الأحد، 21 مارس 2021

2 ذكريات الأيام الأولى بعد وفاة عبد الناصر

2

ذكريات الأيام الأولى بعد وفاة عبد الناصر

الشعب لا يطلب منى أن أكون نسخة مكررة من عبد الناصر

الأهرام الجمعة 27 سبتمبر 1975م - 22 رمضان 1395هـ


بداية الصراع.. معركة انتقال السلطة

قد تكون مراكز القوى في ذلك الوقت غير مرتاحة لقرارى باتخاذ الإجراءات وإجراء الانتخابات لتسمية رئيس الجمهورية. ولكنها لم تظهر أية علامة من علامات الاستياء، انتظارًا للفرص التي تمكنها من قلب الأوضاع. وفى اليوم التالى لدفن عبد الناصر وكان يوم جمعة(1)، بدأت المناورات تتخذ شكلا ملموسًا ومحدودًا، فقد جاء اثنان منهم إلى قصر العروبة لمقابلتى وأعربا عن خوفهما المصطنع من حدوث شرخ أو انشقاق في جلسة اللجنة التنفيذية العليا المحدد لها اليوم التالى وهو يوم السبت، وتحججا بأن هناك اعتراضًا على مسألة تحديد الانتخابات بعد أسبوعين مباشرة من دفن عبد الناصر، وكان مثار الاعتراض أننا لسنا في حاجة مُلحة إلى حسم الأمور بهذه العجلة، لأن المسألة ستبدو وكأن المقصود منها هو انتخاب شخص محدد بالذات.

حسمت الأمور - كعادتى - وأفهمت من جاءنى أننى اتخذت قرارى بإجراء الانتخابات بصفتى نائبًا لرئيس الجمهورية الراحل الذى ترك لى أمانة هذا الشعب، ولن أفرط في هذه الأمانة مهما احتدمت الصراعات وتكاثرت المناورات. ولن يقرر مصير هذه الأمانة سوى الشعب الذى هو صاحبها الشرعى. فعندما ينتخب الشعب رئيس جمهورية، بصرف النظر عن شخص الرئيس الجديد بالذات، سأقوم فورًا بتسليمه الأمانة التي لن يحسد أبدًا على حملها. أما أساليب المناورات والصراعات، والخروج عن دستورنا القومى وخطنا الأصيل وتقاليدنا المصرية، فسأقابلها بمنتهى الحسم، بل وبمنتهى الردع، وقد عشت حياتى جنديًا محاربًا أو مكافحًا مضطهدًا، ولم أنس بعد استعمال السلاح الذى سألجأ إليه عند الضرورة.. وقد سجلت كل هذه التفاصيل لكى تحفظ للتاريخ.

ومن هنا بدأت ملامح الصراع بينى وبين ما يسمى بمراكز القوى تتضح، وسأعود إليها بالتفصيل في التسجيل التالى، ويهمنى الآن التركيز على علاقتى الفكرية بعبد الناصر وتحليل مفهوم هذه العلاقة التي كان لها صلة مباشرة بسنوات الحسم التي نحن بصدد سرد تاريخها في هذا التسجيل..


وحدة المبادئ واختلاف الأسلوب

كان هناك تقليد وضعه عبد الناصر، يقضى بترشيح الوزراء أمام اللجنة المركزية، وطبقًا لهذا التقليد قمت بترشيح الدكتور محمود فوزى رئيسًا للوزراء، عندما انعقدت اللجنة المركزية لأول مرة بعد وفاة عبد الناصر يوم الاثنين 5 أكتوبر سنة 1970(2). ولكن هذا الترشيح لم يلق أي ترحيب سواء من مراكز القوى لأنهم يكرهون الدكتور فوزى، أو من بعض أعضاء اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكى الذين كانوا يطمعون في رئاسة الوزارة.

