‏إظهار الرسائل ذات التسميات الأهرام. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الأهرام. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 7 أكتوبر 2021

42 كتاب كيسنجر أكد هزيمة إسرائيل في حرب أكتوبر

42

كتاب كيسنجر أكد هزيمة إسرائيل في حرب أكتوبر

واشنطن: خالد داوود

الأهرام الأحد 23 نوفمبر 2003م - 29 رمضان 1424هـ


رغم أنه مضي ثلاثون عاما وتغيرت العديد من الإدارات منذ انتهاء حرب أكتوبر فلا تزال الخطوط العريضة للسياسة الأمريكية منذ ذلك الوقت قائمة دون تغيير: اعتبار أن القرارات الدولية مثل 242 و338 مبادئ عامة يجري تنفيذها فقط من خلال المفاوضات المباشرة مع رفض الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 لأن المنتصر لا بد أن يحقق بعض المكاسب ولكن الأهم من هذا وكما قال كيسنجر في خطابه في حفل تأبين رابين - ضمان اعتراف العرب "بحق" إسرائيل في الوجود وعدم اعتبار المفاوضات خطوة أولي نحو السعي لتدميرها. وبسبب "الطبيعة الخاصة" للشعب اليهودي وشعوره التاريخي بالاضطهاد والخشية من الفناء رأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة أنه لا بد من التعامل مع إسرائيل برفق وتفهم وعدم إجبارها علي قبول ما تري أنه يضر بأمنها.

وعندما تقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك باقتراحات قال الإسرائيليون إنها كانت "الأكثر كرمًا" في التاريخ لتسوية الصراع مع الفلسطينيين أثناء مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات كان الشرط الأساسي مقابل ما قدمته من تعهدات هو موافقة الجانب الفلسطيني علي التوقيع علي وثيقة يعلنون بمقتضاها إنهاء الصراع والاعتراف "بحق" إسرائيل في الوجود "كدولة يهودية". كم غريب هو أن يطالب الإسرائيليون العرب بأن يصبحوا هم أيضا صهاينة فيؤمنوا بادعاءاتهم حول أن الحل النهائي لمأساة اليهود عبر تاريخهم هو إنشاء دولة خاصة بهم في أرض فلسطين (هذا هو تعريف الصهيونية وفقا للكتب الرسمية الإسرائيلية.).

لو كان اليهود قد قرروا أن الحل الوحيد لاضطهادهم التاريخي هو إنشاء دولة في روسيا أو ألمانيا أو بولندا أي المناطق التي تعرضوا فيها بالفعل لمذابح وممارسات يخجل منها التاريخ البشري لكان من الممكن تصور أن يتعاطف العرب مع معاناتهم كقضية نظرية تتساوي مع مساندتنا لأي أقلية تتعرض لاضطهاد في أماكن تبعد عنا آلاف الأميال وأن نقول مثلا بأننا نؤمن بحق اليهود في روسيا في دولة مستقلة. ولكن أن يأتوا إلي قلب المنطقة العربية بعد اضطهادهم في أوربا ليستولوا علي قطعة غالية من أرضها ويفرضون نظاما أسوأ من الحكم العنصري علي الفلسطينيين ثم يطالبوننا أن نؤيدهم في ذلك "الحق" التاريخي فلا شك أن هذا عبث وجنون ولكن ليس من وجهة نظر السيد كيسنجر والمؤمنين بإسرائيل في الولايات المتحدة.

ومثلما يكشف كتاب "الأزمة" عن جهود كيسنجر ومناوراته المتواصلة للدفاع عن إسرائيل وضمان تفوقها فإنه يعكس أيضا مدي روعة النصر الهائل الذي حققه المصريون والسوريون والعرب جميعا خلال هذه الحرب المجيدة والفاصلة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي بكل تأكيد.

كنت في السادسة من العمر عندما اندلعت حرب أكتوبر ومثل أبناء جيلي الذي يقترب الآن من العقد الرابع ومن لحقنا من أجيال لا نفهم حقيقة ما جري في أكتوبر 1973 وأهمية هذا الحدث. وفي الوقت الذي تبدو فيه الأوضاع العربية شديدة التردي ويتعرض الفلسطينيون لمذابح يومية وتحتل القوات الأمريكية العراق فإنه يمكن للأجيال الحالية أن تنظر إلي حرب أكتوبر علي أنها نموذج قريب لما يمكن أنه ينجم عنه التخطيط الدقيق والتعاون والتنسيق الحقيقي بين الدول العربية وكذلك القيادة الحازمة التي تعرف حدودها جيدا وتعمل من أجل تحقيق هدف واضح.

يختلف الكثيرون علي الرئيس السادات وسجله ولكن من يقرأ كتاب كيسنجر يدرك جيدا مدي شجاعة ذلك الرجل في اتخاذ قرار الحرب شديد الصعوبة. فالحرب حينذاك لم تكن مجرد مغامرة بمستقبله الشخصي بل كذلك مغامرة بمستقبل أمة بأكملها كان من الواضح أنها فقدت إلي حد كبير شعورها بالثقة ويعتصرها إحساس بالإهانة. وبعد الهزيمة الكاسحة التي لحقت بالدول العربية في 1967 فلقد كان احتمال وقوع هزيمة مماثلة بمثل تلك النتائج الكارثية يكفي بمفرده لتردد أي قائد في اتخاذ قرار جديد بالحرب. وبسبب هزيمة67 يتضح من محادثات كيسنجر في الأيام الأولي للحرب مدي ثقته المفرطة في أن الأمر برمته سينتهي بهزيمة ماحقة للعرب خلال يومين أو ثلاثة. وعندما كشف له السفير الإسرائيلي دينيتز في التاسع من أكتوبر حقيقة الموقف وأن حليفته المدللة إسرائيل قد عانت من خسائر فادحة برر كيسنجر ذلك بأن إسرائيل حاربت في 1973 وفقا لعقلية 1967 وبالتالي ساهم غرورها واستهانتها بقدرات الجانب العربي في خسارتها. ولم يكن كيسنجر والإسرائيليون يستبعدون فقط احتمال انتصار المصريين في أي حرب ولكنهم لم يكونوا يتوقعون اندلاعها من الأساس وذلك بزعم إدراك الرئيس السادات بأنه لن يتمكن من الانتصار في مواجهة إسرائيل القوية.

ولم يكن علي الرئيس السادات فقط تجاوز ذلك الشعور الحقيقي بالخشية من هزيمة جديدة بل كان عليه أن يدير الحرب أيضا في ظروف دولية صعبة للغاية ترتبط بظروف الحرب الباردة بين القوتين العظمتين. ولا شك أن الرئيس السادات كان يدرك جيدا أن الولايات المتحدة ستسرع لنجدة إسرائيل ولكن هدفه منذ البداية كان تحريك قضية الشرق الأوسط بعد أن بدا أنها دخلت مرحلة طويلة من الجمود. وكما يتضح من الوثائق الأمريكية الرسمية التي تم الكشف عنها مؤخرا بمناسبة حرب أكتوبر (والتي سيصدرها الأهرام كاملة قريبا في كتاب) فلم يكن لدي كيسنجر المسئول عن صياغة سياسة أمريكا الخارجية في ذلك الوقت النية في القيام بأي تحرك حقيقي لتسوية الصراع العربي - الإسرائيلي والاستجابة لمطلب العرب الأساسي وهو انسحاب إسرائيل من الأراضي التي تم احتلالها عام 1967. فقد كان منشغلا للغاية في قضايا دولية أخري كثيرة وعلي رأسها بالطبع سياسة الوفاق مع السوفيت وحرب فيتنام والعلاقات مع الصين. وبالتالي أدرك الرئيس السادات أنه لم يكن أمامه من خيار سوي الحرب لاستعادة الاهتمام بملف الشرق الأوسط ولكن بشرط أن يتمكن من تحقيق انتصار يحسن من موقف العرب التفاوضي. كما استغل الرئيس السادات ظروف الحرب الباردة لمصلحة القضية العربية وكان دور المواجهة القائمة في ذلك الوقت بين أمريكا والاتحاد السوفيتي حاسما في تحديد مسار حرب أكتوبر ونهايتها.

ورغم مرور ثلاثون عاما علي حرب أكتوبر فما زال الجدل يدور حول الحكم النهائي علي نتيجة هذه الحرب وهل انتهت بانتصار مصر أم إسرائيل. ويأتي كتاب كيسنجر ليعطي الرد النهائي علي هذا الجدل الطويل. "لو لم نكن قد أقمنا الجسر الجوي لكانت إسرائيل قد ماتت بحلول الوقت الحالي" كانت هذه شهادة كيسنجر يوم السابع عشر من أكتوبر أي بعد ثلاثة أيام من البدء في الجسر الجوي الأمريكي بكامل قوته. فذلك الجسر الجوي لم يكن أمرا عاديا أو مسبوقا حتي داخل الإدارة الأمريكية نفسها. فوزارة الدفاع والعسكريون في البنتاجون لم يكونوا يعارضون فقط اقامة الجسر الجوي خشية تأثير ذلك علي العلاقات مع العالم العربي بل كذلك لأنه قد يضر بالمخزون الأمريكي نفسه في إطار التزاماتها العسكرية التي كانت قائمة في ذلك الوقت خصوصا في جنوب شرق آسيا. ولم يكتف كيسنجر بالإصرار علي البدء في جسر جوي فقط ولكنه طلب إقامة جسر بحري كذلك ليحمل آلاف الأطنان من المعدات الثقيلة وليتواصل الجسران حتي بعد أن كان قد أتفق شخصيا مع الرئيس السوفيتي السابق ليونيد بريجينيف علي قرار لوقف إطلاق النار. فكيسنجر لم يكن يريد فقط ضمان تعويض إسرائيل عن كل الخسائر التي لحقت بها في حرب أكتوبر (وهي كثيرة للغاية) بل تزويدها كذلك بمخزون ضخم من الأسلحة لضمان تفوقها وعدم تعرضها لهزيمة مماثلة في حالة تجدد القتال. وهذا الإصرار علي استمرار تدفق الأسلحة رغم إصدار مجلس الأمن لثلاث قرارات (339 و338 و340) تدعو لوقف إطلاق النار قام هو شخصيا بصياغتها لم يغضب فقط حلفاء الولايات المتحدة في أوربا بما في ذلك ألمانيا الغربية التي قررت منع السفن الأمريكية المحملة بالدبابات من الإبحار من موانئها بل كذلك المسئولين في وزارة الدفاع الأمريكية الذين بدأوا يسربون للصحف الأمريكية قرب اتخاذ قرار بوقف الجسر الجوي وهو ما أغضب كيسنجر بشدة.

وبجانب دوره المحوري في استمرار تدفق الجسر الجوي والبحري فلقد كانت استراتيجية كيسنجر منذ أن أدرك هزيمة إسرائيل في بداية الحرب هي ضمان استمرار القتال لأطول فترة ممكنة بعد البدء في الجسر الجوي وذلك لكي تتمكن من تعويض خسائرها وتحسين موقفها في أي مفاوضات ستعقب وقف إطلاق النار. وعندما طالب السوفيت بعد نحو أسبوع من اندلاع الحرب بتمرير قرار في مجلس الأمن يدعو لوقف إطلاق النار (وكان الموقف حينذاك لصالح مصر بالتأكيد) كان كيسنجر هو الذي تعمد تعطيله حتي تتمكن إسرائيل من تحسين موقفها العسكري. وفي إطار نفس السياسة القائمة علي كسب الوقت لصالح إسرائيل جاءت مؤامرة كيسنجر الكبرى (وهي بالفعل مؤامرة) بإعطائه الضوء الأخضر لرئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير لمواصلة الهجوم علي الجيش الثالث وتوسيع الثغرة التي نجحوا في فتحها علي الضفة الشرقية للقناة بعد صدور قرار رسمي بوقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر. وعلي مدي خمسة أيام كاملة قامت فيها إسرائيل بمحاصرة الجيش الثالث ومنع حتي الإمدادات الغذائية والمياه والأدوية من الدخول لجنوده وهي الإجراءات التي وصفها وزير الدفاع الأمريكي في ذلك الوقت شليزنجر بأنها كانت إجرامية كان كيسنجر يقاوم بشراسة اتخاذ قرار أمريكي لإلزام إسرائيل فورا بالتوقف عن القتال رغم إدراكه الكامل أنها هي التي كانت تقوم بخرق وقف إطلاق النار أو بوقف الجسر الجوي. ولكن بعد أن أتضح له أنه لم يعد من الممكن مقاومة هذه الضغوط الداخلية والدولية والتي تضمنت تهديدا من السوفيت باتخاذ إجراءات منفردة اضطر كيسنجر وبصعوبة شديدة أن يبلغ مائير أنه لم يعد يوجد أمامها بديل سوي التخفيف من حصار الجيش الثالث والالتزام بوقف إطلاق النار.

كيسنجر الموالي لإسرائيل والذي كان يري في هزيمتها هزيمة للولايات المتحدة نفسها يصعب عليه بالطبع الإقرار صراحة بانتصار مصر في تلك الحرب بل أنه في حديثه مع مائير في 22 أكتوبر يستغرب معها تصميم السادات علي أنه حقق انتصارا. ولكن الحقيقة مرة أخري تكشفها مكالمات كيسنجر نفسه والتي أوردها في كتابه. ففي مكالمة أجراها مع الرئيس نيكسون قبل قيامه بالاجتماع مع أربعة وزراء خارجية عرب يوم 17 أكتوبر أقر كيسنجر بأن "الوضع قد تغير استراتيجيا" بعد الحرب "ولم يعد بإمكان دولة واحدة ادعاء التفوق في المنطقة". عندها يرد نيكسون: "بمعني آخر وبشكل أساسي إن إسرائيل لم يكن بإمكانها ادعاء التفوق. "كيسنجر المؤمن بإسرائيل والذي أدهشته الصراحة المباشرة في رد نيكسون قال: "صحيح وإن كنت لا أنصح صياغة الأمر بهذه الطريقة" وذلك لكي لا يشعر العرب بالنشوة من النصر الذي تحقق. وحتي في تبريره لرفض إسرائيل الالتزام بوقف إطلاق النار ومواصلة هجومها علي الجيش الثالث يقول كيسنجر أنه كان يتفهم مدي شعور الإسرائيليين بالغضب مما لحق بهم من إهانة في بداية الحرب وبالتالي تحكمت فيهم رغبة في الانتقام من مصر ولكن هذا الإصرار كان من شأنه التهديد بمواجهة نووية مع الاتحاد السوفيتي. وعند هذه النقطة يتذكر كيسنجر آسفا أن وظيفته الأساسية كانت وزير خارجية الولايات المتحدة وليس طبيبا نفسيا لإسرائيل واضطر إلي مطالبة مائير بوقف القتال.

الانتصار الذي حققته مصر كان في كسر غرور إسرائيل وشعورها بالمناعة وعدم قدرة العرب جميعا علي المس بها. ولولا هذه الحرب وهذه الهزيمة التي لحقت بها لما كانت قد تقدمت خطوة واحدة ولو لمجرد التفكير في الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967. فالسادات وكافة القادة العسكريين المصريين خططوا ليس لتحرير سيناء بالكامل عن طريق الحرب لأننا ببساطة لم نكن نملك الإمكانيات أو الأسلحة اللازمة للقيام بذلك. ولكن الهدف كان تحريك الموقف وتحقيق أكبر قدر من المكاسب بعد تحطيم أسطورة إسرائيل التي لا تقهر. ومن هذا المنطق فلقد حقق السادات غرضه الأساسي. أما تطورات الحرب اللاحقة بما في ذلك تمكن إسرائيل من العبور إلي الضفة الشرقية للقناة ومحاصرة الجيش الثالث فلقد أضحت تفاصيل معركة حربية كان السادات يدرك جيدا أن ظروف الحرب الباردة ستؤدي إلي وقفها والخروج منها بموقف أفضل مما كان عليه الحال قبل 6 أكتوبر 1973 وهو ما حدث بالفعل. وبعد أن كان كيسنجر يصر في بداية الحرب علي ضرورة عودة القوات المصرية إلي مواقعها قبل بدء القتال فلقد أقر مع نهاية الحرب أن هذا المطلب سخيف وأن مصر والسادات لن يقوما أبدا بالانسحاب ولو من سنتيمتر واحد من أراض مصرية نجح الجنود المصريون البواسل في تحريرها. وفي مواجهة رغبة إسرائيل الدموية لتحطيم الجيش الثالث أخبر كيسنجر الإسرائيليين صراحة أن السادات لن يوافق أبدا علي استسلام جنوده وأنهم سيواصلون القتال رغم كل الظروف. كما ذكرهم بأنه من غير المعقول الموافقة علي مواصلة إسرائيل الهجوم علي الجنود المصريين بعد الاتفاق علي وقف إطلاق النار. وفي كلا الموقفين كانت مصر تحظي بتأييد رأي عام عالمي كاسح بما في ذلك في أوروبا وحتي داخل بعض قطاعات الإدارة الأمريكية. أما ادعاءات إسرائيل بأن قواتها كانت علي بعد عشرات الكيلومترات من القاهرة أو دمشق فقد يكون ذلك صحيحا. ولكن الإسرائيليين الذين آلمتهم هزيمتهم كانوا يدركون جيدا أنهم لم يكونوا قادرين علي الإقدام علي الاقتراب من هذه العواصم الأبية ليس فقط لعدم إمكان هذه الدولة الصغيرة السيطرة علي شعوب لو تقدموا نحوها لأكلوهم أحياء ولكن أيضا لأن إقدام إسرائيل علي هذه الخطوة كان سيعني ببساطة حربا نووية بين الولايات المتحدة والسوفيت. ولم يكن السوفيت وحتي الولايات المتحدة نفسها ليسمحا لإسرائيل باحتلال المزيد من الأراضي العربية في إطار الظروف الدولية التي كانت قائمة في ذلك الوقت.

ومثلما كان قرار الحرب هاما وفاصلا فلقد كان قرار الدول العربية النفطية بتخفيض انتاجها تدريجيا وفرض مقاطعة علي الدول التي تساند إسرائيل وعلي رأسها الولايات المتحدة بنفس درجة الأهمية. وللمرة الثانية يستبعد كيسنجر أن يكون لدي العرب الشجاعة لاتخاذ مثل هذا القرار ويدلل علي ذلك بموقف وزير الخارجية السعودي السابق عمر السقاف الذي بدا "لطيفا للغاية" وأشاد بقدراته الشخصية الفائقة بقوله أن من استطاع حل أزمة فيتنام يستطيع بالتأكيد التوصل لتسوية في الشرق الأوسط. ولكن العرب قاموا باستخدام سلاح النفط للمرة الأولي في تاريخهم وكانت النقطة الأساسية هي أن يؤكدوا للعالم أنه لا يجوز الاستهانة بمطالبهم وأنهم سيستخدمون الأسلحة الفاعلة التي يملكونها للضغط من أجل تحقيق أهدافهم. وقد يكون كيسنجر مولعا ومؤمنا بإسرائيل ولكن ليس باستطاعة العالم بأكمله التضحية بمصالحه الحيوية لدعمها في مواقف تخالف قرارات الشرعية الدولية.

