‏إظهار الرسائل ذات التسميات محمد أنور السادات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات محمد أنور السادات. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 21 مارس 2021

10 البيت الأبيض.. بعد كل هذا

10

البيت الأبيض.. بعد كل هذا

العريضة التي وقعها 76 شيخًا لم تكن تعبر إلا عن رأى 22 شيخًا

الأهرام الثلاثاء 28 أكتوبر 1975م - 24 شوال 1395هـ


ظن الإسرائيليون بعد ذلك أن التحرك نحو السلم قد فقد قوة الدفع اللازمة له واطمأنوا بعض الشئ ولكن يقظتنا كانت تحتم علينا ألا نترك زمم المبادرة لكى يفلت من أيدينا. ولعل هذا هو السبب الجوهرى وراء اجتماعى بالرئيس فورد في سالزبورج في أول يونيو 1975. وهو الاجتماع الذى بدأ بإقامتى مأدبة غداء للرئيس فورد في قلعة فوتشيل شلوس القديمة التي نزلت بها، وتقع على بحيرة في وسط الجبال حيث جمال الخالق يحيطها من كل جانب. حضر فورد الغداء وألقى كلمته. وكانت هذه أول مرة ألقاه فيها.

إن الرئيس فورد من زعماء العالم الذين يرتاح إليهم الإنسان من أول لقاء وهذه يرجع إلى سمات البساطة والوضوح والطيبة التي تبدو على وجهه وفى سلوكه. وكنت قد شاهدت فيلمًا عن الرئيس فورد في أول لقاء له مع أعضاء الكونجرس بعد توليه. ومن الفيلم أدركت أن كل ما في الرئيس فورد ينم على الصدق والصراحة والوضوح، سواء في كلامه أو هيئته أو سلوكه. وعندما قابلته شخصيًا تأكدت لدى الفكرة التي كونتها من الفيلم. فكان أهمها ركز عليه في الكلمة التي ألقاها على الغداء أن أمريكا لن تسمح بتجمد الموقف أو تجميده مرة أخرى. وكان ردى عليه أنه حان وقت اتخاذ القرارات الحاسمة، وأمريكا ليست في حاجة لكى نعيد على مسامعها أن كل الأوراق في يديها، وأنها المصر الرئيس للحياة في إسرائيل سواء في السلم أو في الحرب، وأنها الدولة الوحيدة في العالم التي يمكنها أن تؤثر على إسرائيل تأثيرًا حاسمًا. والتأثير الحاسم لابد وأن يحتاج إلى قرار حاسم وهو ما يتحتم على أمريكا أن تتخذه الآن حفاظًا على وزنها الدولى الكبير في منطقة الشرق الأوسط.

بعد الظهر ذهبنا إلى القصر الذى ستُعقد فيه المباحثات. وكان الوفد الأمريكي مكونًا من الرئيس جيرالد فورد ووزير الخارجية هنرى كيسنجر ومساعد وزير الخارجية جوزيف سيسكو، وكنت على رأس الوفد المصرى الذى تكون من نائب رئيس الجمهورية محمد حسنى مبارك ونائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية إسماعيل فهمى. وبدأت الجلسة الأولى بطريق المشكلة رأسًا.

وطلب الرئيس فورد من أن أشرح له وجهة نظرى، فأوضحتها له في الخطوط الرئيسية التي تتمثل في أن مفتاح الموقف كله في يد أمريكا لأنه لا قائمة لإسرائيل ولا كيان لها بدون أمريكا، ومع ذلك فإنه أمر شاذ للغاية أن تعمل إسرائيل على ضرب سياسية أمريكا في المنطقة القائمة على عدم تجميد الموقف في المنطقة من أجل حل يقوم على العدل، وتعمد إسرائيل إلى تشويه وجه أمريكا بإفشال سياسة الخطوة بخطوة. وهى السياسة التي جوهرها هو دفع الموقف باستمرار لتجنب التجمد، وهى السياسة التي يعمل الاتحاد السوفيتى كل جهده لمهاجمتها وإفسادها والتندر عليها ومحاولة تأليب من يدورون في فلكه في العالم العربى لضرب التضامن العربى. وبهذا تكون إسرائيل متحالفة مع الاتحاد السوفيتى ضد الولايات المتحدة.

وفى نهاية تحليلى للموقف ذكرت أننى قلت لكيسنجر أثناء قيامه بمفاوضات الخطوة خطوة أن سياسته لن تنجح لأنه من الواضح أن إسرائيل تستغل الخلاف الراهن بين الكونجرس والحكومة الأمريكية لكى تنفذ منه إلى التخلص من كيسنجر حتى تكسب الوقت وتصل إلى الانتخابات عام 1976، وهو العام الذى تعجز فيه السياسة الأمريكية عن التحرك والحسم. وبعد ذلك يأتي عام 1977 على أمل أن يكون الموقف العربى قد تفتت. فإسرائيل تعتقد أن العرب عاطفيون وانفعاليون، ولذلك فإن السياسة الإسرائيلية تضع في اعتبارها دائمًا أن العرب عاجزون عن التماسك مدة طويلة. وهى في انتظار التفكك إن عاجلا أو آجلا من هنا كانت استماتتها لكى تكسب الوقت بقدر الإمكان.

ومن ناحية أخرى فقد أكدت في مباحثاتى مع فورد أن إسرائيل تخشى السلام ولا تقدر على صنعه. فقد ظلت زهاء 26 أو 27 عامًا تتغنى بكلمة السلام حتى صدق العالم أنها الدولة الوديعة المحبة للسلام وأن مأساتها أنها وقعت وسط غابة من الوحوش المتصارعة. وقد ساعد العرب إسرائيل في تكوين هذه الصورة البشعة لهم بسبب إصرارهم على رفض أي خطوة إيجابية لكسب العالم إلى جانب قضيتهم العادلة وتركوا بذلك الميدان خاليًا لإسرائيل لكى تصول وتجول فيه كما تهوى.

وبذلك أصبحت إسرائيل رمزًا للسلام والحضارة والمدنية والتقدم، بينما صار العرب رمزًا للحرب والتخلف والدمار والرجعية برغم أنهم أصحاب القضية العادلة.

لقد تمكنت إسرائيل من تخدير العالم بأحلام السلام بتأكيدها أن كل أملها في الدنيا يتمثل في إقامة سلام بينها وبين العرب.

وعندما ظهر رئيس عربى قادر على توقيع اتفاقية سلام أسقط في يد إسرائيل التي سحب من يدها أخطر سلاح استعملته لكسب الرأي العام العالمى إلى جانبها. ولم أعلن عن استعدادى لتوقيع اتفاقية سلام بعد المعركة فقط في 1973 بل صرحت بهذا منذ عام 1971. فأين ذهب تغنى إسرائيل بأمل السلام البعيد الذى أصبح قريبًا؟

إن إسرائيل تخشى السلام ولا تحب ولا تقدر على صنعه لأنها دولة أقامت كيانها على الحرب والعدوان. فهى إما تعيش في حرب فعلية أو على أمل حرب مقبلة. وكل المعونات الحربية والسلمية تستمدها من أكاذيبها التي تنشرها في كل مكان، والتي تدعى فيها أن العرب يهددون كيانها بينما الواقع يؤكد أنها هي التي تهدد الكيان العربى كله من حين لآخر بدليل أنها ضاعفت مساحتها عدة مرات، وكان العرب يخسرون دائمًا.

وأوضحت أيضًا أمام فورد أن إسرائيل لا تملك الحكومة القوية التي تستطيع أن تحقق السلام أو حتى تتحرك في اتجاهه. فحكومة رابين حكومة ضعيفة جدًا كقيادة وكزعامة، ورابين لا يستطيع مصارحة شعبه بحقائق الموقف. بينما الشعب الإسرائيلي نفسه يعيش نفس حالات التشتت والتمزق والضياع التي عانيناها في مصر وفى الأمة العربية جمعاء قبل معركة أكتوبر 1973. وما زال الجميع في إسرائيل يتعلقون بنظرية الأمن القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب. وهى النظرية التي تُنادى بفرض الصلح بالقوة على العرب، والتفوق في السلاح والسيادة على الجو وكل العناصر التي من شأنها استمرار الاستسلام العربى كاملا.


ماذا يواجه فورد..

وبعد الانتهاء من تحليلى للموقف قلت لفورد صراحة أنها أمام امتحان ونأمل أن يجتازه بنجاح. وموقفه يشبه إلى حد كبير موقف الرئيس أيزنهاور عام 1956 عندما هجمت إسرائيل - بتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا - على مصر في 31 أكتوبر أي قبل الانتخابات الأمريكية بأسبوع واحد فقط على أساس أن الرئيس الأمريكي سيكون مشغولا بالانتخابات، وعاجزًا عن اتخاذ أي قرار حاسم ضد العدوان. ولكن أيزنهاور كان زعيمًا شريفًا ووقف بكل حزم واتخذ قراره بكل حسن. ولم يكن قراره ضد إسرائيل فقط، بل كان ضد بريطانيا وفرنسا أيضًا. ومع ذلك نجح في الانتخابات ضاربًا بأصوات اليهود الأمريكيين عرض الحائط. إذن فالقضية تحتاج إلى جرأة وإقدام، وكل المطلوب هو اتخاذ موقف حازم يتوجه قرار حاسم.

عقب فورد على كلمتى باقتناع كامل في أن لا يتجمد الموقف مهما كان الجهد الذى يُبذل لكى تستمر قوة الدفع لعملية السلام واقترح أن تقوم أمريكا بمحاولة أخرى على طريق الخطوة خطوة.. ووافقت بعد أن حللنا الموقف تحليلا كاملا من وجهة نظر استمرار الدفع. وصرح بأنه وصل إلى هذا الاقتناع بالفعل.

وعندئذ تدخل كيسنجر مستفسرًا عن النقطة التي توقفت عندها المفاوضات في المرحلة الماضية. وكنا قد وقفنا عند نقطتين:

الأولى: مدة صلاحية الاتفاق.

والثانية: جهاز الإنذار المبكر [المونيتور] الذى تضعه إسرائيل على المضايق لكى تكشف به كل التحركات على جبهتنا.

وفيما يختص بالنقطة الأولى كان الإسرائيليون يطالبون بأن ينص الاتفاق على أن تكون مدته من ثلاث إلى خمس سنوات. وبالطبع رفضنا هذا الشرط الذى نوقش في مفاوضات كيسنجر في مارس 1975. وحددت موقفى بأننى بكلمة واحدة أقولها وهى أننى مستعد لتحديد بقاء قوات الطوارئ الدولية سنويا بدلا من كل ستة أشهر. ولا يمكن أن أعد بأكثر من هذا في نقطة مدة صلاحية الاتفاق، فسأجددها سنويًا على أساس أن عملية السلام مستمرة ومتقدمة. ولا يعقل أن أجددها كل سنة بينما عملية السلام متجمدة واقفة في محلها. أي لا يمكن الفصل بين شرط تجديد المدة وشرط تقدم عملية السلام. وأعطيت كلمتى للرئيس فورد أن أراعى في حساباتى سنة الانتخابات.

أما بالنسبة للنقطة الثانية التي تدور حول جهاز الإنذار المبكر [المونيتور] الذى يكشف عن تحركاتنا وموضوع بقائهم في ممر من الممرات، فإن الإسرائيليين يبدون استعدادهم للخروج من الضايق بشرط استبقاء الجهاز في موقعه. ولكننى رفضت هذا العرض.

عندئذ قال كيسنجر أنه بما أننا وقفنا عند هاتين النقطتين في المفاوضات السابقة، فهل هناك أمل في تحرك جديد من ناحية مصر يمكن الرئيس الأمريكي من طرحه على إسرائيل والدخول معها في جولة جديدة من سياسة الخطوة خطوة بصرف النظر عن استغلالها للخلاف الراهن بين الكونجرس والحكومة الأمريكية؟

أدركت في الحال السبب الذى دفع كيسنجر لكى يطلب هذا الطلب. فعندما فشلت مهمة كيسنجر وطلب اجتماع الرئيس فورد بى في سالزبورج، كان معنى هذه الخطوة أن الرئيس فورد قرر أن يدخل الميدان بشخصه وثقله كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية بهدف الوصول إلى حل للمشكلة.

والحل الأمثل طبعًا هو أن يتم حل نهائي للمشكلة ولكن بالنسبة للظروف التي يجتازها الموقف الأمريكي داخليًا بعد ووترجيت وموقف الكونجرس من الرئيس الأمريكي فإن المتاح هو محاولة الخطوة خطوة مرة أخرى. وكانت هذه الحلول المطروحة سواء في إعادة تقييم السياسة الأمريكية من ناحية أمريكا أو من جانب مجموعة العمل المصرية التي تعمل معى في هذه القضية.

ومن هنا جاء استفسار كيسنجر عن إمكانية تحرك مصري جديد يُشكل نقطة انطلاق لفورد وفى الوقت ذاته يتحول إلى سلاح يواجه به جماعات الضغط الصهيوني في الكونجرس ومجلس الشيوخ وكل المواقع السياسية الحساسة في الولايات المتحدة، وذلك بعد أن اتفقنا أن الممكن فى هذه المرحلة هو الخطوة خطوة مرة أخرى في سبيل الحل النهائي الذى يكون في جنيف بحضور جميع الأطراف وبعد أن يكون الموقف الأمريكي قد استجمع كل قوته.

والدليل على وجود هذه الضغوط الصهيونية، أنه قبل أن يُغادر فورد واشنطن في طريقه إلى سالزبورج وقع ستة وسبعون من الشيوخ الأمريكيين على عريضة تطالب الرئيس الأمريكي بتقديم كافة الأسلحة الحديثة والمعونات الاقتصادية والمساعدات العينية إلى إسرائيل، لأن تفوق إسرائيل هو الضمان الوحيد لاستقرار السلام في المنطقة. ولكن فورد نبهنى إلى أن هذا الموضوع لا يجب أن يشغلنا عن المضي في عملنا، فهذه هي عادة المجال النيابية التي عمل بها طويلا، وأضاف أننى اشتغلت أيضًا رئيسًا لمجلس الأمة في مصر، ولذلك فنحن نعرف أن هذا التقليد النيابى القديم الذى لا يمنع أي نائب في المجلس من أن يكتب عريضة ثم يمر على زملائه لكى يجمع توقيعاتهم. ومعظم الأعضاء يلقون بنظرة غير متفحصة ثم يوقعون من فورهم. ومن حساباتنا في مجموعة العمل المصرية فإن الرقم الحقيقى للشيوخ المتعاطفين بالكامل مع إسرائيل لا يزيد عن 22 من الستة والسبعين نائبًا الذين وقعوا العريضة كالمعتاد واضعين في اعتبارهم النفوذ الصهيوني على دوائرهم الانتخابية(1) وقد علمنا بعد ذلك من سفارتنا في واشنطن أن بعض الموقعين على العريضة اتصل تليفونيًا بالرئيس فورد بعد ذلك: وقالوا له أن توقيعاتهم لا تعنى أنهم يرفضون السلام، ولكنهم يهدفون فقط إلى الحفاظ على الكيان الإسرائيلي.

ولم أسأل الرئيس الأمريكي في ذلك.


حل لمواجهة الضغط

ولكن لكى يرتفع الرئيس فورد فوق كل هذه الاعتبارات المحلية والصراعات الداخلية، فإنه يحتاج إلى سلاح جوى جديد في يده يواجه به جماعات الضغط في كل مكان. هكذا كان رأى كيسنجر حتى تدخل القضية مرحلة جديدة. ولكننى أكدت أننى لا أملك عرضًا جديدًا فيما يختص بالنقطة الأولى وهى مدة صلاحية الاتفاق، وأنا مازلت عند كلمتى في حالة انسحابهم من المضايق والبترول، سأمد بقاء قوات الطوارئ الدولية سنويًا بدلا من ستة أشهر..