ولم أحب - كعادتى- أن أترك الأمور بهذا التسيب والتميع، فالوضوح هو المنهج الذى أحسم به كل المسائل دون استثناء، ولذلك أخبرتهم بمنتهى الصراحة أننى لا أستطيع أن أتبع نفس الأساليب التي سار عبد الناصر على نهجها قبلى، وهذا لا يعنى أننى أختلف مع عبد الناصر على المبادئ الأساسية التي ارتضاها كل منا، ولكنه يعنى أننا نختلف في الوسائل والأساليب برغم أن الأهداف دائمًا واحدة. إن الشعب يطلب منى - وله الحق كل الحق في هذا - أن أحقق الأهداف القومية التي كان يسعى إليها عبد الناصر ولم يمهله الموت حتى يحققها، ولكن الشعب في الوقت ذاته لا يطلب منى أن أكون نسخة مكررة من عبد الناصر، لأن الطبيعة البشرية تأبى هذا التكرار.

ومن المعروف أن كل إنسان على وجه هذه الأرض يختلف عن الآخر اختلاف بصمات الأصابع، سواء في البيئة أو العائلة أو النشأة أو التربية أو التعليم أو الثقافة، وهذا الاختلاف الطبيعى لا يتعارض مع الزمالة أو الصداقة، ومن السذاجة وقصر النظر أن نطلب من إنسان أن يتحول إلى نسخة باهتة من إنسان آخر، مهما كان حبنا واحترامنا لهذا الانسان، ولذلك دهشت من مطالبتى بأن أسير بنفس الأساليب التي اتبعها عبد الناصر من قبل، لأن المسألة هي مسألة غاية وليست مسألة وسيلة.

وشرحت لهم أيضًا كم كانت لى جلسات طويلة مع عبد الناصر سواء في بيتى أو في بيته، واستمرت هذه الجلسات حتى قبيل وفاته، وكان عبد الناصر مُدركًا ومُتقبلا لاختلافى معه في الأساليب والوسائل، وقد اقتضت الحكمة ألا أذيع شيئًا عن هذه الخلافات لأننى لست من هواة المناورات والصراعات واستعراض العضلات، ولأننى كنت مؤمنًا بأن عبد الناصر قادر على التصرف، وطالما أن هذا هو إيمانى واقتناعى فلا ضرورة لمشكلات أنا في غنى عنها. وأيضًا فإن مشكلة الحكم تقضى وجود رجل مسئول مسئولية أخيرة وتاريخية عن اتخاذ القرارات المصيرية، وبعد ذلك يأتي يأتي دور الشعب للحكم عليه وتقييم قراراته.

ولم أكن سلبيًا تمامًا فيما يختص بقضية اختلافى في الوسائل مع عبد الناصر، لأنه بطول عام 1970 بالذات وحتى وفاته، كنت أتناقش وأتجادل معه بخصوص ضرورة تغيير المنهج والأسلوب الذى أدى بنا إلى هزيمة سنة 1967(3)، وخاصة أن شعبنا العظيم الذى صمد بعد الهزيمة وأعاد عبد الناصر كرمز لإرادة الصمود، من حق هذا الشعب أن يختار الأسلوب الذى يتفق مع مقوماته الأصيلة، وهى المقومات التي تختلف بطبيعتها عن الأسلوب الذى أدى إلى هزيمة سنة 1967. وقد كان  لى رأى في ضرورة إحداث هذا التغيير ابتداء من يوم 10 يونيو 67(4) مباشرة عقب أن أعاد الشعب عبد الناصر واتخذت فعلا خطوات محددة لتحقيق هذا التغيير كما سأروى عندما أتناول الأيام السوداء من يونية 67.

وقد أدى أسلوب جمال عبد الناصر في الحُكم إلى تطورات كثيرة متتابعة، كانت تفرضها الأحداث، وأحيانًا كانت تفرضها طبيعة عبد الناصر نفسه، وشملت هذه التطورات مجلس قيادة الثورة منذ السنوات الأولى للثورة، وقد فوجئت بعد وفاة عبد الناصر بعدد من الأصدقاء أعضاء مجلس قيادة الثورة القديم يرسلون لى اقتراحًا في عريضة وقعوها، وكان سبب المفاجأة بالنسبة لى، هو أنه لم يخطر على فكرى أبدًا منذ أكثر من عشرين سنة، بدلا من أن نستمر بما انتهينا إليه بعد كل هذه السنوات.. كان مجرد مثل هذا التفكير لا يمكن أن يخطر ببالى، ولا يمكن حتى مناقشته، لا مساسًا بتقدير الأشخاص وهو أخوة وزملاء لهم دورهم، ولكن حرصًا على التقدم بالمسيرة لا الرجوع بها إلى الوراء..

