الأحد، 21 مارس 2021

المقدمة التي سجلها السادات

ذكريات الأحداث كما سجلها الرئيس السادات منذ تحمل المسئولية

الأهرام الخميس 25 سبتمبر 1975م - 20 رمضان 1395هـ


المقدمة التي سجلها السادات:

منذ حوالى منتصف عام 1974 قرر الرئيس أنور السادات أن يسجل تاريخ حياة مصر السياسية منذ بدأ يساهم في هذه الحياة إلى أن تحمل المسئولية كاملة بعد وفاة جمال عبد الناصر(1)، ثم ما واجه هذه المسئولية من أحداث وتطورات داخلية وعربية ودولية إلى أن تمت حرب 6 أكتوبر، ثم ما أعقب الحرب من أحداث.


وقد قال الرئيس أنور السادات في مقدمة هذه التسجيلات:

لا أدرى من أين أبدأ تفاصيل الحياة السياسية المرتبطة بكل أحداث مصر والتي عشتها العمر كله منذ أن تفتح العمر على الإحساس بالمسئولية الوطنية..

وقد فكرت أن أقسم حياتى السياسية إلى ثلاث مراحل:

* المرحلة التي تبدأ بالقرية وعشتها إلى أن تحققت ثورتنا.. ثورة 23 يوليو..

* المرحلة التي تبدأ مع الثورة وتنتهى بوفاة أخ العمر جمال عبد الناصر..

* المرحلة التي تبدأ منذ تحملت المسئولية كرئيس للجمهورية خلفًا لعبد الناصر..

وبعد تفكير طويل اقتنعت بأن أبدأ بالمرحلة التي نعيشها اليوم لأنها أقرب إلى تصوير الواقع، والواقع الذى نعيشه هو الذى يمكن أن يفسر المراحل التي سبقته.. أي أن الواقع هو الذى يضع التفسير الصحيح للتاريخ..

وعندما ينطلق الفكر إلى مراجعة وسرد تفاصيل الواقع أحس بالإشفاق على نفسى وقد اضطرتنى الأحداث إلى تحمل مسئولية هذا الواقع.. فقد تحملت في شبابى مسئولية اتخاذ قرارات وطنية كثيرة، ولكن على قد ما كانت هذه القرارات تمثل عمليات خطيرة إلا أن مسئوليتها كانت دائمًا محصورة في الأفراد القلائل الذين يشتركون في تنفيذ هذا القرار وكان أثره هو المساهمة في العمل الوطنى لا أثر يتعلق به مصير مصر كلها.. وبعد الثورة أصبحت مسئوليتى أقرب إلى مجرد إبداء الرأي، وإلى المساهمة في تنفيذ ما يصدره مجلس قيادة الثورة من قرارات حتى انتهاء عمله عام 1956 بعد انتخاب جمال عبد الناصر رئيسًا للجمهورية(2) ثم مشاركتى وصحبتى لجمال بعد ذلك.. إلى أن أصبحت مسئولية إصدار القرارات هي مسئوليتى.. وفرق كبير بين مسئولية إبداء الرأي ومسئولية اتخاذ القرارات.. إن مسئولية إبداء الرأي تنعكس عليك وحدك، ومسئولية اتخاذ قرار تنعكس على الأمة كلها..

وقد عانيت وتحملت كثيرًا قبل إصدار كل قرار.. ولم يكن كل ما أعانيه هو تحديد الموقف الذى اتخذه في مواجهة الحدث أو الواقع الذى يواجهنى، ولكن ما كنت أعانيه هو اختيار القرار الذى يعبر عن هذا الموقف.. هل هذا هو القرار الصحيح أم قد يكون قرارًا خاطئًا؟. هل ظلمت أحدً أم كنت محقًا؟ وكنت أقضى أيامًا وليالى طويلة منعزلا صامتًا حتى يخيل للبعض أن ليس هناك مشكلة تشغلنى، ولكنى كنت في هذه الأيام والليالى أعانى أصعب ما يحتاج إليه إنسان مسئول، وهو إقناع النفس إلى أن يصل إلى رضاء الضمير.. وكان هذا هو الأساس الذى اعتمد عليه قبل مواجهة أمتى بالقرار الذى اتخذته.. اقناع نفسى وإرضاء ضميرى.. وهذه هي قمة الراحة النفسية التي يمكن بها أن تتحمل كل ما يعترضك من صعاب، والتي تستطيع بها أن تصر على موقفك وقرارك مهما تجمعت القوى ضدك، حتى لو ضحيت بنفسك في سبيل قرارك..