عندئذ قال كيسنجر أن إسرائيل تتخوف من أن يستخدم الاتحاد السوفييتى حق الفيتو ضد بقاء قوات الطوارئ الدولية على سبيل خلق المتاعب، لأنه لم يكن له دور في هذه الخطوة إذا تمت، أو أن يعترض في مجلس الأمن على وجود قوات الطوارئ. فماذا سيكون الوضع عندئذ؟

قلت لكيسنجر أن هذا لن يُقدم ولن يؤخر شيئًا بالنسبة لى طالما أننى موافق على وجود قوات الطوارئ على أرضى نتيجة لدفع عملية السلام. هذا بالإضافة إلى أننى عندما أرغب شخصيًا في إنهاء بقاء قوات الطوارئ الدولية فسأفعل هذا في الحال دون الحاجة إلى قرار من مجلس الأمن أو فيتو من الاتحاد السوفيتى. فهذه ليست مشكلة على الإطلاق فالمسألة مسألة نية وليست مجرد إجراءات شكلية. وقد سبق لنا أن نفذنا كل ما قمنا به من تعهدات. والأمريكان يعلمون جيدًا أن إسرائيل هي التي تخل دائمًا بالتزاماتها اعتمادًا على معاملة التدليل التي تلقاها من الأمريكان أنفسهم.

ولذلك فأنا أرى أن الأساس في حل المشكلة هو دخول أمريكا كضامنة بيننا وبين إسرائيل، وخاصة أن الامريكان يعرفوننا جيدًا ويثقون في كلمتنا كما نثق نحن في صدق الجهد الذى يبذله كيسنجر منذ أول لقاء لى معه في نوفمبر 1973 بعد الحرب مباشرة لإقامة سلام مبنى على العدل. وقد حان الوقت أن تثق إسرائيل فيهم. لأنها على الرغم من كل ما تحصل عليه من أمريكا التي أنقذتها وأوقفتها على قدميها سواء في وقت الحرب أو السلم، على الرغم من كل هذ فإن إسرائيل لا تثق في أمريكا أبدًا كما أنها لا تثق في أية دولة أخرى. وهذه هي السمة الرئيسية لسلوك اليهود على مر العصور، فهم يشكون في كل الناس. وكانت نتيجة هذا الشك الأزلى أنهم كانوا يرفضون معاشرة الناس أو الاختلاط بهم على مر العصور: فانعزلوا في الجيتو والأحياء التي أغلقت عليهم في معظم مدن العالم.

وقد طلبت من جانبي أربعة مطالب لإكمال هذا التحرك هي:

أولا: أن يتم فض اشباك على الجبهة السورية.

ثانيًا: أن أحصل على ضمان أمريكى بعدم عدوان إسرائيل على سوريا.

ثالثًا: أن يشترك الفلسطينيون في التسوية في مؤتمر جنيف.

رابعًا: أن ينعقد مؤتمر جنيف بعد إتمام فض الاشتباك على الجبهتين..

وبالنسبة لمساهمة الأمريكان في حل القضية، فقد أردت أن يدخلوا كشهود على ما يجرى بيننا وبين إسرائيل لكى يحكموا بأنفسهم: من الذى يكذب ومن الذى يفى بتعهداته؟ فالقضية أصبحت لا تحتمل أي تلاعب أكثر من ذلك.


مشكلة جهاز الإنذار

وبالنسبة للنقطة الثانية الخاصة بجهاز الإنذار المبكر [المونيتور] فقد نوقشت في جلسة المباحثات الأخيرة في اليوم التالى وأكدت على عملية دخول أمريكا بكل وزنها في القضية عن طريق التقدم بعرض أمريكى يحدد المواقف بعد ذلك بناء على من سيقبله ومن سيرفضه. وبذلك يتحول تلاعب إسرائيل إلى التزام أمام الدولة الكبرى التي تمنحها كل شيء. وهناك سابقة مشابهة في فك الارتباط الأول الذى عندما أوشك على الانهيار، طلبت من كيسنجر أن يتقدم بعرض أمريكى إلى كل من مصر وإسرائيل. فقد كانت إسرائيل معبأة بعقد العظمة المنهارة وأحلام السيادة التي تلاشت أمام أكتوبر المجيد وغير قادرة على اتخاذ أي قرار. ولكن عندما تقدم كيسنجر بالعرض الأمريكي قبله الطرفان. ومن الصعب على إسرائيل بالطبع أن ترفض عرض الدولة التي بدونها لا حياة لها على الإطلاق.

ولكى تدخل أمريكا بكل وزنها في القضية وتتحول من موقع الخصم المعادى لنا إلى موقف الشاهد المحايد، طلبت منها أن تقوم ببناء جهاز إنذار مبكر شبيه بذلك الذى أقامته لإسرائيل حتى يكشف لنا نحن أيضًا عن التحركات الإسرائيلية.

وهذا الجهاز أحدث ما في العصر الإلكترونى من ابتكارات لأنه لا يكشف التحركات العسكرية فقط، ولكنه يقوم بالتشويش على أجهزة الرادار، واللاسلكى، وبطاريات الصواريخ، أي كل الأجهزة الحربية التي تستخدم الرادار واللاسلكى.

وكنت أعلم أن الاتحاد السوفيتى يملك هذا الجهاز، ولكننى إذا طلبته منهم فلن أحصل عليه بالتأكيد. وقد حكيت للشعب عن حكاية الأجهزة البدائية التي كانت لدينا ورفضوا أن يعمل عليها المصرين ثم سحبوها مع قرار سحب الخبراء ورفضوا بيعها لنا برغم أننى طلبت شراءها أكثر من مرة وكانت حجتهم أنها تحت التجربة مع أنها أجهزة عادية وبدائية ولديهم ما هو أحدث منها بمراحل. أما أمريكا ففي إمكانى أن أصل إلى قرار حاسم معها، وهذه هي السياسة الأمريكية التي لا ترتاح إلى أنصاف الحلول بصفة عامة.

ولذلك قبلت بقاء جهاز الإنذار المبكر الإسرائيلي على أساس حصولى على جهاز مثله وبشرط أن يشرف على الجهاز مدنيون أمريكيون، أي شهود على تحركات إسرائيل وتحركات على الجبهة منعًا لأية أكاذيب أو ادعاءات أو تلاعب في المستقبل.

وفى تلك اللحظة أدركت أن الرئيس فورد سياسى من الطراز الأول وليس رئيسًا مترددًا أو خائفًا وتنقصه الخبرة والباع الطول. كان يدخن البايب - مثلى تمامًا - ومن خلال الدخان المتصاعد صاح قائلا لكيسنجر "إن هذه العملية يمكن أن تكون مفتاحًا لحل الموقف"، أي أنها ستلقى قبولا من كل الدوائر المعنية. كان كيسنجر مذهولا من المفاجأة ولكننى أضفت أن بقاء قوات الطوارئ الدولية لا يساوى شيئًا بجانب هذا العرض المصرى الجديد الذى كنت أهدف منه إلى أن أحصل على جهاز مثل هذا يعتبر إضافة كبيرة إلى قواتنا المسلحة. وأن لا يبقى أبنائى في القوات المسلحة في وضع يحصلون فيه على معلوماتهم عن عدوهم بطرق متخلفة خاصة وأن الاتحاد السوفيتى رفض أيضًا أن يجرى لنا الاستطلاع. بطائرات الفوكسبات وقد سحبها أخيرًا. كما أعلنت للشعب.


دهاء كيسنجر

ولكن كيسنجر لم يرغب في التخلي عن دهائه، فسألنى عن المصدر الذى سأحصل منه على جهاز الإنذار المبكر.

فأجبته بمنتهى البساطة أننى سأقوم بشرائه من أمريكا نفسها فكما أنهم أرسلوا هذا الجهاز إلى الإسرائيليين كأصدقاء، فنحن نطلب الجهاز بنفس الشروط لأننا أصدقاء الأمريكان أيضًا، ولكن ليس على سبيل المنحة لأننا سنشتريه. وسيقوم بالعمل عليه مصريون وبذلك ندخل عصر أحدث تكنولوجيا ويحصل أبنائى في القوات المسلحة على أرقى ما وصل إليه العلم.

وبالفعل حاز هذا العرض إعجاب الرئيس فورد ووافق على أن يبيعنى هذا الجهاز بكل ما فيه من تكنولوجيا غالية ويتكلف ثمنه كثر من مائة مليون دولار.


الناحية الاقتصادية

بالنسبة للناحية الاقتصادية أفهمت الأمريكان أن المطلوب لتدعيم اقتصادنا ليس 1500 مليون دولا كما يتصورون، ولكنه 1500 مليون جنيه استرلينى. وسأحصل على نصف المبلغ من العرب كقروض طويلة وبفوائد مخففة، وبفترة سماح أربع أو خمس سنوات بحيث أبدأ في لدفع المنتظم بمجرد أن يقف اقتصادنا على قدميه، وأخذ نقطة الابتداء ثم الانطلاق بعدها.

أما المعونات الخيرية فأنا أرفضها رفضًا باتًا على سبيل المبدأ. والسعودية والكويت وقطر وأبو ظبى على أتم استعداد لإقراضى بأكثر من نصف المبلغ. أما عن أمريكا فأنا أعلم أنها لم تستطيع معونتى بأكثر من 500 مليون دولار - كما علمت من الرئيس الأمريكي من قبل - على أساس 250 مليون دولار للصندوق و250 للمعونة العادية مثل تلك التي حصلنا عليها في العام الماضى [1974].

وطلبت من فورد أن يعمل على تدبير النصف الآخر كقروض طويلة الأجل منه ومن حلفائه وقد قبل الرئيس فورد.


الفضل لحرب أكتوبر

وهكذا كان اجتماع سالزبورج اجتماعًا مثمرًا وبناء للغاية. فلم يقتصر فقط على جس النبض والتعارف، بل تخطى هذه المرحلة إلى مرحلة الالتقاء في وجهات نظر عديدة مما أضاف أبعادًا جديدة إلى العلاقات المصرية الأمريكية التي كان الفضل في عودتها إلى مجاريها الطبيعية يرجع إلى حرب أكتوبر والمساعى الحميدة والجهود المشكورة التي بذله الدكتور كيسنجر في فض الاشتباك الأول.

وفى اعتقادى أن أهم شيء خرجنا به من اجتماع سالزبورج - وهذا ما قلته لحسنى مبارك وإسماعيل فهمى - تلك الصداقة التي ترعرعت بيننا وبين فورد: حتى لو لم يتم شيء بخصوص النقاط التي نوقشت. فمجرد الاحتفاظ بأمريكا إلى جانبنا مكسب كبير في حد ذاته. ولذلك نبهت الرئيس الأمريكي إلى هذا وأعربت له عن إصرارى على الاختيار الأول الذى يحمل في طياته التصور الشامل والحل الكامل لمشكلة الشرق الأوسط من جانب أمريكا. وخاصة أن وقوف أمريكا إلى جانب الحق العربى في جنيف سيغير الوضع كلية بما يتيح للمشكلة أن تتحرك في طريق الحل أخيرًا. أما إذا نجحت إسرائيل في أن تجعل أمريكا تنحاز كلية إلى جانبها فمعنى ذلك أن المشكلة ستتجمد إلى ما لا نهاية. هذا إذا لم تتعقد أكثر وتصبح مستعصية على الحل بحيث لا تجرؤ أية قوة في العالم على الاقتراب منها.


المزايدون العرب

ومنذ فض الاشتباك الأول مع أمريكا قررت التعامل مع الأصل وليس مع الفرع. فأمريكا تملك مفتاح الموقف كله، أما إسرائيل فكلها متاهات جانبية وطرق مسدودة. ولكن بعض العرب يزايد عن خبث وسوء نية، والبعض الآخر يتصرف بناء على انفعال أهوج، وضيق أفق، وعدم استيعاب لمتغيرات العصر. ولذلك لا يفهمون معنى إصرارى على التعاون مع أمريكا فهى تملك مفتاح الموقف كله وفى يدها كل أوراق اللعبة أو القضية في الشرق الأوسط سواء شئنا أو لم نشأ، رضينا أو لم نرض. فإذا فشلت الخطوة خطوة يمكننا الذهاب إلى جنيف دون شك أو تخوف من الموقف الأمريكي. وبذلك نمنع الاستقطاب وحالة الركود الناتجة عنه عندما تنحاز أمريكا تمامًا إلى جانب إسرائيل، ويقف الاتحاد السوفيتى إلى جانب العرب بأسلوبه المعروف.

ومن هنا كان حرصى على أن تظل أمريكا محايدة إلى الحد الذى تسمح به الأوضاع الأمريكية بيننا وبين إسرائيل في حالة إذا لم نجعلها إلى جانبنا. فالنظرة الأمريكية عندما تكون موضوعية وغير منحازة انحيازًا أعمى كما كان الحال في سنة 1967 وما قبلها وما بعدها مكسب كبير في حد ذاته وفى أية مرحلة من المراحل سواء نجح كيسنجر في سياسة الخطوة خطوة أم فشل، سواء نجح في مؤتمر جنيف أم فشل. فلابد وأن نواجه مشكلتنا ونحلها طالما أن الله عز وجل قد منحنا العقل الذى نفكر به، والإرادة التي نستمر بها، والقرار المستقل الذى يمكن أن نصدره دون خوف من أحد. فنحن نعرف صالحنا والقرار الذى يمكن أن يصدر عنه.

وأمريكا تعلم جيدًا أننا خرجنا نهائيًا من المأزق الذى وقعنا فيه منذ عام 1967. وبعد أكتوبر 1973 صدرنا المأزق بالكامل إلى إسرائيل التي أصبحت تواجه بمأزق جديد في كل خطوة تخطوها. وأصبح الانسحاب ضرورة حتمية لا مفر منها بالنسبة لها. وسواء رفضت سياسة الخطوة خطوة كما أحرجت أمريكا في مارس 1975، أو رفضت مؤتمر جنيف، فكل هذا الرفض تأكيد للمأزق الذى عجزت عن الخروج منه.


الأعصاب الهادئة

أما أنا فأعصابى هادئة تمامًا، وتفكيرى بعيد كل البُعد عن الانفعال والتشنج، وتصرفاتى محسوبة ومدروسة، وقراراتى حرة وملك يدى بالكامل، ولك خطوة جديدة في المستقبل هي لصالح وطنى طالما أننا نملك اليقظة الكاملة لكل مناورات إسرائيل وتلاعبها.

وهذا - للأسف - ما لا يدركه المزايدون العرب، أو ما لا يريدون إدراكه. ومع ذلك فإنه لا يصح إلا الصحيح. والدليل على ذلك أننى نجحت في كسب صداقة الرئيس الأمريكي علاوة على الأرض التي كسبناها داخل الشعب الأمريكي لدرجة أنه عندما تسببت إسرائيل في فشل مهمة كيسنجر، أجرى استفتاء لقياس الرأي العام الأمريكي. وكانت نتيجة الاستفتاء أن 50% من الرأي العام الأمريكي يعرف أبعاد موقفى تمامًا. مع أنه كان من المفروض أن يحدث العكس نظرًا لسيطرة الصهيونية على وسائل قياس الرأي العام، وأجهزة الإعلام والدعاية(2). فيكفى أن تدرك أمريكا أن إسرائيل لا تعبأ بالوزن العالمى للسياسة الأمريكية في المنطقة، بل أنها تعمل على تشويه صورتها بوضعها في موقف الدولة العاجزة عن اتخاذ أي قرار حاسم. وهذا ما يثير حنق الولايات المتحدة وخاصة في مواجهة الاتحاد السوفيتى.


البيت الأبيض أخيرًا

هكذا أصبح البيت الأبيض بيتًا صديقًا لأول مرة منذ عشرين عامًا من العلاقات المتوترة والمتدهورة والمقطوعة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية.