وكانت خلاص العريضة التي أرسلها أعضاء مجلس قيادة الثورة، وهى اقتراح بعودة مجلس قيادة الثورة القديم إلى الحكم لمدة سنة على أساس إنشاء جمعية تأسيسية، وأن أتولى بحكم منصبى كنائب لرئيس الجمهورية رئاسة مجلس قيادة الثورة لحين القيام بعمل انتخابات رئيس الجمهورية، وعلى الجمعية التأسيسية أن تحضر للدستور.

كان معنى هذا أن يظل البلد في الفراغ الكامل الذى تركه عبد الناصر بعد رحيله، وكان معناه أيضًا أن ندخل في صراعات بينما العدو يدق أبواب مصر، لأن انتخابات رئيس الجمهورية من بين أعضاء المجلس القديم لا يعنى سوى الصراع بسبب تأييد شخص ضد آخر وهكذا.

وطبعًا رفضت الاقتراح الذى قُدم إلىَ تجنبًا لمثل هذه الصراعات التي سبق وأن تعرض لها مجلس قيادة الثورة ودارت في داخله منذ عام 1954، ولاقتناعى بأنى لا يمكن أن أعود بالتاريخ إلى الوراء، وحرصى على أن تستمر مصر وتتقدم وتتطور من حيث هي واقفة..


الوفاء يربطنى دائمًا بعبد الناصر

تمت الانتخابات بالفعل، وتلقيت النتيجة يوم 16 أكتوبر 1970(5)، الذى كان يوافق نصف شعبان، وبعد انتخابى مباشرة بدأت مشاورات تشكيل الوزارة وشكل الحكم، وأعلنت منذ البداية أننى لا أستطيع ولا أوافق على جمع السلطات كلها في يد واحدة طالما أن الفرصة سنحت لتوزيع أعباء السلطة والمسئولية، بمعنى أن يكون هناك رئيس للوزراء، وأمين للاتحاد الاشتراكى، وذلك لإيمانى وتجربتى على مدى ما يقرب من عشرين عامًا، أن تسيير دفة الأمور في البلد بفرد واحد يؤدى إلى مخاطر ومزالق عديدة، وقد حدث هذا بالنسبة لعبد الناصر، لأنه بشر، ومهما كانت طاقته فليس في وسعه أن يلم بكل الأمور.

كانت مراكز القوى هي النتيجة الطبيعية لجمع عبد الناصر لكل السلطات في يده، فكان بعض معاونيه ينتهزون هذه الفرصة ويتصرفون على أساس أن المسئولية مُركزة وبالتالي فمن حق كل واحد منهم أن يُركز سلطة القطاع الذى يشرف عليه في يده، ويتصرف فيه كما يشاء، وتكون النتيجة أن ترتكب أخطاء كثيرة وجسيمة باسم عبد الناصر، بينما عبد الناصر برئ منها، ولكنهم استخدموا ثقته فيهم في تنفيذ مآربهم وأغراضهم، نظرًا لأنه لم يكن في استطاعته أن ينهض بكل التفاصيل، ولذلك ارتكبت هذه الأخطاء الجسيمة دون علمه، ولكنها التصقت به في نهاية الأمر. وقد كان اقتناعى الثابت هو أن أعمل بكل قوتى على إيجاد الفريق المتجانس الذى يحمل المسئولية بكل حب وتعاون وعطاء، واضعًا في اعتباره مصلحة مصر فوق أي اعتبار آخر وأحمد الله أنى استطعت تحقيق ذلك بعد خمس سنوات كاملة من المعاناة أي في عام 1975.