السفير الإسرائيلي في واشنطن عندما قدم كيسنجر في حفل تأبين رابين قال إن كتبه تعتبر نصوصا يدرسها الباحثون والمهتمون بالسياسة الخارجية. وكتاب "الأزمة" نص مهم بالفعل لا يكشف فقط عن العديد من الحقائق الهامة المتعلقة بحرب أكتوبر المجيدة ولكنه أيضا مدخل لفهم دهاليز السياسة الأمريكية بكل تعقيداتها (بما في ذلك افتعال أزمات دولية لدرجة رفع حالة الاستعداد النووي للتغطية علي مشاكل داخلية مثل فضيحة وترجيت) ومدي تغلغل ونفوذ "المؤمنين" بإسرائيل سواء في الإدارة أو الكونجرس ودورهم في تحديد سياسة القوة العظمي الوحيدة في العالم الآن نحو الصراع العربي - الإسرائيلي. كما أنه وأخيرا دليل دامغ علي النصر المهم الذي حققته مصر والعرب في هذه الحرب التي جاءت تتويجا لجهد شاق وتخطيط مضني قام به قادة مصر علي مدي ست سنوات ونفذه جنودها البواسل.


انتهي عرض الكتاب


41 على سبيل المزاح.. طلبت من جولدا مائير لقاء السادات عند الكيلو 111 ونصف!

41

على سبيل المزاح.. طلبت من جولدا مائير لقاء السادات عند الكيلو 111 ونصف!

واشنطن: خالد داوود

الأهرام السبت 22 نوفمبر 2003م - 28 رمضان 1424هـ


في الساعة 1.55 بعد الظهر يجري اتصال بين كيسنجر والسفير الاسرائيلي سيمحا دينيتز الذي ينفي منع دخول مراقبي الأمم المتحدة إلي السويس ويقول أنهم وصلوا في ساعة متأخرة وطلبوا البقاء عند مدخل المدينة حتي الصباح. وأضاف "إنني أطلعك علي آخر المعلومات من ديان. هناك اتفاق والكل هناك سعيد. لا يوجد قتال الآن." وفيما يتعلق بالقافلة والاجتماع يبلغ دينيتز كيسنجر بموافقة الحكومة الإسرائيلية "رغم كل المصاعب" علي عقد الاجتماع في نفس المكان وأنه تم التنسيق مع مراقبي الأمم المتحدة الذين قاموا بدورهم بالتنسيق مع المصريين لكي يتم عقد الاجتماع عند منتصف الليل. وفيما يتعلق بالقافلة قال أنه سيتم السماح لها بالدخول إلي السويس بشرط أن يتولي قيادة الشاحنات سائقون تابعون للأمم المتحدة أو إسرائيليون وليسو مصريين وذلك بزعم إن إسرائيل لديها معلومات أن مصر سترسل رجال مخابرات في هيئة سائقين للاطلاع علي الموقف ومواقع القوات والدبابات الإسرائيلية "بعد التقدم لنحو سبعين كلم داخل أراضينا" (سريعًا اعتبر ديان الجزء الذي احتلته إسرائيل علي الضفة الشرقية جزءًا من الأراضي الإسرائيلية - الأهرام.) ويناشده كيسنجر عدم القيام بأية ألاعيب وألا يكون ذلك المطلب الأخير الخاص بالسائقين محاولة للتعطيل لأن ذلك سيكون أمرًا غير مقبول. كما يزعم دينيتز بأن الجيش الثالث يقوم بمواصلة محاولة بناء الجسور علي مدي اليوم وإطلاق النار علي الجنود الإسرائيليين ويطلب من كيسنجر أن يطلب من مصر الالتزام الكامل بوقف إطلاق النار.

في الساعة 2.10 بعد الظهر يعود كيسنجر للاتصال بشليزنجر ليبلغه بتفاصيل الاتفاق مع إسرائيل وأنه تم تحديد منتصف الليل كموعد نهائي للقاء. ويهنئه وزير الدفاع على ذلك ويطلب منه أن ينسب الفضل في التوصل لذلك الاتفاق إلى الرئيس نيكسون لأنه يحتاج مثل هذا النوع من الدعم وسط مشاكله الداخلية. (ومن المعروف أن كيسنجر كان يقوم بنسبة كافة القرارات المهمة إليه وهو ما قد يكون صحيحًا إلى حد ما في تلك الفترة حيث كان الرئيس نيكسون غارقًا في توابع أزمة ووتر جيت.)

وفى الساعة 2.40 بعد الظهر يتصل كيسنجر بدينيتز ليبلغه بموافقة مصر على أن يقوم سائقون تابعون للأمم المتحدة بقيادة الشاحنات وأنهم يرغبون في دخول السويس عند منتصف الليل. ويعرب دينيتز عن رأيه أن الأمم تسير على ما يرام.

وفى الساعة 3.05 بعد الظهر تجرى المكالمة الأخيرة التي يشير لها كيسنجر في كتابه وكانت مع دينيتز الذى أبلغه رسالة مع مائير توكد فيها مجددًا أن قوة الأمم المتحدة هي التي اختارت طوعًا عدم الدخول إلى مدينة السويس في المساء بسبب المخاطر هناك وأن عددهم زاد من خمسين إلى 250. وأضاف أنه سيتم السماح لهم بدخول المدينة ولكن دون تقديم مساعدة لهم بزعم أن إسرائيل ترفض تحمل مسئوليتهم. كما تم التأكيد على الاتفاق الخاص بسائقى الشاحنات وأن يكونوا تابعين للأمم المتحدة وكذلك قيام مصر بإصدار أوامر جديدة تدعو إلى الالتزام بوقف إطلاق النار.

ويحاول دينيتز إضفاء جو من المرح على المحادثة ويقول لكيسنجر إن مائئر طلبت أن ينقل له المزحة التالية:

د: رئيسة الوزراء تريد اللقاء بالسادات في الساعة 3.30 من مساء اليوم عند الكيلو 111 ونصف. وإذا وصلتك رسالة إيجابية من السادات.. وهى تتفهم مهمتك المستحيلة في معرفة الحقيقة عندما تقنعه بالإجابة.

ك: أنا سعيد أنه ما زال لديها روح دعابة.

د: نعم لقد كنت على وشك أن أفقد هذه الروح.

ك: أن متأكد أن الأمور ستسير على ما يرام.

ك: لقد انتهينا من أسوأ يوم.

"وأخيرًا في الساعة الواحدة والنصف بالتوقيت المحلى من صباح الأحد 28 أكتوبر وبعد تأخير نحو ساعة ونصف الساعة عن الموعد المقرر التقى ممثلون عسكريون مصريون وإسرائيليون في مباحثات مباشرة للمرة الأولى خلال 24 عامًا تحت رعاية الأمم المتحدة".

"وفى صباح الاثنين 29 أكتوبر أبلغ كيسنجر حافظ إسماعيل بوصول القافلة إلى مدينة السويس "ووافقت مصر على عقد المزيد من الاجتماعات مع إسرائيل للتوصل إلى تسوية بشأن أمور أكثر أهمية. وبينما بقيت هذه الأمور دون حل حاسم فلقد بدأ التحول نحو المفاوضات وبات من الصعب التراجع عنها. وانتهت هذه المحادثات باتفاقية فض الاشتباك الأولى بين مصر وإسرائيل في يناير 1974 ولحقها اتفاق سياسى في سبتمبر 1975 ثم معاهدة سلام في 1979 والتي مازالت نافذة حتى وقت كتابة هذه الكلمات".

***

في شهر مايو الماضى احتفل وزير الخارجية ومستشار الأمن القومى السابق هنرى كيسنجر بعيد ميلاده الثمانين. ورغم أنه خرج رسميًا من الحكومة الأمريكية عام 1977 فهناك إجماع على أنه ما زال شخصية قوية ومؤثرة حتى وقتنا هذا من خلال مكتبه للاستشارات الدولية "كيسنجر آسوشيتز Kissinger Associates" في مدينة نيويورك. فكيسنجر يتمتع بعلاقات دولية نافذة عبر المحيطات واتصالات وثيقة بمراكز صنع القرار في واشنطن بحكم الانتماء لناد واحد هو نادى السياسيين الأمريكيين الذى يسميه البعض هنا بـ "الحكومة الدائمة".

ومنذ وصول الرئيس الحالي جورج بوش إلى البيت الأبيض عام 2001 كان كيسنجر من بين مستشاريه المقربين الذين يستعين بنصائحهم في قضايا السياسة الخارجية. وأثارت هذه العلاقة زوبعة في نهاية العام الماضى بعد أن قرر بوش تعيينه ليرأس لجنة مستقلة للتحقيق في أوجه القصور التي أدت لوقوع هجمات الحادى عشر من سبتمبر. القرار كان بمثابة الصدمة للرأي العام الأمريكي ولغالبية أسر الضحايا الذين يرغبون قبل كل شيء في معرفة حقيقة ما حدث ومن المسئول الذى يمكن توجيه اللوم له للفشل في إحباط مقتل 2700 شخص. فكيسنجر والحقيقة بشكلها المثالى لا يجتمعان إلى حد ما ولا يمكن لهما أن يكونا وجهين لعملة واحدة. فالرجل نموذج للسياسى المحنك الذى اعتمد طوال مسيرته السياسية المبدأ الأكر بدائية في إدارة أي صراع وهو أن الغاية تبرر الوسيلة بغض النظر عن أي أبعاد أخلاقية أو قانونية. وأحد أقواله المأثورة: "الأشياء غير القانونية نقوم بها على الفور. أما الأمور غير الدستورية فتستغرق وقتًا أطول". ومثلما ينظر البعض في العالم إلى كيسنجر كنموذج يحتذى للسياسى العبقرى فهناك كثيرون في أمريكا يرون أنه يستحق معاملة "مجرمى الحرب" وذلك لدوره في بعض أسوأ المذابح والحروب التي شهدتها دول جنوب شرق آسيا وتحديدًا في فيتنام وكمبوديا ولاوس وكذلك في بنجلاديش وتيمور الشرقية. وكيسنجر متهم كذلك بوقوفه وراء بعض أسوأ أعمال العنف والانقلابات الدموية التي قادها عسكريون في أمريكا اللاتينية وعلى رأسها بالطبع الإطاحة بالرئيس المنتخب لتشيلى سلفادور الليندى على يد الجنرال بينوشيه والذى ما زال ضحاياه يتعقبونه لمحاكمته حتى اليوم كمجرم حرب. وعندما قرر كيسنجر الاعتذار عن قبول مهمة رئاسة لجنة 11 سبتمبر لم يكن استجابة لحملة الانتقادات التي تجددت ضده في الصحف الأمريكية والتي أعادت التذكير بماضيه المثير للجدل ولكن لأنه رفض لكشف عن قائمة الدول والجهات التي يتعامل معها ويخدم مصالحها في إطار شركة الاستشارات الخاصة التي يديرها بناء على طلب أسر الضحايا الذين أرادوا ضمان نزاهة التحقيق.

ولكن بالنسبة لمؤيدى كيسنجر فهو الأكاديمى الخبير في العلاقات الدولية والذى أتى من ألمانيا مهاجرًا وهو طفل في الخامسة عشرة في أوج اضطهاد اليهود هناك عام 1938 وهو الذى أنقذ الولايات المتحدة خطر المواجهة النووية مع الاتحاد السوفيتى القوة العظمى المنافسة في ذلك الوقت. وكما بدأ ودفع كيسنجر الولايات المتحدة للحرب مع فيتنام عام 1968 في إطار المواجهة الأوسع مع موسكو فلقد كان هو أيضًا الذى عمل على إنهائها مما أهله للحصول على جائزة نوبل للسلام بينما هو منشغل في حل الموقف المتفجر في الشرق الأوسط بعد اندلاع حرب أكتوبر. وكذلك فإن كيسنجر هو صاحب سياسة الانفتاح على الصين وزياراته التاريخية لبكين هي التي مهدت الطريق أمام تحسين العلاقات بين البلدين. وبالتالي اكتسب سمعة دولية في ذلك الوقت بأنه هو الوحيد القادر على حل الأزمات العالمية وأصبح إعلان تدخله لتسوية صراع ما إيذانًا بأنه على وشك الحل على يد الساحر كيسنجر. فالإنجازات التي حققها كانت تبدو مستحيلة ومستعصية على الحل في زمن الحرب الباردة والتي كانت حربًا فعلية بين القوتين العظميين استخدمت فيها كل الوسائل العلنية والسرية وراح ضحيتها الملايين. ولكن الضحايا لم يكونوا أمريكيين أو روس حيث أن المواجهة المباشرة بين العملاقين في ذلك الوقت كانت تعنى استخدام أسلحة نووية بل كانت الضحايا أبناء الشعوب الأخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية الذين دفعوا ثمن المنافسة بين القوتين لتوسيع نفوذهما وإمبراطوريتها الخاصة.

وكيسنجر بذكائه ونفوذه وطموحه الواسع كان محرك سياسة الولايات المتحدة في واحدة من أهم مراحل المواجهة مع الاتحاد السوفيتى. ودفعه طموحه لعدم الاكتفاء بمنصب مستشار الرئيس ريتشارد نيكسون لشون الأمن القومى بل ناور وحارب لأعوام حتى تمكن كذلك أن يستولى على منصب وزير الخارجية الذى مثل طموحًا شخصيًا له بصفته خبيرًا في الشئون الدولية. وكان هدفه الأول والمعلن في كل الأزمات التي خاضها هو تقليص نفوذ "العدو الشيوعى" وبروز الولايات المتحدة كأكبر قومة مهيمنة على العالم. وإذا كان هذا هو الدافع الأساسى وراء السياسات التي صاغها في ذلك الوقت فإن الأمر يكتسب بُعدًا آخر عندما يكون متعلقًا بالشرق الأوسط وإسرائيل. فكيسنجر يهودى أمريكى لا يخفى تعاطفه الكامل وإيمانه بإسرائيل مثل العديد من السياسيين الأمريكيين أعضاء "الحكومة الدائمة" وبغض النظر عن ديانتهم. فالكثير من اليهود الأمريكيين المؤمنين بإسرائيل كنبوءة توراتية تغلغلوا داخل كافة مؤسسات صنع القرار الأمريكي منذ عقود حتى أصبح النظر لإسرائيل كحليف استراتيجى لابد من حمايته ولا يمكن التخلي عنه هو أحد أركان السياسة الخارجية الأمريكية في التعامل مع الشرق الأوسط. وإذا كان هناك من انقسام في صفوف الإدارات الأمريكية المختلفة حول هذه القضية فهو حول درجة دعم إسرائيل في مواجهة العرب بطريقة لا تؤدى إلى خسارتهم تمامًا مع التمسك التام بحماية أمن إسرائيل. أما احتمال التفكير أو الإشارة أو التلميح بالتخلى عن التأييد الكامل لإسرائيل فهو من المحظورات السياسية هنا في الولايات المتحدة. (ويكفى على سبيل المثال للتدليل على ذلك ما تعر له هوارد دين أحد مرشحى الحزب الديمقراطى للتنافس على منصب الرئاسة العام القادم عندما قال قبل شهرين أن الولايات المتحدة يجب أن تتبنى سياسة "منصفة" تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. تعرض دين لنقد قاس وكأن أول من هاجمه زملاءه في الحزب الديمقراطى وعلى رأسهم السناتور جو ليبرمان الذى أصر على أن "الانحياز" إلى إسرائيل "هو ركن من أركان السياسة الخارجية الأمريكية".)

ومن نفس هذا المنطلق أدار كيسنجر الأزمة التي واجهها بعد اندلاع حرب 6 أكتوبر. فمن ناحية كان يزعم أمام بقية أقطاب الإدارة أن هدفه الأساسى وراء مساندة إسرائيل المطلقة من خلال جسر جوى غير مسبوق في التاريخ بلغ هبوط طائرة أمريكية مقاتلة في مطار تل أبيب كل 15 دقيقة هو عدم السماح بهزيمة دولة حليفة للولايات المتحدة أمام العرب الذين يدعمهم السوفيت في إطار الحرب الباردة. ولكنه كان يلقى مقاومة من آخرين في الإدارة ممن كانوا يتفقون معه على وجوب مساعدة إسرائيل ولكنهم كانوا يدركون أن انحياز كيسنجر العاطفى والمطلق لها قد يؤدى في النهاية إلى الإضرار بمصالح الولايات المتحدة نفسها.

وفى خطاب ألقاه كيسنجر مؤخرًا في مقر السفارة الإسرائيلية في واشنطن بمناسبة حضوره حفل تأبين لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين أكد الرجل الذى أدار سياسة أمريكا تجاه الشرق الأوسط إبان حرب أكتوبر 1973 ومهد للتحول التاريخيى في علاقة مصر بالولايات المتحدة واستمرار ولائه الكامل والمطلق لإسرائيل بل ومساندته لحكومة رئيس الوزراء الحالي إيريل شارون. ففي قاعة اكتظت بكبار المسئولين في إدارة بش وقيادات الكونجرس وضع كيسنجر مساندة الولايات المتحدة لإسرائيل في إطار تأييد "قضية شعب يعيش في بيئة معادية ووسط جيران يرفضون الاعتراف حتى بوجوده". وبالنسبة له فإن وجود إسرائيل مثل "نهاية للعذاب والاضطهاد الذى عانى منه اليهود على مدى تاريخهم الطويل". (أي أن السيد كيسنجر مؤمن بوجود إسرائيل مثله في ذلك مثل عتاة الصهاينة). وأضاف أن رابين اتخذ "مخاطرة كبيرة" ببدء مسيرة السلام "لأن التنازلات التي كان سيقدمها الطرف الآخر (العرب والفلسطينيين) تكاد تكون رمزية (78 في المائة من أرض فلسطين التاريخية تنازل رمزى للغاية بالفعل!). بينما كان كل ما يريده هو الحصول على الاعتراف بهذه الدولة المهددة بالتدمير... ولذلك فإن الولايات المتحدة مطالبة بأن تبدى دائمًا التفهم لحقيقة أن إسرائيل تشعر طوال الوقت بأن وجودها نفسه مهدد".