ولم يكن الطريق إلى البيت الأبيض محاطًا بالورود، بل كان مُلغمًا بالأشواك والمتفجرات. وللحقيقة والتاريخ فقد أثبت البيت الأبيض نيته الطيبة من خلال مساعيه الحميدة وجهوده المشكورة لنزع الأشواك والمتفجرات. وكان عند كلمته دائمًا احترامًا لمكانته العالمية. وكان من الطبيعى أن تقابل هذه الروح الطيبة والمساعى الحميدة والجهود المشكورة بكل ترحاب من جانبنا.

وبذلك أصبح الطريق إلى البيت الأبيض طريقًا مأمونًا بعد أن طهره الجانبان: المصرى والأمريكى من كل قطاع الطرق الذين أغرمت إسرائيل بإرسالهم من حين لآخر، وبثهم على جانبي الطريق حتى يقضوا على كل احتمالات اللقاء بين جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة الأمريكية.

ولقد كان أول اتصال لى كما قلت بالرئيس الأمريكي بعد انتخابى رئيسًا لمصر أقول كان أول اتصال لى مع البيت الأبيض يوم 24 ديسمبر 1970(3) أي بعد ولايتى بشهرين وقلت يومها في رسالتى للرئيس نيكسون ضمن ما قلت في رسالتى أن لكل فعل منكم رد فعل منا فإن كان خيرًا خطونا نحوكم بالخير. وأنا كان سيئًا رددنا عليه بمثله.

ولقد خطا البيت الأبيض خطوته بالخير بعد أكتوبر المجيد.. وسيكون ردنا بالزيارة للبيت الأبيض وكلنا ثقة بأنفسنا بخطوة أكثر خيرًا..

هذه هي مصر العربية الخالدة.. أصالة وصلابة وإيمان.


* تم ما سُمِح بنشره من المذكرات *

------------

هوامش:

(1) السادات كان يعلم بأن هناك نفوذ صهيونى على الدوائر الانتخابية في أمريكا.. ومع ذلك كان يعتقد بأنه يمكن من خلال التنازلات التي قدمها لأمريكا أن يكسب صداقة أمريكا.. وأن تعامله كمعاملتها بإسرائيل.

(2) يؤكد السادات من قبل على سيطرة النفوذ الصهيوني على الدوائر الانتخابية الأمريكية.. وهنا يؤكد على سيطرتهم على وسائل الإعلام.. ورغم ذلك كان مُصرًا على أنه يمكن أن يكون صديقًا لأمريكا من خلال تقديم التنازلات.

(3) الخميس 24 ديسمبر 1970م - 26 شوال 1390هـ







09 البيت الأبيض.. بعد كل هذا

9

البيت الأبيض.. بعد كل هذا

الأهرام الاثنين 27 أكتوبر 1975م - 23 شوال 1395هـ


لا شك أن إسرائيل اعتبرت عزل نيكسون الذى أخذ ظاهريًا شكل الاستقالة كأنه انتصار لها، فلن يطالبها أحد بخطوة سريعة لأن الرئيس الأمريكي الجديد لابد وأن يحصل على فرصة لكى يدرس فيها الموقف من جديد. وخاصة أن الرئيس فورد(1) الذى خلف نيكسون، رئيس غير منتخب وصل إلى هذا المنصب بالتعيين من الكونجرس، وليست له خبرة عميقة بالشئون الدولية لأنه سياسى محلى في المقام الأول. ومع ذلك يمكننى القول أننى بعد لقائى معه في سالزبورج اكتشفت أنه رجل شريف يتميز بخلق الفلاح الذى يقدس الالتزام والصراحة والصدق. وهو ليس من عينه السياسيين الملتوين أو من طراز رعاة البقر كجونسون مثلا. وبصفة عامة فالرئيس فورد وجه طيب أمريكا بخُلقه الدمث وتفكيره الذى يضع مصالح أمريكا في المقام الأول. وقد أصيب الصهاينة بخيبة أمل مرة أخرى عندما وجدوا أن الرئيس الأمريكي الجديد يهدف إلى تنفيذ سياسة أمريكية قومية وليست سياسة صهيونية عنصرية. ولذلك دأبوا على وضع العراقيل والعقبات في طريقه، ومنها على سبيل المثال إفشال مهمة كيسنجر في مارس 1975.

كان عزل نيكسون سببًا في تأجيل الخطوة التالية من فض الاشتباك في سبتمبر أو أكتوبر عام 1974. وبالطبع لم نطلب عقد مؤتمر جنيف لأن أمريكا لم تكن جاهزة. والعرب لم يتفقوا بعد على خطوط عريضة ونقاط أساسية تجعل منهم جبهة متماسكة ومتحدة في مواجهة ألاعيب إسرائيل داخل المؤتمر. أما الاتحاد السوفيتى فجاهز من بادئ الأمر لحضور المؤتمر وليس عليه إلا أن يقف ويزايد ويقول للشارع العربى أنه المدافع الوحيد عن الأمة العربية، بل وصل إلى حدود من المبالغة والتطرف بحيث يبدوا أكثر حرصًا على مصلحتها منها هي شخصيًا. وفى تقديره أنه من خلال هذا يستطيع استعادة مكانته التي فقدها في المنطقة نتيجة معاملته لمصر ونتيجة لإعلانه المتكرر عن بيع الأسلحة لنا تعويضًا عن خسائرنا، ورفضه للوفاء بالتزاماته تجاهنا. أي أن هدف الاتحاد السوفيتى من المؤتمر تمييع الموقف العربى كله وإظهاره أمام العالم بمظهر مفكك وضعيف حتى نعود إلى اللجوء إليه مرة أخرى راكعين وطالبين العفو والمغفرة وأكبر برهان على ذلك هو هذه المعاملة والتفرقة بين مصر وسوريا وكأن القضية العربية تخص حزب البعث السورى ولا تخص مصر...

وسواء شئنا أم لم نشأ، فإن الولايات المتحدة هي الأساس في مؤتمر جنيف لأن في يدها مفتاح الموقف بينما لا يملك الاتحاد السوفيتى سوى التأييد أو الرفض أو الشجب وكلها أسلحة لا قيمة لها في مثل هذه المؤتمرات الخطيرة. ولنا أن نتخيل المؤتمر وما سيئول إليه إذا دخلت أمريكا بنفس العنف المندفع والانحياز الأعمى إلى جانب إسرائيل كما كان الحال أيام جونسون مثلا. في هذا الوضع يمكن أن يستمر مؤتمر جنيف عشرين سنة دون أي حسم. فسيقف الاتحاد السوفيتى بتأييده الشفهى إلى جانب العرب إلى آخر المدى، وستقف الولايات المتحدة بتأييدها المادى إلى جانب إسرائيل حتى النهاية. وإسرائيل بالذات لا تقيم وزنًا حتى لأمريكا نفسها التي تمنحها كل شيء. والدليل على ذلك أنها تحدت أمريكا في مارس 1975 ورفضت تسوية كيسنجر عندما شعرت أن فورد وكيسنجر لا يملكان الأرضية الكافية في الكونجرس للتحرك وفرض التسوية عليها. واعتمدت إسرائيل في هذا على انحياز الكونجرس إلى وصفها، ولذلك لم تهتم بمكانة الولايات المتحدة في العالم وأظهرتها بمظهر الدولة التي لا تستطيع أن تنفذ كلمتها. كل هذا لمجرد أن تكسب الوقت وتضيعه على العرب.

فماذا سيكون الحال في مؤتمر جنيف إذا انحازت أمريكا انحيازًا أعمى وراء إسرائيل؟؟ بالطبع لن تكون هناك ثمة فائدة من المؤتمر لأننا فقدنا مفتاح الموقف تمامًا. فالموقف الأمريكي هي الأسا إذا أردنا أن تكون تحركاتنا مدروسة وفعالة. ولذلك كان من الضرورى تأجيل عقد مؤتمر جنيف بسبب انشغال الولايات المتحدة بالتغيير الذى طرأ على كيانها الداخلى وانشغال كيسنجر بالكامل للدفاع عن نفسه، لأن الهجوم تركز عليه بعد التخلص من نيكسون، إذ أن التخلص من كيسنجر الشاهد الوحيد على هزيمة إسرائيل في أكتوبر 1973 - كما قلت من قبل - وتعيين وزير خارجية جديد يبدأ في دراسة الموقف مرة أخرى، كل هذا سيجعل الوقت يمر دون حل حاسم للقضية العربية، إذ تكون سنة الانتخابات قد حلت عام 1976، ثم ندخل عام 1977 وقد تميعت القضية مرة أخرى.

في هذه الفترة من 1975 إلى 1977 يتوقع الإسرائيليون أن يكون الموقف العربى الذى أحدثته حرب أكتوبر 1973 وتستطيع إسرائيل بعد ذلك أن تنفرد بالدول العربية واحدة بعد الأخرى. وتفقد الأمة العربية سلحها الخطير المتمثل في البترول. وهو السلاح الذى تعمل أمريكا وأوروبا ألف حساب.

هنا يتحتم ألا نترك أية فرصة تتيح لإسرائيل أن تضرب الموقف من الداخل عن طريق الاحتفاظ بقوة الدفع والايقاع لحسم القضية سواء على المستوى السياسى أو العسكرى. ومن هنا يجئ لومنا لحزب البعث السورى في إعطاء إسرائيل هذه الورقة بمحاولة ضرب التضامن العربى لأغراض حزبية بحتة لا ترتفع إلى مستوى المصلحة القومية العربية العليا ولكن هذا لن يحدث.


عودة إلى نشاط كيسنجر:

لم يشأ كيسنجر أن تخطف إسرائيل زمام المبادرة من يده فأرسل إلى آلون(2) لكى يزوره في نوفمبر 1974 حتى يحتفظ بقوة الدفع والإيقاع لاستراتيجيته في الشرق الأوسط.

بعد انتهاء زيارة آلون لكيسنجر، ذهب كيسنجر لحضور اجتماعات حلف الأطلنطى في بروكسل، وفى أثناء تواجده في بروكسل استدعى السفير الأمريكي في القاهرة لكى يقابله ويسلمه تقريرًا عن زيارة آلون له. وبالفعل عاد السفير الأمريكي في نوفمبر وأبلغنى بنتيجة اجتماعه التي لم تكن نتيجة على الإطلاق. ومن تقييمى مع القيادات في مصر للموقف بعد إبلاغنا بهذه النتيجة توصلنا إلى اقتناع بأنه لم يكن هناك أي غرض من إسرائيل التي كانت ترتشف كؤوس السعادة بتخلصها من نيكسون وبنجاحها في وضع كيسنجر في موقف الدفاع. فكل ما أدلى به آلون لكيسنجر في نظرنا بعد ذلك التقييم هو أن إسرائيل ليست جاهزة لأية خطوة ثانية قبل أن نوافق انهاء حالة الحرب.

واجه كيسنجر ألون بكل ما دار بين نيكسون والحكومة الإسرائيلية وأن إنهاء حالة الحرب موضوع غير قابل للمناقشة من ناحية مصر. فما السبب في إثارته مرة أخرى؟

وكان السبب في تقييمنا هنا للموقف هو أن الإسرائيليين كانوا شاعرين أنهم في مركز القوة وأن فورد وكيسنجر في موقف الضعف بحكم خضوع الكونجرس للضغوط الصهيونية.

وامتد تلاعب إسرائيل لكى يشمل كل اتفاقاتها مع نيكسون، حتى المضايق والبترول تراجعت فيما يختص بموافقتها السابقة على الانسحاب منهما، وأبدى آلون استعدادًا مزيفًا لبحث الموضوع مع مصر إذا أبدينا من جهتنا ترحيبًا بتخفيف قيود المقاطعة على إسرائيل، وبعدم مقاومة العرب لعودة العلاقات بين إسرائيل والدول الإفريقية، وتمهيد الجو للتبادل الاقتصادى بين العرب وإسرائيل وغير ذلك من الهراء الإسرائيلي الذى استعملوه مادة في إذاعاتهم لمحاولة ضرب تضامن الأمو العربية وصدقه حزب البعث في سوريا. وقد سبق أن قلت أننى حذرت من ذلك في مؤتمر القمة العربى في الرباط وقلت للملوك والرؤساء في ذلك الاجتماع أن لا يكون التعامل بيننا على أساس ما يقوله راديو إسرائيل. ولكن حزب البعث السورى لم يشأ أن ينتصح لأسباب حزبية ضيقة ومغرضة.


موقف مع السفير الأمريكي

وقد استدعيت إسماعيل فهمى لحضور المناقشة مع السفير الأمريكي لإثباتها بعد ذلك في محضر تفصيلى.

حكى لى السفير الأمريكي كل هذ الهراء الإسرائيلي، وأضاف أن إسرائيل تريد أن تضمن عدم قفل باب المندب مرة أخرى، على الرغم من أننا لم نقفل باب المندب في حرب أكتوبر. فهو مضيق دولى وسنخطئ في حق العالم إذا أقفلناه. ولكننا أعلنا فقط عن المنطقة الممنوع فيها الملاحة في البحر الأحمر والتي ضربنا فيها السفينة الإسرائيلية شمال باب المندب. وفى الحال توقفت الملاحة في إيلات حتى سمحنا لها بالاستئناف مرة أخرى بعد فض الاشتباك.

وبعد أن حكى السفير الأمريكي كل هذه السخافات الإسرائيلية، سارع إلى توضيح أن هذا الكلام هو ما تلقاه كيسنجر من إسرائيل وهو يريد أن يكون كما عودنى ناقلا أمينًا ولكن هذا ليس رأى أمريكا.

وانفجرت في السفير الأمريكي كما انفجرت في السفير السوفيتى يوم 8 يوليو 1972؟ وذهل إسماعيل فهمى عندما استمع إلى كلماتى الغاضبة وأنا أرد على السفير الأمريكي كيف يسمح كيسنجر لنفسه أن يسمع مثل هذا الكلام ويعمل على نقله إلى؟ وطالما أن كيسنجر يقول أن هذا الكلام لا يمثل رأى أمريكا وإنما يمثل أمانه في التوسط بين الأطراف فلماذا يخبرنى به؟ كان لابد من أن يرفض كيسنجر هذا الكلام من أساسه ولا يخبرنى به على الإطلاق كأنه لم يكن. كان أشرف لأمريكا أن تبلغنى بأنه لم يجد شيء في الموقف من أن تخبرنى بهذه السخافات. رفضت هذا المنطق السقيم تمامًا وأفهمت السفير أنه لا يمكن لأمريكا أن تدلل إسرائيل ولكن ليس إلى هذا الحد الذى لا يمكن أن أسمح به.

تحول وجه السفير الأمريكي إلى ملامح من الشمع وبعد سماعه لساعة ونصف من انفجار بركان غضبى طلب إلى أن يرسل كل ما سمعه من مضمون كلامى إلى الحكومة الأمريكية حتى لا يحدث سوء فهم مرة أخرى.

وفى الحقيقة كان السفير هادئًا جدًا وأثبت أنه دبلوماسي ممتاز حقًا. فقد اعتذر برقة بقوله أن هدف كيسنجر من هذه الرسالة الشفهية أن يضعنى في الصورة بصرف النظر عن قبولى للرسالة من عدمه، وهذا هو فهم كيسنجر للأمانة في الوساطة بين الأطراف.

أعربت عن دهشتى للسفير الأمريكي الذى أحضر لى هذه الطلبات الإسرائيلية السخيفة بينما نفكر نحن جديًا في حضور مؤتمر جنيف للتسوية الشاملة. فماذا يتبقى لجنيف بعد هذه السخافات؟؟ وطالما أن هذه الرسالة الشفهية لا تُمثل وجهة النظر الأمريكية الرسمية، فأنا بدورى اعتبرها كأنها لم تكن وأننى لم أسمع شيئًا على الإطلاق من هذه السخافات. أي أن الموضوع انتهى عند هذا الحد. بمعنى أن السفير الأمريكي لم يبلغنى بشئ وأنا بدورى لم أسمع شيئًا.

