الأحد، 21 مارس 2021

08 البيت الأبيض.. بعد كل هذا

8

البيت الأبيض.. بعد كل هذا

الأهرام السبت 25 أكتوبر 1975م - 21 شوال 1395هـ


عادت العلاقات بين مصر وأمريكا بفضل المساعى التي قام بها كيسنجر، وأراد نيكسون أن يتوج هذا الإنجاز بزيارة للمنطقة يواجه بها حادث ووترجيت(1) الذى طغى على معظم جوانب الحياة السياسية في أمريكا.

وكان نيكسون - من خلال كيسنجر - قد ترك بصماته واضحة على سياسة الوفاق الجديدة بين الولايات المتحدة وكل من الصين والاتحاد السوفيتى، كذلك تمكن من إنهاء حرب فيتنام التي تورطت فيها أمريكا طول عقد الستينات وأوائل السبعينات، ولم يبقى سوى الشرق الأوسط لكى يثبت فيه نيكسون جدارته السياسية لعله يطمس معالم فضيحة ووترجيت التي بدأت تطارده ولذلك قرر نيكسون زيارة المنطقة بادئًا بمصر ثم السعودية فسوريا فالأردن فإسرائيل.

جاء نيكسون إلى مصر، ولم يكن يخطر ببالى قط أن الشعب سوف يستقبله ذلك الاستقبال الأسطورى فلم يكن أحد يتوقع هذا الاستقبال بل أكثر من ذلك فلقد طلب رجال الأمن المرافقون له ألا يركب سيارة مكشوفة خوفًا عليه نتيجة فكرتهم التقليدية عن روح العداء التي سادت العلاقات المصرية الأمريكية مدة طويلة وخاصة بعد هزيمة 1967.. ولكن الجميع ذهلوا منذ بدأ الموكب يتحرك من المطار وحتى قصر القبة.


لقد خرج الشعب في تلقائية عجيبة مُعبرًا عن رغبته العارمة في الانفتاح على العالم الخارجي بعيدًا عن القيود والرواسب والعقد التي عاقت مسيرته مدة طويلة.. كان الاستقبال حارًا ومتدفقًا بحيث لا يستطيع أحد أن يدعى أن الاتحاد الاشتراكى مثلا قد باشر نفوذه كتنظيم سياسى ودفع كل هذه الجموع الغفيرة لكى تخرج على هذا الشكل الأسطورى.. فإذا كان من الممكن دفع الجماهير إلى الشوارع فإنه من المستحيل انتزاع هذه الهتافات الحارة وإذا كان من المستطاع إيقاف الجماهير على جانبي الطريق فإنه من غير الممكن إخراجهم إلى النوافذ والشرفات لتحية الرئيس الأمريكي بهذه الصورة.

هذا السلوك يُعد أكبر دليل على وعى شعبنا العميق بالتاريخ والحضارة، فهو شعب لا يُعادى من أجل العداء، ولكن من أجل الكرامة والعزة، وطالما أن أسباب العداء والانتقام كما أنه قادر على الصداقة والصفح.

وفى اعتقادى أن الشعب بهذا الاستقبال أراد أن يُعبر عن ضيقه البالغ من المعاملة المُغرضة والمريبة التي دأب الاتحاد السوفيتى على انتهاجها معنا سواء مع عبد الناصر أو معى، فكان من خلال ترحيبه الحار بنيكسون يقول للسوفيت أننا لا نقبل أن نعيش تحت رحمة أحد مهما كان.


