الأحد، 21 مارس 2021

01 ذكريات الأيام الأولى بعد وفاة عبد الناصر

1

ذكريات الأيام الأولى بعد وفاة عبد الناصر

الأهرام الخميس 26 سبتمبر 1975م - 21 رمضان 1395هـ


رغم أنى كنت أعلم كل تفاصيل مرض جمال عبد الناصر وكنت متتبعًا لكل تطورات حالته الصحية، ورغم أنى كنت أعلم مدى الخطورة التي تحيط به وأتكتم الحديث عنها وأتعهد إخفاءها منذ هزيمة 5 يونيو وانقلاب مرض السكر إلى مرض حساس داهمه في نوفمبر 67، ثم عقب السيطرة على مرض السكر الذى ما لبث أن شفى به(1)، داهمته الآلام المبرحة لأعصاب وشرايين ساقيه التي ما إن شفى منها حتى داهمته أول أزمة قلبية عنيفة في سبتمبر 69 أي قبل وفاته بعام واحد، رغم كل ذلك، إلا أنى لم أكن أنتظر أبدًا موته.. كانت وفاته مفاجأة عنيفة لى لم أحسب أبدًا حسابها، ربما لأن عبد الناصر كان بالنسبة لنا قد أصبح واقعًا مستمرًا لا يمكن أن يتغير مهما تطورت الحياة به ومن حوله، بل إنى كنت مؤمنً بأن عبد الناصر سيبقى بعدى وبعد كل المحيطين به، فقد كانت شخصيته تبدو لنا دائمًا قوية راسخة إلى حد أن نتصورها أقوى من المرض، ولذلك لم أكن أحسب أبدًا حساب الفراغ الهائل الذى يمكن أن تتركه وفاة عبد الناصر، ولم يخطر على بالى أبدًا أنى سأجد نفسى يومً مضطرًا لحمل مسئولية هذا الفراغ..

وقد رحل جمال عبد الناصر مساء يوم الاثنين 28 سبتمبر 1970(2)، وهو نفس اليوم الذى شهد نهاية مؤتمر القمة العربى الذى عُقِد في القاهرة لوضع حد لمعركة سبتمبر أو معركة أيلول التي وقعت بين الفدائيين الفلسطينيين والحكومة الأردنية، وكالعادة كان عبد الناصر - كرئيس للدولة المضيفة - يقوم بتوديع الملوك والرؤساء العرب في مطار القاهرة الدولى عند مغادرتهم لمصر عائدين إلى بلادهم، وكان الملك فيصل رحمه الله - وأمير الكويت آخر من قام عبد الناصر بتوديعهما.

وعند وداع الملك فيصل(3) لاحظ كبير الياوران سعد متولى(4) - أثناء سيره المعتاد خلف جمال - أن ساقى جمال قد التفتا على بعضهما البعض وكان الاعتقاد السائد ساعتها أن هذا ربما كان سببه الإرهاق الشديد الذى أصاب جمال بسبب التوتر البالغ الذى ساد جو المؤتمر، وسببه أيضًا المجهود الكبير الذى بذله ليوقف المزيد من إراقة الدماء العربية بين الفلسطينيين والأردنيين. وكان وجه جمال في ذلك اليوم ينطق بالحاجة المُلِحة إلى الراحة والاستجمام. وكنت أعلم جيدًا أن الإسكندرية هي المكان الوحيد الذى يمنح جمال راحته المنشودة جسميًا ونفسيًا.