وأرسل السفير الأمريكي رسالة رسمية منه إلى واشنطن توضح كل ما دار بينى وبينه.


صدرنا التمزق إلى إسرائيل

كان للرسالة وقع عنيف على كل من فورد وكيسنجر. فقد كانت أقوى مما قلته للسفير السوفيتى يوم إنهاء مهمة الخبراء السوفيت في 8 يوليو 1972. وجاءنى رد كيسنجر مُعبرًا عن أسفه، وأنه إنما أردا أن يضعنى في الصورة بكل سلبياتها وإيجابياتها وأن هذا هو أسلوب الأمانة في التوسط بين طرفين في مثل هذا النزاع المعقد. وطلب منى تأجيل بحث الموضوع لحين زيارة آلون مرة أخرى له في يناير 1975. وسوف يرسل إلى بكل ما يستجد في الموقف جريًا على أسلوبه في مكاشفة الأطراف.

وفى ديسمبر 1974 زار رابين الولايات المتحدة. وكان ظنى أن رابين سيحل محل جولدا مائير في فض الاشتباك الثانى وأن كيسنجر سينجح في اتباع نفس الأسلوب الذى اتبعه من قبل في فض الاشتباك الأول. فقد تقدم كيسنجر في فض الاشتباك الأول بعرض أمريكى لم تجد إسرائيل مناصًا من قبوله، وعلى هذا تم فض الاشتباك الأول ولكن رابين كان أضعف كثيرًا من مائير إذ أن أغلبيته في البرلمان الإسرائيلي لا تزيد عن صوت أو صوتين، بالإضافة إلى حالة التمزق التي تسيطر على الحكومة والشعب في إسرائيل.

لقد نجحنا في تصدير التمزق الذى كنا نعانيه ونعيشه قبل أكتوبر 1973 إلى إسرائيل التي يعز عليها حتى الآن أن تتخلى عن الغرور والعنجهية وأحلام التفوق والسيطرة وسياسة القوة والبطش التي عاشتها قبل أكتوبر 1973. ولكنها في الوقت نفسه تجد أن حقائق ما بعد أكتوبر تجثم على كاهلها كالكابوس وخاصة أن خسائر الأرواح ما زالت تنكأ جراج كل بيت في إسرائيل. وتحول خوف إسرائيل من السلام إلى عجز تما عن صنعه. ولذلك وقفت كل هذه العوامل كعقبات وعراقيل في وجه فض الاشتباك الثانى الذى فشلت محاولة كيسنجر في القيام به في مارس 1975.

بدأ تلاعب الإسرائيليين بكيسنجر عندما طلبوا منه أن يقوم برحلته على مرتين: المرة الأولى في فبراير. والمرة الثانية في مارس لإتمام فض الاشتباك. وبالفعل بعد مقابلة كيسنجر لكل من رابين وآلون أبلغنى بأنه سيحضر إلى المنطقة لكى يُنهى العملية على دفعتين حدد تواريخهما في فبراير ومارس. ولكنى سارعت إلى إبلاغه بأنها لا ضرورة إطلاقًا لقدومه مرتين طالما أن المسائل محددة والحلول معروفة. ولذلك فإنه من المفضل أن ينهى العملية في زيارة واحدة فقط كما تم في فض الاشتباك الأول. وكانت رسالتى كلها إصرار على هذا المعنى لأننى أحسست ببوادر التلاعب الإسرائيلى في الأفق، وأن حضور كيسنجر مرتين سيسبب لى متاعب مع المزايدين التقليديين مع العرب.


رجاء من فورد

ولكن كيسنجر أقنع فورد بنظريته في الحضور إلى المنطقة مرتين. فأرسل إلى فورد خطابًا يرجونى فيه الموافقة على رأى كيسنجر على أن تكون الرحلة الأولى استطلاعية والثانية لإتمام الموضوع.

عندئذ أرسلت خطابًا إلى فورد يتضمن موافقتى.

وبالفعل جاء كيسنجر في فبراير في رحلة استطلاعية. وكنت قد حددت بوضوح أهداف مصر في المضايق والبترول وأكدت عدم استعدادى لأية مناقشة في أقل من هذا إطلاقًا. كذلك لن أناقش إطلاقًا في إنهاء حالة الحرب. ولكن الإسرائيليين - كعادتهم - أرادوا للمفاوضات أن تدخل في متاهات تبعدها عن خط سيرها الأصلى. من هذه المتاهات إصرارهم على إنهاء حالة الحرب، ومناقشة وضع المضايق والبترول، على أن نقتسم المضايق فيحصلون على مضيق ونحن على آخر، كذلك البترول الذى تقع آباره في الشمال والجنوب أرادوا اقتسامه بنفس أسلوب اقتسام المضايق.


وفى الزيارة الثانية

عندما بدأ كيسنجر رحلته الثانية في مارس، كنت في أسوان وبدأ شوط التنقل ما بينى وبين إسرائيل على مدى 17 يومًا حاول فيها كيسنجر بكل إمكانياته اقناع الطرفين بالوصول إلى اتفاق لفض الاشتباك. وبعد عشرة أيام من رحلات المكوك بين أسوان وإسرائيل قلت لكيسنجر أن مجهوداته لن تسفر عن شيء لأن الإسرائيليين ليسوا على استعداد أو لديهم القدرة على صنع السلام ولذلك فهم يقاومون أية خطوة نحوه. ولكن كيسنجر تذرع بطول البال ورجانى أن أمنحه الفرصة لكى يبذل أخر جهد ممكن.

وكنت قد أعلنتها صريحة وواضحة أنه لا إنهاء لحالة الحرب إلا بعد الحل النهائي في جنيف، وجاءنى كيسنجر في اليوم العاشر من المفاوضات مستبشرًا وسعيدًا بقرب وصلوه إلى الاتفاق لأن إسرائيل وافقت على عدم مناقشة إنهاء حالة الحرب. ولكننى لم أقبله بنفس الاستبشار والتفاؤل، بل صارحته بأن أسلوبهم الذى عرفته منه، والطريقة التي تجرى بها المفاوضات وغير ذلك من البوادر والعلامات تدل على أن موقف الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته من الضعف بحيث عجزا عن إلزام إسرائيل باتفاقاتها مع الحكومة الأمريكية.

أوضحت لكيسنجر أن السياسة الإسرائيلية القائمة على التلاعب والتسويف والمماطلة والتأجيل تهدف أساسًا إلى التخلص منه لكى تكسب وقتًا حتى عام الانتخابات الأمريكية في 1976، وأن الحكومة الإسرائيلية حكومة هزيلة غير قادرة على صنع السلام، بل والشعب الإسرائيلي نفسه خائف من صنع السلام. ولذلك لا فائدة تُرجى من مجهودات كيسنجر في هذا الشأن.

ولكن كيسنجر أصر على تفاؤله وأكد أنه طالما أنهم صرفوا نظرهم عن إنهاء حالة الحرب، فإن الأمل كبير في إتمام الاتفاق. ولكننى أعلنتها أمام كيسنجر وفى حضور إسماعيل فهمى والجمسى والحاضرين جميعًا أنها من غير الممكن أن يعقد الاتفاق في هذه الزيارة لأن إسرائيل لم تصل بعد إلى هذه المرحلة سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبى.

وبالفعل ذهب كيسنجر إلى إسرائيل وعاد بخفى حنين.

وعاد ومعه تحديد خطوط الانسحاب من المضايق والبترول على الخريطة. لم يقل لى شيئًا عن الخريطة التي عاد بها بل قال أنهم رفضوا تحديد أي خط على أساس أنهم يريدون الاحتفاظ بمونيتور "جهاز كشف التحركات عن بُعد" في مضيق من المضايق، كما أنهم يرغبون في أن يظل الخط متعجرفًا في بعض المناطق، وأن نصل إلى البترول عن طريق الشرق بحيث نمر إلى البترول في أرض يحتلها الإسرائيليون.

عندئذ قلت لكيسنجر أن كلامى معه كان بناء على دراسة ومعرفة بالنفسية الإسرائيلية المعقدة، أو كما نقول نحن "جالك كلامى"!! وكان من الواضح أن خيبة أمله تجل عن الوصف.


إعلان الفشل

ومع احترامى لأحاسيس كيسنجر، إلا أننى طلبت منه على الفور دراسة احتمالات المرحلة التالية لفشل مهمته. وأوضحت له أن فشل مهمته سيكون بسبب تشدد الإسرائيليين وتلاعبهم وسوء نواياهم وليس بسببنا على الإطلاق.

واعترف كيسنجر بمرونتى إلى أبعد مما تصور في مقابل إصرار إسرائيل. ثم سألنى قبل آخر رحلة له إلى إسرائيل عما إذا كان سيعود إلى بعد الفشل النهائي لمهمته أو أنه سيتوجه إلى الولايات المتحدة رأسًا؟ فقلت له أن عليه التوجه مباشرة إلى الولايات المتحدة.

وسافر كيسنجر إلى تل أبيب حيث قضى يومين أو ثلاثة هناك. ونفاجأ بعدها بوصول برقية الساعة العاشرة مساء تفيد بأن بيان فشل مهمة كيسنجر سيُذاع الساعة الحادة عشر مساء.

في تلك اللحظة كان إسماعيل فهمى في فندق الكتراكت بينما كنت في استراحتى في أسوان فطلبت في الحال من إسماعيل فهمى أن يعلن في الساعة الحادية عشرة - مع إذاعتهم تمامًا - فشل مهمة كيسنجر وانهيار السياسة الأمريكية القائمة على الخطوة.. خطوة بسبب تعنت إسرائيل وتلاعبها.

وتسبب إعلاننا هذا في ثورة الوزارة والرأى العام في إسرائيل على رابين لأننا نجحنا في أن نسبق الإسرائيليين بمدة 14 ساعة في إذاعة النبأ والسبب. ونقل العالم النبأ عن إذاعتنا بينما اضطر رابين إلى عقد مؤتمر صحفى بعدنا بمدة 14 ساعة لكى يعلن النبأ الذى كان العالم يعرفه مقدمًا.

--------------------

هوامش:

(1) جيرالد رودولف فورد الابن: سياسى أمريكى ولد فى 14 يوليو 1913م.. تولى منصب الرئيس الثامن والثلاثين للولايات المتحدة من عام 1974م وحتى 1976م فى أعقاب استقالة ريتشارد نيكسون.. ترشح للرئاسة فى 1976م إلا أنه خسر أمام جيمى كارتر.. توفى فى 26 ديسمبر 2006م.

(2) إيغال آلون: سياسى إسرائيلى ولد فى 10 أكتوبر 1918م.. وهو قائد لقوات البلماح ولواء فى جيش الدفاع الإسرائيلى.. كان أحد قادة حزب أحدوت هعفوداه وحزب العمل الإسرائيلى.. ورئيس وزراء إسرائيل بالنيابة.. توفى فى 29 فبراير 1980م




08 البيت الأبيض.. بعد كل هذا

8

البيت الأبيض.. بعد كل هذا

الأهرام السبت 25 أكتوبر 1975م - 21 شوال 1395هـ


عادت العلاقات بين مصر وأمريكا بفضل المساعى التي قام بها كيسنجر، وأراد نيكسون أن يتوج هذا الإنجاز بزيارة للمنطقة يواجه بها حادث ووترجيت(1) الذى طغى على معظم جوانب الحياة السياسية في أمريكا.

وكان نيكسون - من خلال كيسنجر - قد ترك بصماته واضحة على سياسة الوفاق الجديدة بين الولايات المتحدة وكل من الصين والاتحاد السوفيتى، كذلك تمكن من إنهاء حرب فيتنام التي تورطت فيها أمريكا طول عقد الستينات وأوائل السبعينات، ولم يبقى سوى الشرق الأوسط لكى يثبت فيه نيكسون جدارته السياسية لعله يطمس معالم فضيحة ووترجيت التي بدأت تطارده ولذلك قرر نيكسون زيارة المنطقة بادئًا بمصر ثم السعودية فسوريا فالأردن فإسرائيل.

جاء نيكسون إلى مصر، ولم يكن يخطر ببالى قط أن الشعب سوف يستقبله ذلك الاستقبال الأسطورى فلم يكن أحد يتوقع هذا الاستقبال بل أكثر من ذلك فلقد طلب رجال الأمن المرافقون له ألا يركب سيارة مكشوفة خوفًا عليه نتيجة فكرتهم التقليدية عن روح العداء التي سادت العلاقات المصرية الأمريكية مدة طويلة وخاصة بعد هزيمة 1967.. ولكن الجميع ذهلوا منذ بدأ الموكب يتحرك من المطار وحتى قصر القبة.


لقد خرج الشعب في تلقائية عجيبة مُعبرًا عن رغبته العارمة في الانفتاح على العالم الخارجي بعيدًا عن القيود والرواسب والعقد التي عاقت مسيرته مدة طويلة.. كان الاستقبال حارًا ومتدفقًا بحيث لا يستطيع أحد أن يدعى أن الاتحاد الاشتراكى مثلا قد باشر نفوذه كتنظيم سياسى ودفع كل هذه الجموع الغفيرة لكى تخرج على هذا الشكل الأسطورى.. فإذا كان من الممكن دفع الجماهير إلى الشوارع فإنه من المستحيل انتزاع هذه الهتافات الحارة وإذا كان من المستطاع إيقاف الجماهير على جانبي الطريق فإنه من غير الممكن إخراجهم إلى النوافذ والشرفات لتحية الرئيس الأمريكي بهذه الصورة.

هذا السلوك يُعد أكبر دليل على وعى شعبنا العميق بالتاريخ والحضارة، فهو شعب لا يُعادى من أجل العداء، ولكن من أجل الكرامة والعزة، وطالما أن أسباب العداء والانتقام كما أنه قادر على الصداقة والصفح.

وفى اعتقادى أن الشعب بهذا الاستقبال أراد أن يُعبر عن ضيقه البالغ من المعاملة المُغرضة والمريبة التي دأب الاتحاد السوفيتى على انتهاجها معنا سواء مع عبد الناصر أو معى، فكان من خلال ترحيبه الحار بنيكسون يقول للسوفيت أننا لا نقبل أن نعيش تحت رحمة أحد مهما كان.


أكدت أن قضية فلسطين هي الأساس

عندما وصلنا إلى قصر القبة ألقى كل منا كلمة، ثم أقيمت في المساء مأدبة عشاء في قصر القبة وأثناء العشاء تبادلنا الخُطب، وأكدت في خطبتى أن القضية الفلسطينية هي أساس المشكلة في الشرق الأوسط وإذا لم تحل هذه القضية فلا حل محتمل لمشكلة الشرق الأوسط، وقد علق بعض المراقبين السياسيين على تأكيدى هذا بأننى أضاعف من صعوبة مهمة نيكسون، ووضعه في مأزق يصعب الخروج منه، ولكن نيكسون ولم يكن من هؤلاء الساسة الذين يقيسون كل كلمة وكل موقف بحساسية لا لزوم لها، ولذلك قال في خطابه الذى رد به على وارتجل ردًا موضوعيً لمس فيه كل جوانب القضية. وكانت عادته في الارتجال تدل على فكرة المنطلق وقدرته على الإلمام بعناصر الموضوع دون جهد يُذكر..

وبعد العشاء شاهد نيكسون ومرافقوه حفلا فولكلوريًا صغيرًا بينما كان القمر الصناعى ينقل كل ما دار في العشاء والحفل من خلال محطة من محطات القمر الصناعى وحضرها الوفد الأمريكي معه.

وكما كان مقررًا في برنامج الزيارة ركبنا القطار في اليوم التالى من محطة قصر القبة في طريقنا إلى الإسكندرية. وما حدث في القاهرة من استقبال حافل وحار لا يمكن أن يُقاس بروعة ما رأيناه على طول الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية، فقد تحول الطريق إلى حناجر مدوية وهتافات حارة وأعلام خفاقة ومع ذلك فما حدث في الإسكندرية كان فوق الوصف والتخيل، فقد قوبل موكب نيكسون من سيدى جابر إلى قصر رأس التين بحفاوة لا أعتقد أن الإسكندرية شهدت لها مثيلا من قبل.