أكدت أن قضية فلسطين هي الأساس

عندما وصلنا إلى قصر القبة ألقى كل منا كلمة، ثم أقيمت في المساء مأدبة عشاء في قصر القبة وأثناء العشاء تبادلنا الخُطب، وأكدت في خطبتى أن القضية الفلسطينية هي أساس المشكلة في الشرق الأوسط وإذا لم تحل هذه القضية فلا حل محتمل لمشكلة الشرق الأوسط، وقد علق بعض المراقبين السياسيين على تأكيدى هذا بأننى أضاعف من صعوبة مهمة نيكسون، ووضعه في مأزق يصعب الخروج منه، ولكن نيكسون ولم يكن من هؤلاء الساسة الذين يقيسون كل كلمة وكل موقف بحساسية لا لزوم لها، ولذلك قال في خطابه الذى رد به على وارتجل ردًا موضوعيً لمس فيه كل جوانب القضية. وكانت عادته في الارتجال تدل على فكرة المنطلق وقدرته على الإلمام بعناصر الموضوع دون جهد يُذكر..

وبعد العشاء شاهد نيكسون ومرافقوه حفلا فولكلوريًا صغيرًا بينما كان القمر الصناعى ينقل كل ما دار في العشاء والحفل من خلال محطة من محطات القمر الصناعى وحضرها الوفد الأمريكي معه.

وكما كان مقررًا في برنامج الزيارة ركبنا القطار في اليوم التالى من محطة قصر القبة في طريقنا إلى الإسكندرية. وما حدث في القاهرة من استقبال حافل وحار لا يمكن أن يُقاس بروعة ما رأيناه على طول الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية، فقد تحول الطريق إلى حناجر مدوية وهتافات حارة وأعلام خفاقة ومع ذلك فما حدث في الإسكندرية كان فوق الوصف والتخيل، فقد قوبل موكب نيكسون من سيدى جابر إلى قصر رأس التين بحفاوة لا أعتقد أن الإسكندرية شهدت لها مثيلا من قبل.

ولم يعرف الأمريكان أننى كنت أكثر ذهولا منهم لهذا الاستقبال الحافل، والتفسير الوحيد كما قلت أن شعبنا الذى يعرف الحضارة الإنسانية منذ سبعة آلاف سنة سرعان ما ينسى الأحقاد لكى يركز كل طاقته في استمرار مسيرته الحضارية وخاصة بعد أن وقفت أمريكا جانبًا في فض الاشتباك وعادت العلاقات الطبيعية بيننا.

ولقد أعلنت رسميًا أثناء اللقاء أن سلوك الأمريكان معنا كان مثالا للأمانة والرغبة المخلصة في الوصول إلى حل مشرف لقضية الشرق الأوسط، ويجب ألا نتعجب كيف رحب الشعب المصرى هذا الترحيب الهائل بالرئيس نيكسون حتى قبل أن نجتمع أو نتباحث أو نصل إلى أي اتفاق، فالمسألة - في رأيى - هي توجيه حديث ذكى وغير مباشر إلى الاتحاد السوفيتى حتى يتأكد من فشل سياسته تمامًا في الشرق الأوسط.

وهنا أحب أن أسجل بمناسبة هذا الحديث أن كل قراراتى السياسية والعسكرية المصيرية استلهم فيها روح الحضارة التي تميز الوعى العميق لشعبنا العريق فعندما أعلنت مبادرتى في فبراير 1971، وأنهيت سيطرة مراكز القوى في مايو 1971، وضعت حدًا لمهمة الخبراء السوفيت في يوليو 1972، وغير ذلك من القرارات المصيرية، سرعات ما فهمها الشعب وأدرك الأسباب الموضوعية التي أدت إلى تلك القرارات.. وشعب بهذا الوعى العميق والذكاء النادر لا يمكن أن يخضع لأية قوة في التاريخ مهما كانت غاشمة.

وصلنا إلى قصر رأس التين وفى المساء أقام نيكسون مأدبة عشاء ردًا على العشاء الذى أقمته في قصر القبة وكانت المأدبة أمريكية مائة في المائة.. تم إحضار الأطعمة كلها بالطائرة من الولايات المتحدة، في الوقت الذى قام فيه بحارة سفينة من سفن الأسطول الأمريكي بخدمة المدعوين وكانت هذه السفينة قد جاءت خصيصًا إلى الإسكندرية قبل وصول نيكسون بوقت قصير خصيصًا لهذه المهمة، كذلك كانت هناك فرقة موسيقية أمريكية وصلت على الطائرة التي أحضرت الأطعمة للعزف أثناء العشاء. كان الجو وديًا للغاية، ولم يفارق نيكسون الذهول طوال الزيارة بسبب الاستقبال الهائل الذى استقبل به، وقد انتاب نفس الشعور كل المعلقين والصحفيين ورجال الأمن الذين رافقوا نيكسون والذين نسوا الحديث عن الأمن وإجراءاته من شدة انبهارهم بما كان يحدث أمامهم.