وللحقيقة والتاريخ، فإن عبد الناصر في رقبتى دينًا يفرض على الوفاء له، خاصة ونحن نتعرض للتقييم الموضوعى لمرحلة عبد الناصر، وهو ما يتحتم إبراز السلبيات لتجنبها وتأكيد الإيجابيات لتأصيلها، فإن كنت لم أتصارع مع عبد الناصر وهو حى، فلا يمكن أن أتصارع معه بعد أن رحل، واختلافى معه كان حول الوسائل والأساليب. أما فيما يختص بالقيم والغايات، فكنا دائمًا على أتم اتفاق ووفاق، ولا عجب في هذا، فقد كنا أصدقاء منذ العام العشرين من عمرنا، وظللنا على هذه الصداقة والزمالة حتى يوم رحيله، ولكن هذا لا ينفى أننا نختلف في طبائعنا، بل أن هذا الاختلاف شيء تفرضه الطبيعة البشرية التي لا تحتمل التكرار.

ومن ملامح الاختلاف بيننا على سبيل المثال، أن عبد الناصر كان من هذا النوع من الناس الذى يعيش دائمًا على أعصابه، حياته عبارة عن وتر مشدود طوال الأربع والعشرين ساعة، وفى الواقع لم يكن عبد الناصر يفتعل هذا الجو المتوتر على سبيل إحاطة الحكم بالهيبة اللازمة، بل كانت هذه طبيعته، سواء قبل الثورة أو بعدها، منذ أن خطط للثورة، وبعد أن أصبح عضو مجلس قيادة الثورة، ثم رئيسًا له حتى تولى رئاسة الجمهورية.

كانت طبيعته المتوترة سمة أساسية في تكوينه منذ العشرين من عمره، ولم يستطع التخلص منها، بل يبدو أن أعباء الحكم ومسئولياته قد زادت من حدتها.

ولقد جعلت هذه الطبيعة المشدودة الاقتراب منه شيئًا ليس بالسهولة التي قد تخطر على بالنا، فقد صنع هذا الجو المتكهرب حاجزًا صلبًا بينه وبين الآخرين، ولذلك لم يكن لعبد الناصر صداقات بالمفهوم البسيط لمعنى الصداقة. هذا إذا استثنينا عبد الحكيم عامر، الذى كان صداقة العمر بالنسبة له، هذه الصداقة التي استمرت زهاء ثلاثين عامًا، أما صداقتى له فتعتمد على قيمة إنسانية كبيرة من القيم التي شكلت حياتى منذ الطفولة، هذه القيمة هي الوفاء الذى تعلمته في القرية والذى كان النبع الرئيسى الذى أمدنى بالسلام الروحى، وبدونه لا يمكن أن يكون الإنسان منطقيًا، سواء مع نفسه أو مع الآخرين.

ولا أستطيع أن أشعر الآن إلا بالوفاء لجمال عبد الناصر وذكراه، وهذا الوفاء أو الدين الذى عنقى تجاهه يرجع إلى بدايات العمل من أجل الثورة، فقد انغمست في الكفاح السياسى حتى أذنى بعد تخرجى في الكلية الحربية بعام واحد، ولم أكن قد تجاوزت العشرين من عمرى. بعدها بدأت المخابرات البريطانية تتعقبنى وتطاردنى في كل مكان آمن أحل فيه، وأرجو أن تتاح لى الفرصة لتسجيل هذه الحقبة المصيرية من تاريخ مصر الحديث، ولكن المهم الآن هو تسجيل بدايات الصداقة والوفاء والزمالة بينى وبين عبد الناصر.

في ليلة القدر عام 1942، وهى الليلة التي توافق 26 رمضان أعلنت بالطرد من الخدمة العسكرية، وتسلمنى البوليس السياسى الذى كان يديره في ذلك الوقت محمد إبراهيم إمام(6)، وأودعت سجن الأجانب، وكانت أول مرة في حياتى أتناول فيها إفطار رمضان في السجن، إذ كنت صائمًا كعادتى منذ طفولتى المبكرة، بعد ذلك نُقِلت من سجن الأجانب إلى معتقل المنيا الذى يقع في بلدة صغيرة بالقرب من المنيا تسمى "ماقوسة"(7)، ومن معتقل ماقوسة رحلونى إلى معتقل الزيتون الذى هربت منه في أكتوبر سنة 1944، وبعد ذلك سقطت الأحكام العرفية أثناء هروبى متخفيًا في سبتمبر سنة 1945، فعُدت إلى الحياة العادية مرة أخرى باسمى الحقيقى.