ويواصل حديثه عن ما يرى أن مأساة وخصوصية إسرائيل والشعب اليهودى الذى واجه (إبان الحقبة النازية) ويواجه خطر الفناء. فالسيد كيسنجر يعتقد بأنه "لا توجد دولة أخرى في العالم تقدر الروح البشرية كما تقدرها إسرائيل. وعندما تعاملت مع أمهات الأسرى الإسرائيليين في مصر وسوريا (أثناء حرب 1973) فهمت مدى صعوبة التضحيات التي يقدمها شعب يعادل سقوط كل قتيل فيه مصرع المئات من الأمريكيين (نظرًا لصغر حجم شعبها واليهود عمومًا)". ورغم كل معاهدات السلام التي وقعتها إسرائيل في مصر والأردن والفلسطينيين فإن السيد كيسنجر الصديق الصدوق لإسرائيل يرى أن جوهر صراعها مع العرب ما زال قائمًا "حيث لم يتضح بعد إذا كان شركاء إسرائيل يقبلون بوجودها وينظرون إلى المفاوضات على أنها وسيلة للتوصل إلى تسوية نهائية أم يتعاملون مع هذه المفاوضات باعتبارها خطوة نحو تدمير إسرائيل. لا توجد دولة في العالم تقدم تنازلات مقابل وعود رمزية. وفى إسرائيل يجب الحفاظ على ذلك التوازن الرفيع لحماية شعب كان في مقدمة من تعرضوا للاضطهاد بسبب عزتهم ورغبتهم في الاستقلال". وبالرغم من كل هذه المخاطر أضاف كيسنجر فإن إسرائيل عندما رأت في عهد رابين فرصة للسلام "اتخذت مخاطرات ضخمة وربما غير مسئولة. ولا يوجد لدى شك في نوايا الحكومة الحالية (برئاسة إيريل شارون) وأنها إذا رأت فرصة أمامها للسلام فسوف تتصرف بنفس الطريقة".

أما السفير الإسرائيلي في واشنطن دانييل أيالون فلقد أشاد بدوره بالعلاقات مع الولايات المتحدة قائلًا أنها "لم تكن أفضل حالا مما هي عليه الآن. فنحن نشترك في نفس القيم ونواجه نفس التهديدات وتاريخنا متداخل من ناحية طريقة نشأتنا كدول (وفقًا لهذا المنطق فالفلسطينيون هم الهنود الحمر وقد ينتهى بهم الحال في محميات تحيطها الأسلاك الشائكة).... كل الأمريكيين شعروا أنهم إسرائيليون في 11 - 9 (بزغم أن ما تتعرض له إسرائيل على يد الفلسطينيين شبيه بهجمات 11 - 9) وكل الإسرائيليين شعروا أنهم أمريكيون عندما تم اغتيال رابين حيث كان الأمر شبيهًا بمقتل جون كينيدى". وأوضح أنه على الرغم من كل المخاطر التي تتعرض لها إسرائيل فإن "رئيس الوزراء شارون قال أنه على استعداد لتقديم تنازلات مؤلمة وذلك على الرغم من أننا لم نخسر أي حرب". فهذا هو المنطق الذى يفهمه صناع القرار في السياسة الأمريكية وهو أن من ينجح في تحقيق النصر بالقوة أمام عدوه لا يجوز مطالبته بتقديم تنازلات.

شعرت أن هذه المقدمة الطويلة عن كيسنجر ضرورية قبل الخوض في التعليق على كتابه "الأزمة" الذى عرض الأهرام فصوله على مدى الفترة الماضية. هذا الكتاب الذى احتوى مئات المكالمات الهاتفية التي أجراها كيسنجر منذ اندلاع الحرب في السادس من أكتوبر وحتى نهايتها لم يكن مجرد مراجعة للتطور اليومى للحرب والدور الذى لعبه هو شخصيًا في كافة مراحلها ولكنه كان أيضًا وثيقة نادرة تعكس الطريقة التي تنظر بها المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة للصراع العربى - الإسرائيلي بدءًا من البيت الأبيض ومرورًا بوزارة الخارجية والدفاع ووكالة الأمن القومى ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية.


40 لم أذق النوم ليلة 27 أكتوبر.. ولكن النهاية كانت سعيدة

40

لم أذق النوم ليلة 27 أكتوبر.. ولكن النهاية كانت سعيدة

واشنطن: خالد داوود

الأهرام الأربعاء 19 نوفمبر 2003م - 25 رمضان 1424هـ


يقول كيسنجر إنه في الوقت الذي كانت تجري فيه تلك المناقشات المفعمة بالعواطف مع مائير.. كان العمل يجري في مجلس الأمن من أجل التوصل لاتفاق بشأن تركيبة القوة الدولية من المراقبين التابعين للأمم المتحدة التي ستتوجه لجبهة القتال مع تمسكه بالتقليل من نفوذ السوفيت إلي أقصي درجة. ويشير في هذا الصدد إلي مكالمة أجراها مع مندوب الولايات المتحدة في مجلس الأمن سكالي أطلعه فيها الأخير علي مباحثاته مع نظيره السوفيتي ماليك بشأن الدول التي سيتم السماح لها بالمشاركة في قوة المراقبين مع إصرار واشنطن علي عدم السماح لأي من دول أوروبا الشرقية بذلك مقابل عدم إشراك دول من حلف الناتو.


كيسنجر: وماذا كان رد فعله

سكالي: لقد قال إن هذه تفرقة وعودة إلي زمن الحرب الباردة. وفيما يتعلق بالمراقبين (القوة المشتركة الصغيرة المكونة من أمريكيين وسوفييت) فلقد قلت له إننا قد نرسل عشرين أو خمسين وإننا علي استعداد لسحب مراقبينا إذا قبلوا هم بذلك. لقد كنت معه حاسما مثل المطرقة.

ك: هو أيضا غبي بعض الشيء.

س: لقد اتهمنا بأننا نحاول الإملاء علي السكرتير العام للأمم المتحدة وكان غاضبا للغاية لعدم موافقتنا علي مشاركة بولندا التي قال إنها دولة عظيمة.

ك (متهكما) نعم بولندا التي لها تاريخ طويل من الحب للشعب اليهودي. ولم تقع هناك مذابح ضدهم منذ أن غادرها آخر يهودي (في إشارة إلي الحقبة النازية).

ك: وما هي وجهة نظرك فيما يجب علينا القيام به الآن؟

س: لا بد أن نتمسك بالعرض الذي قدمناه لهم.

ك: أعني ماذا نفعل إذا تم طرح مسألة انسحاب الإسرائيليين إلي خطوط22 أكتوبر؟

س: أعتقد أنه ما لم نستطيع تحريك الإسرائيليين نحو التراجع فلن يبقي لنا أصدقاء في المجلس.

..................

وفي الساعة 4.07 من فجر السبت 27 أكتوبر وصل رد يحمل أخبارا سارة لكيسنجر من حافظ إسماعيل حيث أبلغه بموافقة مصر علي عقد مباحثات مباشرة بين ضباط مصريين وإسرائيليين برتبة لواء "لمناقشة الجوانب العسكرية الخاصة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن رقم 338 و339 الصادرة يومي 22 و23 أكتوبر 1973. "وأضافت الرسالة المصرية أن المباحثات يجب أن تعقد تحت رعاية الأمم المتحدة عند نقطة الكيلو 101 علي طريق القاهرة - السويس. والشروط الوحيدة الذي نصت عليها الرسالة مقابل القيام بذلك هو ضمان سريان وقف كامل لإطلاق النار قبل ساعتين من الاجتماع الذي تم اقتراح عقده في الثالثة بعد الظهر بتوقيت القاهرة في نفس اليوم (السبت) والسماح بدخول قافلة تحمل إمدادات غير عسكرية للجيش الثالث تحت إشراف الأمم المتحدة والصليب الأحمر.

ويعلق كيسنجر علي هذه الرسالة الهامة قائلا إنه "من خلال وساطتنا كانت إسرائيل علي وشك الدخول في أول مباحثات مباشرة بين ممثلين عرب وإسرائيليين منذ نيلها للاستقلال عام 1948. كما ستواصل إسرائيل احتفاظها بالطريق المؤدي إلي الجيش الثالث وذلك في الوقت التي كانت تضغط فيه الأمم المتحدة بشبه إجماع كامل نحو إجبار إسرائيل علي الانسحاب إلي خطوط 22 أكتوبر. وكل ذلك مقابل السماح بإدخال قافلة واحدة من الإمدادات غير العسكرية وكما كنا نطالب علي مدي الأربعة والعشرين ساعة السابقة."

وفي الساعة 4.31 صباحا رد كيسنجر علي الفور علي رسالة حافظ إسماعيل ليعرب عن مساندته القوية لما ورد فيها ويعلمه أنه قام بإخطار الإسرائيليين بمحتواها "بأقصي درجة من الاستعجال". وفي الساعة 6.20 صباحا أعلنت إسرائيل أنها وافقت علي العرض المصري بمجمله وقام كيسنجر بإخطار السادات بذلك علي الفور. وبعد ثلاث ساعات وخشية قيام السوفيت بأية حيل أرسل خطابا إلي بريجينيف باسم نيكسون يخطره فيه بالمباحثات المصرية الإسرائيلية الوشيكة وموافقة إسرائيل علي دخول القافلة.

وفي الساعة 8.45 من صباح 27 أكتوبر يتصل سكوكروفت بكيسنجر ليطلعه علي نص الرسالة التي سيرسلها للأمين العام للامم المتحدة فالدهايم يخطره فيه بتفاصيل الاتفاق المصري - الإسرائيلي. وأعرب في نهايتها عن أمله في أن يؤدي ذلك الاتفاق إلي وقف حقيقي لإطلاق النار "يسمح للأطراف المتحاربة بمساعدتنا المشتركة التوصل إلي تسوية عادلة وسلام دائم في الشرق الأوسط".

وفي العاشرة صباحًا يتصل كيسنجر بالسناتور فولبرايت ليخطره بتفاصيل ما جري في تلك الليلة التي لم يذق فيها طعم النوم ولكنه يصف النتيجة بأنها كانت "نهاية سعيدة". ويرد فولبرايت قائلا "إذا تمكنت من إقناعهم بالالتقاء والبدء في مباحثات فهذا إنجاز عظيم".

ولكن كالمعتاد وفقا لكيسنجر فإن كل خطوة للأمام في الشرق الأوسط تتطلب التأكد من عدم وجود رمال متحركة في الطريق. وفي نحو الحادية عشرة صباحا بتوقيت واشنطن (الخامسة مساء بتوقيت القاهرة) اتصل الإسرائيليون بكيسنجر ليبلغوه أن الجانب المصري لم يأت إلي الاجتماع المقرر في الثالثة. وقام علي إثر ذلك بسلسلة من الاتصالات تبين بعدها أن ممثل الجانب المصري قد تم توقيفه عند الكيلو85 من قبل الإسرائيليين ولم يسمح له بالتقدم بدعوي عدم وجود تعليمات. ويبدي كيسنجر دهشته الشخصية من هذا التصرف وفشل الضباط الإسرائيليين في الاتصال بقيادتهم في مواجهة حدث غير مسبوق وعلي الرغم من إصرار الجنرال مصري علي التقدم للتفاوض مع نظيره الإسرائيلي! (علامة الدهشة من عند كيسنجر). ولكن تم حل هذا الخلاف سريعا وتحدث كيسنجر شخصيا مع جولدا مائير. وأتضح أيضا أن إسرائيل تجاهلت إخطار الجنرال إنسيو سيلاسفيو قائد قوات الأمم المتحدة باتخاذ الإجراءات اللازمة التي اتفق عليها الوزير الأمريكي مع حافظ إسماعيل. وطالب كيسنجر بسرعة تحديد موعد جديد. وبعد اتصالات عديدة بين الجانبين تم الاتفاق علي أن يلتقي الطرفان في منتصف الليل بتوقيت القاهرة. وأخيرا

تم اللقاء في الواحدة والنصف من صباح الأحد 28 أكتوبر بالتوقيت المحلي بتأخير نحو ساعة ونصف بين ممثلين عسكريين مصريين وإسرائيليين في مباحثات مباشرة للمرة الأولي خلال 24 عاما تحت رعاية مراقبي الأمم المتحدة. ولكن علي مدي ذلك اليوم واصل الإسرائيليون إجراءاتهم الهادفة لتعطيل وصول قافلة الإمدادات إلي الجيش الثالث وذلك كان أحد الشروط المصرية لعقد المباحثات. وكان الإسرائيليون قد أخبروا كيسنجر في وقت متأخر من يوم الجمعة أن الجيش الثالث لديه ما يكفي من الطعام والماء لمدة ثمان وأربعين ساعة "وأنهم مصرون علي أن تبقي هذه الكميات محدودة وأنه إذا انهار الجيش في الوقت الذي كانت القافلة في طريقها إليه فلن يتم ذرف أي دموع في إسرائيل". وأخيرا وفي صباح الاثنين 29 أكتوبر (بعد الظهر في القاهرة) استطاع كيسنجر إبلاغ حافظ إسماعيل بأن القافلة قد وصلت إلي هدفها. وأعلنت مصر عن موافقتها علي عقد المزيد من الاجتماعات "ورغم أن ذلك لم يكن وعدا قاطعا فلقد كان التحول نحو المفاوضات قد بدأ. ولم يمض وقت طويل حتي بات من الصعب التراجع عن هذا الطريق".


وتسرد المكالمات التي يوردها كيسنجر بعد ذلك تفاصيل هذه الساعات الأخيرة التي انتهت بعقد اجتماع الكيلو 101 منتصف ليلة السبت - الأحد رغم كل إجراءات التعطيل والمماطلة الإسرائيلية.

كيسنجر - الزيات السبت27 أكتوبر الساعة 12.04 ظهرا

ك: كم لطيف منك أن تقوم بالاتصال بي.

الزيات: أود أن أشكرك كثيرا علي اتصالاتك. المشكلة إنه لم يتم تنفيذ ما جري الاتفاق عليه. لقد رأيت رسالة من إسرائيل تدعي أن مصر ستواصل المقاومة حتي تدخل مدينة السويس.

ك: لا! لقد تم اطلاعي قبل لحظة أن الإسرائيليين ينتظرون عند الكيلو 101 وأنهم هناك منذ الثالثة ومستعدون للسماح للقافلة بالعبور.

ز: معلوماتنا معلومات موثقة. هذا الصباح كان ممثلونا ينتظرون المرور ولكنه تم الرد عليهم (من قبل الإسرائيليين) أنه لا توجد لديهم تعليمات.

ك: هذا مستحيل يا سيادة وزير الخارجية. نحن ملتزمون بما قلناه لكم ولتقوموا بإرسال قافلتكم والإسرائيليون ينتظرون عند الكيلو 101. لترسلوا رجلكم إلي هناك ونحن سنعمل علي الفور لحل ذلك. نحن نحاول المساعدة.

ز: سأقوم بالاتصال بطرفنا علي الفور.

ك: وأنا سأتصل بالآخرين ليتصلوا بديان. كما سيقوم أحد العاملين معي بالاتصال بك وتسهيل الحصول علي خط (هاتفي) لتقوم باتصالاتك علي الفور.

..................

وفي الساعة 12.28 يتصل كيسنجر بهيج حيث يتناولان أولا رد الفعل السوفيتي علي المؤتمر الصحفي لنيكسون وتوابع قرار رفع حالة الاستعداد والذي وصفته موسكو بأنه شبيه بقيام الولايات المتحدة بقصف هانوي في فيتنام. ثم يطلعه علي آخر تطورات الموقف بشأن لقاء الكيلو 101 وتعطل الاجتماع.

هيج: لا يمكننا السماح بتجويع الناس (الجيش الثالث).

ك: ربما يكون بإمكانك المساعدة في تهدئة أولئك المجانين في وزارة الدفاع. إن شليزنجر يتحرك في كل مكان... لا يمكننا إقامة جسر جوي إلي مصر.

هيج: لقد أخبرته ألا يقوم بالاتصال بك. ولكنه قال إننا لا يجب أن ندع الناس يموتون في الصحراء وأن الإسرائيليين يكذبون علينا ويجب أن نتخذ موقفا أكثر تشددا. الإنجاز الكبير سيكون إقناع الطرفين بالعمل علي حل هذه المشكلة سويا.

ك: بهذه الطريقة لدينا فرصة ولكن إذا تدخلنا (كما يطالب وزير الدفاع الأمريكي) فسيؤدي ذلك إلي تجدد الحرب. لقد طلبت منه (شليزنجر) ألا يقوم بإرسال بعثة عسكرية لإسرائيل للتحقق مما إذا ما كانوا يكذبون علينا. هل من الممكن أن تساعدني في التعامل معه؟

هيج: سأقوم بما في وسعي.

..................

وفي الساعة 12.40 دقيقة ظهرا يجري الحوار التالي بين كيسنجر ورئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير:

مائير: أردت فقط أن أقول لك إن هناك شيئا واحدا لا يمكننا قبوله وهو القول بأن هذا الأمر (تأخير عقد الاجتماع) كان متعمدا من جانبنا.

ك: ما قمنا به كان ترتيب كل الإجراءات.

م: لقد ذهب رجلنا إلي نقطة اللقاء وانتظر. وعندما لم تصل المجموعة القادمة من القاهرة ذهب إلي مقر الأمم المتحدة الذي يبعد نحو عشرة كيلومترات وسألهم إن كانوا يتوقعون شيئا وحاول الاتصال بالقاهرة. صحيح أنه كان يجب علي شخص من طرفنا القيام بالاتصال للتنسيق ولكننا افترضنا أن شيئا ما حدث خطأ مع الجانب المصري.

وبعد جدل حول الأسباب التي أدت إلي تأخر الاجتماع ودخول قافلة المساعدات الإنسانية وإصرار مائير أن الأمر يتعلق بسوء فهم مع الإقرار بالخطأ في عدم القيام بالتنسيق المناسب مع الجنرال المكلف بتمثيل إسرائيل في الاجتماع تطالب رئيسة الوزراء كيسنجر بأن يوفر لها المزيد من التفاصيل حول موقع القافلة والوفد المصري بزعم أن هذه الأمور غير واضحة بالنسبة لها. ويعدها كيسنجر بالاتصال بالجانب المصري والتنسيق بين دينيتز والزيات. ويقترح عليها موعدا جديدا لعقد الاجتماع في نفس الموقع في السادسة من صباح الأحد بالتوقيت المحلي.

ولكن في الساعة 12.55 ظهرا يعاود كيسنجر الاتصال بدينيتز ويخبره أنه اتصل بالجانب المصري (وزير الخارجية الزيات) وأنه يصدق روايتهم بأنهم ذهبوا إلي الكيلو85 وتم منعهم من قبل وحدة إسرائيلية بحجة أنه لم يكن يوجد لديهم تعليمات. وأضاف أن الجانب المصري اقترح عقد الاجتماع في العاشرة من مساء نفس اليوم (السبت) بالتوقيت المحلي بدلا من إضاعة سبع ساعات والانتظار حتي السادسة صباحا وأنه اتفق معهم علي ذلك الأمر. ولكن دينيتز يشكك في صعوبة تحقيق ذلك ويعده بالاتصال برئيسة الوزراء مائير. وكان كيسنجر قد تحدث مع الزيات قبل لحظات من مكالمته مع السفير الإسرائيلي حيث أكد له بشكل قاطع التزام الولايات المتحدة بالاتفاق الذي تم التوصل إليه.


وفي الواحدة ظهرا اتصل شليزنجر بكيسنجر ودار الحوار التالي الذي عكس تردي العلاقات بينهما إلي حد ما:

ش: ما الذي قمت به بشأن قضية الجيش الثالث؟

ك: نحن في وضع الآن يسمح لنا بالتعامل مع هذه القضية. لا يمكنني إنزال قوات أمريكية في الإمارات والقيام من هناك بتوفير إمدادات للجيش الثالث.