محادثاتى مع نيكسون

استمرت المحادثات في القطار وفى المعمورة قبل العشاء. كانت كلها تدور حول حتمية الاحتفاظ بقوة الدفع الدائمة واللازمة لعملية السلام، وكان نيكسون يبدو واثقًا من نفسه ومن مستقبله السياسى ولم يكن يعطى أهمية لحادث ووترجيت، وأكد أنها لا تسبب له أي إزعاج بالمرة، وأنه قرر الاستمرار في منصبه إلى تنتهى مدته الدستورية.


نقاط الاتفاق

وكان المهم عندى أن نصل إلى اتفاق بخصوص بعض النقاط:

* الأولى: تختص بالمرحلة التالية لفض الاشتباك الذى تم حتى تحتفظ عملية السلام بقوة الدفع اللازمة لاستمرارها..

* والثانية: تدور حول الناحية الاقتصادية التي استحوذت على جزء كبير من اهتمامى لأننا ظللنا بعد حرب أكتوبر 1973 وإلى أن زارنا نيكسون ونحن نسير بقوة الدفع التي نتجت عن المبالغ التي دفعها لنا الأشقاء العرب بعد المعركة مباشرة والتي كان الفضل فيها للسعودية والكويت وأبو ظبى وقطر وهى الدول التي دفعت بأسلوب يعجز الإنسان عن التعبير عنه تقديرًا ولما قدمته طواعية واختيارًا، فقد أعطتنا السعودية 200 مليون دولار، والكويت 200 مليون دولار، أما أبو ظبى فلم يكن لديها في خزانتها ما تساهم به في الدعم لأنها كانت قد أممت شركات البترول ودفعت لها قيمة الأسهم، وحاولت أن تقترض من أمريكا فلم تقبل، ولكن الشيخ زايد(2) استطاع أنا يقترض 100 مليون دولار من بريطانيا وقدم المبلغ لمصر دون انتظار لكلمة شكر واحدة وضرب بذلك مثلا للشهامة العربية عندما تتجلى في أروع صورها.

كنا نسير اقتصاديًا بالقصور الذاتي، وكانت المبالغ العربية كفيلة بأن تجنبنا مرحلة الإفلاس، ولكنها لم تكن كافية لكى يقف اقتصادنا على قدميه مرة أخرى، وهذا أمر ترجع جذوره إلى ما قبل المعركة بكثير، ترجع إلى بداية الستينات ومنذ وزارة على صبرى فقد تراكمت المشكلات وتوالت العقبات، وبدلا من حلها أولا بأول كانت ترحل من وزارة إلى أخرى، أي من وزارة على صبرى، إلى وزارة زكريا محيى الدين، إلى وزارة صدقى سليمان(3)، واستمر الحال على هذا المنوال حتى انهار البناء الاقتصادى الأساسى للدولة كلها، وجاءت السنوات السبع العجاف لكى تقضى على ما تبقى في الخزانة المصرية..

في ضوء كل هذه الحقائق كانت الناحية الاقتصادية هي الضرورة المُلِحة والتالية مباشرة لاستمرار عملية السلام.

* أما النقطة الثالثة التي ناقشتها مع نيكسون فقد كانت خاصة بالمفاعل الذرى الذى طلبنا من أمريكا أن تقيمه لنا بالقرب من الإسكندرية لتحويل مياه البحر إلى مياه عذبه حتى يمكننا زراعة الصحراء التي تشكل حوالى 96% من مساحة بلدنا بينما لا تزيد المساحة الخضراء عن 3% أو 4% على أكثر تقدير.