لم أقل لجمال أن كبير الياوران سعد متولى قد أخبرنى بأن ساقيه التفتا على بعضها البعض. ولكنى قلت له إن الإرهاق واضح تمامًا على وجهه، وأنه من الأفضل أن يذهب لقضاء فترة بالإسكندرية يستعيد فيها نشاطه وحيويته، وبالفعل اتصلت بمحمد أحمد(5) الذى كان يعمل سكرتيرًا خاصًا للرئيس وطلبت منه أن يستعد لسفرنا في صباح اليوم التالى إلى الإسكندرية(6)، ولكى لا يجهد جمال نفسه أكثر من اللازم اقترحت عليه أن أقوم أنا بتوديع أمير الكويت(7) نيابة عنه فهو صديق شخصى لى، وكنت واثقًا من أنه سيقبل اعتذار جمال لمرضه، ولكن جمال قرر توديع أمير الكويت بنفسه خاصة وأنه كان آخر الملوك والرؤساء العرب الذين غادروا مصر بعد انتهاء مؤتمر القمة، ويمكن أن يستريح بعد ذلك.

ولم أستطع أن أثنى جمال عن عزمه، برغم تحامله الواضح على نفسه بعد توديعه للملك فيصل، وسار مع أمير الكويت حتى الطائرة، ثم صعد الأمير الطائرة، وكما هو المعتاد في المراسم، تحركنا بعيدًا عن الطائرة إيذانًا ببدء تحركها حتى نلوح مودعين للضيف المسافر وفى تلك اللحظة لم يستطع جمال أن يتحرك بعيدًا عن الطائرة إلى المكان الذى يستطيع أن يلوح منه مودعًا لأمير الكويت، كان العرق يتصبب بغزارة من وجهه الذى اتشح باللون الأصفر، تسمرت قدماه بالأرض وكان يبدو أنه يبذل جهدًا كبيرًا في مقاومة الإعياء حتى لا يقع في وقفته، وطلب العربة لكى تأتى إلى حيث كان واقفًا، وبالفعل جاءت مسرعة واستقلها دون أن ينتظر ليلوح لأمير الكويت.

وقبل أن تغادر عربته أرض المطار، أخبرته بسفرنا في اليوم التالى إلى الإسكندرية وكان كل فكرى أن المسألة مجرد إرهاق شديد، ووافق جمال وأوصانى ببعض الوزراء الكويتيين الذين كانوا معنا بالمطار لكى نرعى راحتهم ونبحث بعض الأمور معهم، ثم غادرت عربة جمال المطار مسرعة إلى منزله وقمت بالتأكيد على محمد أحمد للقيام بالإجراءات اللازمة لانتقال جمال إلى الإسكندرية، وبعد ذلك انتظرت ومعى المودعون حتى لوحنا لأمير الكويت الذى سافر إلى بلده..

عدت من المطار إلى منزلى، وكنت في ذلك الوقت قد خصصت غرفة لى بالدور الأول للراحة والاستجمام والقراءة.. دخلت الغرفة لأرتاح من عناء اليوم وأخبرتهم بالمنزل بأن يوقظونى حوالى الساعة السابعة مساء، وكنت بدورى في أشد الحاجة للراحة بعد مجهود الأسبوع السابق ومشاركتى لجمال في أعباء المؤتمر، خاصة وأننى كنت قد شفيت حديثًا من نوبة قلبية أصابتنى في صيف عام 1970، وهى نفس التوبة التي أصابتنى قبل ذلك عام 1960، ولكننى - والحمد لله - شفيت منها تمامًا، وقبل أن أغفوا اتصل بى محمد أحمد تليفونيًا وأخبرنى أن الرئيس جمال سيزورنى مساء لتناول العشاء معى، وكنا في السنة الأخيرة قبل موته قد تعودنا أن نتبادل الزيارات معًا سواء عندى أو عنده، كنا نقضى الأمسيات والجلسات الطويلة نناقش كل الأمور والمتاعب والمشكلات.

طلبت منهم بالمنزل أن يوقظونى مبكرًا قليلا لأن الرئيس جمال سيأتى لتناول العشاء معى، ثم غفوت، وأيقظونى حوالى الساعة السادسة والنصف أو السابعة، لا أذكر على وجه التحديد.

وقالوا أن منزل الرئيس جمال اتصل تليفونيًا، وأننى مطلوب هناك لأمر هام.