ش: بالطبع لا.

ك: يجب علينا أن نركز علي تحقيق الأمرين التاليين: دخول القافلة الليلة وعقد الاجتماع.

ش: رائع...المهم هو الجيش الثالث.

ك: لا.. الأهم هو تثبيت وقف إطلاق النار. إذا توصل المصريون والإسرائيليون لاتفاق حول الجيش الثالث فهذا... لا يوجد لدينا مصلحة فيما يحدث للجيش الثالث.

ش: لدينا بعض الاهتمام بالجيش الثالث. لقد قمنا نحن بالمساعدة في ترتيب وقف إطلاق النار وتم بعد ذلك محاصرتهم وهذا يؤثر إلي حد ما علي موقعنا في المنطقة كصانعين للسلام..

ك: أؤكد لك أنني قمت باتصالات مطولة معهم استغرقت طوال ليلة أمس. كما أنني كنت علي اتصال طوال صباح هذا اليوم مع الزيات وفهمي وهم سعداء للغاية بما نقوم به.

ش: لقد قمت بعمل رائع.

ثم يسأل كيسنجر شليزنجر إذا ما كان من الممكن للقافلة السفر خلال الليل ويجيب بأن ذلك أمر ممكن. وبدوره يستفسر وزير الدفاع إذا ما كان كيسنجر قد أبلغ إسرائيل بأنه سيتم وقف الجسر الجوي إذا لم ينصاعوا. ويرد كيسنجر "لقد قلت لهم أننا سنكون قاسين للغاية ولكن لم أشر إلي ما سوف نقوم به".

ش: في جميع الأحوال إذا سمحوا بدخول القافلة فذلك سيعني أنه تم تسوية المشكلة.

ك: لم نتحدث بشأن الجسر الجوي. ما قلته لهم أننا سنصوت ضدهم في مجلس الأمن.

ش: إذا قاموا بمنع هؤلاء الناس من إدخال الماء والغذاء فسيكون ذلك عملا إجراميا.

ك: العاشرة مساء اليوم تجيء بعد نحو ثلاث ساعات (بالتوقيت المحلي).

ش: حسنا. ولكن في حالة إذا ما فشلوا في القيام بذلك يجب علينا أن نفكر في قطع الجسر الجوي. هذه ستكون طريقة للتعبير عن وجهة نظرنا بوضوح.

ك: أعتقد أن ذلك سيكون من ضمن الأمور الذي قد ننظر فيها عندما نواجه ذلك (الرفض الإسرائيلي).

ولم تمض سوي عشرة دقائق حتي يعاود شليزنجر الاتصال بكيسنجر ليبلغه هذه المرة بما بدا أنه معلومات خطيرة وهي أن الجيش الثالث يقوم ببناء جسرين عبر قناة السويس وأن الإسرائيليين بصدد مهاجمتهم. ويعده كيسنجر بالاتصال علي الفور بالسفير الإسرائيلي.


كيسينجر - دينيتز الساعة 1.15 ظهرًا

ك: لقد سمعت للتو من مصر. هم يريدون الاجتماع عند منتصف الليل بالتوقيت المحلي.

د: ذلك سيكون أفضل بالنسبة لنا. لقد اقترحنا الحادية عشرة ولكني سأقترح منتصف الليل.

ك: هم يريدون أيضا تحريك القافلة.

د: نعم القافلة والاجتماع.

ك: ولقد أخبرنا المصريون أن هناك عددا من المراقبين التابعين للأمم المتحدة منعوا من دخول مدينة السويس. هل بإمكانكم السماح لهم بالدخول؟

د: يجب علي التأكد من ذلك. لا توجد السلطة لاتخاذ القرار.

ك: أرجو أن تأتيني برد إيجابي سريعا. لدي مطالب بوقف الجسر الجوي وأن تقوم القوات الأمريكية بتوفير الإمدادات (للجيش الثالث). إن حكومتنا تكاد تصاب بالجنون.

..................

وفي الساعة 1.35 ظهرا يتصل شليزنجر بكيسنجر ليؤكد له إمكانية أن تقوم القافلة بالتحرك ليلا علي طريق السويس. وأكد له كيسنجر بدوره أنه يضغط علي الإسرائيليين وأنه هددهم بعقوبات إذا لم يتم تنفيذ الاتفاق.


39 الإدارة الأمريكية تخشى أن يتخذ السوفيت موقفًا متشددًا ردًا على عناد إسرائيلى

39

الإدارة الأمريكية تخشى أن يتخذ السوفيت موقفًا متشددًا ردًا على عناد إسرائيلى

واشنطن: خالد داوود

الأهرام الثلاثاء 18 نوفمبر 2003م - 24 رمضان 1424هـ


في هذه الحلقة التاسعة والثلاثين يستأنف كيسنجر سرد مكالمته مع السفير الاسرائيلي سيمحا دينيتز حيث يحدد له موعدا نهائيا في مساء نفس الليلة لكي تقدم اسرائيل اقتراحاتها بخصوص تنفيذ قراري مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، ثم يعود كيسنجر فيتصل في السادسة والنصف مساء بالسفير السوفيتي اناتولي دوبرينين ليسأله عن مصير الرسالة التي كان من المقرر أن تصل من موسكو إلي واشنطن عن طريق الخط الساخن ثم يجري كيسنجر محادثة مع وليم كولبي مدير المخابرات المركزية الأمريكية ليسأله إذا كانت لديه معلومات عن الرسالة السوفيتية المرتقبة، ويرد كولبي بأنه ليست لديه معلومات محددة في هذا الشأن، ويروي كيسنجر كيف أن الرئيس نيكسون عقد مؤتمرا صحفيا وجه خلاله عبارات حادة إلي الاتحاد السوفيتي، مما تطلب أن يتصل كبير موظفي البيت الأبيض فيما بعد بالسفير السوفيتي لكي يبلغه أن هذه العبارات الحادة لا تعكس حقيقة موقف الرئيس الأمريكي! ولكن السفير السوفيتي يجيبه قائلا: لم تكن هناك مبررات لإعلان الولايات المتحدة رفع حالة الاستعداد علي مستوي العالم، وأن القادة السوفيت مستاؤون للغاية، ثم يشكو من أن كيسنجر ونائبه سكوكروفت تركاه ينتظر لمدة خمس ساعات، وظلا يقولان له ان الرد الأمريكي في الطريق.. إلي أن عقد الرئيس نيكسون مؤتمره الصحفي الذي أطلق فيه عباراته الحادة في حق السوفيت.


كيسنجر ـ دينيتز الساعة 4.15 مساء

ك: إنه لأمر من النادر حدوثه أن تقوم دولة بمحاصرة جيش دولة أخري بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار... سوف ألتقي الآن السفير الألماني وسأثير عاصفة حول قرارهم بشأن السفن (كانت ألمانيا الغربية في ذلك الوقت قد قررت وقف مغادرة السفن الأمريكية المتجهة إلي إسرائيل من موانئها بعد التوصل لقرار وقف إطلاق النار.) أنتم الآن في وضع يسمح لكم بالتفاوض ويمكنكم الحصول علي شيء مقابل هذا وذلك بأن تبدأوا غدا مفاوضات حول الموضوع المحدود (الخاص بالطعام).

د: رجالنا يقولون أن الجيش الثالث لديه ما يكفيه من الطعام لمدة يومين أو ثلاثة. كما نسمع تقارير بأن مراقبي الأمم المتحدة سيأتون لإخراجنا من هناك. هذا هو الموقف. لا بد أن نحصل علي صفقة ما.

ك: تقدموا باقتراح قبل التاسعة من مساء الليلة وذلك لإضفاء الغموض علي الموقف وإلا ستحصلون علي إدانة لكم. (لأول مرة يحدد كيسنجر أخيرا موعدا نهائيا لاستجابة إسرائيل لطلب وقف إطلاق النار والسماح علي الأقل بدخول المساعدات الانسانية والطبية للجيش الثالث.)

د: سأتحدث مع مائير ثانية.


وقبل الساعة 6.30 مساء يتصل كيسنجر بدوبرنين ليسأله عن مصير الرسالة التي علم الأمريكيون أنها قادمة من موسكو عبر الخط الساخن. وكان القلق قد بدأ يسري داخل الإدارة خشية أن يتخذ السوفيت موقفا متشددا ردا علي عناد إسرائيل ومواصلتها خرقها الفاضح لقرارات الأمم المتحدة. وينفي دوبرنين معرفته باحتمال وصول تلك الرسالة وقال أن هذا الأمر عادة يستغرق دقائق عبر الخط الساخن. ويؤكد له كيسنجر أنه مهما كان محتوي الرسالة فإن الولايات المتحدة لا ترغب في خلق أزمة جديدة. ولم تكد تمضي15 دقيقة حتي يعود للاتصال بالسفير السوفيتي ليكرر له المعلومات الخاصة بتوقع وصول رسالة من موسكو ويؤكد أن الولايات المتحدة تبذل مجهودا كبيرا لإقناع إسرائيل بتقديم عرض لمصر. ويرد دوبرنين أن الأمر قد يكون متعلقا بتجدد القتال جنوب قناة السويس وينفي مجددا علمه بالرسالة.

ثم يتصل كيسنجر بويليام كولبي مدير المخابرات المركزية الامريكية ليسأله إذا كان لديه معلومات عن الرسالة السوفيتية وإذا ما كانوا قد قاموا باتخاذ خطوات محددة بالفعل..

ويقول كولبي أنه لا توجد لديه معلومات محددة ويشير إلي أن التطور الوحيد كان رسالة السادات الموجهة إلي كيسنجر والتي عبر فيها عن غضبه الشديد بسبب استمرار حصار الجيش الثالث "ولا أستطيع أن ألومه. فالموقف هناك متخبط.".

ويعده بالاتصال به مجددا بعد البحث عن قيام السوفيت بأية تحركات. وبعد سبع دقائق يتصل كولبي بكيسنجر في الساعة 7.05 مساء وينفي وجود معلومات حول تحركات سوفيتية ولكن وكالة الأمن القومي قامت بحذف بعض الجمل التي دارت في ذلك الحوار. ثم يسأله كيسنجر: هل تعتقد أننا بالغنا في رد فعلنا علي خطابهم يوم الأربعاء 24 اكتوبر؟

كولبي: لا أعتقد أنه كان أمامك خيار آخر. ربما لم يكن لدي السوفيت النية للقيام بأي تحرك إضافي ولكن لهجتهم بدت كذلك. ولقد كان خطابك مباشرا وجيدا. هل تعني رفع حالة الاستعداد؟

ك: نعم.

كولبي: ربما نكون قد بالغنا بعض الشيء برفع حالة الاستعداد علي مستوي العالم.

ك: إنني فقط أتساءل عن تأثير ذلك الخطاب عليهم. وإذا ما كانوا...

كولبي: رفع حالة الاستعداد في العالم هي النقطة الوحيدة. ولكن أعتقد أنك كنت توصل لهم رسالة هامة.


وبعد أن عقد نيسكون مؤتمرًا صحفيًا في تلك الليلة قام هيج بالاتصال بالسفير السوفيتي دوبرنين لمناقشة الموقف ولكي يؤكد له أن بعض التصريحات التي أدلي بها الرئيس الأمريكي وبدت حادة بعض الشيء لم تكن تعكس حقيقة موقفه وأعرب عن أمله في أن لا يساء تفسيرها. ويرد دوبرنين بالقول أن القادة السوفيت يشعرون باستياء كبير للغاية بعد قرار الولايات المتحدة برفع حالة الاستعداد الذي يرون أنه لم تكن له أي مبررات". لقد خلقتم أزمة مفتعلة ولا نعرف لماذا.

ما حدث لا يمكن حتي مقارنته بالأزمة الكوبية. والفارق الأساسي في هذه الحالة أننا كنا علي اتصال دائم مع كيسنجر بشأن كل كبيرة وصغيرة علي مدار الساعة. "ويضيف أنه حتي بافتراض أن الرئيس نيكسون كان يريد إرسال رد حازم علي خطاب بريجينيف فلقد كان من الممكن أن يتم ذلك عبر قناة الاتصال السرية بينهما" ولكن حتي وصول خطابكم لنا لم يشر كيسنجر بكلمة واحدة إلي احتمال رفع حالة الاستعداد. وكان أسهل ما يمكنكم القيام به هو الاتصال بالسفير وأن تعربوا له عن عدم قبول الرئيس (نيكسون) للغة المتضمنة في الخطاب وأنها قد تكون غير دبلوماسية. وبعدها كنت سأقوم أنا بإبلاغ موسكو وكان بريجينيف سيرد وتمضي الأمور بصورة طبيعية".

ويشكو دوبرنين من أن كيسنجر ومساعده سكوكروفت تركاه ينتظر لمدة خمس ساعات وكانوا يتصلون به باستمرار ليبلغوه بأن الرد الأمريكي في الطريق وحتي عندما جاء خطاب نيكسون فإنه لم يكن يشير إلي رفع حالة الاستعداد واكتشف السوفيت ذلك عن طريق الراديو. ويعرب دوبرنين عن رأيه بأن طريقة الإعلان عن حالة الاستعداد بكل ما صاحبها من صخب كان يعني في الواقع أن الولايات المتحدة ليست جادة بشأن الحرب لأنه لو كان الوضع كذلك لقام نيكسون بالاتصال ببريجنيف في محاولة لتجنب الحرب بين القوتين العظميين.


وفي الساعة 8.45 مساء يعاود كيسنجر الاتصال بالسفير الإسرائيلي ويبلغه بطريقة أكثر صرامة ضرورة قيام تل أبيب بالتقدم باقتراح للخروج من الأزمة الخاصة بالجيش الثالث حيث أن الولايات المتحدة كانت قد قررت "لأسبابنا الخاصة عدم السماح بمهاجمة الجيش الثالث".


ك: السيد السفير أنا الآن أتصل بك كصديق وليس كوزير للخارجية. ستصلنا رسالة عبر الخط الساخن خلال ساعة. وأردت فقط أن أقول لك أن تقديري الصادق هو أنكم إذا لم تتحركوا في اتجاه ما بطريقة تسمح بالتوصل لتسوية جادة بشأن قضية الحصار فسوف تفقدون كل شيء... يجب أن تعرف أنه إذا تدخل الرئيس فإنه سوف يأمر بأن ننضم للآخرين لأنه لا يوجد لدينا ما يمكن التمسك به.

د: هل تعني قضية الإمدادات؟

ك: قضية الإمدادات أو أي شيء آخر قد تتفتق عنه العبقرية الإسرائيلية. اقتراحه (الرئيس) هو عقد مفاوضات.

وحاول دينيتز استخدام كافة الحجج لتبرير تأخر إسرائيل في التقدم باقتراح من قبيل خشية الحكومة الإسرائيلية من الإطاحة بها في حالة تم فك حصار الجيش الثالث بسبب الرأي الغاضب في الداخل. كما أن فك حصار الجيش سيعيد النشاط لفرقتين أو ثلاث فرق مصرية تقوم بتهديد الجسور التي بناها الإسرائيليون للوصول إلي الضفة الشرقية. وبعد أن استمع كيسنجر كان رده: "دعني أقول لك أن كل ذلك لن يغير من الأمر شيئا. سوف يتم إجباركم إذا وصلت الأمور لهذه النقطة". ويضيف: "أنت تعرف أنني أقف إلي جانبكم. وإذا كان من الممكن أن يختفي ذلك الجيش الثالث الليلة فلن يكون هناك أحد أكثر سعادة مني. لا يوجد لدي أي اهتمام بالجيش الثالث ولكن هذا الأمر سوف يصبح كبيرا للغاية بالنسبة لنا (في ضوء مواجهة محتملة مع السوفيت)". وينهي كيسنجر المكالمة بالتأكيد علي أنه "لن نقوم بالضغط عليكم لثانية واحدة قبل أن يصبح الأمر لا يمكن تجنبه".

وأخيرا في التاسعة مساء بدأت الرسالة التي طال انتظارها من بريجينيف في الوصول عبر الخط الساخن. وبينما هو في انتظار الحصول علي نسخة منها أتصل السفير البريطاني كرومر بكيسنجر ليبلغه بالاستياء البالغ بين الحلفاء الأوربيين في حلف الناتو بسبب رفع حالة الاستعداد دون إخطارهم بشكل مسبق. ويرد كيسنجر: "دعني أكون أمينا. كان يمكننا النقاش مع الشيطان ذهابا وإيابا ولم يكن الأوروبيون ليغيروا موقفهم ذرة واحدة...قد نصل إلي نقطة يجب فيها علي الدول الواقعة علي جانبي الأطلنطي أن تعيد تقييم العلاقات مع الولايات المتحدة".

وفي الساعة 9.40 مساء يتصل كيسنجر بدينيتز ليبلغه محتوي رسالة بريجينيف والتي كان أهم ما فيها هو تحذير القيادة السوفيتية من أنهم سينتظرون ليوم واحد للموافقة علي دخول الإمدادات إلي الجيش الثالث وإلا فإنهم سيتخذون الإجراءات المناسبة. واعتبر كيسنجر هذه الرسالة بمثابة فرصة تعطي الولايات المتحدة وإسرائيل يوما إضافيا ولكنه كرر تأكيده لدينيتز أنه لا يمكن السماح بإضاعة المزيد من الوقت. كما أبلغه بأنه سيسلمه نسخة من الخطاب السوفيتي الذي يطرح كذلك العمل علي التوصل إلي تفاهم سري بين البلدين لحل الأزمة. ويشدد علي أن "التفاهم السري الوحيد الذي توصلنا له معهم هو ذلك الخاص بالرعاية المشتركة (مع السوفيت لمباحثات سلام مقبلة) وهو الأمر الذي ناقشته مع رئيسة الوزراء. لا يوجد هناك أي تفاهم سري آخر."

ويعلق كيسنجر علي خطاب بريجنيف قائلا أنه "كان وثيقة غريبة تحدثت عن تهديدات للسلام العالمي ولكن لم تشر إلي ما سوف يقوم به الإتحاد السوفيتي بشأنها. وطلبت ردا أمريكيا خلال ساعات قليلة ولكنها لم تهدد بأي عواقب سوي إن ذلك سيثير شكوكا كبيرة في نوايانا. وكانت الرسالة واضحة في التعبير عن الاستياء من رفع حالة الاستعداد ولكن الطريقة الحريصة التي تمت بها صياغة جملها أشارت إلي أنهم تعلموا بعض الدروس الهامة خلال الليالي الماضية. ولكن علي الرغم من ذلك فكان هناك حد لمظاهر الضعف التي يستطيع القادة السوفيت التسامح معها".