* أما النقطة الرابعة في محادثاتى مع نيكسون فقد طلبت شراء أسلحة بطريقة مباشرة ودون أية وساطة وقد كانت هناك احتمالات شراء تلك الأسلحة من أمريكا عبر السعودية وإيران، وقد رحبت الدولتان بهذه المهمة وقد شكرتهما على موقفهما الطيب والأخوى ولكننى أبلغتهما أنه قد آن الآن للتعامل مع أمريكا بدون وسيط، وخاصة بعد قرار بتنويع مصادر الأسلحة والذى تمكنا بعده من شراء أسلحة من فرنسا، وأيضًا فنحن نشترى من بريطانيا بعض المعدات الإلكترونية وأجهزة ضبط التنشين وإدارة النيران وغيرها من الأجهزة الحديثة.


رفض إنهاء حالة الحرب

ولقد وجدت من نيكسون تفهمًا كاملا للنقاط الأربع التي ناقشتها معه..

اتفقنا تمامًا على النقطة الأولى التي تحدد المرحلة التالية لانسحاب إسرائيل في سبتمبر أو أكتوبر التالى على الأقل ولابد أن تشمل المضايق وآبار البترول وذلك لتهيئة الجو لعقد مؤتمر جنيف.

ولقد أفهمت نيكسون بمنتهى الصراحة والوضوح أنه وهو بصدد زيارته لإسرائيل سيتعرض لإلحاح من جانبهم لإنهاء حالة الحرب وقلت له أننى لست مستعدًا على الإطلاق لمناقشة هذا الموضوع إلا في حالة واحدة هي عندما نصل إلى الحل النهائي في مؤتمر جنيف، فبعد هذه المرحلة يمكن إنهاء حالة الحرب، أما قبول إنهاء حالة الحرب في أي مرحلة من المراحل بينما يحتل الإسرائيليون أجزاء من الأراضى العربية فهذا لا يعنى إلا أننا موافقون على استمرار احتلالهم بدليل أننى أنهيت الحرب وهم ما زالوا متواجدين في الأراضى العربية.

وافقنى نيكسون تمامًا على هذه النقطة..

أما بالنسبة للنقطة الثانية وهى التي تتعلق بالنواحى الاقتصادية فقد صارحنى بأن الولايات المتحدة تمر بظروف اقتصادية صعبة، نتجت عن التضخم والبطالة وقد ساهم حظر البترول العربى في مضاعفة تلك المصاعب الاقتصادية ولذلك فلن تستطيع الولايات المتحدة أن تساعدنا بمبلغ مباشر كبير ولكنها تستطيع أن تدفع بأصدقائها مثل ألمانيا الغربية واليابان إلى المساهمة في الدعم الاقتصادى لمصر، هذا طبعًا بالإضافة إلى ما نحصل عليه من الدول العربية.

أما بالنسبة للنقطة الثالثة التي تنص على قيام أمريكا بإنشاء مفاعل ذرى في مصر فقد عليها نيكسون وتمت فعلا إجراءات الإنشاء الأولية مثل دفع ثمن الوقود النووي حتى يصبح التعاقد ساريًا، وقائمًا بيننا.

أما بالنسبة للنقطة الرابعة وهى الخاصة بشراء أسلحة من أمريكا فقد أكد لى نيكسون أنه بمجرد أن تتم الخطوة الثانية من فض الاشتباك، فإن الرئيس الأمريكي يصبح فورًا في الوضع الذى يُمَّكِنه من الحصول على موافقة الكونجرس، وهى موافقة ضرورية في هذا الشأن، ولابد أن يراعى أي رئيس إمكانيات واحتمالات الحصول عليها، وبعد فض الاشتباك سيكون الجو كله مهيأ للتعامل في الأسلحة. وبالفعل قدمت إلى كل من نيكسون وكيسنجر كشف الأسلحة بكل المفردات المطلوبة.


