كيف ابتعد السودان عن مصر؟
بقلم: اللواء ـ جمال حمادالمؤرخ العسكرى
الأهرام الاثنين 17 سبتمبر 2007م - 5 رمضان 1428هـ
أشار الكاتب الكبير صلاح الدين حافظ في مقاله بعدد الأهرام الصادر في الخامس من سبتمبر الحالي الي أن ثورة 23 يوليو اتخذت قرارا تاريخيا بمنح السودان استقلاله مما أغضب الكثيرين ممن كانوا يؤمنون بأن مصر والسودان بلد واحد واتهموا جمال عبد الناصر بالتخلي عن توأم الروح تحت الضغط البريطاني المدفوع بتيارات انفصالية سودانية.
واستكمالا لمقالكم الرائع وتوضيحا لأهم العوامل التي أدت إلى اعلان استقلال السودان وعدم الاتحاد مع مصر آثرت ان أكشف لكم عن بعض الحقائق المتعلقة بهذه القضية لصالح القراء وحرصا على الأمانة التاريخية. وكما تعرفون كان السودان منذ عقد اتفاقية الحكم الثنائي (المشئومة) بين مصر وبريطانيا في 19 يناير 1899 خاضعا لحكم بريطاني مصري من الناحية القانونية ولحكم بريطاني شمولي منفرد من الناحية الواقعية، وعندما قامت ثورة يوليو بقيادة اللواء محمد نجيب لقيت تأييدا شاملا من جماهير الشعب السوداني فقد كان الكثيرون منهم يعتبرون أن محمد نجيب نصفه مصري ونصفه سوداني وذلك بحكم مولده ونشأته ومسيرته الدراسية في مدارس وادي حلفا ثم في كلية غوردون بالخرطوم وعلاقاته القديمة الوثيقة بأهل السودان وكانت وجهة نظر محمد نجيب في قضية السودان تختلف تماما عن وجهة نظر الاحزاب المصرية في مفاوضاتها طيلة 70 عاما مع بريطانيا، فبينما كان المفاوضون المصريون يتمسكون دائما بأن يكون لملك مصر حق السيادة علي السودان مما كان يغضب السودانين وهو الأمر الذي أدي الي فشل جميع المفاوضات بين الطرفين كان محمد نجيب يعتنق مبدأ حق السودانين في تقرير مصيرهم.
وأوضح محمد نجيب في مذكراته أن خطواته الأساسية الأولي كانت تستهدف جمع السودانيين بمختلف احزابهم علي موقف موحد تعاونهم فيه مصر وهذا ما دعاه الي توجيه دعوته في البداية الي زعماء حزب الأمة المعروف بتمسكه باستقلال السودان للحضور الي القاهرة وأمكنه بفضل علاقاته القديمة مع السيد عبد الرحمن المهدي راعي هذا الحزب والذي تعمد محمد نجيب استقباله والحفاوة به في اثناء وجوده في مصر بصورة رائعة ان يعقد اتفاقا مرضيا للطرفين يوم 29 اكتوبر 1952 وعندما حضر زعماء الأحزاب الاتحادية العديدة الي القاهرة كانت ضربة معلم صائبة من محمد نجيب ان ينجح في اقناعهم بضرورة توحيد جميع الاحزاب الاتحادية المشتتة في حزب واحد هو الحزب الوطني الاتحادي وتم توقيع الاتفاق في منزل محمد نجيب يوم 3 نوفمبر واختير اسماعيل الازهري ليكون رئيسا لهذا الحزب.
ولم تلبث المفاوضات ان بدأت في القاهرة بين مصر وبريطانيا لتعديل دستور الحكم الذاتي في 20 نوفمبر 1952 وعندما تعثرت المفاوضات بين الوفدين بسبب العقبات التي ظهرت اقترح السفير البريطاني بالقاهرة رالف ستيفنسون علي محمد نجيب قيام الرائد صلاح سالم عضو الوفد المصري في المفاوضات بجولة في جنوب السودان ليري بنفسه احوال الجنوب وتم لصلاح سالم بالفعل القيام بهذه الرحلة مع عدد من المرافقين في 28 ديسمبر 1952 واستغرقت زيارته عشرة ايام كاملة وشارك صلاح قبيلة الدنكا في غابات تيمولي في رقصتهم للحرب عاريا مثلهم فيما عدا ستره لعورته وفقا لتقاليدهم وعلي الرغم من ان هذا العمل قوبل من الاهالي الجنوبيين بالسرور فإنه قوبل بالسخرية من بعض الدوائر السياسية خاصة في بريطانيا مما جعل الصحف البريطانية تطلق عليه اسم ( الرائد الراقص) واخيرا نجحت المفاوضات وتم للوفدين المصري والبريطاني توقيع اتفاقية الحكم الذاتي للسودان بمقر رئاسة الوزراء بالقاهرة يوم 12 فبراير 1953.
وعندما اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية التي اجريت في السودان في 25 نوفمبر 1953 اتضح ان الحزب الوطني الاتحادي اكتسح باقي الاحزاب واصبحت له اغلبية ضخمة في مجلسي النواب والشيوخ وفي يوم 6 يناير 1954 تم لمجلس النواب انتخاب اسماعيل الأزهري رئيسا للوزراء وتشكلت الوزارة من اثني عشر وزيرا كانوا جميعا من الحزب الوطني الاتحادي واحتفلت جميع وسائل الاعلام في مصر بهذا الفوز الساحق وأصبح الشعبان المصري والسوداني ينتظران في شوق قرب الاعلان عن اتحاد البلدين الشقيقين.
