‏إظهار الرسائل ذات التسميات لطيفة محمد سالم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات لطيفة محمد سالم. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 15 أغسطس 2019

لطيفة محمد سالم

لطيفة محمد سالم

17 سبتمبر 2002: عرابي.. الصعود والسقوط







عرابي.. الصعود والسقوط

عرابي.. الصعود والسقوط
بقلم : د. لطيفة سالم
الأهرام الثلاثاء 17 سبتمبر 2002م - 10 رجب 1423هـ

فى يوم 21 سبتمبر 1911 وارى ثرى مصر جثمان أحمد عرابى زعيم الثورة المصرية التى عرفت باسمه، بعد ان سجل له التاريخ انه حرك أول ثورة دستورية فى المنطقة. اشترك فيها المصريون على اختلاف انتماء طبقاتهم الاجتماعية، ورغم ما نسب اليها سواء من الذين طعنوها أم الذين حكموا عليها بعد اخفاقها، فإنها تمكنت من أن تكون لها المكانة فى قائمة الثورات عبر تاريخ مصر الحديث والمعاصر، ولم تكن حركة تمرد عسكري، أو كما أطلق عليها هوجة عرابي، وانما هى ثورة بمفهومها الشامل، وقد اعترف بذلك اعداؤها، وضح هذا فيما ذكره جرانفيل وزير الخارجية الانجليزى وكرومر المعتمد الانجليزى فى مصر اثناء فترة الاحتلال. 
كان زعيم هذه الثورة هو أحمد عرابي، ذلك الفلاح ابن شيخ البلد الذى ولد فى 31 مارس 1841 فى قرية هرية رزنة بالشرقية، وتعلم القراءة والكتابة، وتدرب على الأعمال الحسابية، ودرس بالأزهر ثم التحق بالجندية بناء على ماقرره حاكم مصر سعيد باشا بتجنيد ابناء العمد والمشايخ، وكان ذلك الأمر فاتحة جديدة لدخول المصريين الجيش وتدرجهم فى الرتب العسكرية. ونظرا لكفاءة عرابى وشخصيته الجذابة وهى التى صنعت كاريزميته فيما بعد، صعد سلم الترقية بسرعة ملحوظة حتى لقد وصل الى رتبة قائمقام ـ عقيد ـ فى سبتمبر 1860. ومما لاشك فيه ان تقربه من سعيد باشا بعد ان اصبح اركان حربه ومرافقه قد أتاح له فرصة التميز، ومضى فى تطلعاته، وتعمق فى نفسه وترسب فى أعماقه صورة البطل، تلك التى لم تبرح مخيلته وتمثلت فى شخصية نابليون بونابرت. 

وراحت المعاناة تزحف فى طريقها اليه إبان فترة حكم الخديو إسماعيل، سواء أكانت على المستوى الشخصي، إذ ظل على رتبته لمدة تسعة عشر عاما ـ حيث لم يكن إسماعيل نصيرا للضباط الفلاحين، بالإضافة الى اهانات الضباط الشراكسة ـ أم على المستوى العام الذى تمثل فيما وصلت اليه مصر من أوتقراطية حاكم، وفساد اداري، وتدهور مالي، واقتصاد مرهون، وظلم وفوارق اجتماعية وتدخل اجنبي. وقد هيأت حملة الحبشة (1857 / 1876) التى اشترك فيها عرابى الظروف التى دفعته مع غيره من الضباط المصريين للتفكير فيما آلت اليه الأوضاع فى مصر من تدهور. 
وبدأت الخطوات العملية تسير على الدرب، فتأسست جمعية سرية عام 1876 على يد الضابط على الروبي، وانضم اليها الضباط الذين رأوا انه لابد من الاصلاح، وسرعان ما أصبح عرابى رئيسا لها، وكان له الدور المؤثر والفعال فيها حتى لقد تمكن من أن يضم اليها عناصر غير عسكرية، وانجلت شخصيته، واتسمت خطبه بالحماسة التى تحولت الى ثورية تنقد المجتمع وتهاجم الأحوال المتردية القائمة، وما لبث ان توحدت جهود هذه الجمعية مع جمعية حلوان، وتمخضت عن مولد ما عرف باسم الحزب الوطني. 