ماذا فعلت إسرائيل؟

كان من الواضح تمامًا أن زيارة نيكسون قد حققت كل أغراضها، وتم خلالها الاتفاق على كل النقاط التي أثيرت في محادثاتى مع نيكسون وكيسنجر.. وهذا بالطبع أمر لم يجد قبولا لدى إسرائيل التي عاشت طفلا مدللا لأمريكا حوالى ربع قرن.. وقد نيكسون مشروع إنشاء المفاعل الذرى الذى وعد به إلى الكونجرس ومعه مشروع بمفاعل ذرى لإسرائيل - التي تملك ثلاثة مفاعلات ذرية. ورفضت إسرائيل قبول المفاعل الذرى الجديد وكانت النتيجة توقف مشروع مفاعلنا الذرى في الكونجرس لارتباطه بالمفاعل الإسرائيلي، هذا بالإضافة إلى المعركة المريرة التي بدأت نذرها تتطاير في الجو بين نيكسون والكونجرس في وقت مبكر لم يكن في حسابنا على الإطلاق.


قالوا لى أن نيسكون سيعتزل

وللحقيقة والتاريخ، فقد سمعت من المعلقين والصحفيين الأمريكيين المهمين من أمثال وولتر كرونكايت(4) وغيره من الذين رافقوا نيكسون لتغطية جولته في الشرق الأوسط أن نيكسون سيعتزل لا محالة شاء أو لم يشأ.. وبالرغم من ذلك فقد كان نيكسون في حديثه معى مطمئنًا للغاية على مستقبله السياسى.

وهنا لابد من سؤال هام وحيوى يحتاج إلى الإجابة:

- هل كان سليمًا أن نتعامل مع نيكسون حتى مع علمنا بأنه سيعتزل في القريب العاجل؟

وهنا يجب أن نضع في اعتبارنا ونحن نجيب على هذا السؤال أننا لا نتعامل مع نيكسون ولكننا نتعامل مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.. أي أننا نتعامل مع أمريكا من خلاله، ومن هنا فمن المفروض أن نستمر في تعاملنا معه حتى نبقى حلقة الاتصال مع أمريكا في أيدينا طالما أن الفرصة موجودة وطالما أن أوراق هذه اللعبة وهذا الصراع الدائر في الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل كلها بين يدى أمريكا على اعتبار أنها صاحبة الأمر والنهى بالنسبة لإسرائيل التي تعيش عالة عليها ابتداء من رغيف العيش والزبد إلى المدفع والطائرة، حتى أن عجز الميزانية في إسرائيل وتعتبره أمريكا ضمن مسئوليتها القومية..

وعلى هذا فسواء شئنا أو لم نشأ، رضينا أم لم نرض فإن مفتاح الموقف كله في يد أمريكا ونيكسون ما زال رئيسًا لأمريكا، فكيف أوقف التعامل معه حتى مع علمى المسبق أنه سوف يعتزل في خلال شهر أو شهرين..

التعامل معه يعطى الفرصة للاستمرار أي بمعنى أنه لو اعتزل أستطيع أن أواصل التعامل مع خلفه.. هذه هي المبادئ الأولية للاستراتيجية الشجاعة التي ترفض دفن رأسها في الرمال كالنعامة.


الالتواء.. والمزايدة

من هنا يتكشف لنا الالتواء والمزايدة والروح العنترية الفارغة وكل الأعراض المرضية التي تنتاب بعض السلطات العربية والتي لم نستطع التخلص منها بعد. فقد تعود بعض العرب أن يتغذوا على الخطب والبيانات والتصريحات والهتافات والشعارات واللافتات والانفعالات الهوجاء التي تزيد الأمور تعقيدًا بدلا من البحث العملى عن حل عملى. وأصبحت الحجة المفضلة التي يدارون بها عجزهم عن مواجهة الواقع هي رفضه، ورفض الواقع لا يعنى بالضرورة التحلل منه أو تغييره فهناك حسابات ودراسات لابد أن تجرى حتى يتم تغيير الواقع لصالحنا، أما عنتريات الجاهلية العربية فقد مضى أو أنها بعد حرب أكتوبر وآن للعرب جميعًا أن يتحدثوا بلغة العصر الذى يفهمها العالم وهى اللغة التي تحتم تعاملنا مع الزعماء الذين يمكن أن يُساهموا في حل مشكلتنا وكان الرئيس نيكسون من هؤلاء الزعماء دون شك.