قلت لهم: خير. قالوا إن الرئيس متعب قليلا، ولكن كل شيء على ما يرام، وغادرت المنزل في طريقى إلى منشية البكرى حيث يقع منزل جمال. وصعدت فورًا إلى الدور العلوى حيث كان هناك الكابوس يجثم على كل شيء.

لقد مات جمال عبد الناصر، مات منذ ساعة والأطباء يحيطون بسريره، والوجوه واجمة أو باكية والمشهد لوحة من دموع وتأوهات وتشنجات، غطوا وجه جمال بملاءة، وإذ بى أجد نفسى وأنا أكشف عن وجهه.

لقد مات كثيرون من قبل بين يدى، منهم أمى رحمها الله ومن خبرتى أعلم أن وجه الميت يتغير بعد عشر دقائق أو ربع ساعة على أكثر تقدير، لكن عندما كشفت عن وجه جمال، كان طبيعيًا جدًا، كأنه نائم تمامًا، ليس هذا فقط بل أننى ألصقت خدى بخده، ولم تكن هناك برودة الموت المعروفة، نظرت إلى الأطباء حائرً وقلت أنه من المستحيل أن يكون قد مات..

قل الأطباء أنهم تأكدوا من وفاته منذ ساعة مضت، وأنهم قاموا بكل الإسعافات اللازمة وغيرها من الإجراءات الضرورية مثل جهاز القلب الذى يرسل صدماته إلى القلب لكى ينشطه. ولكنها كانت نوبة قلبية شديدة وضعت حدًا لحياته، وجلبت معها الكابوس الجاثم على كاهل الجميع، لم أستطع أن أصدق هذه الحقيقة المفجعة، فطلبت من الأطباء أن يحاولوا مرة أخرى وكان الرد الوحيد هو الدموع، ومن خلال الدموع علمت أنهم شرعوا في محاولاتهم منذ ساعتين، وكان قد مات في الساعة الأخيرة. وتأكد الجميع أن جمال عبد الناصر قد مات.

حقيقة مفجعة ورهيبة، ولكن لا مفر من قبولها، ولا مفر أيضًا من سرعة استجماع القوة في مثل هذه المواقف حتى لا يفلت زمام الأمور، خاصة وأنها تتعلق بمصير أمة في مفترق الطرق وليس بمصير فرد اختاره الله عز وجل إلى جواره.

فكرت في الحال وأدركت أن بقاء الجثمان في البيت مسألة صعبة قد لا تحتملها عائلته، وأيضًا فإن جمال ليس شخصية عادية، فهو زعيم سجل تاريخًا جديدًا لمصر، وهو رئيس دولة، ولابد لجنازته من إجراءات ضخمة متعددة، ولكى نحصل على الوقت اللازم لمثل هذه الإجراءات يتحتم نقله في الحال من المنزل ونقلناه فعلا إلى قصر القبة.

وجلست في الصالون بالدور الأول، ولا أتذكر بالضبط من كان معى من المسئولين في ذلك الوقت واتفقنا على عقد مجلس وزراء طارئ مع اللجنة التنفيذية العليا في قصر القبة.

وبالفعل تم عقد الاجتماع، وتركنا مقعد عبد الناصر شاغرًا، جلست أنا على مقعد اليمين كالنائب الوحيد لرئيس الجمهورية، واستدعينا الأطباء للاستماع إلى التقرير الطبى الكامل. واتفقنا على إجراءات الجنازة، وكان ذلك اليوم يوافق يوم الاثنين واتفقنا على أن يكون تشييع الجنازة يوم الخميس التالى لكى نمنح الفرصة للملوك والرؤساء والمعزين الذين يرغبون في تشييع الجنازة، حتى يصلوا إلى القاهرة، وفى نهاية الاجتماع اتفقنا على الصيغة التي سننعى بها عبد الناصر إلى العالم العربى والعالم أجمع.