ومضى الجهر بالقول، وكثرت الشكوى بعد ان انعكس سوء الأحوال المالية على المصريين، وعانى الجيش بعد تسريح الأعداد منه، ووقعت حادثة تمرد الضباط فى 18 فبراير 1879، واتهم عرابى بأن له يدا فى تدبيرها، وأنزل العقاب عليه، وشددت القبضة على الجيش بعد ان تولى عثمان رفقى نظارة ـ وزارة ـ الجهادية، وواصل اجراءات القمع التى أججت الموقف مما أثار الكراهية فى نفوس الضباط المصريين وعلى رأسهم عرابى الذى تمكن من ان يجند الأفكار من اجل الاطاحة برموز الاستبداد، وراح يعقد الاجتماعات فى منزله الذى أصبح بمثابة بيت للأمة، اذ توافدت عليه الوفود لوضع حد لتصرفات المسئولين الجائرة. 
وقرر الضباط ضرورة العمل لإقصاء الظلم عنهم، فقدموا تقريرا لرئيس النظار يهاجمون فيه القادة الشراكسة، فما كان من النظارة الا ان دبرت خطتها، وقبض على عرابى ورفاقه واعتقلوا فى قصر النيل فى أول فبراير 1881، ولكنهم تخلصوا من هذا الاعتقال وزحفوا الى ساحة عابدين التى غصت بالجماهير، وطلب عرابى من الخديو توفيق عزل ناظر الجهادية، فأجيب وتولى النظارة البارودى صديق عرابي، وكان ذلك بداية لانطلاق الثورة المصرية. 

ونمت شهرة عرابى سريعا بين المصريين، ونشط فى الاعداد للخطوات القادمة، فى الوقت الذى رأى فيه ضرورة احباط المؤامرات عن طريق اسقاط نظارة رياض ذات اليد المستبدة، أيضا وجد انه لابد من الالتحام بين العسكريين وأصحاب المكانة الاجتماعية المرموقة، ومن ثم كان اللقاء مع شريف باشا، وسلطان باشا وامثالهما بهدف اقامة نظام دستوري، وأيقن ان الطريق الموصل لذلك هو الثورة، ووجد مساندة المثقفين، ومن رموزهم محمد عبده وعبدالله النديم، وكانت الصحافة إحدى الأدوات التى اعتمد عليها، حيث بصرت الناس بأبعاد النظام الجديد، كذلك المنشورات الثورية التى اتسع توزيعها وغدت سهاما مصوبة ضد النظام القائم وحثت على اسقاطه. 
وفى 9 سبتمبر 1881، ومرة أخرى فى ساحة عابدين، يعرض عرابى ـ بعد أن تم جمع التوكيلات لإنابته عن الأمة ـ المطالب امام توفيق، وتمثلت فى اسقاط النظارة المستبدة، وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبي، وزيادة عدد الجيش. ووفقا للتخطيط، شكل شريف باشا النظارة الأولى للثورة. وصار عرابى البطل والممثل الصادق للمصريين، ودوت الفرحة فى كل مكان، وفاضت المشاعر بالحب والاخلاص لزعيم الأمة، وأصبحت الكلمات المعبرة عن الحرية والمساواة والاخاء تتداول بين الناس، وسرت الطمأنينة الى النفوس بذلك الاشراق الجديد، وعمت احتفالات النصر فى كل مكان على أرض مصر. 