في سبتمبر سنة 1945، قمت بتشكيل الجمعية السرية التي اتهمت في يناير سنة 1946 باغتيال أمين عثمان، وبذلك عدت مرة أخرى إلى السجن في 11 يناير سنة 1946(8)، وخرجت منه في يوليو سنة 1948، أي قضيت في السجن 31 شهرًا، وبذلك أكون قد قضيت الفترة بين عامي 1942، 1948 بين المعتقلات والسجون والمطاردة والتشريد، وعند خروجى من السجن عام 1948، كانت حرب فلسطين قد هدأت بالهدنة الأولى الشهيرة، وطلبت أن أعود إلى القوات المسلحة، ولكن طلبى رُفض لأن النيابة كانت قد استأنفت الحكم وتحتم على الانتظار حتى يتأكد الحكم.

أمضيت بقية عام 1948 وعام 1949 في الأعمال الحرة، ولكننى تمكنت من العودة إلى الجيش مرة أخرى في يناير 1950، بفضل الله عز وجل، وكنت قد اختلفت مع شريكى في الأعمال الحرة فافترقنا، وأصبحت مفلسًا لا أملك شيئًا على الإطلاق، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يتخل عنى والتحقت فعلا بالجيش.

هنا فقط عادت الصداقة بينى وبين عبد الناصر إلى ما كانت عليه بعد أن كنا قد افترقنا منذ عام 1940، عندما ذهب مع وحدته إلى السودان الذى عاد منه في أواخر عام 1942، بعد القبض على.

في أوائل الثورة كتبت عن حياة عبد الناصر، وقلت أنه لم يبدأ معنا الكفاح السياسى عام 1939، وكان الزميل رقم 2 بعدى هو عبد المنعم عبد الرؤوف(9)، وفى الطيران كان هناك بغدادى وحسن عزت وحسن إبراهيم، وسعودى، وفى الفرسان كان هناك خالد محيى الدين، وقد انضم عبد المنعم عبد الرؤوف بعد ذلك إلى الإخوان، ولكن عندما عاد عبد الناصر من السودان في ديسمبر عام 1942(10)، أي بعد القبض على في يوليو عام 1942، اتصل عبد المنعم عبد الرؤوف بجمال، وبذلك نستطيع القول بأنه منذ نهاية عام 1942 وأوائل عام 1943، تولى جمال الإشراف الكامل على التنظيم حتى قامت الثورة في عام 1952، أي أن عبد الناصر كان المحرك الفعلى للتنظيم أثناء الفترة التي قضيتها بين المعتقلات والسجون من عام 1942 إلى عام 1948 ثم إلى قيام الثورة عام 1952(11).

عندما عدت إلى الجيش عام 1950، كان جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر من أوائل الزملاء الذين اتصلوا بى، فقد زارانى في شقتى التي كنت أسكنها بالمنيل، وعبرا عن تهانيهما القلبية بعودتى إلى الجيش، بل وساعدانى على تأدية امتحانات الترقية فقد رجعت برتبة النقيب التي كانت تقابل رتبة اليوزباشى في ذلك الوقت، وكان على أن أؤدى امتحانات الترقية إلى رتبة المقدم التي تقابل رتبة البكباشى، أي أن أؤدى الامتحانات لترقيتى رتبتين متتاليتين، ولن أنسى مساعدتهما القيمة والأخوية في هذا المجال.

هنا، أعود إلى قيمة الوفاء المقدسة في حياتى، فأقول أننى عندما عدت إلى الجيش عام 1950، كان التنظيم الذى أشرف عليه عبد الناصر منذ أواخر عام 1942، قد تبلور وبدأ يأخذ شكله المميز ووضعه المحدد، كان جمال عبد الناصر قد أنشأ قيادة للتنظيم تحت اسم الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار، ومن المعروف أن جمال قد حارب في فلسطين وخرج من الحرب بعقيدة ثابتة، وهى أن الإصلاح لابد أن يبدأ من داخل مصر نفسها، وأثناء الحرب بدأ يُفكر في الأعضاء الذين يمكن اختيارهم للقيام بهذه المهمة، فاختار أولا زملاء ممن شاركوا معه في الحرب، كصلاح سالم(12)، وكمال الدين حسين(13)، وزكريا محيى الدين(14)، وعبد الحكيم عامر، وبدأت بعد ذلك الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار بجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم وكمال الدين حسين ثم انضم لهم بعد ذلك جمال سالم(15) وبغدادى(16) وحسن إبراهيم(17) وخالد محيى الدين(18) وأنا..

