - مصر 2001