في ذلك الاجتماع اتضحت لى بداية المناورات الخفية التي حاول البعض القيام بها. كان دستورنا المؤقت في ذلك الوقت ينص على أن الذى يحل محل رئيس الجمهورية أو يخلفه هو النائب الأول له(8)، وكنت قد عينت نائبًا وحيدًا لرئيس الجمهورية لأنه لم يكن هناك نائب ثان. وكان منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية قد نص عليه دستور عام 1964 لرغبة عبد الناصر في ذلك الوقت أن يكون عبد الحكيم عامر(9) نائبه الأول في حالة تعيين نواب آخرين. وبالفعل كان هناك نواب آخرون ولكن لم يحتفظوا بمناصبهم طويلا واقتصر الأمر فيما بعد على نائب واحد.

وعندما عُينت في ديسمبر عام 1969 نائبًا لرئيس الجمهورية(10)، كنت النائب الوحيد له ولكن البعض حاول في ذلك الاجتماع أن يتعلق بالنص الجامد في الدستور على أساس أن الذى يخلف رئيس الجمهورية هو النائب الأول وليس النائب الوحيد. ولكن الاعتراض كان من التفاهة والسذاجة بمكان، بحيث لم يستطع أن يسانده أحد من المجتمعين، وبرغم تفاهة الاعتراض إلا أنه كانت له دلالته الخاصة التي أبرزت التيارات والصراعات الخفية التي كانت على وشك أن تطفو على السطح.

بعد الاجتماع طلبت من الأطباء العمل على حفظ الجثمان بطريقة طبية سليمة لغاية يوم الخميس، أي حتى تشييع الجنازة، وفعلا قام الأطباء المختصون والطبيب الشرعى بهذه المهمة، وظللت ملازمًا لقصر القبة ومعى حسين الشافعى(11) وعلى صبرى(12) وبدأت وفود الملوك والرؤساء والمُعزين في الوصول إلى القاهرة استعدادًا ليوم الوداع التاريخى.


نصيحة الصديق بومدين(13)

في الواقع لم أن أفكر يومها في سرعة إجراء انتخابات لشغل منصب رئيس الجمهورية، كان جمال قد أعلن في خطاب العودة في 10 يونيو 1967 أنه يعود بناء على رغبة الشعب على أساس أن تُجرى فيما بعد انتخابات لرئيس الجمهورية بعد إزالة آثار العدوان مباشرة، وعلى الطريق نفسه كنت أفكر في أن أعمل نائبًا لرئيس الجمهورية أو رئيس للجمهورية بالنيابة لحين إزالة آثار العدوان، وبعد ذلك تجرى الانتخابات وينتخب الشعب رئيسه انتخابًا حرًا ديمقراطيًا، وكنت مُصرًا على رأيى هذا طوال أيام الاثنين والثلاثاء حتى مساء الأربعاء 30 سبتمبر 1970(14).

في مساء الأربعاء نفسه غيرت رأيى بعد أن سمعت وأحسست بالتيارات والمناورات الخفية التي بدأت تطفو على السطح. كانت مصر في حالة حداد كامل. ولم يقتصر الأمر على الحداد بل كانت البلد كلها في حالة ترقب متوتر بسبب الوقوف في مفترق الطرق دون اختيار الطريق الصحيح.

ولكن هنا تبرز ميزة شعب مصر الأصيل الذى يستند إلى سبعة آلاف عام من الحضارة العريقة. في هذه الكارثة لم يطلب شعب مصر شيئًا سوى أن نضمد الجراح وأن نكمل المسيرة، لأنه لم يحدث قبل ذلك أن توقفت حياة هذا الشعب العريق على مر التاريخ البشرى.