ولم يعرف الأمريكان أننى كنت أكثر ذهولا منهم لهذا الاستقبال الحافل، والتفسير الوحيد كما قلت أن شعبنا الذى يعرف الحضارة الإنسانية منذ سبعة آلاف سنة سرعان ما ينسى الأحقاد لكى يركز كل طاقته في استمرار مسيرته الحضارية وخاصة بعد أن وقفت أمريكا جانبًا في فض الاشتباك وعادت العلاقات الطبيعية بيننا.

ولقد أعلنت رسميًا أثناء اللقاء أن سلوك الأمريكان معنا كان مثالا للأمانة والرغبة المخلصة في الوصول إلى حل مشرف لقضية الشرق الأوسط، ويجب ألا نتعجب كيف رحب الشعب المصرى هذا الترحيب الهائل بالرئيس نيكسون حتى قبل أن نجتمع أو نتباحث أو نصل إلى أي اتفاق، فالمسألة - في رأيى - هي توجيه حديث ذكى وغير مباشر إلى الاتحاد السوفيتى حتى يتأكد من فشل سياسته تمامًا في الشرق الأوسط.

وهنا أحب أن أسجل بمناسبة هذا الحديث أن كل قراراتى السياسية والعسكرية المصيرية استلهم فيها روح الحضارة التي تميز الوعى العميق لشعبنا العريق فعندما أعلنت مبادرتى في فبراير 1971، وأنهيت سيطرة مراكز القوى في مايو 1971، وضعت حدًا لمهمة الخبراء السوفيت في يوليو 1972، وغير ذلك من القرارات المصيرية، سرعات ما فهمها الشعب وأدرك الأسباب الموضوعية التي أدت إلى تلك القرارات.. وشعب بهذا الوعى العميق والذكاء النادر لا يمكن أن يخضع لأية قوة في التاريخ مهما كانت غاشمة.

وصلنا إلى قصر رأس التين وفى المساء أقام نيكسون مأدبة عشاء ردًا على العشاء الذى أقمته في قصر القبة وكانت المأدبة أمريكية مائة في المائة.. تم إحضار الأطعمة كلها بالطائرة من الولايات المتحدة، في الوقت الذى قام فيه بحارة سفينة من سفن الأسطول الأمريكي بخدمة المدعوين وكانت هذه السفينة قد جاءت خصيصًا إلى الإسكندرية قبل وصول نيكسون بوقت قصير خصيصًا لهذه المهمة، كذلك كانت هناك فرقة موسيقية أمريكية وصلت على الطائرة التي أحضرت الأطعمة للعزف أثناء العشاء. كان الجو وديًا للغاية، ولم يفارق نيكسون الذهول طوال الزيارة بسبب الاستقبال الهائل الذى استقبل به، وقد انتاب نفس الشعور كل المعلقين والصحفيين ورجال الأمن الذين رافقوا نيكسون والذين نسوا الحديث عن الأمن وإجراءاته من شدة انبهارهم بما كان يحدث أمامهم.


محادثاتى مع نيكسون

استمرت المحادثات في القطار وفى المعمورة قبل العشاء. كانت كلها تدور حول حتمية الاحتفاظ بقوة الدفع الدائمة واللازمة لعملية السلام، وكان نيكسون يبدو واثقًا من نفسه ومن مستقبله السياسى ولم يكن يعطى أهمية لحادث ووترجيت، وأكد أنها لا تسبب له أي إزعاج بالمرة، وأنه قرر الاستمرار في منصبه إلى تنتهى مدته الدستورية.


نقاط الاتفاق

وكان المهم عندى أن نصل إلى اتفاق بخصوص بعض النقاط:

* الأولى: تختص بالمرحلة التالية لفض الاشتباك الذى تم حتى تحتفظ عملية السلام بقوة الدفع اللازمة لاستمرارها..

* والثانية: تدور حول الناحية الاقتصادية التي استحوذت على جزء كبير من اهتمامى لأننا ظللنا بعد حرب أكتوبر 1973 وإلى أن زارنا نيكسون ونحن نسير بقوة الدفع التي نتجت عن المبالغ التي دفعها لنا الأشقاء العرب بعد المعركة مباشرة والتي كان الفضل فيها للسعودية والكويت وأبو ظبى وقطر وهى الدول التي دفعت بأسلوب يعجز الإنسان عن التعبير عنه تقديرًا ولما قدمته طواعية واختيارًا، فقد أعطتنا السعودية 200 مليون دولار، والكويت 200 مليون دولار، أما أبو ظبى فلم يكن لديها في خزانتها ما تساهم به في الدعم لأنها كانت قد أممت شركات البترول ودفعت لها قيمة الأسهم، وحاولت أن تقترض من أمريكا فلم تقبل، ولكن الشيخ زايد(2) استطاع أنا يقترض 100 مليون دولار من بريطانيا وقدم المبلغ لمصر دون انتظار لكلمة شكر واحدة وضرب بذلك مثلا للشهامة العربية عندما تتجلى في أروع صورها.

كنا نسير اقتصاديًا بالقصور الذاتي، وكانت المبالغ العربية كفيلة بأن تجنبنا مرحلة الإفلاس، ولكنها لم تكن كافية لكى يقف اقتصادنا على قدميه مرة أخرى، وهذا أمر ترجع جذوره إلى ما قبل المعركة بكثير، ترجع إلى بداية الستينات ومنذ وزارة على صبرى فقد تراكمت المشكلات وتوالت العقبات، وبدلا من حلها أولا بأول كانت ترحل من وزارة إلى أخرى، أي من وزارة على صبرى، إلى وزارة زكريا محيى الدين، إلى وزارة صدقى سليمان(3)، واستمر الحال على هذا المنوال حتى انهار البناء الاقتصادى الأساسى للدولة كلها، وجاءت السنوات السبع العجاف لكى تقضى على ما تبقى في الخزانة المصرية..

في ضوء كل هذه الحقائق كانت الناحية الاقتصادية هي الضرورة المُلِحة والتالية مباشرة لاستمرار عملية السلام.

* أما النقطة الثالثة التي ناقشتها مع نيكسون فقد كانت خاصة بالمفاعل الذرى الذى طلبنا من أمريكا أن تقيمه لنا بالقرب من الإسكندرية لتحويل مياه البحر إلى مياه عذبه حتى يمكننا زراعة الصحراء التي تشكل حوالى 96% من مساحة بلدنا بينما لا تزيد المساحة الخضراء عن 3% أو 4% على أكثر تقدير.

* أما النقطة الرابعة في محادثاتى مع نيكسون فقد طلبت شراء أسلحة بطريقة مباشرة ودون أية وساطة وقد كانت هناك احتمالات شراء تلك الأسلحة من أمريكا عبر السعودية وإيران، وقد رحبت الدولتان بهذه المهمة وقد شكرتهما على موقفهما الطيب والأخوى ولكننى أبلغتهما أنه قد آن الآن للتعامل مع أمريكا بدون وسيط، وخاصة بعد قرار بتنويع مصادر الأسلحة والذى تمكنا بعده من شراء أسلحة من فرنسا، وأيضًا فنحن نشترى من بريطانيا بعض المعدات الإلكترونية وأجهزة ضبط التنشين وإدارة النيران وغيرها من الأجهزة الحديثة.


رفض إنهاء حالة الحرب

ولقد وجدت من نيكسون تفهمًا كاملا للنقاط الأربع التي ناقشتها معه..

اتفقنا تمامًا على النقطة الأولى التي تحدد المرحلة التالية لانسحاب إسرائيل في سبتمبر أو أكتوبر التالى على الأقل ولابد أن تشمل المضايق وآبار البترول وذلك لتهيئة الجو لعقد مؤتمر جنيف.

ولقد أفهمت نيكسون بمنتهى الصراحة والوضوح أنه وهو بصدد زيارته لإسرائيل سيتعرض لإلحاح من جانبهم لإنهاء حالة الحرب وقلت له أننى لست مستعدًا على الإطلاق لمناقشة هذا الموضوع إلا في حالة واحدة هي عندما نصل إلى الحل النهائي في مؤتمر جنيف، فبعد هذه المرحلة يمكن إنهاء حالة الحرب، أما قبول إنهاء حالة الحرب في أي مرحلة من المراحل بينما يحتل الإسرائيليون أجزاء من الأراضى العربية فهذا لا يعنى إلا أننا موافقون على استمرار احتلالهم بدليل أننى أنهيت الحرب وهم ما زالوا متواجدين في الأراضى العربية.

وافقنى نيكسون تمامًا على هذه النقطة..

أما بالنسبة للنقطة الثانية وهى التي تتعلق بالنواحى الاقتصادية فقد صارحنى بأن الولايات المتحدة تمر بظروف اقتصادية صعبة، نتجت عن التضخم والبطالة وقد ساهم حظر البترول العربى في مضاعفة تلك المصاعب الاقتصادية ولذلك فلن تستطيع الولايات المتحدة أن تساعدنا بمبلغ مباشر كبير ولكنها تستطيع أن تدفع بأصدقائها مثل ألمانيا الغربية واليابان إلى المساهمة في الدعم الاقتصادى لمصر، هذا طبعًا بالإضافة إلى ما نحصل عليه من الدول العربية.

أما بالنسبة للنقطة الثالثة التي تنص على قيام أمريكا بإنشاء مفاعل ذرى في مصر فقد عليها نيكسون وتمت فعلا إجراءات الإنشاء الأولية مثل دفع ثمن الوقود النووي حتى يصبح التعاقد ساريًا، وقائمًا بيننا.

أما بالنسبة للنقطة الرابعة وهى الخاصة بشراء أسلحة من أمريكا فقد أكد لى نيكسون أنه بمجرد أن تتم الخطوة الثانية من فض الاشتباك، فإن الرئيس الأمريكي يصبح فورًا في الوضع الذى يُمَّكِنه من الحصول على موافقة الكونجرس، وهى موافقة ضرورية في هذا الشأن، ولابد أن يراعى أي رئيس إمكانيات واحتمالات الحصول عليها، وبعد فض الاشتباك سيكون الجو كله مهيأ للتعامل في الأسلحة. وبالفعل قدمت إلى كل من نيكسون وكيسنجر كشف الأسلحة بكل المفردات المطلوبة.


ماذا فعلت إسرائيل؟

كان من الواضح تمامًا أن زيارة نيكسون قد حققت كل أغراضها، وتم خلالها الاتفاق على كل النقاط التي أثيرت في محادثاتى مع نيكسون وكيسنجر.. وهذا بالطبع أمر لم يجد قبولا لدى إسرائيل التي عاشت طفلا مدللا لأمريكا حوالى ربع قرن.. وقد نيكسون مشروع إنشاء المفاعل الذرى الذى وعد به إلى الكونجرس ومعه مشروع بمفاعل ذرى لإسرائيل - التي تملك ثلاثة مفاعلات ذرية. ورفضت إسرائيل قبول المفاعل الذرى الجديد وكانت النتيجة توقف مشروع مفاعلنا الذرى في الكونجرس لارتباطه بالمفاعل الإسرائيلي، هذا بالإضافة إلى المعركة المريرة التي بدأت نذرها تتطاير في الجو بين نيكسون والكونجرس في وقت مبكر لم يكن في حسابنا على الإطلاق.


قالوا لى أن نيسكون سيعتزل

وللحقيقة والتاريخ، فقد سمعت من المعلقين والصحفيين الأمريكيين المهمين من أمثال وولتر كرونكايت(4) وغيره من الذين رافقوا نيكسون لتغطية جولته في الشرق الأوسط أن نيكسون سيعتزل لا محالة شاء أو لم يشأ.. وبالرغم من ذلك فقد كان نيكسون في حديثه معى مطمئنًا للغاية على مستقبله السياسى.

وهنا لابد من سؤال هام وحيوى يحتاج إلى الإجابة:

- هل كان سليمًا أن نتعامل مع نيكسون حتى مع علمنا بأنه سيعتزل في القريب العاجل؟

وهنا يجب أن نضع في اعتبارنا ونحن نجيب على هذا السؤال أننا لا نتعامل مع نيكسون ولكننا نتعامل مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.. أي أننا نتعامل مع أمريكا من خلاله، ومن هنا فمن المفروض أن نستمر في تعاملنا معه حتى نبقى حلقة الاتصال مع أمريكا في أيدينا طالما أن الفرصة موجودة وطالما أن أوراق هذه اللعبة وهذا الصراع الدائر في الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل كلها بين يدى أمريكا على اعتبار أنها صاحبة الأمر والنهى بالنسبة لإسرائيل التي تعيش عالة عليها ابتداء من رغيف العيش والزبد إلى المدفع والطائرة، حتى أن عجز الميزانية في إسرائيل وتعتبره أمريكا ضمن مسئوليتها القومية..

وعلى هذا فسواء شئنا أو لم نشأ، رضينا أم لم نرض فإن مفتاح الموقف كله في يد أمريكا ونيكسون ما زال رئيسًا لأمريكا، فكيف أوقف التعامل معه حتى مع علمى المسبق أنه سوف يعتزل في خلال شهر أو شهرين..

التعامل معه يعطى الفرصة للاستمرار أي بمعنى أنه لو اعتزل أستطيع أن أواصل التعامل مع خلفه.. هذه هي المبادئ الأولية للاستراتيجية الشجاعة التي ترفض دفن رأسها في الرمال كالنعامة.


الالتواء.. والمزايدة

من هنا يتكشف لنا الالتواء والمزايدة والروح العنترية الفارغة وكل الأعراض المرضية التي تنتاب بعض السلطات العربية والتي لم نستطع التخلص منها بعد. فقد تعود بعض العرب أن يتغذوا على الخطب والبيانات والتصريحات والهتافات والشعارات واللافتات والانفعالات الهوجاء التي تزيد الأمور تعقيدًا بدلا من البحث العملى عن حل عملى. وأصبحت الحجة المفضلة التي يدارون بها عجزهم عن مواجهة الواقع هي رفضه، ورفض الواقع لا يعنى بالضرورة التحلل منه أو تغييره فهناك حسابات ودراسات لابد أن تجرى حتى يتم تغيير الواقع لصالحنا، أما عنتريات الجاهلية العربية فقد مضى أو أنها بعد حرب أكتوبر وآن للعرب جميعًا أن يتحدثوا بلغة العصر الذى يفهمها العالم وهى اللغة التي تحتم تعاملنا مع الزعماء الذين يمكن أن يُساهموا في حل مشكلتنا وكان الرئيس نيكسون من هؤلاء الزعماء دون شك.

في صباح اليوم الثالث من زيارة نيكسون ركبنا سويًا طائرة الهليكوبتر من قصر رأس التين واتجهنا إلى الهرم في الجيزة فلم يكن من المتصور أن يزور نيكسون مصر دون أن يتضمن برنامجه زيارة الأهرامات.. وبعد انتهاء الزيارة والتقاط الصور التاريخية فيها توجهنا إلى قصر عابدين وإذا بالقاهرة كلها تخرج من بكرة أبيها مرة أخرى بصورة مذهلة بالفعل..

وكان المفروض أن نركب سيارة مغلقة لأن الوقت كان ظهرًا والجو كان حارًا ولكننا اضطررنا إلى ركوب سيارة مكشوفة عندما بلغنا نفق الهرم حيث وجدنا أن شارع الهرم - برغم أنه كان جمعة والسكان فيه قليلون - لم يكن في الشارع موطئ لقدم على جانبيه فكيف يكون الحال داخل المدينة..