وتشكل مجلس النواب، وتوجست بريطانيا وفرنسا خيفة مما يحدث فى البلاد لتعارضه مع مصالحهما الامبريالية، ووجدا فى توفيق المعاونة، وعليه وضعت العراقيل امام مجلس النواب، وانتهى الأمر باستقالة النظارة، وذلك فى الوقت الذى كان فيه عرابى ورفاقه يستعدون لما هو آت، بعد ان غدا المناخ مهيئا لتأييدهم، وبعد ان مثل عرابى الرمز للانتصار والكرامة والوطنية. 
وأصبح نداء الثورة امرا واقعا، ووضح تماما مع تولى النظارة الثانية للثورة التى ترأسها البارودي، وكان عرابى ناظرا للجهادية فيها، وترددت المبادئ التى تمثلت فى خديو يملك ولا يحكم، وبرلمان منتخب، ونظام ادارى عادل، واقتصاد متوازن، وتخفيف الأعباء عن كاهل الشعب، واقصاء التدخل الأجنبي، وبعبارة مختصرة ان تكون مصر للمصريين وانتشرت هذه المبادي، وأخذت الأبعاد الاجتماعية التى كان المصريون فى شوق إليها ولهفة عليها تتردد بين الناس، خاصة ما يتعلق بالفوارق الشاسعة بين علية القوم وأدناهم. ومما يذكر انه لم يكن بعيدا عن ذهن عرابى ورفاقه ان تتحول مصر الى جمهورية. 

ووضع دستور الثورة الذى انصب على شكل الحكم، وتحديد العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، واتسم بالاعتدال لمراعاة الظروف القائمة. وعندما مارس مجلس النواب عمله، عادت بريطانيا وفرنسا وتحركتا، واشتد الصراع الذى استقالت النظارة على أثره، ومع هذا كان من الصعب اقصاء عرابى عن السلطة بعد ما وصل اليه من علو ومجد، وهنا رأت الدولتان حتمية اجهاض الثورة، وجاءت حادثة الاسكندرية فى 11 يونيو 1882 لتكون المؤشر للعدوات الانجليزى الذى ما لبث ان وقع بعد شهر واحد. 

وراح عرابى يعد العدة لمقاومة الانجليز، فى الوقت الذى جرى فيه التفكير فى العصف بالخديوية لموقفها العدائى من الثورة، ولكن لم تنجح الخطة. وبدأت المواجهة الحربية، وانتصر المصريون على المعتدين فى الميدان الغربي، ولكنهم انهزموا فى الميدان الشرقى لأكثر من سبب : الأول ـ مسألة قناة السويس وتأكيد دليسبس حيادها بعد ان أكدته له الشركة، والثانى ـ عنصر الخيانة الذى سرى داخل نفوس الضعفاء، والثالث ـ الأرض الخصبة التى حرثها الجواسيس جيدا واستغلوها، والرابع ـ انحراف بعض العسكريين، والخامس ـ منشور عصيان عرابى الذى أصدره السلطان العثماني، والسادس ـ تلك المآخذ التى أخذت على عرابي، فقد اعتمد على الشعبية المطلقة التى غمرته، وبالتالى أعطى الثقة والأمان لكل من انضم اليه، أيضا، فإنه لم يكن على دراسية كافية بفن السياسة وممارستها وبالمخططات الخارجية، اذ اعتقد ان التهديد لن يخرج الى حيز التنفيذ، كذلك الثقة المتناهية فى النفس وفى قدرة الجيش المصرى على مواجهة الهجوم الانجليزي، والايمان بأن الانجليز كالسمك الذى يهلك اذا خرج من البحر، كما انه لم يحتل موقعه وقت الحرب فى الخطوط الأمامية كقائد حربى يدير دفة
المعركة، ولكنه اكتفى بالاشتراك المعنوي، حيث اعتقد ان وجوده وتنقلاته بين المعسكرات يكون له تأثير أقوى على سير المعارك، وبطبيعة الحال كان للمسحة الدينية التى أضفاها على خطواته الأثر السلبي، فانساق وراء تلك الظواهر التى تمثلت فى حلقات الذكر، نظرا للاعتقاد السائد وقتها فى أنها تشكل جزءا من النصر على الأعداء. 