وفي دفاع عاطفي عن إسرائيل يقول أنه قاوم ضغوط البيروقراطية عليه (وزارة الدفاع والخارجية) للموافقة علي قيام الولايات المتحدة بتولي عملية إمداد الجيش الثالث. "ففكرة القيام بجسر جوي لطرفين متحاربين كانت أكبر مما يمكن للدبلوماسية تحمله. وكنت أتفهم أن التصلب الإسرائيلي كان يعكس تركيبة من الإحساس بعدم الأمن واليأس يتشابك معهما الخوف من الشعور بالعزلة والخشية من وقوع كارثة وهو شعور مترسخ في روح شعب عاني من الكوارث عبر تاريخه الألفي. كما أن هناك قلقا من أنهم إذا استسلموا للضغط مرة فإن ذلك سيفتح الباب أمام سيل لا ينتهي من التنازلات. كذلك عكس الموقف الإسرائيلي وجود حكومة منقسمة لا يقدر أي من أعضائها علي أن يبدو أكثر ليونة من زملائه. ولقد ناورت طوال اليوم لتفادي التعبير علنا عن خلاف أمريكي مع إسرائيل وذلك للحفاظ علي التماسك النفسي للإسرائيليين في نفس الوقت الذي أقوم بإقناعهم بعدم استغلال موقفهم المتميز إلي الحد الأقصي. ولكن بات واضحا أن إسرائيل لم تكن في موضع يسمح لها باتخاذ قرار. ويبدو أنها كانت تفضل أن يتم الضغط عليها للإفراج عن فريستها بدلا من القيام بهذه المهمة طوعا. وكانت مسئوليتي الأولي هي عملي كوزير خارجية للولايات المتحدة وليس طبيب نفسي لإسرائيل. وبأكبر درجة من التردد قررت أن واجبي أصبح يحتم فرض مواجهة. وكانت الطريقة الوحيدة التي يمكنني من خلالها التعبير عن صداقتي لإسرائيل هي بإبقاء الأمر سريا هذا إذا سمحت لي إسرائيل بذلك (بدلا من تسريب المعلومات إلي اللوبي المؤيد لها في الكونجرس للقيام بالضغط علي الإدارة - الأهرام)"

وبعد أن يتخذ كيسنجر هذا القرار والذي كما يتضح من السرد السابق أنه كان صعبا علي نفسه للغاية بسبب "صداقته" لإسرائيل قام بالاتصال بدينيتز في الحادية عشر مساء بعد أن تأخر رد الحكومة الإسرائيلية. وكان الموعد النهائي الذي حدده كيسنجر في السابق لإبلاغه عرضا إسرائيليا ينقله للمصريين من أجل إنهاء أزمة الجيش الثالث هو التاسعة مساء. (ولكن طبعا إسرائيل دائما لها استثناء). ورغم أن كيسنجر لم يكن قد قام بالتنسيق مع نيكسون في هذا الشأن فلقد أبلغ دينيتز بأنه كان يتحدث نيابة عن الرئيس الأمريكي. "وكنت واثقا من خلال المحادثات التي أجريتها معه طوال اليوم أنه سيدعم موقفي. وفي الغالب لو كان الأمر قد طرح علي الرئيس نيكسون في وقت سابق لكان قد وافق علي الخيار الداعي إلي قيام أمريكا بعملية إمداد للجيش الثالث ولكنه كان مشغولا بمؤتمره الصحفي بشأن قضية وترجيت".


كيسنجر - دينيتز الساعة 10.58 مساء

ك: دعني أبلغك رد فعل الرئيس من خلال عدة أجزاء. الأول أراد مني أن أوضح بشكل تام أننا لن نسمح باستئناف القتال بعد أن تم التوصل إلي اتفاق لوقف إطلاق النار من خلال مفاوضات شاركنا فيها. وبالتالي فإن هذا بديل غير مطروح. سوف نساند أي تحرك في الأمم المتحدة سيساعد في تحقيق هذا الهدف. ثانيا هو يريد منكم وفي موعد لا يتجاوز الثامنة من صباح الغد ردا بشأن قضية الإمدادات غير العسكرية التي سيتم السماح بوصولها للجيش. وإذا لم توافقوا علي ذلك فسيجب علينا مساندة قرار في الأمم المتحدة يحدد كيفية التعامل مع تنفيذ القرارين 338 و339 (وهي القرارات التي صدرت خلال الأسبوع ودعت إلي تثبيت وقف إطلاق النار.) لقد توصلنا إلي هذا الموقف بعد تردد نتيجة لعدم قدرتكم علي التوصل لقرار. ومهما كانت الأسباب فهذا ما أراد الرئيس مني أن أقوم بإبلاغه لكم. نحن نريد ردا يسمح بنوع ما من المفاوضات وردا إيجابيا بشأن قضية الإمدادات غير العسكرية وإلا سننضم لبقية أعضاء مجلس الأمن في تحويل الأمر إلي قضية دولية. لا بد لي أن أؤكد ثانية: الطريق الذي تسيرون فيه انتحاري. لن يتم السماح لكم بتدمير ذلك الجيش. إنكم تدمرون إمكانية عقد المفاوضات التي تريدونها أنتم بعدم قيامكم.....

د: إن اقتراحك بالإفراج عن الجيش قريب جدا من اقتراحنا.

ك: بإمكانكم التقدم بأي اقتراح لنا وسوف نقوم بتوصيله. نحن لم نتقدم باقتراحات خاصة بنا للمصريين. بإمكاننا غالبا التقدم باقتراح توافقون عليه وتؤخرون تنفيذه بحجة الإجراءات العملية وتكسبون فترة قصيرة من الوقت.

د: هذا إذا تقدمنا بعرض بشأن الإمدادات غير العسكرية

ك: هذا صحيح. وبهذه الطريقة سيكون بإمكاننا علي الأقل الإشارة إلي شيء تمكنا من تحقيقه. لا بد أن أقول لك أنكم أحرار في أن تلعبوا بطريقتكم لتروا ما يحدث. ربما يكون المصريون قد وصلوا إلي حالة كبيرة من اليأس. ولكن ليس هذا هو تقديري. من غير المتصور أن يسمح السوفيت بتدمير الجيش الثالث أو أن يقوم المصريون بسحب قواتهم. لن يوافق السادات علي هذا الأمر.

د: أنا غير مخول ولا أشعر أن لدي القدرة للتقدم بنصائح (لمائير). ولكن لماذا لا يمكنني الرد بان إسرائيل تعرض السماح للجيش بالذهاب كما هو بكل أسلحته الجانبية ولكن لا يمكننا السماح لهؤلاء الناس بأن يصطحبوا معهم 200 دبابة وذلك لكي يقوموا لاحقا بضربنا.

ك: الاتفاق كان علي وقف لإطلاق النار وفقا للخطوط التي كانت قائمة في ذلك الوقت. هم لن يوافقوا علي خسارة معداتهم وتسليمها لكم. (اعتراف صريح ومباشر بأن إسرائيل هي التي خرقت اتفاق وقف إطلاق النار وواصلت هجومها لمحاصرة الجيش الثالث.)

د: يمكنهم أن يقوموا بتفجير الدبابات.

ك: أنت تطالبهم بتدمير 200 دبابة وسحب قواتهم. هم لن يقوموا أبدا بذلك ولن يقبل السوفيت هذا. لماذا لا تعيدون التفكير لمدة يوم وترون إن كان بإمكانكم التوصل إلي شيء.

ويزعم دينيتز أن إسرائيل لديها صور ووثائق تفيد وجود خطط لهجوم ينوي الجيش المصري القيام به فور أن يتم فك الحصار وكذلك بتواصل تدفق الإمدادات السوفيتية علي الدول العربية. ولكن كيسنجر يرفض كل هذه الحجج ويقول له "لو كان الإتحاد السوفيتي أو مصر هو الذين فعل ذلك بكم (انتهاك بعد اتفاق وقف القتال) لكنت قد ناشدت الرئيس اتخاذ أكثر الإجراءات تشددا". وعندما يقترح دينيتز الانتظار حتي تقوم مائير بإرسال خطاب إلي نيكسون تشرح فيه موقفها يرد قائلا: "بإمكانها إرسال خطاب للرئيس. ولكن ذلك لن يحدث أدني تغيير ويحذره من تنامي الضغط عليه من وزارتي الدفاع والخارجية والتي يصر كيسنجر علي الإشارة لها بوصف "البيروقراطية" ويذكره بضرورة إبلاغه ردا في الثامنة من صباح اليوم التالي.

ويشير كيسنجر إلي أنه لم يطلع أي طرف آخر علي الموعد النهائي الذي حدده لإسرائيل. وفي نفس الوقت أرسل خطابا إلي وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي يناشده فيه الموافقة علي عقد مباحثات عسكرية مباشرة بين مصر وإسرائيل تتناول قضية الإمدادات للجيش الثالث. ثم أتصل بالسفير السوفيتي دوبرنين ليبلغه بأن الولايات المتحدة تبنت مسعي دبلوماسيا جديدا وتتوقع ردا عليه من إسرائيل بحلول بعد ظهر اليوم التالي. ويبرر عدم الكشف له عن الموعد النهائي الذي تم تحديده لإسرائيل (الثامنة صباحا وليس بعد الظهر) بخشيته بأن يزايد السوفيت ويحددون مواعيد نهائية تسبق تلك التي حددتها الولايات المتحدة.


كيسنجر - دوبرنين الساعة 11.15 مساء

ك: أردت أن أخبرك أننا سنرد علي الرسالة (التي أرسلها بريجينيف عبر الخط الساخن) خلال ساعتين. وسنناقش الأمور التي أشارت لها بشكل عاجل مع الإسرائيليين ونأمل أن يصلنا رد منهم بحلول بعد ظهر الغد ولكن المشكلة صعبة للغاية.

د: هل تريدني إطلاع موسكو علي ذلك أم ستستخدم الخط الساخن

ك: سنشير إلي نفس الأمر في رسالتنا ولكن لا أعرف إن كنت أرغب أن تطلع موسكو. هم سيحصلون علي رد من طرفنا الآن ولكنني لا أريد أن أعطيك ردا نهائيا حتي نتحدث مع الإسرائيليين.


وفي الثانية والنصف من صباح السبت السابع والعشرين من أكتوبر وبعد مرور ثلاثة أسابيع علي بدء الحرب أرسل كيسنجر خطابا إلي السوفيت باسم الرئيس نيكسون يحمل نفس المضمون الذي أشار له في مكالمته مع دوبرنين. ولكن لم يكد ينتهي من إرسال الخطاب حتي تلقي ردا من جولدا مائير. ويقول أن رئيسة الوزراء الإسرائيلية وجهت ردها له شخصيا رغم أن الرسالة التي وصلتها كانت باسم نيكسون. ولكن مائير كانت عادة تتجنب الاصطدام مع الرئيس وتتعامل مع مساعديه وذلك للاحتفاظ به كورقة أخيرة لإقناعه بتغيير القرار الذي من شأنه التأثير علي الوفاق القائم بينهما كما كانت تتفاخر. وإذا فشلت في ذلك فإن تقديم تنازل للرئيس مع قليل من الخبرة والحظ يمكنها علي الأقل من الاستفادة به لطلب خدمة أخري في المستقبل. (الحكومات العربية عادة لا تقتنع بالمساعدين المؤثرين في الإدارة وتصر علي الاتصال مباشرة بالرئيس بدعوي أنه صاحب القرار الأخير. ولكن الحقيقة هي أن ما يسميه كيسنجر بالبيروقراطية هي التي تقوم بالتنفيذ وبإمكانها إعاقة أي قرار حتي لو صدر من نيكسون شخصيًا. - الأهرام)

ويصف كيسنجر خطاب مائير بأنه بدا وكأنه موجه لمخاطبة أعضاء حكومتها في إسرائيل وليس إلي الولايات المتحدة حيث قررت التعبير عن معارضتها للتوجه القائم بوضع الأمر في إطار ضغوط تمارسها القوتان العظميان علي إسرائيل والتلميح بأن الولايات المتحدة تقوم بالتسليم لتهديدات الاتحاد السوفيتي. وكان من شأن وضع الأمر بهذه الصورة أن يثير الرأي العام الأمريكي ضد الإدارة من وجهة نظر كيسنجر. ولكن كيسنجر نفسه أعرب عن دهشته من هذا الرد الغريب والمتشدد الذي أتي بعد ثماني عشرة ساعة من الانتظار "خاصة أن كل ما طرحه كان تقديم" نوع ما "من الاقتراح نستطيع الدفاع عنه أمام مجلس الأمن" في مواجهة "الضغوط السوفيتية وبعد أسبوعين من بدء الولايات المتحدة جسرها الجوي لإسرائيل".

وأضافت مائير في لهجة تهكم واضحة أن كل ما تطالب به تحديد ما يجب علي إسرائيل القيام به "لكي تعلن مصر الانتصار في اعتدائها". وكل ذلك والكلام لكيسنجر بسبب اقتراح بالسماح بدخول الماء والغذاء لجيش محاصر لمدي ثمان وأربعين ساعة بعد اتفاق لوقف إطلاق النار تفاوضت عليه الولايات المتحدة ورغم أن العرض الأمريكي كان عمليا سيبقي ذلك الجيش محاصرا حتي بعد دخول هذا الحد الأدني من الإمدادات. وفي استخدام واضح لأحد المزاعم المعتادة التي تلجأ لها إسرائيل لابتزاز الولايات المتحدة والمجتمع الدولي قالت مائير "هناك شيء واضح لا يمكن لأحد أن يمنعنا من القيام به وهو أن نعلن الحقيقة بخصوص الموقف وهي أن إسرائيل يتم معاقبتها ليس بسبب أفعالها ولكن بسبب حجمها (الصغير) ولأنها تقف بمفردها|. ومرة أخري فهم كيسنجر من مضمون الرسالة أن مائير تهدد بالحديث علنا عن "ضغوط" أمريكية مما سيتسبب في المزيد من المشاكل للرئيس نيكسون. ولكن النتيجة النهائية كانت إن مائير رفضت الاقتراح الأمريكي وأصرت وفقا لكيسنجر ألا تفرض تسوية عليها من قبل الولايات المتحدة.


38 بعد إدخال الدب الروسى إلى القفص.. أصبح من الضرورى البدء في مسيرة السلام

 38

بعد إدخال الدب الروسى إلى القفص.. أصبح من الضرورى البدء في مسيرة السلام

واشنطن: خالد داوود

الأهرام الاثنين 17 نوفمبر 2003م - 23 رمضان 1424هـ


يقول كيسنجر أنه لم يعد من الممكن استبعاد أن تتمسك جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل بموقف متشدد.. لأن ذلك كان وراءه عوامل داخلية أيضا، مثلما كان الرئيس نيكسون يواجه فضيحة ووترجيت في الولايات المتحدة، فالانتخابات البرلمانية الإسرائيلية كان مقررا لها أن تجري في ديسمبر من نفس العام بعد أن تأجلت من نوفمبر بسبب الحرب، وكان يجب علينا تحقيق هدفنا مع المحافظة في العلن علي العلاقة القريبة التي تربط بين الولايات المتحدة وإسرائيل، كما كان يتوجب علينا الحفاظ علي ثقة مصر في تلك الساعات الحرجة، فقد كنا في حاجة لهذه الثقة في التعامل مع إسرائيل، وبعد أن نجحنا في إدخال الدب الروسي إلي القفص.. كان يتوجب علينا أن نكون حذرين لكي لا يفكر في شن هجوم جديد.

ويضيف كيسنجر أن الرسائل المتتالية من السادات إلي نيكسون كانت تعكس خطورة الموقف علي الأرض، ولم تكن واشنطن تريد للسادات أن يعود إلي كنف السوفيت، أو الخوض معهم في مواجهة جديدة.. واعتبارا من يوم الجمعة 26 أكتوبر بدأنا مناشدة إسرائيل التقدم بمقترحات لحل هذه المعضلة، وبعد أن ثبت لنا أن ذلك مستحيل اضطررنا في النهاية إلي إصدار ما يمكن اعتباره انذارا دبلوماسيا يحدد موعدا نهائيا لإسرائيل لكي تستجيب لمطالبنا.

"بعد أن تمكنا من منع التدخل السوفيتي كان من الضروري البدء في مسيرة السلام. وكان ذلك يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة لإغاثة الجيش الثالث. وكان هناك إجماع داخل حكومتنا علي الأهداف وخلاف علي الوسائل. وبرزت اقتراحات من وزارة الدفاع بأن تتولي هي مباشرة عملية إعادة إمداد الجيش الثالث باستخدام طائرات النقل C130 واعتبار ذلك تعهدا أمريكيا. كما كان هناك ضغط كبير لوقف الجسر الجوي إلي إسرائيل. ولم أكن مستعدا لقبول أي من الاقتراحين. فلا يمكننا أن نقوم وخلال أسبوعين فقط بإدارة جسر جوي لإمداد طرفين متنازعين في حرب في الشرق الأوسط. وفي نفس الوقت فإن الوقف الفوري للجسر الجوي لإسرائيل قد يفسر علي أنه تخل عن حليفنا مما سيدفع القادة العرب إلي اتخاذ موقف صلب وربما التهديد بتدخل سوفيتي جديد".

وأمضي كيسنجر يوم الجمعة السادس والعشرين من أكتوبر في محاولة إقناع إسرائيل بقبول توصيل بعض المساعدات الإنسانية إلي الجيش الثالث "لتفادي إعلان معارضتنا لموقفها علنا. ولكن أتضح أن هذه المهمة مستحيلة". (والاقتناع بأن كيسنجر والولايات المتحدة كان لا يمكنهما القيام بإجبار إسرائيل علي إدخال الإمدادات فورا إلي الجيش أمر عبثي بالطبع ولكن كان من الواضح أن الوزير الأمريكي استمر حتي اللحظة الأخيرة في التمسك بسياسته القائمة علي كسب الوقت لصالح إسرائيل ولكي تبدو أي تسوية يتم التوصل لها لاحقا كإنجاز كبير يقنع الدول العربية مجددا بأن الولايات المتحدة وربما هو شخصيا - فقط القادر علي حل الصراع مع إسرائيل وليس الاتحاد السوفيتي - الأهرام)

ويقول كيسنجر أنه لم يكن من الممكن استبعاد أن تتمسك مائير بموقف متشدد.. لأن ذلك كان وراءه عوامل داخلية أيضا في إسرائيل حيث كانت الانتخابات البرلمانية علي وشك الانعقاد في ديسمبر بعد أن تم تأجيلها من نوفمبر بسبب الحرب. "وكان يجب علينا تحقيق هدفنا مع الحفاظ في العلن علي العلاقة القريبة التي تربط بيننا. كما كان يجب علينا الحفاظ علي ثقة مصر في هذه الساعات الصعبة والتي كنا بحاجة لها لإقناع إسرائيل. وأصبح الأمر وكأنه سباق بين إصرارنا وقدرة الجيش الثالث علي التحمل. وارتبط بذلك احتمالات ظهور حكومة معتدلة في مصر. وبعد أن كنا قد نجحنا في وضع الدب الروسي ثانية في قفصه كان يجب علينا أن نكون حذرين لكي لا يفكر في الأمر ثانية ويشن هجوما جديدا".