استبدلنا العربة المغلقة بالعربة المكشوفة عند النفق وحدث ما توقعته تمامًا.. هرع أهالى القاهرة - برغم العطلة الأسبوعية كما قلت - وهو حر الصيف ولهيب الظهيرة إلى الشوارع والشرفات والنوافذ بطول الطريق حتى قصر عابدين فما زال شعبنا الواعى الذكى يريد أن يؤكد للعالم أجمع أننا لا نتبع السوفييت ولا غير السوفييت فنحن أصدقاء الكل لأننا أسمى وأعلى من أي انحياز أو تبعية أو وصاية.


أول بيان مشترك مع أمريكا

بعد استراحة قصيرة في قصر عابدين أتممنا محادثاتنا وانتهينا إلى الخطوط الرئيسية التي تمثلت في النقاط الأربع الت تناولها بالتحليل من قبل، ثم عقدنا مؤتمرًا صحفيًا أذيع فيه البيان المشترك الذى تعهد فيه الرئيس الأمريكي نيكسون بمساعدات على مدى طويل تصل إلى حوالى 2 مليار دولا وهى مساعدات ليست نقدية ولكنها تسهيلات من شأنها دعم الاقتصاد المصرى وتدعيم الصداقة المصرية الأمريكية.

كذلك ذكر البيان المشترك مشروع المفاعل الذرى.

أما مسألة التحرك لحل القضية فقد ذكرها البيان في عبارات عامة لأنها تحتاج إلى مباحثات ودراسات خارج نطاق البيان.

كذلك لم يذكر البيان شيئًا عن النقطة الرابعة الخاصة بالتسليح الأمريكي للقوات المصرية حتى لا تتحرك إسرائيل ضد نيكسون في الكونجرس وتعرقل مهمته.

سافر نيكسون بعد الأيام الثلاثة الأولى التي قضاها في مصر إلى السعودية حيث قضى فيها يومًا واحدًا ومثله في كل من سوريا والأردن وإسرائيل.

في إسرائيل وفى الرجل بوعده، فلم يكن خائفًا ومن شيء فقد كان رئيسًا قويًا بمعنى الكلمة ولو بقى في منصبه إلى نهاية مدته لكانت الخطوة الثانية من فض الاشتباك قد تمت في سبتمبر أو أكتوبر 1974 على أكثر تقدير..


نيكسون في إسرائيل

عندما وصل نيكسون إلى إسرائيل قال في أول خطاب له أن على الإسرائيليين أن يعدوا أنفسهم لاتخاذ قرارات قد تكون مؤلمة لهم.. قال ذلك بمنتهى الصراحة والوضوح مما يدل على حرصه واحترامه لكلمته واتفاقه معنا..

وهنا جن جنون الصهاينة من نيكسون وبدأوا يسرعون الخطى للخلاص منه.

عاد نيكسون بعد ذلك إلى أمريكا ثم قام بزيارة للاتحاد السوفيتى وعندما عاد إلى بلده تحولت قضية ووترجيت إلى حمى اجتاحت المجتمع الأمريكي كله، ومما لا شك فيه أن الأيدى الصهيونية لعبت دورها في هذا التحرك المحموم فقد وجد الصهاينة أن نيكسون قد بدأ في الضغط الفعلى عليهم دون خوف من الانتخابات واعتبروا البيان المصرى الأمريكي جرس انذار لتغييرات جوهرية في الوضع السائد في الشرق الأوسط.

وكانت إسرائيل قد انزعجت انزعاجًا لا يُوصف عندما فوجئت بالاستقبال الحماسى والتلقائى الذى أذهل به شعبنا نيكسون ومرافقيه حتى أنه قال لى أنه لم يلق في حياته مثل هذا الاستقبال وأضاف أعضاء الوفد المرافق له إلى ذلك أن هذا الاستقبال لم يحدث في التاريخ.

كل هذا دفع الصهاينة إلى التخلص السريع من نيكسون فلم يحتمل الأمر بضعة أسابيع قليلة بعد زيارته لمصر إلا وكان خارج البيت الأبيض..

وكان من بين أهداف إسرائيل التخلص أيضًا من كيسنجر الذى كان من المتوقع أن يعتزل بعد فضيحة نيكسون فهو الشاهد الباقى الوحيد على هزيمة إسرائيل الفاضحة في أكتوبر 1973، ولذلك أصبح هدفًا لحملات مسعورة تهدف إلى التخلص منه وتعيين وزير خارجية جديد، وحتى يكسبوا الوقت لحين الوصول إلى سنة الانتخابات وهذا هو السبب الذى جعلهم يستميتون في القضاء على مهمة كيسنجر في مارس 1975..

-----------------

هوامش:

(1) فى عام 1968م فاز الرئيس ريتشارد نيكسون بصعوبة أمام منافسه الديمقراطى "همفرى" بفارق 1.5% من الأصوات.. مما جعل الرئيس ريتشارد نيكسون أثناء انتخابات التجديد للرئاسة عام 1972م يقرر التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترجيت. وفي 17 يونيو 1972 ألقي القبض على خمسة أشخاص في واشنطن بمقر الحزب الديمقراطي وهم يضعون أجهزة تسجيل للتجسس.. وكانت نتيجة هذه الفضيحة هى استقالة ريتشارد نيكسون فى أغسطس عام 1974م ليتولى نائبه جيرالد فورد الرئاسة حتى نهاية المدة.

(2) الشيخ زايد بن سلطان بن زايد بن خليفة بن شخبوط بن ذياب بن عيسى بن نهيان آل نهيان: ولد فى 6 مايو 1918م.. تولى حكم دولة الإمارات العربية المتحدة فى الفترة من 1971م وحتى وفاته فى 2 نوفمبر 2004م

(3) محمد صدقى سليمان: ولد 1919م.. تولى رئاسة الوزراء فى الفترة من 10 سبتمبر 1966م وحتى 19 يونيو 1967م.. وتوفى 28 مارس 1996م

(4) وولتر (والتر) ليلاند كرونكايت: مذيع أمريكى ولد فى 4 نوفمبر 1916م.. كان من أفضل مذيعى أخبار محطة سى بى سى إيفينننج نيوز لمدة 19 عام من 1962م وحتى 1981م... وكان عادة يلقب بـ "أصدق رجل فى أمريكا". توفى فى 17 يوليو 2009م




07 البيت الأبيض.. بعد كل هذا

7

البيت الأبيض.. بعد كل هذا

أدرك كيسنجر أن مركز الثقل انتقل نهائيًا إلى مصر

الأهرام الجمعة 24 أكتوبر 1975م - 20 شوال 1395هـ


لم يكن من مبادئ وأهداف ثورة 23 يوليو منذ بدأت أن تحدد لمصر موقفًا منحازًا لأى تكتل دولى، لا الغرب ولا الشرق، ولكن كان المبدأ الأساسى والهدف المستمر هو الاحتفاظ لمصر بشخصيتها المستقلة المتحررة من أي احتكار سياسى دولى يضعها في موضع الخضوع أو الاستسلام للغرب أو للشرق، ولهذا كانت مصر والسياسة المصرية الدولية هي أحد العمد الرئيسية التي أقامت للعالم كتلة عدم الانحياز، والتي نادت بالحياد بين الكتلتين مع التصميم على أن يكون حيادًا إيجابيًا وليس حيادًا سلبيًا بمعنى الانعزال عن مصر العالم المرتبط بمصيرنا.

وشخصية مصر المستقلة تعنى أن تتحمل مصر مسئولية نفسها في صيانة حريتها واسترداد حقوقها، وتحقيق مصالحها..

وفى سبيل تحقيق هذه المصالح القائمة على الحق كان يتحدد موقف مصر من كل من الدولتين العظميين أي الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، أي أن الموقف الذى تتخذه مصر كان غالبًا يعبر عن رد فعل للموقف الذى اتخذته هذه الدولة العظمى أو تلك من استجابتها للحقوق والمصالح التي تطالب بها مصر..

ولأن أي تطور في السياسة المصرية كان دائمًا يمس الموقف الأمريكي الذى كان قائمًا على فرض استمرار الأوضاع القديمة التي كانت قائمة بين مصر والعالم الغربى، فإن هذا التطور كان يسبب دائمًا التباعد بين مصر والولايات المتحدة، وفى الوقت نفسه ينتهى إلى مزيد من التقارب واتساع التعامل مع الاتحاد السوفيتى إلى أن انتهى إلى ما يقال من أن مصر كانت الباب الذى استطاع الاتحاد السوفيتى أن يحقق من خلاله تواجده في الشرق الأوسط..

ورغم هذا فقد كانت مصر حريصة دائمًا على أن تبقى خيطًا ولو رفيعًا يربط بينها وبين الولايات المتحدة، وكان جمال عبد الناصر حريصًا على أن يقيم علاقة شخصية بينه وبين الرئيس الأمريكي كيندى(1)، وكانا يتبادلان الرسائل الخاصة، وهى علاقة حققت اتفاقية معونة بين مصر وأمريكا بلغت قيمتها 300 مليون دولار رغم أن كثيرًا من الأزمات كانت قائمة أيامها بين الدولتين ومن بينها الأزمة التي ترتبت على اشتراك مصر في ثورة اليمن، حتى قيل أيامها من أعداء كيندى أن أمريكا دفعت لمصر تكاليف حرب اليمن، ويقصدون المعونة التي وافق كيندى على أن يمد بها مصر..

ولا شك أنه كان من أهداف إسرائيل الأساسية والتي تعتمد عليها اعتمادًا كاملا هو الوصول إلى قطع العلاقات بين مصر وأمريكا إلى أن يتخذ كل منهما موقف العداء من الآخر حتى تصل إسرائيل إلى تركيز واستغلال كل القوى الأمريكية لصالح استمرار وجودها وتحقيق أطماعها التوسعية، وربما بدأ سعى إسرائيل إلى تحقيق هذا الهدف منذ الأيام الأولى لثورة 23 يوليو عندما خشيت ن تتخذ السياسة الأمريكية موقف الصداقة من هذه الثورة، فأثارت - أي إسرائيل - حوادث الاعتداء على المؤسسات الأمريكية في القاهرة والإسكندرية وهو ما عُرف بعد ذلك بقضية لافون، حتى تضع الثورة في وضع الاعتداء على الوجود الأمريكي في المنطقة.

واستمرت المحاولات الإسرائيلية إلى أن وصلت إلى قمتها بعد مقتل كيندى وتولى جونسون الرئاسة الأمريكية التي بدأها برسالته المعروفة إلى جمال عبد الناصر والتي طالب فيها بن يكون لأمريكا حق التفتيش على القوات المصرية وهدد فيها بتسليح إسرائيل بما يكفى لكسب أي حرب لها ضد العرب، وهى الرسالة التي رد عليها جمال عبد الناصر بطرد تالبوت مبعوث الرئيس الأمريكي من مكتبه وكان ذلك في عام 65 وفى هذا العام أي عام 65 بدأت إسرائيل الإعداد لحرب 67 بالاتفاق مع جونسون، وهو ما يؤكده كثير مما نُشِر من تحليل لتطورات الموقف الأمريكي..

وقد كان جونسون مستسلمًا استسلامًا كاملا للمراكز الصهيونية وكان يعتمد عليها حتى في الوصول إلى مكاسب شخصية مادية لعائلته، وكان يردد نفس منطق إسرائيل الذى تحاول أن تسيطر به على السياسة الأمريكية والذى يقوم على أنها تستطيع أن تكون مركز القوة والقاعدة العسكرية لأمريكا في المنطقة بدلا من أن تقيم أمريكا قواعدها بنفسها مما يجر عليها عداءات هي في غنى عنها فكما أنها - أي إسرائيل - يمكن أن تعتبر الحاجز الواقى من أي تسرب سوفيتى في المنطقة، ولا أبالغ إذا قلت أن إسرائيل نجحت في تمكين وجودها في المنطقة كنتيجة للفجوة التي حققتها بين العرب وأمريكا، في حين أن العرب كان يمكن أن يكونوا دائمًا أقوى بالنسبة للمصالح الأمريكية من أطماع إسرائيل إذا تعاملوا مع الأمريكان على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، وهذا كما سبق أن قلت هو ما أدى إلى ما حدث عام 67..

وبعد حرب 67 قطعت العلاقات قطعًا تامًا بين مصر والولايات المتحدة كرد فعل طبيعى لموقفها من هذه الحرب، وبلغ اليأس من إمكانية الوصول إلى أي نوع من أنواع الاتصال بين مصر وأمريكا إلى حد أن عبد الناصر فوض قادة موسكو في أن يتولوا الاتصال بواشنطن نيابة عن مصر حتى يصلوا بها إلى أي حل أو أي موقف يمكن أن يغير في النتائج التي انتهت إليها هزيمة 67، وهو تفويض لم يأت بأى نتيجة ولم يحقق أي خطوة أو أي أمل في خطوة يمكن أن تعتمد عليها مصر باعتبار أن إسرائيل تعتمد اعتمادًا كاملا على الولايات المتحدة ولا يمكن أن تتحرك إلا بضغط واشنطن ولا يمكن أيضًا أن تضع مصر أي خطة عسكرية لمحاربة إسرائيل ألا وهى تحسب حساب الموقف الأمريكي..


كيف تطورت العلاقات

وكل هذا أقوله تعبيرًا عن تاريخ العلاقات بيننا وبين الولايات المتحدة، وهو تاريخ كان يمكن أن يستمر في اتجاه واحد لو أن العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى لم تتطور تطورًا عكسيًا في مواجهة هزيمة عام 67..

وقد كانت نتيجة موقف الاتحاد السوفيتى أن تطورت العلاقات بين مصر والولايات المتحدة، وقد بدأ هذا التطور عندما قبل جمال عبد الناصر مبادرة روجرز(2) عام 1970..

وقد لا يعلم الكثيرون أن عبد الناصر قبل مبادرة روجرز وهو جالس على مائدة المحادثات مع القادة السوفيت في موسكو، وأبلغهم أنه مضطر أن يقبل هذه المبادرة كنتيجة لعدم استعداد موسكو لتلبية مطالب مصر الخاصة بالتسليح..

والغريب أن القادة السوفيت لم يهاجموا عبد الناصر على قبول مبادرة روجرز، أو ربما لم يكن هذا غريبًا بالنسبة لاستراتيجية السياسة السوفيتية(3)..

وكنت أنا أيامها في القاهرة أتحمل مسئوليات نائب رئيس الجمهورية، وبعد إعلان مبادرة روجرز جمعت القيادات السياسية وقررنا رفض هذه المبادرة، وقد رفضناها اعتقادًا منا أن جمال عبد الناصر سيعود من موسكو بعد أن يتم الاتفاق ويحقق كل مطالبنا الخاصة بالتسليح..

واستقبلت جمال عبد الناصر في المطار وخُيَّل إلى أنه عاد وهو أكثر شبابًا وقد استرد كل صحته نتيجة العلاج الذى قام به هناك ثم فوجئت وأنا معه بأن فكرة السياسى وحالته النفسية ليست في مستوى ما يبدو عليه من معالم الصحة، وفوجئت أكثر عندما أبلغنى أنه قرر قبول مبادرة روجرز، وأنها قبلها وأعلن قبوله في مواجهة القيادة السوفيتية لأنه وصل معهم إلى حالة اليأس.. اليأس من الوصول إلى خط صريح مستقيم يضمن له تحديد أي نتيجة لأى طريق يسير معه فيه(4)..

وكانت إسرائيل قد قبلت مبادرة روجرز حتى تريح نفسها من حرب الاستنزاف واعتمادًا على ما تعودته وتعوده العالم كله من رفض العرب لكل فرصة أو محاولة لحل القضية بينهم وبين إسرائيل بأى وسيلة سلمية.. قبلت إسرائيل مبادرة روجرز على أساس أن عبد الناصر سيرفضها، ثم فوجئت مفاجأة عنيفة بأن عبد الناصر قبلها، وكان أن تغير موقفها بسرعة وأصبحت هي التي ترفض المبادرة وتفتعل الحجج والمواقف التي تبرز هذا الرفض.