في صباح اليوم الثالث من زيارة نيكسون ركبنا سويًا طائرة الهليكوبتر من قصر رأس التين واتجهنا إلى الهرم في الجيزة فلم يكن من المتصور أن يزور نيكسون مصر دون أن يتضمن برنامجه زيارة الأهرامات.. وبعد انتهاء الزيارة والتقاط الصور التاريخية فيها توجهنا إلى قصر عابدين وإذا بالقاهرة كلها تخرج من بكرة أبيها مرة أخرى بصورة مذهلة بالفعل..

وكان المفروض أن نركب سيارة مغلقة لأن الوقت كان ظهرًا والجو كان حارًا ولكننا اضطررنا إلى ركوب سيارة مكشوفة عندما بلغنا نفق الهرم حيث وجدنا أن شارع الهرم - برغم أنه كان جمعة والسكان فيه قليلون - لم يكن في الشارع موطئ لقدم على جانبيه فكيف يكون الحال داخل المدينة..

استبدلنا العربة المغلقة بالعربة المكشوفة عند النفق وحدث ما توقعته تمامًا.. هرع أهالى القاهرة - برغم العطلة الأسبوعية كما قلت - وهو حر الصيف ولهيب الظهيرة إلى الشوارع والشرفات والنوافذ بطول الطريق حتى قصر عابدين فما زال شعبنا الواعى الذكى يريد أن يؤكد للعالم أجمع أننا لا نتبع السوفييت ولا غير السوفييت فنحن أصدقاء الكل لأننا أسمى وأعلى من أي انحياز أو تبعية أو وصاية.


أول بيان مشترك مع أمريكا

بعد استراحة قصيرة في قصر عابدين أتممنا محادثاتنا وانتهينا إلى الخطوط الرئيسية التي تمثلت في النقاط الأربع الت تناولها بالتحليل من قبل، ثم عقدنا مؤتمرًا صحفيًا أذيع فيه البيان المشترك الذى تعهد فيه الرئيس الأمريكي نيكسون بمساعدات على مدى طويل تصل إلى حوالى 2 مليار دولا وهى مساعدات ليست نقدية ولكنها تسهيلات من شأنها دعم الاقتصاد المصرى وتدعيم الصداقة المصرية الأمريكية.

كذلك ذكر البيان المشترك مشروع المفاعل الذرى.

أما مسألة التحرك لحل القضية فقد ذكرها البيان في عبارات عامة لأنها تحتاج إلى مباحثات ودراسات خارج نطاق البيان.

كذلك لم يذكر البيان شيئًا عن النقطة الرابعة الخاصة بالتسليح الأمريكي للقوات المصرية حتى لا تتحرك إسرائيل ضد نيكسون في الكونجرس وتعرقل مهمته.

سافر نيكسون بعد الأيام الثلاثة الأولى التي قضاها في مصر إلى السعودية حيث قضى فيها يومًا واحدًا ومثله في كل من سوريا والأردن وإسرائيل.

في إسرائيل وفى الرجل بوعده، فلم يكن خائفًا ومن شيء فقد كان رئيسًا قويًا بمعنى الكلمة ولو بقى في منصبه إلى نهاية مدته لكانت الخطوة الثانية من فض الاشتباك قد تمت في سبتمبر أو أكتوبر 1974 على أكثر تقدير..