وقد تمثل دين جمال في عنقى في إصراره على ضمى إلى الهيئة التأسيسية بعد عودتى إلى الجيش عام 1950، فقد أخبر أعضاء الهيئة التأسيسية أن تاريخى في الكفاح السياسى لا يمكن التغاضى عنه، بل على العكس يمكن الاستفادة منه ومن خبرته، وقد طلب جمال أيضًا ضم عبد المنعم عبد الرؤوف إلى الهيئة التأسيسية بحكم أنه كان رقم 2 بعدى في التنظيم، كما قلت من قبل، وتم ضم عبد المنعم عبد الرؤوف بالفعل، وقد أخبرنى جمال أن عضوً واحدًا من الهيئة التأسيسية - ولا داعى لذكر اسمه - عارض في ضمى إلى الهيئة، ولكن جمال عبد الناصر لم يأبه لهذه المعارضة، متمسكًا باحترام المعانى والقيم والمثل التي اضطهدت من أجلها، سواء كنت معتقلا أو مشردًا أو سجينًا، وبالفعل انضممت إلى الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار بفضل إصرار جمال على رأيه وتقديره.

هذا هو الدين الذى في عنقى تجاه جمال، وهو الدين الذى لم ولن أنساه له طوالى حياتى، كان وفائى له سببًا في تجنب كل مظاهر الصراع أو الحقد أو الغيرة التي حاول الآخرون الادعاء بوجودها بينى وبينه، وهذا يفسر ردى على السؤال الذى ووجهت به أثناء زيارتى لفرنسا هذا العام وهو:

هل أحس بالغيرة كلما ذكر اسم جمال عبد الناصر أمامى مثلما كانت الغيرة تنهش بومبيدو(19) كلما ذكر اسم ديجول(20) في حضرته؟

فقلت لهم: لم أشعر بهذه الغيرة إطلاقًا، لأن جمال كان زميلى وصديقى وأخى، وكانت ثقتى فيه كاملة ومُطلقة، ومهمتى الآن لا تتيح لى الانشغال بمثل هذه الأحاسيس العابرة، فأنا منهمك في إكمال المسيرة التي بدأها عبد الناصر عن اقتناع وعن إيمان.

وعندما أقول أننى لم ولن أنسى دين جمال في عنقى، فهذا لأنه كان من الممكن ألا يتمسك بانضمامى إلى الهيئة التأسيسية وله الحق كل الحق في هذا، فقد كان يكافح منذ عام 1943 حتى عام 1950، مع أعضاء التنظيم، وكنت قد انفصلت عنهم تمامًا، فكان من الممكن ألا أنضم إليهم، ولم يكن هذا يسبب لى أي حزن أو أسف أو حقد أو ضغينة، لأننى سأكون عندئذ ضابطًا من ضباط التنظيم العادى. وهذا هو معنى الوفاء الذى استمر من ناحيتى تجاهه والذى كان سببًا في نقطة التحول الكبيرة في حياتى فيما بعد، والتي تمثلت في توليتى رئاسة الجمهورية، وهو التحول الذى لم أفكر فيه في يوم من الأيام ولم أتصوره أو أعمل له، أي أنه كما اختارنى للانضمام إلى الهيئة التأسيسية للضبط الأحرار عام 1950 اختارنى أيضًا لأكون نائبًا وحيدًا له عام 1969.

--------------

هوامش:

(1) الجمعة 2 أكتوبر 1970 - 1 شعبان 1390هـ

(2) الاثنين 4 شعبان 1390هـ

(3) الاثنين 5 يونيو 1967م - 26 صفر 1387هـ

(4) السبت 2 ربيع الأول 1387هـ

(5) الجمعة 15 شعبان 1390هـ

(6) اللواء محمد إمام إبراهيم.. أشهر من تولى رئاسة جهاز البوليس السياسى فى الفترة من 1948 وحتى 1952م.