مارست إسرائيل ضغوطها الرهيبة على روجرز وأفهمته أن مستقبله كله متوقف على الجانب الذى سوف يختاره بين طرفى النزاع.. ورضخت أمريكا لإسرائيل، بل واشتركنا سويًا في الاحتجاج علينا بحجة أننا حركنا الصواريخ من الأماكن التي كانت عليها وقت قبول المبادرة، وقاموا بحملة مشتركة في العالم كله يتهمون فيها مصر بأنها نقضت نصوص المبادرة وبالتالي فيحق لإسرائيل ألا تُنَفِذ البند الأول منها والذى ينص على انسحابها من الأراضى العربية التي تحتلها.

ووضح من ذلك أن أمريكا لن تتخذ أي إجراء جاد لتنفيذ المبادرة التي تحمل اسم وزير خارجيتها، خاصة وأن إسرائيل كانت في ذلك الوقت في أوج غرورها وقمة سيطرتها على السياسة الأمريكية فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط بالذات، لدرجة أن أبا ايبان - وزير خارجية إسرائيل في ذلك الوقت - قال لروجرز أن أمريكا تُقحِم نفسها في أمور لا تهمها، ولا يجدر أن تهتم بها ثم عبر أبا ايبان عن رأيه في العرب بأن قال أنهم قوم متخلفون ولن تقوم لهم قائمة، ولا يعرفون سوى لغة البطش والرعب، وقد حان الوقت الذى سيأتون فيه راكعين مستسلمين لإسرائيل التي تعرف جيدًا كيف تعاملهم.


أول اتصال بينى وبينهم

بعد وفاة عبد الناصر - التي وقعت أثناء مبادرة روجرز التي بدأ سريان مفعولها من يوم 7 أغسطس 1970 - كان علىَ أن أقرر الطريق الذى ستسلكه عند انتهاء المبادرة في 7 نوفمبر، سواء بتجديدها أو بإهمالها.

بعد دراسة للموقف وجدت أن الظروف المحلية والعالمية في ذلك الوقت تحتم على أن أجددها، ولذلك أوفدت محمود رياض - وزير الخارجية في ذلك الوقت - إلى الأمم المتحدة وأعلنا تجديد وقف إطلاق النار لتسعين يومًا أخرى تنتهى في 4 فبراير 1971..

ولكن أمريكا لم تأخذ قرارنا مأخذ الجد بسبب الإشاعات التي كانت تحيط بالسياسة المصرية في ذلك الوقت، وتردد بين التلميح والتأكيد أننى غير قادر على اتخاذ أي قرار، وأن أيامى على كرسى الحُكم محدودة. ولقد كانت مراكز القوى هي مصدر تلك الإشاعات التي سرت في الجو منذ يوم تشييع جنازة عبد الناصر..

وقد حدث أن أوفد الرئيس الأمريكي نيكسون أحد وزرائه لتشييع الجنازة وهو اليوت ريتشاردسون(5) - وهو من رجال الحزب الجمهورى المرموقين وسفير أمريكا الآن في إنجلترا وكان على رأس وفد ضم ماكلوى أحد الخبراء الأمريكيين في قضية الشرق الأوسط.

وعاد ريتشاردسون بعد اشتراكه في تشييع جنازة عبد الناصر وكتب تقريرًا عن زيارته لمصر قال فيه أن السادات لن يبقى في الحكم وأن ما تبقى له مدة تتراوح بين أسبوعين وأربعة أسابيع على أكثر تقدير وأضاف ريتشاردسون في تقريره أن هذه المعلومات قد توصل إليها بعد دراسته للأوضاع في مصر والاتصال بالأشخاص المعنيين فيها. ولم يكن هذا رأى ريتشاردسون وحده وإنما كان أيضًا رأى الخارجية الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية وقد روى لى كيسنجر في أول لقاء لنا أن هذا التقرير - أي تقرير ريتشاردسون - مازال محفوظًا في سجلات الخارجية الأمريكية كوثيقة تاريخية يتعلم منها المسئولون في أمريكا ألا تخدعهم المظاهر الكاذبة ولا المعلومات غير المسئولة التي تعطى لهم.

تم أول اتصال بينى وبين الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في يوم 24 ديسمبر 1970(6)، فلقد أرسل لى خطابًا يشكرنى فيه على اشتراك مصر في تشييع جنازة الرئيس الراحل دوايت أيزنهاور(7) والتي مثل مصر فيها الدكتور محمود فوزى(8) رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت، وقد أرسل نيكسون الخطاب إلى الدكتور فوزى وطلب منه توصيله إلى، فلم تكن هناك علاقات ديبلوماسية بين مصر وأمريكا في ذلك الوقت.

عندنا تلقيت الخطاب وأطلعت على ما فيه طلبت استدعاء دونالد بيرجس المشرف على المصالح الأمريكية في مصر وعرف منى بخطاب نيكسون إلى وقلت له: أننى أعتبر هذا الخطاب بادرة جديدة ربما تفتح الطريق أمام العلاقات المصرية الأمريكية وتعود بها إلى أوضاعها الطبيعية. وعلى هذا فنحن على استعداد للاستجابة إلى كل خطوة يقترب بها الأمريكان منا، وكل مبادرة طيبة من جانبهم ستُقابل ببادرة أطيب من جانبنا، أما إذا كان العكس هو ما سوف يقع من جانبكم فستكون هناك من جانبنا إجراءات تفوق في سوئها إجراءاتكم..

كذلك قمت بالرد على الرسالة بخطاب أوضحت فيه للرئيس الأمريكي نيكسون أنه قد آن الأوان لتقوم أمريكا بدورها في حسم هذا النزاع، فهى كقوة عظمى لا شك مسئولة عن استمرار الوضع بهذا الشكل المتفجر، ونحن لا نريد سوى السلام العادل مع إدراكنا أن أمريكا هي الثورة الوحيدة التي تستطيع أن تؤثر على إسرائيل التي تعتمد في حياتها اليومية في كل شيء على أمريكا، وأنها إذا سارت أمريكا في الطريق الصحيح لإعادة الأمور إلى أوضاعها الطبيعية فستلقى منى كل تجاوب وتفاهم، كما أكدت في رسالتى أننا لن نستسلم مهما طال الزمن. وكانت الحرب النفسية الشرسة التي تشن ضدنا في ذلك الوقت تصور للجميع أننا في سبيلنا إلى التسليم أو الموت.

وكنت أهدف من وراء رسالتى تلك أن تكون مواجهتى مع الأصل، أي أمريكا، ذلك أن المواجهة مع الفرع وهو إسرائيل تأخذ شكلا آخر خصوصًا وأن الفرع يحاول دائمًا أن يمارس ضغوطًا على الأصل بما يتمشى مع أهدافه التوسعية في المنطقة.

وبقى الموقف على ما هو عليه إلى شهر مارس سنة 1971، ففي يوم 7 من ذلك الشهر ألقيت خطابى الذى أعلنت فيه انتهاء التزامنا بأى وقف لإطلاق النار، كما قلت أن مبادرتى التي أعلنتها في 4 فبراير 1971، مازالت قائمة، ونحن على استعداد لتنفيذها إذا ما استجابت لها إسرائيل بالشروط التي وردت بها، ولكن إسرائيل لم ترد، فقد زين لها غرورها أن الأوضاع في المنطقة قد استتبت ودانت لها بالطاعة لنصف قرن قادم من الزمان ولكن أمريكا تحركت لإنقاذ ماء وجهها، وجاءتنى رسالة من ويليام روجرز، يطلب فيها أن يلتقى بى في القاهرة.


مقابلة روجرز

وصل روجرز إلى مصر يوم 3 مايو سنة 1971(9)، واستغرقت مباحثاتنا جلسة طويلة استمرت ساعتين ونصف الساعة، وتحدث فيها روجرز عن مبادرتى واعترف أن أمريكا تسمع لأول مرة لغة جديدة وأسلوبًا عمليًا يتفهم روح العصر الذى نعيشه، كذلك فإنه يُقدر تمامًا الرغبة في الحل السلمى وتجنب العودة إلى ميدان القتال.

وأقف هنا قليلا لأروى أن روجرز قال لى عند مقابلتى له أنه فوجئ بالأسلوب الراقى الذى عامله به المصريون في كل مكان، وعلى كل المستويات، لقد كانت الفكرة التي أتى بها إلى القاهرة تُصَوِر له أن الناس في مصر سيقذفونه بالطوب والطماطم والبيض، كتعبير تلقائى عن الرواسب التي قضت على العلاقات الصحية بين مصر وأمريكا، لقد سار روجرز على قدميه في شوارع القاهرة، وقابل كثيرًا من المصريين الذين تحدثوا معه بمنتهى الذوق وهم يعلمون من هو، ولم تكن حوله أية حراسة.. وقد عبر لى روجرز عن ذهوله من هذا الاستقبال.

فقلت له: لا تندهش، فنحن شعب منح العالم الحضارة الإنسانية منذ سبعين قرنًا، ولا عجب أن يكون متحضرًا حتى في عدائه.. فالحضارة لا تفرق بين الصداقة والعداء، فالمتحضر في صداقته، متحضر أيضًا في عدائه.

وانتهت مقابلتى مع روجرز بوعد بأن أمريكا ستسعى من جانبها إلى تحقيق المبادرة التي أعلنت عنها، وحكى لى كيف استدعت جولدا مائير - رئيسة وزراء إسرائيل في ذلك الوقت - السفير الأمريكي في تل أبيب وطلبت منه إبلاغ رسالة إلى نيكسون وروجرز، تحدث فيها أي رئيس عربى أن يقبل باتفاق سلام مع إسرائيل، ويُعلن ذلك رسميًا، ولقد فوجئ الجميع أننى في مبادرتى أعلنت استعدادنا لإبرام اتفاق سلام مع إسرائيل بالإضافة إلى البنود الأخرى التي تُحَتِم انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضى العربية المحتلة بعد سنة 1967 إلى المضايق كخطوة أولى، ومنح فترة ستة شهور لإيقاف إطلاق النار على أن يتولى جونار يارنج(10) إتمام حل المشكلة خلال هذه الفترة.. كل ذلك كان بمثابة تجهيز لمباحثات انسحاب إسرائيل وعبور القوات المصرية، وعودة علاقتنا مع أمريكا، باعتبارها الأصل في القضية كلها.

وكان كلام جولدا مائير لروجرز يؤكد أنه لو قبل أي رئيس عربى تحديها، فإن إسرائيل في هذه الحالة ستضع كل أوراقها على المائدة كما يقول التعبير الأمريكي. ولذلك لم تعد لإسرائيل أية حجة تتذرع بها، وسيذهب روجرز من فوره إلى جولدا مائير لكى يقول لها أنه ثبت أخيرًا وجود الرئيس العربى الذى أعلن عن استعداده للسلام، والدور عليها، لكى تضع أوراقها على المائدة لكى تحل المشكلة حلا نهائيًا.

عندئذ سألت روجرز عما إذا كانت أمريكا تطالب مصر بطلبات أخرى، فنفى ذلك نفيًا مُطلقًا، وأكد أن موقفنا سليم مائة في المائة، ولا يطلب منا شيئًا، إنما الذى يطلبه لابد وأن يجئ من إسرائيل، فالكرة الآن في ملعبها ويتحتم عليها أن ترد، وغادر روجرز القاهرة على هذا الأساس، وكنت في قرارة نفسى لا أشعر بالثقة في أن روجرز ينوى فعلا أن يفعل شيئًا. كذلك كان جوزيف سيسكو(11) أهم عضو في الوفد الأمريكي يبدو غير متعاطف في ذلك الوقت مع العرب وكنت أدرك أن سلوكه هذا يرجع إلى أنه عمل مساعدًا لآرثر جولدبرج(12) رئيس الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة وقت عدوان 67.. وهو العدوان الذى خططه جونسون مع إسرائيل ولقد صارحت سيسكو بهذا الكلام أمام روجرز وقلت له أننا نشعر أنه أي سيسكو يمثل إسرائيل في هذه المحادثات كنتيجة لتأثره بالعمل فترة طويلة مع جولدبرج وإن كان قد ثبت بعد ذلك أن سيسكو لا ينحاز ولا يتخذ موقفًا إلا في حدود السياسة التي يخططها البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية..


صدمة إسرائيل

فوجئت إسرائيل، بل صُدِمت، لأنها خططت سياستها على أساس أنه لن يوجد ذلك الرئيس العربى الذى يقبل بعقد اتفاق سلام معها، وبهذا نجح العرب لأول مرة في إحراج إسرائيل أمام حليفتها..

ولم تسكت إسرائيل.. بل - كعادتها دائمًا - لم تعدم الحيلة وعادت إلى استخدام أسلوبها التقليدي القديم، وذلك بالضغط على الحكومة الأمريكية من الداخل.. وكانت النتيجة أن انتهت زيارة روجرز مع مبادرتى إلى لا شيء، وعادت إسرائيل إلى ترديد النغمة التي تقول أنها تعرف جيدًا كيف تتعامل مع العرب الذين لا يخافون إلا القوة والبطش، وعلى أمريكا أن تستريح لأن العرب - إن عاجلا أو آجلا - سيأتون راكعين يستجدون الصفح والمغفرة لأنهم قوم لا حول لهم ولا قوة سواء على المستوى العسكرى أو السياسى، ولكى تقضى جولدا مائير قضاء مبرمًا على مساعى روجرز ومبادرتى في الوقت نفسه، وقفت في البرلمان الإسرئيلى ولقنت روجرز درسًا ملأته بالتوبيخ لأنه تصدى لأمر لا يخصه، وكالعادة تلقفت الدوائر الصهيونية في أمريكا هذا الخطاب وروجته، بحيث كان هذا بداية لإسدال الستار تمامًا على مستقبل روجرز السياسى.

وفى 7 يوليو سنة 1971(13)، جاءنى مندوب من وزارة الخارجية الأمريكية - حاملا رسالة من روجرز - واتضع لى فيما بعد أن الرئيس الأمريكي لم يكن على علم بهذه الرسالة.. كانت الرسالة استفسارًا عن بعض النقاط المتعلقة بزيارة روجرز في أوائل شهر مايو وكنا قد عقدنا معاهدة الصداقة المصرية - السوفيتية في أعقاب ثورة التصحيح في 15 مايو(14)، وكان الاستفسار يتضمن أيضًا تساؤلا عما إذا كانت هذه المعاهدة تحد من حرية الحركة المتاحة لمصر في المجال العالمى، فنفيت هذا تمامًا، ثم سألنى المبعوث هل ما زلت عند رأيى في أن لأمريكا دورًا يجب أن تلعبه في قضية الشرق الأوسط: فأجبته بالإيجاب..

عند هذا قال لى المبعوث أنه مخول بأن يخطرنى أن الرئيس الأمريكي شخصيًا قد قرر التدخل منذ تلك الليلة لكى تأخذ مبادرتى مداها وتسير في طريق الحل السلمى، وأن أمريكا ستضع كل ثقلها وامكانياتها لكى يتحقق كل ما جاء في مبادرتى، وانتهت المقابلة عند هذا الحد.

وعلمت بعد ذلك أن إسرائيل أبلغت، عن طريق عملائها في وزارة الخارجية، بأمر رسالة روجرز فأقامت الدنيا ولم تقعدها، حتى قضت على أية خطوة كان يمكن لأمريكا أن تقوم بها في هذا المجال.

بعد ذلك حدث تطور غريب في الموقف.

كنت قد أعلنت في غضون سنة 1971، إن ذلك العام سيكون عام الحسم للقضية، إن سِلمًا أو حربًا، ولكن السياسة السوفيتية عملت كل ما في وسعها لكى لا يتحقق ذلك وتحرجنى أمام الوطن العربى.. وكان اعتمادنا أساسًا على عدم إمدادى بالسلاح الذى أحتاجه حتى لا أدخل المعركة، وفى نفس لوقت لم تحاول فرض أية ضغوط للوصول إلى الحل السلمى، لسبب بسيط هو أنها لا تملك إمكانية فرض مثل تلك الضغوط.