ومما يؤسف له أن تلك الآمال العريضة التي كان الشعبان ينتظران في شغف قرب الإعلان عنها لم تكن الأحوال السياسية في مصر تساعد علي تحقيقها ففي اعقاب أزمة مارس 1954 وفي إثر حدوث محاولة اغتيال جمال عبدالناصر رئيس وزراء مصر وقتئذ في ميدان المنشية بالإسكندرية يوم 26 أكتوبر استغل مجلس قيادة الثورة هذه الجريمة الفردية للإطاحة بقائد الثورة محمد نجيب فصدر القرار في 14 نوفمبر بإعفائه من منصب رئيس الجمهورية برغم أنه كان وقتئذ منصبا فخريا لا يمنح صاحبه أية سلطات في يده وبرر المجلس ذلك بأن بعض المتهمين في القضية رددوا بأن محمد نجيب كان علي صلة بالإخوان المسلمين وتغافل مجلس الثورة عن العواقب الخطيرة والآثار الضارة التي ستلحق بقضية الاتحاد الخالدة بين الشعبين الشقيقين في سبيل تحقيق غرض زائل وهو ضمان الاستمرار في ممارسة السلطة في مصر والبقاء في الحكم.
وأثارت الإطاحة بمحمد نجيب وتقييد حريته الشخصية بهذه الطريقة المهينة مشاعر السودانيين الذين كانوا يعتبرونه رمز الاتحاد بين البلدين فضلا عن خشيتهم مما سوف يحيق بهم إذا ما اتحدوا مع مصر بعد أن رأوا ما ارتكبه أعضاء مجلس الثورة ضد رئيسهم وقائد ثورتهم لذا بدأ ابتعادهم تدريجيا عن قضية الاتحاد مع مصر. ولم تكن تنحية محمد نجيب عن منصبه هي العامل الوحيد في ابتعاد شعب السودان عن فكرة الاتحاد مع مصر فقد كانت هناك عوامل عديدة أخري كان في مقدمتها تلك المحنة المروعة التي تعرض لها الاخوان المسلمون في مصر والتي لم يسبق لها مثيل في قسوتها بسبب واقعة محاولة الاغتيال الفاشلة في ميدان المنشية.
وأدت سياسة إسماعيل الأزهري المتسمة بالجفاء والتباعد عن مصر إلي حدوث جولات من الصدام الحاد والهجمات العنيفة المتبادلة في وسائل الاعلام بينه وبين صلاح سالم المسئول المصري عن شئون السودان وكان صلاح سالم برغم نجاحه المرموق في المرحلة السابقة قد اتبع في السودان سياسة شديدة الخطورة وهي استخدام وسيلة توزيع الاموال والرشاوي لاجتذاب الاعوان والمؤيدين مما جعل الساحة السياسية تخلو من طائفة المؤمنين الحقيقيين بالقضية الخالدة خشية أن تلحق بهم الشكوك في تقاضيهم الرشاوي والأموال من صلاح سالم وأعوانه إذا ما أبدوا مشاعرهم علانية أو تحمسوا لقضية الاتحاد علي رءوس الاشهاد لذا لم يبق بالساحة سوي طائفة من المنتفعين والانتهازيين والمرتزقة.
ومما يدعو إلى العجب أن صلاح سالم في لقائه المنفرد مع عبد الناصر في مكتبه يوم 25 أغسطس 1955 وبعد أن وصل مركز مصر في السودان إلى أسوأ حال أدلي باعترافات مثيرة للغاية أمامه فقد اعترف بأن المعلومات التي كان يرسلها إليه عن السودان لم تكن تمثل الحقيقة هناك وانه أصبح كارتا محروقا بالنسبة لمصر في السودان ثم تقدم إلي عبد الناصر باقتراح ظنا منه أنه يمكن التغرير به وهو ان يسافر عبد الناصر في اليوم التالي إلى الخرطوم ليعلن بنفسه أمام البرلمان استقلال السودان وبذا يصبح هو بطل الاستقلال. وفطن عبدالناصر بذكائه إلي هدف صلاح سالم من ذلك الاقتراح وهو أن يفلت من المأزق الذي يواجهه بعد انهيار سياسته في قضية السودان التي كان الشعب المصري بفضل الدعايات المضللة التي كانت تذيعها وسائل الاعلام المصرية بأمر صلاح سالم وزير الارشاد ( الإعلام) لا يزال غارقا في احلامه الوردية بقرب إعلان الاتحاد بين مصر والسودان كما أن هذا الاقتراح كان يكفل له التنصل من فشل سياسته الخاطئة في السودان ويلقي بها علي عاتق غيره ولكن عبدالناصر لم تنطل عليه هذه الحيلة وعبر لأعضاء مجلس الثورة عن سخريته من هذا الاقتراح وذكر لهم أن الأفضل له إذا ما نفذ الاقتراح ان يتوجه من الخرطوم للجوء إلى الكونغو رأسا وعدم العودة إلى مصر حتى لا يواجه ثورة الشعب ضده.
وفي أول يناير 1956 عقد البرلمان السوداني جلسته التاريخية التي أعلن خلالها رئيس الوزراء اسماعيل الازهري استقلال السودان ثم أخطر اعضاء البرلمان انه قد تلقي اعترافا بهذا الاستقلال من جمال عبد الناصر رئيس وزراء مصر وسلوين لويد وزير خارجية بريطانيا وهكذا تم استقلال السودان وطويت قضية الاتحاد بين السودان ومصر الي حين ولا نقول إلى الأبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.