وكان شعب مصر واقفًا بالمرصاد لكل التيارات والمناورات والخزعبلات والصراعات المحتملة حتى يحافظ على مسيرته الحضارية من الضياع والتشتت. وتلك روح القرية التي تحتم على الجميع مواجهة الكارثة أولا ثم تصفية الحسابات فيما بعد، فالجميع أخوة وزملاء حتى تنتهى الكارثة، وإلا جرفتهم جميعًا، عندئذ لا تنفعهم مناورات أو صراعات.

هناك موقف أذكره للصديق والزميل الأخ هوارى بومدين. كان قد وصل إلى القاهرة قبل الجنازة واجتمع بى ساعتين وأسدى إلى بنصيحة ما زلت أذكرها له حتى اليوم، فقد كنت قد عبرت له عن عدم رغبتى في انتخاب رئيس الجمهورية، واقتناعى بأن أظل أعمل كنائب لرئيس الجمهورية أو رئيسًا للجمهورية بالنيابة لحين إزالة آثار العدوان، تمامًا كما كان عبد الناصر مخططًا ولكن بومدين اعترض بشدة على أساس أنه يتحتم ألا يكون هناك أي شك أو شبهة اهتزاز في مصر، ولذلك يجب أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية فورًا، نظرًا لمكانة مصر في العالم العربى، ونظرًا لظروف المعركة والمسئوليات التاريخية الجسيمة المُلقاة على عاتق مصر(15).

ظلت نصيحة بومدين تتردد في ذهنى خاصة وأننى شهدت بنفسى المناورات والتيارات التي بدأت تطفو على السطح في نهاية يوم الأربعاء فقد كانت بعض مراكز القوى في اللجنة التنفيذية العلي قد بدأت التآمر فيما بينها على أساس أنهم الورثة الشرعيون لعبد الناصر.

وجاء يوم الخميس(16) وسط كل هذه التيارات والمناورات. وللأسف لم أستطع أن أكمل الجنازة حتى نهايتها، وأن أودع زميل الكفاح حتى مقره الأخير. كنت في أشد الإرهاق ولم أستطع السير في الجنازة التي بدأت من مجلس قيادة الثورة حيث كنت - قبل ذلك - منهمكًا في ترتيب سيرها منذ لحظة وصول الجثمان إلى مقر المجلس، وعندما تمت الترتيبات وأصبحت الجنازة على وشك الابتداء، أصبت بانهيار جعلهم يحملوننى إلى مجلس قيادة الثورة مرة أخرى، وأحضروا الأطباء الذين أسعفونى بخمس حقن لم أفق منها إلا حوالى الساعة الثانية ظهرًا.

كان أول سؤال طرأ على بالى عندما أفقت، يدور عما إذا كان عبد الناصر قد دُفِن أم لا، ففي الواقع كنت غير مطمئن لاعتقادى أن الشعب ربما اندفع بالجثمان في حومة الحزن والأسى إلى حيث لا نعلم، ولكن الشعب المصرى الأصيل كان بنفس الدرجة من الوعى الذى اشتهر به فتغلب على حدة المأساة ووصل الجثمان إلى مقره الأخير في جامع جمال عبد الناصر(17).

وانطوت بذلك صفحة من أخطر صفحات التاريخ المصرى المعاصر. عندئذ بدأت أفكر مليًا في أبعاد المسئولية التاريخية الجسيمة التي وقعت على كتفى بمنتهى العنف والسرعة دون أن أحسب لها حسابًا.


رسالة القوات المسلحة

في يوم الخميس نفسه تركت قصر القبة إلى ذلك البيت الصغير المُسمى بقصر العروبة في مصر الجديدة حتى أكون قريبًا من الأحداث. وبعد الظهر استدعيت مباشرة المسئولين وعلى رأسهم شعراوى جمعة وسامى شرف، وأخبرتهم بأنى عدلت عن رأيى في البقاء كنائب رئيس جمهورية أو رئيس جمهورية بالنيابة، وكذلك بإصرارى على إجراء انتخابات سريعة لشغل منصب رئاسة الجمهورية الشاغر.