ويضيف أن الرسائل المتتالية من السادات إلي نيكسون كانت تعكس خطورة الموقف علي الأرض بالنسبة للجيش الثالث. ولم تكن واشنطن تريد للسادات العودة إلي الجناح السوفيتي أو الخوض في مواجهة جديدة مع السوفيت. وبداية من يوم الجمعة 26 أكتوبر بدأنا مناشدة إسرائيل أن تتقدم باقتراحات لحل هذه المعضلة. وثبت أن ذلك مستحيل وهو ما اضطرنا في النهاية إلي إصدار ما يساوي توجيه إنذار دبلوماسي يحدد موعدا نهائيا لكي تستجيب لمطالبنا.

وبعد دقائق من تسلمه رسالة السادات أتصل كيسنجر بدينيتز. وفي نفس الوقت كان الجيش الثالث يحاول كسر الحصار الإسرائيلي من نقطة في شمال مدينة السويس وهو تحرك رآه كيسنجر دليلا علي الموقف الصعب الذي يواجهه حيث كان يخاطر بفقد المزيد من إمكانياته. كما أن ذلك التحرك كان من شأنه أن يؤدي للدخول في جولة جديدة من الخلاف حول الطرف المسئول عن انتهاكات وقف إطلاق النار. واقترح كيسنجر علي دينيتز السماح لقوة من مراقبي الأمم المتحدة بالتوجه فورا لجبهة القتال "كما أطلعه علي قراره بزيارة مصر في7 نوفمبر. ووعده دينيتز بالرد عليه خلال وقت قصير.

وفي 11.30 يتصل دينيتز بكيسنجر وكان واضحا أنه لم يكن يحمل ردا من الحكومة الإسرائيلية حيث يبدأ الحوار بانتقاد كيسنجر للانقسامات الداخلية في إسرائيل وعدم قدرة حكومة مائير علي اتخاذ قرارات. وينحو دينيتز باللائمة علي النظام البرلماني ويقر بالانقسامات في حكومته (ويبدو أن استخدام حجة الانقسامات الداخلية لتأخير اتخاذ قرارات في إسرائيل حل سحري تتمسك به كافة الحكومات الإسرائيلية منذ نشأة تلك الدولة عام 1948 - الأهرام).


ونحو الثانية عشر ظهرا يتصل كيسنجر بالرئيس نيكسون ليطلعه علي آخر التطورات الخاصة بإرسال قوة مراقبين إلي جبهة القتال وكذلك مضمون رسالة السادات حول الأزمة التي يواجهها الجيش الثالث وقيامه بإبلاغ محتواها للإسرائيليين.

ن: نعم.. لتبلغهم بمحتواها. ولنحاول الحفاظ علي الجزء الخاص بنا في هذه المعادلة.

ك: حينما نقرر أن الإسرائيليين قد ارتكبوا خطأ ما فإننا نميل عليهم بقوة كبيرة (! - الأهرام).

ن: أنا أفهم ذلك.

ك: لقد تقدم المصريون باقتراح وأرسلوا خطابا حول التوصل لتسوية شاملة أثناء زيارتي. ولقد بعثنا برسالة دافئة للسادات باسمك نقول فيها أنك أصدرت توجيهات لي بأن أتبني توجها بناء وإيجابيا؟

ن: جيد جيد. وماذا عن رد فعل الصحافة هل ما زالت التغطية إيجابية

ك: نعم. لقد عبرت الواشنطن بوست عن مساندتها لنا في صفحة الرأي. وبشكل عام فإن التغطية كانت إيجابية للغاية.


وعندما تأخر دينيتز في الرد علي كيسنجر قام هو بالاتصال به في الساعة 1.17 ظهرا.

ك: لقد أبديتم استعدادكم للسماح بدخول الغذاء والماء. ورفضكم ذلك سيترتب عليه نتائج خطيرة مع الروس.

د: أريد التقدم لك باقتراح كنت أفكر فيه ولكنه ليس باسم حكومتي. لنفترض أننا سمحنا بخروج كل الجنود ولكن من دون معداتهم. لن نقوم بأخذ سجناء وسنسمح بوصول الماء والغذاء وعودتهم إلي منازلهم سالمين إذا أرادوا وسنفتح الطريق.

ك: من وجهة نظري الحل الأمثل تقديم الماء والغذاء والمساعدات غير العسكرية.

د: سأمرر هذه المعلومات. ولكن في اعتقادي أن ذلك لن يحل المشكلة ولكنه سيؤخر المواجهة التي ستقع مع مصر.

ك: صدقني سينتهي بنا الحال في الجانب الخطأ من المواجهة. سيكون من الأفضل كثيرًا الآن لو ثبتنا مبدأ دخول إمدادات محدودة. أما الاقتراح بالسماح للمغادرة لمن يريد المغادرة فسيعتبر المصريون ذلك أمرا مهينا.

د: نحن لا نريد إهانة مصر ولكن لا بد من إيجاد حل للمشكلة. نحن لا نريد لهذه القوات التحول إلي قوة مقاتلة مجددا.

ك: إنني أفهم ذلك ولكن الحل التدريجي سيكون فتح الطريق أمام الإمدادات غير العسكرية. ستتعرضون لضغوط هائلة إذا واصلتم التمسك بهذا الموقف...نصيحتي الخاصة وهذا ليس موقفا رسميا كما تعرف هي حيلتي المعتادة والقائمة علي محاولة كسب الوقت. لن يتم السماح لكم بالإمساك بهذا الجيش. أنا واثق من ذلك.

د: هذه ليست أولوية بالنسبة لنا. نحن نود لو عادوا إلي منازلهم.

ك: ولا أعتقد أن ذلك سيكون ممكنا أيضا ما لم تقوموا بسحب قواتكم. لن تقوموا بالانسحاب في الشمال.

د: نحن لا نريد جانبي القناة في الشمال.

ك: دعني أقل لك بصراحة أنكم سترتكبون خطأ لو قمتم بالدفع نحو مواجهة كاملة.

د: نحن لا نريد مواجهة ولكن نبحث عن أفضل طريقة لحل الموقف.

ك: حسنا لقد عبرت لكم عن وجهة نظري وسيكون جيدا لو وصلنا رد في وقت مبكر من بعد الظهر.

...........

وفي الرابعة بعد الظهر يجري كيسنجر هذه المكالمة الهامة مع مساعده سيسكو والتي يطرح فيها للمرة الأولي فكرة إرسال خطاب للسادات يقترح إجراء مفاوضات مباشرة بين البلدين:

ك: لقد طلب المصريون من فالدهايم مساعدتهم فيما يتعلق بالجيش الثالث. أعتقد أنه يجب علينا القيام بشيء.

س: لقد أطلعني لاري (إيجلبرجر) علي الخطاب الذي نعد لإرساله للمصريين. لنرسل ذلك الخطاب الذي يدعو لمفاوضات إسرائيلية - مصرية مباشرة ولنر ما سيحدث.

ك: هناك مشكلتان. الأولي تتعلق بذلك (الجيش الثالث) والثانية قيام إسرائيل بعمل شئ فيما يتعلق بذلك الخط اللعين.

س: هل تعني من خلال القيام بانسحاب؟

ك: نعم.

س: لقد كنت أشعر بأن الصفقة ستكون إرسال هؤلاء المراقبين مقابل نوع ما من الانسحاب. وإن كنت لا أتوقع إمكانية إقناع الإسرائيليين القيام بذلك خلال الأربع والعشرين ساعة القادمة. ولكن الأمر يستحق أن نحاول.

...........

ثم يتصل نيكسون بكيسنجر ليستفسر منه عن موقف الولايات المتحدة من قضية إرسال مراقبين إلي الجبهة بالاشتراك مع الاتحاد السوفيتي. وقال له مستشاره لشئون الأمن القومي ووزير الخارجية أن الخطة الأمريكية تقوم علي العمل علي تقليل عدد المراقبين إلي أقصي درجة وذلك لعدم منح فرصة للسوفيت للدفع بعدد كبير من قواتهم تحت زعم أنهم قوات مراقبة. وأضاف كيسنجر أن الولايات المتحدة ستوضح أنها ستقوم بذلك التحرك بناء علي طلب السكرتير العام للأمم المتحدة.

...........

وفي الساعة 4.15 مساء عاد كيسنجر للاتصال بدينيتز لكي يبلغه بأن مصر طلبت عقد اجتماع لمجلس الأمن مساء الجمعة.

"كما تقدم لنا السادات بمناشدة أخري وكذلك الزيات في نيويورك عبر فالدهايم يؤكدون فيها أن الجيش الثالث لن يستسلم أبدا مهما كان ما تقومون به وأنهم سيتخذون إجراءات حاسمة. هم لا يهتمون إلي أي خط تعودون. لن يثيروا المشاكل حول ذلك كما أنهم لديهم استعداد للحديث عن الإفراج عن الأسري والقضايا الأخري. يبدو لي أنكم ستصلون إلي مفترق طرق الليلة وإما أن تتقدموا باقتراحات محددة أولا" إنني أقول ذلك لك كصديق ولم أبلغ الرئيس الذي يعد لعقد مؤتمر صحفي بهذه الرسالة. لا أريده أن يقول شيئا ستندمون عليه لاحقا. ولا يوجد لدي شك في أنه سيقوم بذلك عندما تصله المعلومات في كامب ديفيد. كما أننا في انتظار رسالة تأتينا من موسكو عبر الخط الساخن.

د: هل يمكنني أن أطلعك علي الموقف العسكري. إنني لن أقوم بالشرح.

ك: معلوماتنا الخاصة تفيد أنكم لم تبدءوا (جولة جديدة من القتال)

د: الحمد لله.

ك: ولكن ذلك لا يفرق في أي شيء. ما يسبب القتال هو أنهم يشعرون باليأس.

د: صحيح تماما. إنهم يحاولون الخروج (من الحصار).

ك: لماذا لا تدعوهم يفعلون ذلك ويخرجون من هناك؟

د: سنكون مستعدين للسماح لهم بالخروج والعودة لمنازلهم ولكنهم يطلقون النار علي قواتنا....

ك: لماذا لا تدعونهم يأخذون دباباتهم معهم إن الروس سيقومون باستبدالها بأي حال من الأحوال.

د: لن نفتح الجيب ونسمح بالإفراج عن جيش جاء لتدميرنا. لم يحدث ذلك من قبل في تاريخ الحرب.

ك: وأيضا لم يحدث أن دولة صغيرة تقوم بالتسبب في حرب عالمية بهذه الطريقة. هناك حد لا يمكنكم بعده دفع الرئيس. لقد كنت أحاول أن أقول لكم ذلك علي مدي أسبوع.

د: نحن لا نحاول دفع الرئيس.

ك: فلتقوموا بلعبتكم وسترون ما سوف يحدث.

د: رئيسة الوزراء مائير تعمل الآن علي النظر في مجموعة من الاقتراحات.

ك: نصيحتي لكم هي أن تتقدموا باقتراح بناء.

د: أنا أفهم ذلك ولقد سألتك إذا ما كان شيء ما يدور في ذهنك.

ك: لقد قلت لكم ما يدور في ذهني.

د: بشأن الطعام

ك: أنه بينما تستمر المباحثات تسمحون أنتم بدخول المواد غير العسكرية وربما يمكنكم تثبيت مبدأ عدم دخول مواد عسكرية من ذلك الطريق ثم تنسحبون منه.

د: أحد الاقتراحات القادمة من مائير هي أن تبعث لك بالجنرال ريفا باقتراح كامل حول كيفية حل الموقف.

ويكشف كيسنجر الخبير في سياسة كسب الوقت هذه الحيلة بسرعة بالطبع ويرد: هذا سوف يستغرق عشر ساعات.

د: علي الأقل. هي كانت تري أن بإمكانه أن ينقل لك اقتراحات من قبل تبادل الأسري والأراضي مقابل هذه الخطوة. لا يمكننا السماح لهم بالخروج دون أن نحصل علي شيء بالمقابل.

ك: هذا صحيح ولكن لا يوجد لديكم وقت لمثل هذه المناقشة. سنكون سعداء بأن نقترح عقد مباحثات فورية بينكم وبين المصريين لحل المشكلة. ونحن علي استعداد أن نكون متعاونين ولكن دعني أقل لك أن ما سيحدث هو أن السوفيت سيتقدمون بمطلب متشدد آخر ولا يمكنكم أن تضعوا الرئيس في مواجهة يوما تلو الآخر.

د: نحن لا نريد ذلك.


37 موسكو تشجعت على التهديد باتخاذ إجراء منفرد بسبب حالة الفوضى السائدة في إدارة نيكسون مع توسع فضيحة ووتر جيبت

37

موسكو تشجعت على التهديد باتخاذ إجراء منفرد بسبب حالة الفوضى السائدة في إدارة نيكسون مع توسع فضيحة ووتر جيبت

واشنطن: خالد داوود

الأهرام الأحد 16 نوفمبر 2003م - 22 رمضان 1424هـ


كان من الواضح أن قادة الكونجرس لم يقتنعوا بجدية التهديد السوفيتي الذي حاول كيسنجر إقناعهم به وأدركوا أن محاولة نيكسون وطاقمه إثارة هذه الأزمة كان لشد انتباه الرأي العام بعيدا عن فضيحة.. ووترجيت. ويقر كيسنجر بذلك الجدل الداخلي الذي أثاره قرار رفع حالة الاستعداد بين وجهة نظر مؤيدي الإدارة من أن أحد العوامل التي قد تكون دفعت موسكو للتهديد باتخاذ إجراء منفرد حالة الفوضي السائدة في إدارة نيكسون مع توسع فضيحة ووترجيت أو أن الإدارة هي التي بادرت باتخاذ قرار متسرع وخطير لحشد التأييد مجددا لنيكسون بادعاء وجود أزمة دولية قد تؤدي إلي مواجهة مع السوفيت. ويشير كيسنجر إلي مؤتمر صحفي عقده ظهر يوم الخميس 25 أكتوبر هاجم فيه بشدة كبار المعلقين في الصحف الأمريكية الذين أجمعوا علي أن العوامل الداخلية كانت السبب وراء التصعيد الأمريكي. وتلبسته روح المنظر ليزعم أن مثل هذا التحرك كان بغرض "خدمة الأجيال القادمة" في إطار المواجهة القائمة مع السوفيت.

وطالب بأن يكون هناك "حد أدني من الثقة بأن كبار المسئولين في الحكومة الأمريكية لا يتلاعبون بأرواح الشعب الأمريكي". (تستخدم الإدارة الحالية للرئيس جورج بوش تقريبا نفس الحجج بل وربما الجمل في مواجهة الانتقادات الداخلية لحرب العراق والاتهامات الموجهة لها بأنها تخاطر بحياة الأمريكيين من أجل حرب غير مبررة سوي برغبة الرئيس الحالي في الحفاظ علي شعبيته كقائد لأمة في حالة حرب وللفوز بفترة رئاسية ثانية - الأهرام) وبعد أن أنهي مؤتمره الصحفي تلقي كيسنجر مكالمة في الساعة 1.18 ظهرا من الأمين العام للأمم المتحدة فالدهايم يخطره فيه بأنه قد تم تجاوز الأزمة وأن مجموعة دول عدم الانحياز تقدمت بمشروع قرار جديد لا يطالب بقوة أمريكية - سوفيتية مشتركة ولكن يدعو إلي تشكيل قوة دولية.

وأصر كيسنجر علي التقدم بتعديل لينص القرار كذلك علي أن هذه القوة الدولية يجب ألا تتضمن أيا من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن للتأكيد علي موقفه الرافض لوجود قوات عسكرية سوفيتية في المنطقة. وتركزت مكالمات كيسنجر بعد ذلك علي الاتفاق علي تفاصيل هذه القوة وتشكيلها.


كيسنجر - فالدهايم الساعة 1.18 ظهرًا.

فالدهايم: الموقف كما تعرف هو أن السوفيت تلقوا تعليمات بقبول التعديل الأمريكي. والفرنسيون فقط هم المترددون الآن. ولقد التقيت بالسفير الفرنسي الذي قال أنه سيطالب بتصويت منفصل علي التعديل الخاص بعدم استخدام قوات تابعة لأي من الدول دائمة العضوية وذلك لكي يبدي اعتراض فرنسا عليه.

ك: لا ينبغي أن تشك يا سيادة الأمين العام في أننا سنستخدم الفيتو في مواجهة أي قرار لا يتضمن هذا التعديل. نحن لن نتساهل في هذا الأمر.

ف: هذا مفهوم. لا توجد مشكلة. الفرنسيون فقط هم الذين يطالبون بتصويت منفصل علي التعديل. ولكنهم بعد ذلك سيوافقون علي مشروع القرار كما هو.

ك: هذا حقهم. ولكن هناك أمر آخر يثير قلقي يا سيادة الأمين العام. نحن نعارض بشكل مبدئي إرسال قوات من دول أوربا الشرقية أو أي دول شيوعية. سيثير ذلك أزمة ثقة هنا.

ف: الاتجاه هنا هو أن يكون بجانب قوات الدول الاسكندنافية قوة من دولة أفريقية مثل نيجيريا وأسيوية مثل ماليزيا.

ك: لا يوجد لدينا اعتراض علي ذلك طالما لا توجد قوات من دول أوربا الشرقية.

ف: هناك اقتراح بقوة من بولندا.

ك: أعتقد أننا قدمنا تنازلا كافيا بالسماح بقوة من السويد (بسبب تأييدها للموقف العربي.)

ف: ولكننا قد نواجه مشكلة مع كندا وذلك بسبب عضويتها في حلف الناتو.

ك: نحن علي استعداد للاستغناء عن كندا ولكن لا نريد قوات كذلك من يوجسلافيا.


وفي الساعة 2.40 ظهرا يتصل دوبرنين بكيسنجر ليبلغه رسميا بأن الأزمة انتهت كما يتضح من خطاب أرسله بريجينف إلي نيكسون والذي تراجع فيه تماما عن المطالبة بقوة عسكرية مشتركة واكتفي باقتراح إرسال سبعين مراقبا من كل طرف لمراقبة وقف إطلاق النار. وأبدي الزعيم السوفيتي استعداده للتعاون مع الولايات المتحدة لتنفيذ القرارات التي تم التوصل لها في مجلس الأمن في 22 و23 أكتوبر وجدد مطالبته بتنفيذ التفاهمات التي توصل لها مع كيسنجر خلال زيارته لموسكو والمتعلقة بتنفيذ إسرائيل لقرارات مجلس الأمن سعيا نحو تسوية دائمة في المنطقة.

ويحاول كيسنجر أن يلاطف دوبرنين حيث كان علي دراية بأنه يشعر بالغضب من عدم إخطار موسكو مقدما بالتوجه نحو رفع حالة الاستعداد في خرق واضح لسياسة الوفاق. ويذكر كيسنجر دوبرنين أنه حاول أن يكون لطيفا في كلامه عن السوفيت خلال مؤتمره الصحفي الأخير. ويرد دوبرنين متهكما: "نعم لقد شعرت بذلك منذ الرسالة التي وصلتني في الرابعة صباحا".