(7) يقع على بعد كيلومترين من مدينة المنيا.

(8) الثلاثاء

(9) الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف بسيم أبو الفضل.. ولد 16 مايو 1914م وشارك فى ثورة 23 يوليو 1952م وتوفى 31 يوليو 1985م

(10) يذكر السادات هنا وفى البحث عن الذات بأن عبد الناصر قد عاد من السودان فى ديسمبر 1942.. وهذا ينافى الحقيقة:

- السادات نفسه يذكر فى كتابه "أسرار الثورة المصرية: ((وقد تختفى من بيننا أسماء فى كثير من الأوقات كما اختفى اسم عبد الناصر عامين كاملين بين ديسمبر 1939 وديسمبر 1941، إذ كان فى هذه الفترة قد نقل إلى السودان)).

أى أن عبد الناصر عاد من السودان فى ديسمبر 1941 وليس ديسمبر 1942.

- كما أن هناك دليل لا مجال بعده لنقاش أو جدال فهو ملف الخدمة العسكرية الخاص بعبد الناصر، ويحمل هذا الملف الرقم 2434 ويتضح منه أن عبد الناصر وصل القاهرة فى النصف الأول من نوفمبر 1941 وأنه أمضى عام 1942 بأكمله فى مصر بين الصحراء الغربية والكتيبة الثالثة والكلية الحربية بالقاهرة، ولم يمض هذا العام كما ذكر السادات فى السودان.

ويرى جمال حماد أن السبب فى تغيير السادات لتاريخ عودة عبد الناصر وتأخيره عام كامل وذلك لأن السادات نفسه اعتقل أغسطس 1942م.. و(لو ذكر السادات التاريخ الصحيح لانتابت الناس الدهشة ولتسائلوا: وكيف لم تتم أية لقاءات بين السادات وزميله عبد الناصر فى القاهرة عقب عودته من السودان طوال المدة التى قضاها الأخير فى مصر قبل اعتقال السادات (من نوفمبر 1941 حتى أغسطس 1942)..... وكان اللقاء بالطبع سهلا متيسرا خاصة وأن البيت الذى كان يقطن فيه السادات وقتئذ كان فى كوبرى القبة أى على مسافة شديدة القرب من معسكر الكتيبة الثالثة بمنشية البكرى، بل هو فى طريق ذهابه وإيابه من عمله.).

(11) يحاول السادات هنا التمهيد بأنه من قام بإنشاء تنظيم الضباط الأحرار.. وهو ما قام به بالفعل فى كتابه "البحث عن الذات".. وهو ما رد عليه جمال حماد فى كتابه "أسرار ثورة 23 يوليو".. فالتنظيم الذى يتحدث عنه السادات يتكون من مجموعة من سلاحى الطيران والفرسان.. ويتعجب جمال حماد من تشكيل السادات لتنظيم من الطيران وهو يعمل فى سلاح الإشارة بالمعادى أى يفصل بينه وبينهم ما لا يقل عن ثلاثين كيلو مترا.

فى حين لا يوجد فى هذا التنظيم أحد من سلاح الإشارة الذى كان فيه السادات.. فهل من المنطقى أن يقوم ضابط فى سلاح الإشارة بتشكيل تنظيم من سلاحى الطيران والفرسان ولا يضم فيه أحدًا غيره من سلاح الإشارة؟؟!!

كما يذكر السادات فى "البحث عن الذات" بأنه كان ضمن التنظيم الذى أنشأه سنة 1939"خالد محيى الدين" فى حين أن "خالد محيى الدين عام 1939 لم يكن قد تخرج بعد من الكلية الحربية.

هذا فضلا عن أن "خالد محيى الدين" نفسه ذكر أن أول صلة له بأحداث السياسة كانت فى صيف عام 1942 عندما عُين حرسًا على الطيار حسن عزت بعد اعتقاله مع السادات فى ميس سلاح الفرسان فى قضية الجاسوسين الألمانيين فى أغسطس 1942.