نيكسون في إسرائيل

عندما وصل نيكسون إلى إسرائيل قال في أول خطاب له أن على الإسرائيليين أن يعدوا أنفسهم لاتخاذ قرارات قد تكون مؤلمة لهم.. قال ذلك بمنتهى الصراحة والوضوح مما يدل على حرصه واحترامه لكلمته واتفاقه معنا..

وهنا جن جنون الصهاينة من نيكسون وبدأوا يسرعون الخطى للخلاص منه.

عاد نيكسون بعد ذلك إلى أمريكا ثم قام بزيارة للاتحاد السوفيتى وعندما عاد إلى بلده تحولت قضية ووترجيت إلى حمى اجتاحت المجتمع الأمريكي كله، ومما لا شك فيه أن الأيدى الصهيونية لعبت دورها في هذا التحرك المحموم فقد وجد الصهاينة أن نيكسون قد بدأ في الضغط الفعلى عليهم دون خوف من الانتخابات واعتبروا البيان المصرى الأمريكي جرس انذار لتغييرات جوهرية في الوضع السائد في الشرق الأوسط.

وكانت إسرائيل قد انزعجت انزعاجًا لا يُوصف عندما فوجئت بالاستقبال الحماسى والتلقائى الذى أذهل به شعبنا نيكسون ومرافقيه حتى أنه قال لى أنه لم يلق في حياته مثل هذا الاستقبال وأضاف أعضاء الوفد المرافق له إلى ذلك أن هذا الاستقبال لم يحدث في التاريخ.

كل هذا دفع الصهاينة إلى التخلص السريع من نيكسون فلم يحتمل الأمر بضعة أسابيع قليلة بعد زيارته لمصر إلا وكان خارج البيت الأبيض..

وكان من بين أهداف إسرائيل التخلص أيضًا من كيسنجر الذى كان من المتوقع أن يعتزل بعد فضيحة نيكسون فهو الشاهد الباقى الوحيد على هزيمة إسرائيل الفاضحة في أكتوبر 1973، ولذلك أصبح هدفًا لحملات مسعورة تهدف إلى التخلص منه وتعيين وزير خارجية جديد، وحتى يكسبوا الوقت لحين الوصول إلى سنة الانتخابات وهذا هو السبب الذى جعلهم يستميتون في القضاء على مهمة كيسنجر في مارس 1975..

-----------------

هوامش:

(1) فى عام 1968م فاز الرئيس ريتشارد نيكسون بصعوبة أمام منافسه الديمقراطى "همفرى" بفارق 1.5% من الأصوات.. مما جعل الرئيس ريتشارد نيكسون أثناء انتخابات التجديد للرئاسة عام 1972م يقرر التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترجيت. وفي 17 يونيو 1972 ألقي القبض على خمسة أشخاص في واشنطن بمقر الحزب الديمقراطي وهم يضعون أجهزة تسجيل للتجسس.. وكانت نتيجة هذه الفضيحة هى استقالة ريتشارد نيكسون فى أغسطس عام 1974م ليتولى نائبه جيرالد فورد الرئاسة حتى نهاية المدة.

(2) الشيخ زايد بن سلطان بن زايد بن خليفة بن شخبوط بن ذياب بن عيسى بن نهيان آل نهيان: ولد فى 6 مايو 1918م.. تولى حكم دولة الإمارات العربية المتحدة فى الفترة من 1971م وحتى وفاته فى 2 نوفمبر 2004م

(3) محمد صدقى سليمان: ولد 1919م.. تولى رئاسة الوزراء فى الفترة من 10 سبتمبر 1966م وحتى 19 يونيو 1967م.. وتوفى 28 مارس 1996م

(4) وولتر (والتر) ليلاند كرونكايت: مذيع أمريكى ولد فى 4 نوفمبر 1916م.. كان من أفضل مذيعى أخبار محطة سى بى سى إيفينننج نيوز لمدة 19 عام من 1962م وحتى 1981م... وكان عادة يلقب بـ "أصدق رجل فى أمريكا". توفى فى 17 يوليو 2009م




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.