وبصرف النظر عن المناورات والصراعات والتيارات التي طفت على السطح وبالإضافة إلى نصيحة الأخ بومدين بالإسراع في الانتخابات، برز عامل جديد كان بمثابة الحسم النهائي للموقف بالنسبة لى على الأقل.

فقد أرسلت إلىَ القوات المسلحة رسالة خطيرة تقول فيها أنه نظرًا للظروف العصيبة التي تجتازها الأمة ونظرًا للتراب الغالى الذى ما زال تحت أقدام العدو فإنه يتحتم على القوات المسلحة أن تقوم بواجبها التاريخى والمصيرى تجاه الأمة بإذن الله، ولكن لابد أن يكون هناك القائد الأعلى المسئول الذى يعطى القوات المسلحة هذا الأمر وهذا الحق.

وكانت هذه الرسالة الحاسمة بمثابة اللمسة الأخيرة في تصميمى على أن تسير الأمور في نصابها مهما كانت المناورات ومهما كانت الحساسيات.

واستدعيت شعراوى جمعة(18) ظهر الخميس(19)، وأمرته بصفته وزيرًا للداخلية وأمينًا للتنظيم في الاتحاد الاشتراكى بالتجهيز لعقد اللجنة التنفيذية العليا بالاتحاد الاشتراكى يوم السبت التالى مباشرة لتسمية رئيس الجمهورية وفى الاثنين الذى يليه تنعقد اللجنة المركزية لعرض الاسم، ثم ينعقد مجلس الشعب الخميس التالى مباشرة طبقًا لدستورنا في ذلك الوقت حتى تتم تسمية الرئيس الجديد. وذلك على أن تجرى انتخابات رئيس الجمهورية في الخميس التالى لانعقاد مجلس الشعب، أي أن تتم الانتخابات بعد دفن عبد الناصر بأسبوعين تمامًا، وبذلك لا يحدث فراغ يهز كيان البلد في تلك الفترة العصيبة.

---------------

هوامش

(1) السكر مرض مزمن ليس له علاج.

(2) 27 رجب 1390هـ (ليلة الإسراء والمعراج).

(3) فيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود: ولد 14 أبريل 1906م.. تولى حكم المملكة العربية السعودية من 2 نوفمبر 1964م حتى تم اغتياله فى 25 مارس 1975م.

(4) سعد الدين متولى: كبير الياوران

(5) محمد أحمد السكرتير الخاص للرئيس جمال عبد الناصر ولد فى 28 مايو 1921م وتوفى الخميس 8 أغسطس 2002م.

(6) يذكر سامى شرف فى الجزء الخامس من مذكراته بأنه فى ذلك اليوم كان محمد أحمد متغيبًا وكان الرئيس قد أعطاه الإذن بالتغيب لحضور حالة وضع لزوجته.. بينما حل مكانه السكرتير الخاص المناوب فؤاد عبد الحى.

(7) الشيخ صباح السالم الصباح أمير الكويت: ولد 12 أبريل 1913م وتولى إمارة الكويت فى 24 نوفمبر 1965م حتى وفاته فى 31 ديسمبر 1977م.

(8) فى ٢٩ اكتوبر ١٩٦٨ أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قرارًا بقبول استقالة الوزراء الذين انتخبوا فى اللجنة المركزية ومنهم السيد حسين الشافعى نائب الرئيس ووزير الأوقاف.

(9) عبد الحيكم عامر: ولد فى 11 ديسمبر 1919م.. انضم لتنظيم الضباط الأحرار الذى أسسه جمال عبد الناصر وأصبح الهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار وعضو مجلس قيادة الثورة.. وتولى منصب القائد العام للقوات المسلحة من 18 يونيو 1953م حتى 18 يونيو 1967م وانتحر فى 13 سبتمبر 1967م.