واستغل روجرز السياسة السوفيتية الملتوية لكى يغطى فشله في مساعيه لحل المشكلة، وحتى يستعيد رضاء إسرائيل الذى فقده بمجرد زيارته لمصر، وأعلن روجرز في أول يناير سنة 1972(15) أن مصر كانت تقول كلامًا لا تعنيه، وإلا فأين سنة الحسم التي ملأت بها الدنيا، ولم يتوقف استجداء روجرز لإسرائيل عند هذا الحد، بل أعلن - بلا حرج على الإطلاق - أن أمريكا اتفقت مع إسرائيل في شهر نوفمبر 1971 على تصنيع أنواع معينة من السلاح علاوة على مضاعفة الأسلحة التي تمدها بها.. وبهذا كان روجرز يسعى لمشاركة إسرائيل في حملتها الشعواء ضد العرب لعلها تصفح عنه، وتتركه يحتل مقعد وزير الخارجية، ولكن إسرائيل لم ترحمه، وقضت على مستقبله السياسى تمامًا.

ولم أرحم روجرز بدورى.. بل أعلنت على الملأ أن وزير خارجية أمريكا كان كاذبًا، ولم يحترم التزامه، وإن كنت قد احتملت التواء السياسة السوفيتية، فعلى الأقل لأن السوفييت كانوا المورد الوحيد لسلاحى.. ولكن لأى سبب احتما كذب وزير خارجية الدولة التي لم تأل جهدًا لكى تجعل إسرائيل متفوقة على باستمرار، ويمكنها تهديد أي بقعة في المنطقة دون ردع أو حتى مجرد رد.. لم أكن لأقبل أبدًا أن يساوم روجرز إسرائيل على حسابنا بعد أن ادعى القيم بدور الحكم المحايد.

وظلت العلاقات المصرية - الأمريكية على أشدها من التوتر طوال الفترة التي بقى فيها روجرز وزيرًا للخارجية الأمريكية.


متى ظهر كيسنجر

بعد خروج روجرز وتولى الدكتور هنرى كيسنجر منصب وزير الخارجية الأمريكية، بدأت العلاقات المصرية - الأمريكية تأخذ طريقًا آخر..

وهنا أحتاج إلى وقفة أسجل فيها أمرًا هامًا ذلك هو أن تعيين كيسنجر جاء بعد قرارى بإنهاء مهمة الخبراء السوفيت في يوليو 1972 وهو القرار الذى ظنه السوفيت مؤامرة مصرية مع أمريكا والذى اتضح فيما بعد للجميع أنه كان قرارًا وطنيًا مصريًا مائة في المائة رغم أن البعض ردد في ذلك الوقت أنه كان يمكن أن أساوم الأمريكان مقابل طرد الخبراء السوفيت ولكن أخلاقياتى لا تسمح أن أساوم الدولة التي بذلت أقصى ما في وسعها لكى تهزمنى على الدولة التي وقفت معى في الأيام السوداء.

بعد فترة من تولى كيسنجر لمنصبه الجديد، بعث برسالة يعبر فيها عن اهتمامه الشخصى لمقابلة أي مسئول مصري على أي مستوى، لأنه يشعر أن على الولايات المتحدة واجبًا ترغب في القيام به تجاه قضية الشرق الأوسط.

وبدأت المكاتبات والمراسلات تأخذ طريقها بيننا وبينهم عن طريق المشرف على رعاية المصالح الأمريكية في القاهرة، وتم الاتفاق على أن يلتقى كيسنجر بحافظ إسماعيل(16) في شهر أكتوبر من نفس السنة أي 1972.

وبالرغم من هذه الخطوة، فقد كنت أدرك جيدًا أن أمريكا لن تتحرك إلا في حدود ما يفرضه الواقع الذى يؤكد كل يوم انتصار إسرائيل وسيطرتها على المنطقة، بينما لم يفعل العرب شيئًا ماديًا ملموسًا لتغيير هذا الواقع أو حتى تحريكه، ولذلك كان إيمانى بالمعركة لا يتزعزع، على أساس أنها اللغة الوحيدة التي سيفهمها جميع الأطراف المتصارعة والمعنية.


كيف كانت إسرائيل تتكلم

وسأضرب لذلك مثلا يؤكد صحة ما كنت أؤمن به.. في يوم الخميس 4 أكتوبر 1973(17)، أي قبل المعركة بيومين، كان أبا ايبان(18) - وزير خارجية إسرائيل في ذلك الوقت- يقوم بالجولات الإسرائيلية المعتادة في الولايات المتحدة لجمع الجباية التقليدية، وفى ذلك اليوم تحددت مقابلة بين كيسنجر وأبا ايبان، وقد علمت فيما بعد أن كيسنجر قال لايبان أن الإسرائيليين متفوقون، ومن هنا لابد وأن تأتى مبادرة حل المشكلة من جانبهم، لأنه من العسير على العرب وهم مهزومون أن يتخذوا الإجراء الذى يؤدى إلى حل المشكلة، وأضاف كيسنجر أن أمريكا على استعداد للقيام بدور ايجابى في هذا السبيل، وخاصة أن الانتخابات الأمريكية كانت على الأبواب.

ولكن جاء رد أبا ايبان بالغًا في الغرابة - كما سمعت به - إذ تساءل ايبان بدهشة: لماذا يتحتم على إسرائيل أن تتقدم بمبادرة بينما لن تقوم للعرب أي قائمة سياسية أو عسكرية على مدى الخمسين سنة القادمة!.. ثم نصح ايبان كيسنجر ألا تضيع أمريكا وقتها فيما لا فائدة منه، فإسرائيل تعرف جيدًا كيف تتعامل مع العرب الذين لا يخضعون إلا لمنطق القوة والردع والقهر الذى تمارسه إسرائيل عليهم من وقت لآخر، حتى لا يظنوا في يوم من الأيام أنه سوف تقوم لهم قائمة.

قال ايبنا هذا الكلام وهو لا يدرك أنه بعد 48 ساعة بالضبط سيفتح الجحيم أبوابه لإسرائيل وغرورها، وأنها ستصرخ بعد أربعة أيام مستنجدة بأمريكا لكى تنقذها من هؤلاء الذين لن تقوم لهم قائمة.

ويبدو أن كيسنجر قد صدق تمامًا كلام ايبان لأن الواقع كان يؤكد صحة ما يقول.

وكان كيسنجر قد قابل حافظ إسماعيل مرتين بناء على الدعوة التي وجهها له ولم يحدث أي تطور نتيجة هذه الاجتماعين، لأن الواقع بكل أبعاده كان يفرض نفسه بكل قوة. وكان كيسنجر يدرس احتمالات قضية الشرق الأوسط لكى يجرب ديبلوماسيته فيها.

وعندما علم كيسنجر بخبر اندلاع المعارك في سيناء اعتقد أننى ارتكبت خطأ كبيرًا بإعلانى هذه الحرب، وأن إسرائيل ستقضى لا محالة على كل قواتى، وبالتالي ستقضى على كل فرص الوصول إلى حل سلمى مهما كانت ضئيلة.

وكان كيسنجر يرى في السياسة المصرية الجديدة سياسة منطقية يمكن بمقتضاها التوصل إلى حل سلمى معقول، وخاصة بعد أن قدمت مبادرتى التي أعربت فيها عن شروطى لعقد اتفاق سلام مع إسرائيل ولا يعنى هذا أن أمريكا كانت مستعدة لأن تمنحنا شيئًا رغم أنف إسرائيل ولكنها كانت تتحرك في حدود الواقع المادى الملموس أما تحرير الأرض فمهمة مُلقاة على عاتقنا وحدنا ولن يُساهم أحد فيها إلا إذا أثبتنا نحن جدارتنا العملية في هذا المضمار. وقد حكيت قصة رأى كيسنجر عند مقابلته لحافظ إسماعيل في حديثى للشعب يوم 28 سبتمبر الماضى.


المفاجأة الكبرى

واتصل كيسنجر بالرئيس الأمريكي نيكسون وأبلغه أسفه الشديد لاندلاع المعارك في الشرق الأوسط، وأن تقديره للموقف أن إسرائيل ستنتصر انتصارًا خرافيًا أكبر من انتصارها في عام 1967، وتأكدت ظنون كيسنجر عندما اتصلت بهم إسرائيل تطلب من أمريكا مهلة يومين لتحطيم عظام العرب في مصر وسوريا وتحفظ حقها عند أمريكا في استعراض الأسلحة التي ستفقدها في الحرب.

وكانت المفاجأة الكبرى عند كيسنجر، عندما تلقى استغاثة إسرائيل الشهيرة بعد أربعة أيام من الحرب: انقذوا إسرائيل..

هنا أدرك كيسنجر - وكل أمريكا - أن مركز الثقل قد انتقل نهائيًا إلى مصر وعليها أن تتعامل مع مصر التي استعدت للتعامل معها معاملة الند بالند.

لقد أثبتت مصر قدرتها على أن تورط الولايات المتحدة مع حليفاتها بإعلان حالة التعبئة الذرية بدون استشارتهم واستطاعت أن تكسب الرأي العالمى كله بجانبها بعد أن كانت قد خسرته بعد حرب سنة 1967، كذلك كشفت مصر الغطاء عن حقيقة الوفاق بين القوتين العظميين.

ومن هنا سارعت أمريكا بالتحرك، وجاء كيسنجر في نوفمبر والتقيت به لأول مرة، وبدأ الحديث معى عن الجيب الإسرائيلي، فأفهمته بصراحة أن هذا الجيب تحت رحمتى ويمكننى القضاء عليه متى شئت، عندئذ دخل معى كيسنجر في حوال مباشر وصريح، اتفقنا فيه على محادثات الكيلو 101.

----------------

الهوامش:

(1) جون فيتزجيرالد كيندى: ولد 29 مايو 1917م تولى الرئاسة الأمريكية من 20 يناير 1961م حتى مقلته فى 22 نوفمبر 1963م

(2) ويليام روجرز: سياسى أمريكى ولد فى 23 يونيو 1913م.. تولى منصب وزير الخارجية الأمريكى فى الفترة من 22 يناير 1969م حتى 3 سبتمبر 1973م.. توفى فى 2 يناير 2001م

(3) أو لأنه كان من الصعب بناء حائط الصواريخ دون وجود هدنة عسكرية.. لذلك كان هناك اتفاق مع الروس على قبول مبادرة روجرز واستغلال فترة الهدنة في بناء حائط الصواريخ.

فى خطاب الرئيس جمال عبد الناصر يوم 23 يوليو 1970م فى افتتاح الدورة الرابعة للمؤتمر القومى:

(الحقيقة فى هذا الوقت ظهر لنا أن أمريكا منحازة انحيازاً كاملاً لإسرائيل، وليس علينا إلا أن نبنى قوانا، ليس علينا إلا أن نسير فى طريقنا بمساعدة أصدقائنا لنبنى قوانا، ولنبنى الجيش الهجومى.)

وفى موضع آخر من نفس الخطاب:

(الحقيقة ونحن نعلن موافقتنا على هذه المبادرة الأمريكية التى نقول عنها إنها ليست جديدة بل كل ما فيها كان موجوداً فى مجلس الأمن سنة ٦٧؛ سنبنى فى نفس الوقت قواتنا المسلحة.)

(4) يقول السادات فى كلمته التى وجهها للسفير السوفيتى الجديد فلاديمير فينوجرادوف يوم 22 أكتوبر 1970م أثناء تقديمه أوراق اعتماده: (إن شعبنا وأنا واحد منهم يعترف بالجميل ويُقدره وأؤكد لك أننا لن ننسى وقفة الاتحاد السوفيتى النبيلة بجانبنا وجهوده معنا فى أوقاتنا العصيبة وضغوط الأعداء تُوجَه ضدنا لوقف المد التحررى العربى.)

كما ننقل هنا فقرات من خطاب الرئيس جمال عبد الناصر يوم 23 يوليو 1970م فى افتتاح الدورة الرابعة للمؤتمر القومى يقول:(فى 22 يناير 1970 كنت أرسلت رسالة إلى قادة الاتحاد السوفيتى وقلت لهم: إن أنا أريد أن أزور موسكو زيارة سرية وأستعرض معاكم الموقف الذى مواجهه ونتكلم فى الموضوع. فى 22 يناير ذهبت إلى الاتحاد السوفيتى.... وبعد هذا صدر قرار من الاتحاد السوفيتى بأن الاتحاد السوفيتى سيساعدنا بكل ثقله فى الدفاع عن وطننا.... وأبلغونى فى زيارتى فى يناير أن كل هذ الدعم المطلوب لنا سيصل فى مدة لا تزيد عن 30 يومًا. وقد أوفى الاتحاد السوفيتى بوعده، ولهذا فإننا نذكرهم أيضًا بالشكر والعرفان)

(5) إليوت لي ريتشاردسون: محامى وسياسى أمريكى ولد فى 20 يوليو 1920م.. تولى منصب وزير الخارجية فى إدارة الرئيس نيكسون فى الفترة من 1969 إلى 1970م.. وتوفى فى 31 ديسمبر 1999م.

(6) الخميس 24 ديسمبر 1970م - 26 شوال 1390هـ

(7) دوايت ديفيد أيزنهاور: ولد 14 أكتوبر 1890م..رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الرابع والثلاثين فى الفترة من 20 يناير 1953م حتى 20 يناير 1961م.. وتوفى فى 28 مارس 1969م

(8) محمود فوزى: ولد 19 سبتمبر 1900م.. تولى رئاسة وزراء مصر فى الفترة من 21 أكتوبر 1970م حتى 16 يناير 1972م.. ثم نائب رئيس الجمهورية من 16 يناير 1972م حتى 18 سبتمبر 1974م.. وتوفى فى 12 يونيو 1981م

(9) الاثنين 3 مايو 1971م - 8 ربيع الأول 1391م

(10) جونار يارنج: سياسى سويدى ولد فى 1917م بالسويد.. اختير فى نوفمبر 1967 كمبعوث خاص إلى الشرق الأوسط لمتابعة قرار مجلس الأمن بانسحاب إسرائيل من الأراضى العربية.. حيث بدأ نشاطه فى 10 ديسمبر 1967 متخذًا قبرص مقرًا له

(11) جوزيف سيسكو: دبلوماسى أمريكى ولد فى 31 أكتوبر 1919م عمل تحت إدارة هنرى كيسنجر وكن من كبار المفاوضين بين الأطراف المتنازعة فى الشرق الأوسط.. توفى فى 23 نوفمبر 2004م

(12) آرثر جوزيف جولدبرج: ولد فى 8 أغسطس 1908م.. سياسى وقانونى أمريكى.. عمل مندوب للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة فى الفترة من 28 يوليو 1965 حتى 24 يونيو 1968م.. وتوفى فى 19 يناير 1990م.

(13) الأربعاء 7 يوليو 1971م - 15 جمادى الأولى 1391هـ

(14) السبت 15 مايو 1971م - 20 ربيع الأول 1391م

(15) السبت 1 يناير 1972م  15 ذو القعدة 1391هـ

(16) الفريق محمد حافظ إسماعيل: سياسى مصرى ولد فى 28 أكتوبر 1919م.. مستشار رئيس الجمهورية لشئون الأمن القومى فى الفترة من سبتمبر 1971م وحتى 1973م.. توفى 1 يناير 1997م

(17) الخميس 4 أكتوبر 1973م - 8 رمضان 1393هـ

(18) أبا ايبان (أوبرى سوليمون مانير إيبان): دبلوماسى وسياسى إسرائيلى ولد فى 2 فبراير 1915م.. تولى وزارة الخارجية من 13 يناير 1966م وحتى 2 يونيو 1974م.. توفى فى 17 نوفمبر 2002م