واحتل الانجليز مصر، ولم تكن الثورة العرابية الا الذريعة التى اعتمدوا عليها فى تنفيذ مخططهم الذى رسموه منذ سنوات كثيرة قبل الثورة، وأذعن عرابى واستسلم للقائد الانجليزي. وانعقدت محاكمات الثوار، ونظرا لاعتبارات وجدتها لندن، حكم على عرابى ورفاقه بالنفى المؤبد، ووقع الاختيار على جزيرة سيلان ـ سيريلانكا ـ ووصلوا إليها فى 10 يناير 1883. ولم تغفل عيون المسئولين الانجليز عن مراقبتهم، ومما يذكر ان عرابى لم يكن من المشيدين ببريطانيا فى ذلك الوقت، كما يردد البعض حيث سجلت خطاباته بأنه بين ثناياها النقد لها، ولم تتحقق السياسة البريطانية بشأن جعله فردا عاديا، اذ عده سكان سيلان وما يجاورها رمزا للوطنية ومدافعا عن الاسلام، خاصة اذا وضعنا فى الاعتبار ما كان يردده بشأن نسبه الشريف، وكثرة توافد الزوار على بيته، لدرجة ان مسلمى الهند كانوا يمرون عليه اثناء رحلتهم للحج، كذلك تدفقت المراسلات عليه من بعض بلدان جنوب شرق آسيا، وحملت بين طياتها التقدير والاعتزاز بشخصه. 
وعانى عرابى فى المنفى سواء من الضيق المالى رغم حصوله على معاش اكبر من رفاقه ام لما حدث من مشاحنات بينهم، وقد حاول ان ينزوى عنهم خاصة بعد زواجه، وان يتفرغ لإعطاء الدروس ذات الطابع الديني. ولما كانت الرغبة تلح عليه فى العودة الى مصر، جاء التودد والتظلم للمسئولين الانجليز بغية طلب العفو والمغفرة، وبعد محاولات مضنية صدر الأمر الخديوى فى 24 مايو 1901 بعودة عرابى واحد رفاقه الى مصر، وحينما أذيع الخبر فى الجزيرة، أقيمت له الاحتفالات التى عبرت عن حب السيلانيين له، كما ودعوه وداعا شعبيا. 

ومن المسلم به ان سنوات الغربة قد تركت آثارها السيئة فى نفسية عرابي، بالإضافة الى تلك الرواسب التى ارتبطت بهزيمة الثورة مما أثر على شخصيته، ففى نهاية رحلة عودته، وعندما وصل الى السويس كانت تصريحاته التى أدلى بها لصحيفة المقطم، وأشاد فيها ببريطانيا الأداة التى عرضته للنقد وسببت له المتاعب، ورغم ذلك فقد استقبله عدد من الجمهور حين دخوله الى القاهرة فى 30 سبتمبر 1901. وصدرت التعليمات برصد تحركاته، ويسجل احد التقارير الانجليزية انه منذ عودته لم يخل بيته من الزوار، وخاصة الفلاحين وبعضا من الطبقة الوسطى والباشوات، وأنه عندما يذهب ليؤدى الصلاة فى مسجد السيدة زينب يمتلئ عن آخره وان الكثيرين يحضرون لتحيته ويقبلون يده. ولكن لم يستمر هذا الأمر طويلا اذا اثمرت حملات صحافة القصر والحزب الوطني، وذلك بعد أن وجهت له الاتهامات بأنه السبب فى الاحتلال الانجليزى لمصر، وتمكنت وبسرعة من العمل على انفضاض الناس من حوله. وعاش ما تبقى من عمره وحيدا يستجدى الخديوى وحكومته تارة، والملك الانجليزى وحكومته تارة اخرى من اجل منحه حقوقه المدنية ورد املاكه ورفع معاشه، ولكن لم يستجب لأى من مطالبه. وما لبثت ان وافته المنية فى 21 سبتمبر 1911، وكان وداعه لمثواه الأخير محدودا ومتواضعا. ومما يحسب لثورة 23 يوليو 1952 انها عندما صادرت املاك اسرة محمد علي، أعادت املاك عرابى لورثته.