ك: لا. في الرابعة صباحا لم أكن أحاول أن أكون لطيفا. لقد اعتقدت أنكم توجهون لنا تهديدا. ونحن نأخذ التهديدات علي محمل سيء للغاية.

د: ربما لا يجب علينا مناقشة ذلك الآن

....

وفي الساعة 5.35 مساء يتصل كيسنجر بدينيتز لاطلاعه علي آخر التطورات.

ك: لقد وصلنا رد من الاتحاد السوفيتي. كل ما يقومون به الآن هو اقتراح سبعين رجل كمراقبين منفردين. لقد تمكنا من هزيمتهم ثانية. سوف نقول لهم أننا لا نري حاجة لسبعين شخصا (من كل طرف).

د: إذن الاقتراح هو وجود مجموعة مشتركة من المراقبين الأمريكيين والسوفيت بجانب القوة الدولية. وأنتم ستقولون لهم أنه لا يوجد حاجة لمثل هذا العدد. هل لديك معلومات عما كان في الطائرات السوفيتية الخمسة التي هبطت في القاهرة اليوم؟

ك: لا

د: ربما كانت تحمل السبعين مراقبا

ك: هذا هو انطباعي.


وكان قد أجري قبل هذه المحادثة مكالمة مع وزير الدفاع شليزنجر لكي يشكره علي المساهمة في النتيجة الناجحة التي أمكن التوصل لها.

ك: أعتقد أن الأمور تسير.

ش: تعتقد أننا نجحنا؟

ك: نعم. لقد وافقوا (السوفيت) علي قرار مجلس الأمن.

ش: ولكن هل سمعنا ردا مباشرا؟

ك: نعم ولكن لتبق علي الأمر هادئا في المرحلة الحالية وإلا سيبدو أننا قد بالغنا في هذا الأمر. (رفع حالة الاستعداد).

ش: لقد كنت أناقش الأمر مع توم (مورار رئيس الأركان) وبيل (كليمنتس نائب وزير الدفاع). ولدينا الآن حالة استنفار في جميع أنحاء العالم ونعتقد أننا يمكننا تخفيض هذه الحالة في بعض المناطق.

ك: أعتقد أننا يجب أن ننتظر حتي منتصف الليل. لا تقم بذلك مباشرة بعد التصويت علي القرار. وإلا سيبدو الأمر وكأنه لعبة لممارسة الضغط (اعتراف صريح من كيسنجر بأن الخطاب السوفيتي لم يكن يستحق رد الفعل القوي الذي دعا له برفع حالة الاستعداد.)


ثم يتصل كيسنجر بالرئيس نيكسون ومستشاره المقرب هيج ليبلغهم ما رأي أنه انتصار أمريكي بعد قبول السوفيت بقرار مجلس الأمن الجديد والتخلي عن المطالبة بقوة مشتركة وإن كان الرئيس الأمريكي يبدو متشككا في ذلك وغاضبا في نفس الوقت من الاتهامات المتزايدة له بأنه لجأ لرفع حالة الاستعداد لصرف الانتباه عن مشاكله الداخلية.

....

كيسنجر - نيكسون الساعة 3.05 بعد الظهر

ك: السيد الرئيس لقد انتصرنا ثانية.

ن: هل تعتقد ذلك

ك: لقد وافق السوفيت علي القرار الذي تقدمنا به إلي مجلس الأمن والذي يمنع مشاركة أعضاء دائمين. ووصلنا رد من بريجينيف يوافق فيه علي اقتراحنا ويعرض إرسال 70 مراقبا.

ن: هذا أمر سهل لنرسل 170 إذا أرادوا.

ك: سنبقي علي حالة رفع الاستعداد حتي منتصف الليل ثم نقوم بخفضها في المناطق المختلفة تدريجيا بدءا بألاسكا.

ن: وكيف سنتعامل مع الصحافة غدا؟

ك: سأكون علي استعداد لعقد مؤتمر صحفي غدا والرد علي أولئك الـ (كلمة خارجة) الذين يقولون أننا قمنا بكل ذلك الأمر من أجل أغراض سياسية.


وبعد استعراض أسماء الصحفيين والمعلقين الكبار الذين تبنوا هذا الموقف يقول نيكسون: "بمعني آخر هم يتهموننا بأننا افتعلنا الموقف وخلقنا أزمة" ويطالبه بأن يكون قاسيا مع الصحفيين علي أن يعقد هو لاحقا مؤتمره الصحفي الخاص به. ويقترح كيسنجر عليه الانتظار حتي يوم الأحد أو الاثنين ولكن نيكسون يقول أنه لا يستطيع الانتظار كل ذلك الوقت.

ك: إذن لتعقد مؤتمرك الصحفي غدا (الجمعة) وسأعامل أولئك الأنذال (الصحفيين) باحتقار. سألوني عن ووترجيت وقلت لهم أنه لا يمكن أن نتوقع المس بالسلطة المركزية في البلد من دون دفع الثمن. (وذلك وفقا لوجهة نظره بأن الأزمة الداخلية في الولايات المتحدة هي التي شجعت موسكو علي التصعيد والتهديد بإجراءات انفرادية).


وفي عدة مكالمات لاحقة يعمل كيسنجر علي ترتيب تفاصيل عقد المؤتمر الصحفي للرئيس الأمريكي بعد أن قرر نيكسون الانتقال إلي كامب ديفيد لقضاء عطلة نهاية الأسبوع هناك.

كما يتصل بزعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ السيناتور مانسفيلد ليطلب منه عقد مؤتمر صحفي يعبر فيه عن سعادته بأداء الرئيس في الأزمة ويخطره بأن مجلس الأمن تبني القرار الجديد مع قيام الصين فقط بالامتناع عن التصويت مما يعني عمليا أن الأزمة قد انتهت "بعد أن كانوا (السوفيت) يهددون حتي أمس بالقيام بغزو عسكري". ولكنه يطالبه في نفس الوقت ألا يعلن انتهاء الأزمة والانتظار لمدة يوم حتي تتضح طريقة تعامل السوفيت مع القرار الجديد.


كيسنجر - نيكسون الساعة 7.15 مساء.

ن: هذه أسماء المجموعة (من الصحفيين) التي أرغب في قيامكم بنقلهم بالطائرة غدا من نيويورك (رؤساء تليفزيونات سي.بي.إس و إن.بي.سي وأيه.بي.سي ورؤساء وتحرير النيويورك تايمز والواشنطن بوست). أعتقد أنه يمكن لك أن تمارس تأثير كبير عليهم (بحكم أنه يهودي تربطه علاقة قوية بالقيادات اليهودية الأمريكية النافذة في وسائل الإعلام). إن همهم الرئيسي هو إسرائيل. من الذي أنقذ إسرائيل هل كان بإمكان أحد آخر إنقاذها؟

ك: الأمر المؤكد هو أننا إذا لم نتمكن من عقده (المؤتمر الصحفي) غدا سنقوم بذلك يوم الاثنين. إننا نسيطر علي الأخبار (بعد موافقة مجلس الأمن علي القرار الجديد وما صوره كيسنجر أنه انتصار أمريكي). لقد أعطونا (شبكات التليفزيون) خمس عشرة دقيقة.

ن: ولكنني فهمت أنه كان من بينهم ست دقائق تتعلق بزعم أننا زيفنا الأمر برمته في شبكة سي.بي.إس وأننا اخترعنا الأمر بأكمله. لقد استخدموا ست دقائق للتركيز علي هذه النقطة السيئة وما سوف يرسخ في اعتقاد العامة أننا افتعلنا الموقف برمته. يجب أن يتأكد زيجلر (المتحدث باسم البيت الأبيض) من عدم استمرار هذا الخلط. أنت تعرف أننا كنا قريبين من مواجهة نووية هذا الصباح.

ك: لقد شاهدت ما عرضته سي. بي. إس وأعتقد أنه كان جيدا بالنسبة لنا. لقد قدموا كل الإجابات الصارمة للرد علي هذه الاتهامات.

ن: هل يحملون الرئيس المسئولية...؟

ك: لا. القيادة بشكل عام.

ن: لتأت بهذه المجموعة من الصحفيين ولتقل لهم أنكم أمريكيون أولا وأعضاء في الجالية الأمريكية اليهودية ومهتمين بشأن إسرائيل. من الذي أنقذ إسرائيل ومن الذي سوف يقوم بإنقاذها في المستقبل..؟

ك: سأفعل بكل ما في وسعي.

....

وفي تقييمه لمجمل الأزمة يقول كيسنجر أن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق ثلاثة من بين أربعة من أهدافها وسط أسوأ أزمة دستورية تشهدها الولايات المتحدة: 1- ساعدنا في ضمان أمن إسرائيل 2- هزمنا تهديدا سوفيتيا بالتدخل العسكري مع حرصنا في نفس الوقت علي عدم إهانة القيادة السوفيتية و3- حافظنا علي خيار تحسين العلاقات مع الدول العربية. ولكن بقيت المشكلة الرابعة من دون حل وكان السادات قد أرسل خطابا إلي نيكسون في الساعة 9.30 من صباح الجمعة 26 أكتوبر يتهم فيه إسرائيل باستغلال الموقف لكي "تعزز من مواقعها عبر خطوط المواصلات الخاصة بالجيش الثالث في محاولة لعزله وإجباره علي التسليم" بجانب استمرارها في منع الأفراد التابعين للأمم المتحدة من الوصول إلي المنطقة.

وهدد السادات باتخاذ إجراءات انفرادية لإعادة فتح خطوط الإمداد للجيش الثالث. وأخبرنا أنه أطلع السوفيت علي نفس الموقف وحذر من أن "استمرار حالة الجمود الحالية ستؤثر علي جو المباحثات المقبلة مع كيسنجر في القاهرة. وكتب السادات: "وإنني أود إخطارك بأنه استعدادا لهذه الزيارة فنحن نعمل علي إعداد مقترحات شاملة نأمل أن تمثل نقطة تحول نحو التوصل لتسوية سلمية نهائية".

ويعلق كيسنجر علي هذه الأزمة بالقول: "لقد ساندنا إسرائيل طوال الحرب لأسباب عديدة تاريخية وأخلاقية واستراتيجية. وبلغ الأمر أننا انتهينا للتو من مخاطرة احتمال الدخول في حرب مع الاتحاد السوفيتي وسط أزمة ووترجيت الداخلية. ولم يكن استئناف القتال بعد سريان وقف إطلاق النار سيفيد مصلحة إسرائيل علي المدي الطويل. ولكن قادة إسرائيل الذين جن جنونهم إثر واقع أنه قد تمت مفاجأتهم (بالحرب التي بدأتها مصر وسوريا) وإحساسهم بالألم بسبب الخسائر الكبيرة التي لحقت بهم كانوا يشعرون بعدم الثقة في الرئيس السادات الذي أدار وخطط لهزيمتهم وكانوا يرغبون في أن تنتهي الحرب بالتخلص منه." ويزعم الدكتور كيسنجر بأنه "كان من الممكن تفهم مشاعرهم. ولكن أحد مصالحنا كانت تكمن في منح القادة العرب حافزا لتبني موقفا معتدلا. ولقد اقتنعنا بعد الرسائل التي تم تبادلها مع السادات أنه كان يمثل أفضل فرصة من أجل تحقيق سلام معتدل في الشرق الأوسط.


36 كيسنجر يتفق مع السفير الإسرائيلي على تعطيل التحرك السوفيتى المنفرد

 36

كيسنجر يتفق مع السفير الإسرائيلي على تعطيل التحرك السوفيتى المنفرد

واشنطن: خالد داوود

الأهرام السبت 15 نوفمبر 2003م - 21 رمضان 1424هـ


وفي الصفحات التالية من الكتاب يروي كيسنجر تفاصيل اجتماع "مجموعة العمل الخاصة" الذي ترأسه وبدأ في الساعة 10.40 من مساء الأربعاء 24 أكتوبر وانتهي في الثانية من صباح الخميس أي نحو ثلاثة ساعات ونصف. وكانت النتيجة التي خلص لها كبار المسئولين في وزارة الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية هي أن الرد المناسب علي رسالة بريجينيف هو رفع حالة الاستعداد الدفاعي إلي الدرجة الثالثة DefconIII (في مقياس من خمسة وفي الوقت الذي كانت معظم القوات الأمريكية في حالة الاستعداد الرابعة أو الخامسة). ويعني هذا القرار اتخاذ أقصي حالات الاستنفار العسكري في وقت السلم ويتضمن وضع الوحدات النووية كذلك في وضع استعداد. كما تم إصدار الأوامر لقوات وناقلات حربية بالتوجه نحو منطقة الشرق الأوسط لإبلاغ رسالة واضحة إلي موسكو أن الولايات المتحدة لا تقبل التهديد. الداهية كيسنجر يورد مبررات سياسية كثيرة لمثل هذا القرار الخطير والذي لم يذهل فقط السوفيت بل كذلك أقرب حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والرأي العام الأمريكي نفسه حيث تصاعدت الاتهامات لإدارة نيكسون بأنه يسعي لافتعال أزمة دولية خطيرة تصل لحد المخاطرة بمواجهة بين القوتين النوويتين للتغطية علي أزمة ووترجيت والبدء في إجراء إقالته من منصب الرئاسة. وما أكد هذه الاتهامات هو قرار كيسنجر نفسه بسرعة انهاء حالة الاستعداد العسكري هذه والعودة إلي الوضع الطبيعي خلال فترة لا تتجاوز أربعة وعشرين ساعة.

ومن ضمن الوثائق التي كشفت عنها الولايات المتحدة مؤخرا بمناسبة مرور ثلاثين عاما علي حرب أكتوبر محضر اجتماع بين الرئيس نيكسون والسفير السوفيتي دوبرنين في30 أكتوبر والذي تساءل فيه بغضب واضح "أي نوع من العلاقة هذه إذا كان خطاب واحد يكفي لرفع حالة الاستعداد" كما تتضمن نفس الوثائق مذكرات أمريكية رسمية عن نتائج اجتماعات حلف الناتو عبر فيها ممثلو معظم الدول الأوروبية وخاصة الفرنسيون (إذن المسألة تاريخية ولا تتعلق فقط بالعراق!) عن غضبتهم لقيام واشنطن برفع حالة الاستعداد العسكري دون إخطار أقرب حلفائها بهذا الإجراء.

ورغم أن كيسنجر يحاول أن يوحي بأنه كان يعمل بناء علي توجيهات نيكسون فيبقي ذلك أمر يتشكك فيه المؤرخون الأمريكيون أنفسهم كما يرفضون حجته بأنه كان يتحرك لمواجهة العدو الأول للولايات المتحدة في ذلك الوقت الاتحاد السوفيتي وليس لمجرد حماية أمن إسرائيل بسبب تحيزه وولائه لها. ويقر كيسنجر في كتابه بأن الرئيس الأمريكي لم يطلع علي نص الخطاب الذي قام بصياغته وأرسلته "مجموعة العمل الخاصة" باسمه إلي بريجينيف ردا علي "التهديد" السوفيتي. وفي هذا الخطاب لم يشر إلي رفع حالة الاستعداد الدفاعي بالطبع ولكنه حذر من أن لجوء الاتحاد السوفيتي إلي أي تحركات منفردة ستؤدي إلي "إثارة قلق عميق يتضمن نتائج لا يمكن حسابها" من قبل الولايات المتحدة.

هذه الأزمة الدولية التي لم يكن من الممكن أن تعني سوي التهديد بحرب نووية في إطار حسابات الحرب الباردة في ذلك الوقت انتهت ليس بسبب حنكة كيسنجر وذكائه الخارق وقدرته علي اتخاذ مخاطرات محسوبة بل بسبب استجابة الرئيس الراحل أنور السادات لطلب كيسنجر برفض الاقتراح السوفيتي بإرسال قوة مشتركة مع الولايات المتحدة والموافقة بدلا من ذلك علي إرسال قوة دولية لمراقبة وقف إطلاق النار مقابل وعد جديد بالعمل علي التوصل لتسوية سلمية دائمة بعد انتهاء العمليات العسكرية.

ورغم أن كيسنجر كان يتحمل شخصيًا مسئولية هذه الأزمة بسبب منحه الضوء الأخضر لإسرائيل لمواصلة هجومها علي الجيش المصري لتحسين مواقعها بغض النظر عن نفاذ وقف إطلاق النار بموجب قرار مجلس الأمن رقم338 وكذلك لمقاومته العنيفة لضغوط العسكريين في البنتاجون من أجل وقف الجسر الجوي بعد التوصل لاتفاق علي وقف القتال فلقد أضطر الوزير الأمريكي وللمرة الأولي منذ بداية الحرب أن يمارس الضغط علي رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير وقال صراحة للسفير الإسرائيلي دينيتز أنه لن يتم السماح لهم بمهاجمة الجيش الثالث بعد سريان وقف إطلاق النار كما يجب عليهم الموافقة علي دخول الإمدادات الإنسانية. وفي اعتراف نادر يقول كيسنجر أنه اضطر إزاء الموقف الدولي وتهديدات الاتحاد السوفيتي أن يتصرف كوزير خارجية الولايات المتحدة أولا وليس "كطبيب نفسي لإسرائيل" في مواجهة مشاعرها بالصدمة والإهانة بسبب الهزيمة التي لحقت بها.

وفي نفس الوقت قدم كيسنجر اقتراحا للسادات بعقد مباحثات مباشرة مع الإسرائيليين للاتفاق علي تفاصيل وقف إطلاق النار وهو ما وافق عليه الرئيس الراحل وانعقدت بعد مناورات إسرائيلية استمرت حتي اللحظات الأخيرة اجتماعات الكيلو 101 الشهيرة في الساعة الواحدة والنصف من صباح الأحد الثامن والعشرين من أكتوبر. وفور أن أبلغ كيسنجر الإسرائيليين بموافقة السادات علي عقد مباحثات مباشرة مع الإسرائيليين للمرة الأولي منذ اندلاع الصراع العربي - الإسرائيلي عام 1948 وافقت مائير علي دخول الإمدادات الإنسانية للجيش الثالث وتوقف الجيش الإسرائيلي عن خرقه المتكرر لوقف إطلاق لنار. وأعتبر كيسنجر هذا التطور أحد أهم إنجازات الدبلوماسية الأمريكية في ذلك الوقت.

وفي استعراضه لاجتماع "مجموعة العمل الخاصة" ليلة 24 - 25 أكتوبر يقول كيسنجر أن قبول الاقتراح السوفيتي الخاص بتشكيل قوة عسكرية مشتركة لوقف إطلاق النار كان أمرا لا يمكن مجرد التفكير في قبوله. فمن ناحية كان السادات قد قام بطرد الخبراء السوفيت من مصر” والموافقة علي دور مشترك مع السوفيت كان سيعني عودة قواتهم إلي مصر بمباركتنا. وكان المطروح إما أن نكون في ذيل قوة سوفيتية في قوة مشتركة تعمل ضد إسرائيل أو أن ينتهي الأمر بمواجهة علي أرض دولة (مصر) تتفق مع الأهداف السوفيتية الخاصة بوقف القتال أو لا يمكنها أن تبدو أنها تعارضها.