(12) صلاح مصطفى سالم: ولد 25 سبتمبر 1920م في مدينة سنكنات شرق السودان حيث كان والده موظفًا هناك.. تعرف على جمال عبد الناصر أثناء حصاره فى الفالوجة وانضم لتنظيم الضباط الأحرار الذى أسسه جمال عبد الناصر وأصبح الهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار وعضو مجلس قيادة الثورة.. وتوفى 18 فبراير 1962م حيث كان أول من توفى من مجلس قيادة الثورة.

(13) كمال الدين حسين عبد الرحمن: ولد في القليوبية عام 1921م.. حصل على بكالوريوس العلوم العسكرية من الكلية الحربية عام 1939.. انضم لتنظيم الضباط الأحرار الذى أسسه جمال عبد الناصر وأصبح الهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار وعضو مجلس قيادة الثورة.. عين وزيرا للشئون الاجتماعية عام 1954 ثم وزيرا للتربية والتعليم وساهم في تأسيس نقابة المعلمين واختير نقيبا للمعلمين عام 1959.. وفي 4 مارس 1964 حدث صدام بينه وبين مجلس قيادة الثورة وقدم استقالته على اثر ذلك.. وفى 14 أكتوبر 1965 صدر قرار بتحديد إقامة كمال الدين حسين وزوجته في إحدى الاستراحات بالهرم.. توفى فى 29 يونيو 1999م.

(14) زكريا عبد المجيد محيى الدين: ولد في 7 مايو 1918م فى كفر شكر بمحافظة القليوبية.. التحق بالمدرسة الحربية في عام 1936م وتعرف على جمال عبد الناصر عن قرب في منقباد.. وتخرج من كلية أركان الحرب عام 1948 وسافر مباشرة إلى فلسطين.. انضم للضباط الأحرار قبل قيام الثورة بحوالي 3 شهور.. تولي منصب مدير المخابرات الحربية عامي 1952 - 1953م.. عين وزير داخلية عام 1953م.. عين وزير داخلية الوحدة مع سوريا 1958.. عندما تنحي جمال عبد الناصر عن الحكم عقب هزيمة 1967 ليلة 9 يونيو أسند الحكم إلى زكريا محي الدين ولكن الجماهير خرجت في مظاهرات تطالب ببقاء عبد الناصر في الحكم.. اعتزل الحياة السياسية عقب هذه المظاهرات.. وتوفى 15 مايو 2012م.

(15) جمال مصطفى سالم: ولد عام 1918م.. وانضم لتنظيم الضباط الأحرار الذى أسسه جمال عبد الناصر وأصبح الهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار وعضو مجلس قيادة الثورة.. وأختير رئيسًا للجنة العليا للإصلاح الزراعى التي لعبت دورًا بارزًا في تصفية ممتلكات كبار ملاك الأراضى الزراعية. أصيب بالسرطان وتوفى في مايو 1968م.

(16) عبد اللطيف البغدادى: ولد 20 سبتمبر 1917م.. انضم لتنظيم الضباط الأحرار الذى أسسه جمال عبد الناصر وأصبح الهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار وعضو مجلس قيادة الثورة.. وتوفى 8 يناير 1999م.

(17) حسن إبراهيم: ولد فى 1917م بالإسكندرية.. وانضم لتنظيم الضباط الأحرار الذى أسسه جمال عبد الناصر وأصبح الهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار وعضو مجلس قيادة الثورة.. وتوفى 1990م.

(18) خالد عبد المجيد محيى الدين: ولد بمحافظة القليوبية عام 1922.. تخرج من الكلية الحربية عام 1940م.. وانضم لتنظيم الضباط الأحرار عام 1944م.. استقال من مجلس قيادة الثورة في مارس 1954م.. تولي رئاسة مجلس إدارة وتحرير دار أخبار اليوم خلال عامى 1964 و 1965م. وتوفى 6 مايو 2018م.

(19) جورج جان ريموند بومبيدو: سياسى فرنسى ولد فى 5 يوليو 1911م وتولى الرئاسة الفرنسية من 20 يونيو 1969م حتى وفاته فى 2 أبريل 1974م.

(20) شارل ديجول: جنرال ورجل سياسة فرنسى ولد فى 22 نوفمبر 1890م.. وتولى رئاسة الجمهورية الفرسنية من 8 يناير 1959م حتى 28 أبريل 1969م. وتوفى فى 9 نوفمبر 1970م.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.