(10) ٢٠ ديسمبر ١٩٦٩ أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قرارًا بتعيين السيد أنور السادات نائبًا لرئيس الجمهورية، وقد أقسم السيد أنور السادات اليمين القانونية أمام الرئيس عبد الناصر قبيل سفر الرئيس إلى الرباط.

(11) حسين محمود الشافعى: ولد فى 8 فبراير 1918م بمدينة طنطا. كانت بداية معرفته بجمال عبد الناصر في الكلية الحربية عام 1937.. شارك في حرب فلسطين عام 1948م.. وقع اختيار جمال عبد الناصر عليه عام 1951 ليكون ممثلا للضباط الأحرار في قيادة المدرعات.. تولي قيادة الكتيبة الأولى سيارات مدرعة التي أدار منها العمل في قيادة المدرعات ليلة 23 يوليو 1952م. وقع اختيار جمال عبد الناصر عليه عام 1963 ليتولى منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية بجانب المناصب الأخرى.. وتوفى 18 نوفمبر 2005م.

(12) على صبرى: ولد فى 31 أغسطس 1920م.. وتوفى 3 أغسطس 1991.

(13) هواري بومدين واسمه الحقيقي محمد إبراهيم بوخروبة ولد فى 23 أغسطس 1932م.. وكان وقت وفاة عبد الناصر يشغل منصب رئيس مجلس الوزراء فى الجزائر من 19 يونيو 1965م حتى 10 ديسمبر 1976م.. ثم أصبح الرئيس الثاني للجزائر المستقلة من 10 ديسمبر 1976 حتى وفاته فى 27 ديسمبر 1978م.

(14) الأربعاء 29 رجب 1390هـ

(15) يقول سامى شرف فى الجزء الخامس من مذكراته "سنوات وايام مع جمال عبد الناصر" صفحة 1239:

(بعد ذلك انتقل الاجتماع إلى بحث قضية استمرار النظام والشكل الذى يجب أن يتم به انتقال السلطة، وهنا طرحت فكرتان كلاهما ينبثق عن مبدأ الشرعية.

كانت الفكرة الأولى تقترح أن يتولى أنور السادات منصب رئيس الجمهورية بحكم وضعه كنائب لرئيس الجمهورية، ويمارس صلاحيات رئيس الجمهورية حتى انتهاء المدة المتبقية على رئاسة الرئيس جمال عبد الناصر.

أما الفكرة الثانية فهى أن يبقى السادات رئيسًا للجمهورية حتى إزالة آثر العدوان وهو الحد الزمنى الذى وضعه الرئيس عبد الناصر عندما قبل التكليف الشعبى بالعودة إلى السلطة يوم 10 يونيو 1967 على أن ان تجرى انتخابات جديدة بعد ذلك.)

وفى صفحة 1240:

(وكان الفيصل فى الوصول إلى هذا القرار هو القوات المسلحة التى تكلم باسمها الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة الذى قال بوضوح وصراحة كاملة محددًا، مفادها أننا مقبلون على معركة التحرير بل وهناك إصرار على إتمام هذه المعركة ولن أستطيع أن أتحرك فى هذا الاتجاه لتنفيذ مهمتنا ما لم يكن هناك قائد أعلى للقوات المسلحة ويمعنى آخر رئيسًا للجمهورية ومنتخب وفقًا للدستور، يحق له وفق الدستور أن يصدر أمر القتال ويصدق على الخطط العسكرية لخوض المعركة.)

(16) الخميس 1 أكتوبر 1970م - 30 رجب 1390هـ

(17) مسجد جمال عبد الناصر أو مسجد كوبري القبة الخيري هو أحد مساجد مدينة القاهرة الحديثة الشهيرة، يقع المسجد بمنطقة كوبري القبة بالقرب من مبنى وزارة الدفاع المصرية وجامعة عين شمس

(18) شعراوى جمعة وزير الداخلية من 10 سبتمبر 1966م حتى 13 مايو 1971م

(19) الخميس 1 أكتوبر 1970م - 30 رجب 1390هـ





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.