"ويزعم كيسنجر كذلك أن ذلك الاقتراح كان من شأنه يثير مخاوف الدول العربية التي يصفها بالمعتدلة وبشكل عام سيؤدي إلي انهيار الاستراتيجية التي كان يعمل علي بنائها علي مدي أربعة سنوات ومنذ اندلاع الحرب:” فمصر ستعود إلي المدار السوفيتي وسيبرز الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه الراديكاليون علي أنهم العامل المسيطر في المنطقة كما ستشعر الصين وأوروبا بالغضب من بروز تعاون سوفيتي - أمريكي في مثل هذه المنطقة الحيوية".

ويضيف كيسنجر أن ما دفعه كذلك إلي مساندة قرار رفع درجة الاستعداد العسكري هو ما وصل للولايات المتحدة من تقارير مخابراتية (يشكك فيها هو شخصيا لاحقا) من أن السوفيت أوقفوا جسرهم الجوي في وقت مبكر من يوم 24 أكتوبر علي الرغم من استمرار الجسر الجوي الأمريكي وهو ما تم تفسيره علي أنه إعادة تجميع للطائرات السوفيتية من أجل نقل قوات للمنطقة. كما وردت تقارير أخري عن رفع حالة الاستعداد بين قوات ألمانيا الشرقية وارتفاع عدد السفن السوفيتية في البحر المتوسط إلي خمسة وثمانين وتحرك فرقة بحرية سوفيتية مكونة من 12 سفينة بما في ذلك سفينتين برمائيتين إلي الإسكندرية.

وفي تفسيره للتحرك السوفيتي أمام مجموعة العمل الخاصة طرح كسينجر ثلاثة احتمالات: 1- إما أن يكون السوفيت قد اتخذوا هذا القرار من فترة وأن دعوتهم له لزيارة موسكو كانت لمجرد لكسب الوقت 2- أن ذلك هو رد فعل علي ما بدا أنه هزيمة قد تلحق بالجيوش العربية (بعد البدء بالطبع في الجسر الجوي الأمريكي - الأهرام) 3- أنهم قد شعروا أن إسرائيل والولايات المتحدة قد قاموا بخداعهم مع تحرك الجيش الإسرائيلي لمهاجمة الجيش المصري الثالث بعد التوصل لوقف إطلاق النار.

وفي الساعة 11 مساء قطع كيسنجر الاجتماع ليلتقي سريعا بالسفير الإسرائيلي دينيتز وليؤكد له أن التوجه العام هو رفض الطلب السوفيتي وأن ما يجري الاتفاق عليه هو وسائل مواجهته. وعند عودته للاجتماع كان هناك اتفاق علي محاولة تأخير التحرك السوفيتي المنفرد بإرسال قوات إلي المنطقة وذلك من خلال محاولة إقناع موسكو بعقد مباحثات حول الأمر عن طريق إرسال خطاب إلي بريجينيف..

ولكن في نفس الوقت كان هناك إصرار علي ضرورة اتخاذ تحركات يشعر بها السوفيت علي الفور لتأكيد رفض واشنطن لمثل هذا التهديد وذلك قبل وصول الرد الأمريكي إلي موسكو. (ويتضح من خلال مكالمات كيسنجر في هذا الفصل أنه لم يكن هناك ذلك الإجماع علي خطورة الرسالة السوفيتية وأن كبير موظفي البيت الأبيض الكسندر هيج رأي أن الأمر قد يكون مجرد خدعة أو مبالغة لدفع الأمريكيين للتحرك لإجبار إسرائيل علي احترام وقف إطلاق النار - الأهرام.) وفي النهاية كان القرار هو رفع حالة الاستعداد إلي الدرجة الثالثة. ولما كان تلقي السوفيت لهذه الرسالة سوف يستغرق بعض الوقت حتي يتمكنوا من رصد التحركات العسكرية الأمريكية فلقد قرر المجتمعون النظر في اتخاذ إجراءات أخري فورية مثل إصدار الأوامر برفع حالة الاستعداد في الكتيبة 82 المحمولة جوا وكذلك تحريك حاملة الطائرات فرانكلين روزفلت إلي شرق البحر المتوسط لتلتحق بالحاملة إندبندنس وأخيرا تحريك الحاملة جون كينيدي والسفن الملحقة بها علي وجه السرعة من المحيط الأطلنطي إلي البحر المتوسط.

وفي الساعة 11.25 مساء عاد دينيتز ليقدم اقتراحا لكيسنجر أدرك علي الفور أن مصر سترفضه. وكان الاقتراح هو أن تنسحب إسرائيل إلي الضفة الغربية وتعود القوات المصرية إلي الضفة الشرقية مقابل إنشاء منطقة عازلة مسافتها عشرة كيلومترات منزوعة السلاح علي كل ناحية من القناة. ويقر كيسنجر بأن السادات كان سيعتبر هذا العرض بمثابة إهانة لأن الإسرائيليين يطالبونه ببساطة بالانسحاب من أراض مصرية، كما لم يكن بإمكانه إنهاء الحرب بالتراجع عشرة كيلومترات عما كان عليه الوضع عند بداية العمليات العسكرية. كذلك فإن العرض كان يتطلب إجراء مفاوضات مطولة في وقت كان هدف كيسنجر الأول هو تجنب التدخل السوفيتي "ذلك إذا كان بالفعل وشيكا". وبالتالي تم استبعاد الاقتراح الاسرائيلي.

وكانت الخطوة التالية أمام مجموعة العمل هي تجاوز الاقتراح السوفيتي بالاتصال مباشرة بالرئيس السادات لإقناعه بعدم قبوله. وفي الساعة 11.55 مساء تمت الموافقة علي نص خطاب باسم الرئيس نيكسون يؤكد معارضة واشنطن للاقتراح السوفيتي بتشكيل قوات مشتركة مع الولايات المتحدة والتحذير من أن ذلك قد يؤدي إلي مواجهة بين الطرفين علي الأراضي المصرية. كما ألمح الخطاب أن مثل هذا التحرك سيؤدي إلي إلغاء زيارة كيسنجر إلي القاهرة في7 نوفمبر بناء علي دعوة الرئيس السادات.

وفور أن تم الاتفاق علي القرار برفع حالة الاستعداد العسكري أصدر كيسنجر توجيهاته لسكوكروفت بمغادرة الاجتماع للاتصال بدوبرنين وإبلاغه بالتوجيهات التالية: "قل له أن يمتنعوا عن اتخاذ أي تحركات حتي يصلهم رد علي رسالتنا (إلي بريجينيف). وأخبره أنك غير مخول لإعطاء أي رد. لا يجب اتخاذ تحركات انفرادية وإذا تم ذلك فسيترتب عليها أكثر النتائج خطورة. لا بد أن يعرفوا أننا نعني ما نقول". "ولكن يمكن للطرفين أن يمارسا لعبة الحذر".

وقد امتنع دوبرنين عن الرد بحدة علي هذه الرسالة واكتفي بالقول أنه سيبلغ محتواها لموسكو وسيبقي في انتظار ردنا علي رسالة بريجينيف. ومع تواصل الاجتماع وصلت المزيد من التقارير الخاصة باحتمال تحريك ثمانية طائرات سوفيتية تكفي كل منها لحمل 200 مقاتل من بودابست إلي مصر خلال ساعات وتأكيد رفع حالة الاستعداد بين قوات ألمانيا الشرقية بدءا من الساعة الخامسة صباحا بتوقيت واشنطن أي خلال ساعات قليلة أيضا. وفي الساعة 12.25 بعد منتصف الليل تمت الموافقة علي القرارات الأخري الخاصة برفع حالة استعداد الفرقة 82 المحمولة جوا وتحريك حاملات الطائرات. وبعد ذلك جري استئناف العمل علي الرد علي خطاب بريجينيف وتقرر أن يكون إرساله له في الخامسة والنصف صباحا بتوقيت واشنطن (الواحدة والنصف ظهرا بتوقيت موسكو). ويوضح كيسنجر أنه لما كان تنفيذ التهديد السوفيتي يعتمد علي الرد الأمريكي فلقد تقرر استغلال هذا الوقت لاستكمال الاستعدادات العسكرية. وفي الواحدة من صباح الخميس25 أكتوبر أتصل كيسنجر بالسفير البريطاني كرومر ليبلغه بالقرار الأمريكي الخاص برفع حالة الاستعداد والخطاب الموجه لبريجينيف لتكون لندن الحليف الأوروبي الوحيد الذي أطلع بشكل مسبق علي هذه المعلومات. كما أطلعه أنه سيبلغ تحالف الناتو رسميا بهذه التطورات بعد ساعة من إرسال الخطاب إلي موسكو أي نحو الظهر في بروكسل مقر الناتو (وذلك بدلا من التشاور مسبقا مع الحلفاء المفترضين والذين كانوا سيتأثرون بكل تأكيد في حالة وقوع مواجهة أمريكية - سوفيتية في زمن الحرب الباردة) وطالبه بأن تقوم بريطانيا بتوفير المساندة للولايات المتحدة في حلف الناتو والعواصم الأخري.

وفي الساعة 1.35 صباحا عاد دينيتز للظهور ليناشد الولايات المتحدة نيابة عن رئيسة الوزراء جولدا مائير بعدم إجبار إسرائيل علي العودة إلي خطوط 22 أكتوبر أي الموعد الفعلي لتنفيذ القرار 338 ووقف إطلاق النار. "وأكدت له أنه لا يوجد لدينا نية للضغط علي إسرائيل في مواجهة تهديد سوفيتي".

وفي الساعة 1.45 صباحا وفي إطار سياسة كيسنجر القائمة علي كسب الوقت طلب من سكوكروفت أن يعاود الاتصال بدوبرنين ليبلغه نفس الرسالة بأنه لا يجب علي موسكو القيام بأية تحركات قبل وصول الرد الأمريكي. ومن خلال رفضه الاتصال مباشرة بدوبرنين كان كيسنجر يعرف أن السفير السوفيتي سيفهم رسالته وهي أن الولايات المتحدة ليست علي استعداد للتفاوض في هذه المرحلة. وتبني دوبرنين نفس الموقف المتماسك القائم علي أنه سيبقي في انتظار الرد وسيبلغ التعليمات إلي موسكو. وفي نفس الوقت صدرت توجيهات إلي قائد القوات الأمريكية في أوربا بتأخير عودة جنود أمريكيين كانوا قد شاركوا في مناورات في حلف الناتو.

وفي الساعة 5.40 صباحا تم تسليم الرد الأمريكي بإسم الرئيس نيكسون إلي دوبرنين والذي تضمن رفض كل المقترحات السوفيتية. كما تم تسليم الخطاب عبر مبعوث وليس عن طريق الهاتف لكي لا يكون هناك أي مجال لتقديم تفسيرات. وعرض الخطاب موافقة الولايات المتحدة واستعدادها للمشاركة في قوة موسعة من المراقبين تابعة للأمم المتحدة تتشكل من أشخاص غير مقاتلين ولمدة محدودة علي أن تكون مهمتهم الأساسية "توفير المعلومات المناسبة الخاصة بالتزام كلا الطرفين بشروط وقف إطلاق النار". وتضيف الرسالة: "ولكنكم يجب أن تعرفوا علي الرغم من ذلك أننا لا يمكننا الموافقة في أي حال من الأحوال علي اتخاذ إجراءات أحادية. وسيمثل ذلك خرقا للتفاهمات التي توصلنا لها وللمبادئ التي قمنا بالتوقيع عليها في موسكو عام 1972 والمادة الثانية من الاتفاقية الخاصة بمنع الحرب النووية. وكما أشرت فإن مثل هذا التحرك سينتج عنه عواقب لا يمكن حسابها ولن تكون في مصلحة أي من بلدينا وستؤدي إلي إنهاء كل ما عملنا بجهد من أجل تحقيقه".

وفي الثامنة من صباح 25 أكتوبر وصلت لكيسنجر أول مؤشرات "أننا قد انتصرنا علي السوفيت. فلقد بات واضحا أن السادات كان يراهن علي الولايات المتحدة وليس الاتحاد السوفيتي". وعندما وصل إلي مكتبه في البيت الأبيض كانت في انتظاره رسالتان بصفته مستشار الأمن القومي (بجانب حيازته لمنصب وزير الخارجية) من حافظ إسماعيل والرئيس السادات شخصيا. "وفي تعبير واضح عن التقدير لخطورة الموقف فلقد قام المصريون بترقيم الرسالتين بالترتيب وذلك لمساعدتنا في متابعة تطور تفكيرهم. الرسالة الأولي كانت إجابة إسماعيل علي رسالتي (ظهر يوم 24 أكتوبر) حول الجهود التي قمنا بها لتأمين التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار. عبر إسماعيل عن تقديره لجهودنا في المساعدة. ولم ير أن إرسال ملحقين عسكريين أمريكيين (إلي الجبهة) أمر مناسب وتمسك بأن إرسال قوة سوفيتية - أمريكية مشتركة هو أفضل ضمان. وعلي الرغم من ذلك قال إسماعيل أنه" طالما أن الولايات المتحدة ترفض هذا الإجراء فإن مصر تطالب مجلس الأمن بتوفير قوة دولية (والتأكيد هنا في رسالة إسماعيل)".

وكان هذا يعني أن مصر قامت بسحب الاقتراح الذي تسبب في الأزمة أي تشكيل قوة سوفيتية مشتركة وتقدمت بدلا من ذلك بطلب قوات دولية. ووفقا لتقاليد الأمم المتحدة فإن المطالبة بهذه القوة الدولية كان يعني استبعاد وكان هذا يعني أن مصر قامت بسحب الاقتراح الذي تسبب في الأزمة أي تشكيل قوة سوفيتية مشتركة وتقدمت بدلا من ذلك بطلب قوات دولية. ووفقا لتقاليد الأمم المتحدة فإن المطالبة بهذه القوة الدولية كان يعني استبعاد استخدام قوات من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن (أمريكا - الاتحاد السوفيتي - بريطانيا - فرنسا - الصين) أي عمليا إنهاء اقتراح بريجنيف.

وكان هذا الأمر أكثر وضوحا في الرسالة رقم 2 والموجهة من الرئيس السادات إلي نيكسون. واتفقت هذه الرسالة ليس فقط مع محتوي الخطاب الذي أرسله نيكسون الليلة السابقة ولكن كذلك المنطق الذي اعتمد عليه وفقا لكيسنجر. وقال السادات في رسالته: "إنني أتفهم المبررات التي تقدمتم بها فيما يتعلق بالاستعانة بقوة أمريكية - سوفيتية مشتركة ولقد طلبنا من مجلس الأمن بالفعل أن يرسل وبسرعة قوة دولية إلي المنطقة للتحقق من تنفيذ قرارات مجلس الأمن. ونأمل أن يؤدي ذلك إلي تمهيد الطريق أمام المزيد من الإجراءات نحو إرساء سلام عادل في المنطقة وفقا لما دعا له قرار مجلس الأمن الصادر في 22 أكتوبر (338)".

ويقر كيسنجر بأن هذه الرسالة كانت تعني "أننا كنا علي وشك كسب اللعبة الدبلوماسية. فبدون المساندة المصرية كان من غير المتوقع كثيرا صدور قرار من الأمم المتحدة يطالب بقوة أمريكية - سوفيتية. وإذا أرسل السوفيت قوات فذلك سيكون إجراء انفراديا من دون موافقة الدولة المضيفة أو الأمم المتحدة. كما أظهرت (الرسالة) أن السادات كان يراهن بمستقبله علي المساندة الدبلوماسية الأمريكية بدلا من الضغط العسكري السوفيتي."

ومن ناحية أخري زاد من شعور كيسنجر بأن الأزمة علي وشك الانتهاء التقارير التي وصلته من سكالي في الأمم المتحدة. فلقد خفتت المساندة بين الأعضاء لاقتراح تشكيل قوة أمريكية - سوفيتية مشتركة وتقدمت مجموعة عدم الانحياز بمشروع قرار جديد صباح الخميس تطالب فيه بتشكيل قوة طوارئ من الأمم المتحدة تحت سلطة مجلس الأمن. ويفسر كيسنجر ذلك بأن الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن عادة ما تتجنب التصويت علي قرار تعارضه أحدي الدول دائمة العضوية التي تتمتع بحق الفيتو إذا ما شعرت بأن هناك بديلا آخر. وفي وقت لاحق من نفس الصباح أتصل السفير البريطاني كرومر بكيسنجر ليبلغه بمساندة لندن للموقف الأمريكي.

وفي هذه الأجواء المتفائلة اجتمع كيسنجر وهيج بالرئيس نيكسون في الثامنة من صباح الخميس ليبلغاه بتطورات الموقف من النواحي العسكرية والدبلوماسية. "واتفقنا علي أنه سيكون أمر غير مسبوق وبالتالي تحديا كبيرا - إذا أرسل السوفيت وحدات مقاتلة نظامية في منطقة تبعد عن مدارهم وضد رغبة الحكومة المحلية". وعلي الرغم من أن الكونجرس الأمريكي كان قد مرر قبل أيام قانونا يطالب الرئيس بإبلاغه مسبقا بقرار التوجه للحرب فلقد كان نيكسون متمسكا بضرورة معادلة عدد القوات السوفيتية التي قد يتم إرسالها للمنطقة.

وبعد الاجتماع مع نيكسون أرسل رد رئاسي إلي السادات رحبت الولايات المتحدة فيه "بطريقة رجل الدولة في التعامل مع قضية قوات حفظ السلام" وأشار إلي مساندة أمريكا لتشكيل قوة دولية لا تتضمن أعضاء دائمين في مجلس الأمن.

وبين الساعة 8.40 والعاشرة صباحا أنهمك نيكسون وكيسنجر في إطلاع قادة الكونجرس علي تطورات الليلة السابقة وما تلاها من أحداث. ورغم أن هؤلاء القادة رحبوا بقرار رفع حالة الاستعداد ومعارضة تشكيل قوة مشتركة مع السوفيت فإن كيسنجر يري أن السبب وراء ذلك كان أساسا العقلية الانعزالية التي سادت الولايات المتحدة في عقب حرب فيتنام وتراجع التأييد لإرسال قوات أمريكية مجددا إلي الخارج بغض النظر عن الأسباب. "وبالتالي كانوا (أعضاء الكونجرس) سيعارضون إرسال قوات أمريكية حتي لو كان ذلك بغرض مقاومة تحرك سوفيتي منفرد". وفور أن أطلع نيكسون قادة الكونجرس علي نيته إرسال قوات أمريكية للمنطقة تتمركز في إسرائيل أو أي دول عربية أخري صديقة لتضاهي عدد القوات التي قد يرسلها السوفيت تراجعت روح التعاون التي سادت بداية الاجتماع. وعبر قادة الكونجرس عن تحفظهم الشديد علي اتخاذ أي قرار بنقل قوات أمريكية واعتبار ذلك التحرك منفصلا تماما عن تأييدهم لقرار نيكسون برفع حالة الاستعداد كرد علي ما بدا أنه تهديد سوفيتي.