وقد تحملت المسئولية بعد عبد الناصر ومصر كلها ضائعة ممزقة..

الأرض ضائعة

والحكم ضائع بين عدة قوى متصارعة

وقوة إسرائيل تتحكم في مصيرنا وقوى أجنبية تحاول أن تفرض علينا وصايتها وإرادتها

والفقر.. مصر فقيرة.. كل مصري فقير.. إننا نكاد نستجدى السلاح بل نستجدى لقمة العيش..(3)

يا رب كيف أواجه كل هذا..

يا رب لا تحملنى أكثر مما أطيق..

يا رب لا تحمل علي أصرًا كما حملته على الذين من قبلنا.. ربى إنى أعيش بما قدرته لى، فأعنى ولا تتخل عنى..

وكنت أتوجه إلى الله وأنا حائر.. من أين أبدأ وكيف أبدأ، إلى أن استعجلت مراكز القوى عملية الصراع فكان أن اتخذت أول قرار رئيس وهو تصفية مراكز القوى المتصارعة التي تعجل لتحطيم الحكم ووقف المسيرة..

ولم يكن هذا القرار سهلا، إن أصعب ما يواجهك عندما تستغنى عن خدمات شخص هو اختيار من يحل محله بحيث لا تترك المركز فارغًا ولو ليوم واحد، ثم القدرة على أن تتخذ موقف القاضي وتصدر حكمك بالإدانة وأنت مقتنع بحكمك مستريح الضمير حتى لو كان هذا الشخص قد سبق أن عرفته وعملت معه، وخلفيات هذا القرار وحده كثيرة وذات أبعاد متشعبة تعود إلى سنوات طويلة قبل أن أتحمل المسئولية كاملة..

ثم كانت معاناة أخرى أقسى وأشد تحملتها مع كثير من الجهد في البحث عن الطريق الصحيح إلى أن اتخذت القرار الرئيسى الثانى، وهو الاستغناء عن الخبراء السوفيت.. ولقد عشت شهورًا وأنا متردد أحاسب نفسى قبل اتخاذ هذا القرار، فمصر في حاجة إلى صداقة الاتحاد السوفيتى فهل أستطيع أن أطور أسلوب وخطوط هذه الصداقة مع الاحتفاظ بها.. وقد كان هناك ما هو أقوى من ترددى، كان الأقوى هو إحساسى الوطنى بمصر، ولا أستطيع أن أكون ابنًا لمصر يتحمل مسئوليتها ومصر تحتلها إسرائيل دون أن نتحرك ودون أن نحارب.. ولهذا اتخذت قرار الاستغناء عن الخبراء السوفيت بخلفياته الحساسة الرهيبة التي لن أستطيع أن أذكر منها هنا إلا أقل القليل تاركًا كامل التفاصيل مسجلا على الأشرطة.. اتخذت هذا القرار لأحارب وأنا كامل الاقتناع مرتاح الضمير..

ثم اتخذت قرار الحرب..

إن أحدًا لا يستطيع أن يُقدر المعاناة التي يتعرض لها المسئول عن اتخاذ قرار الحرب، ولقد عشت حياتى كضابط يعيش الحرب أو يعد نفسه للحرب، واتخذت بعيدًا عن الجيش قرارات لعمليات وطنية تقوم على إطلاق النار، ولكن كل هذا لا يُقاس بمسئولية اتخاذ قرر حرب تشمل الأمة كلها، والجيش كله.. إن كل فرد سأدفعه بيدى إلى خط النار، وكل فرد قد يصبح شهيدًا كما أصبح أخى عاطف(4)..

ثم من يضمن نتيجة هذه الحرب.. لا أحد يستطيع أن يضمن نتيجة أي حرب.. الله وحده..

ورغم ذلك فهناك دائمًا الدافع الأقوى من كل شيء.. دافع الإحساس بمصر، وما تريده مصر، واثبات وجود مصر..

مصر لا تزال تعيش ولا تزال قادرة على الحرب.. ولقد كنت ولا أزال أثق ثقة كاملة في قواتنا المسلحة، وبعد تحليلى الدقيق لمعركة 1967 بكل ما فيها من مرارة أصبحت أثق في أن قواتنا المسلحة كانت ضحية من ضحايا الهزيمة وليست أبدًا سببًا لها، وسأروى كيف اجتمعت بأبنائنا الضباط والجنود بعد أن أفاقت مصر من ذهول لهزيمة في 1967 لأكتشف هذه الحقيقة ليس فقط من فوق أرض المعركة. وإنما أيضًا من على أرض الوطن كله.. وكان هذا الدافع وحده هو ما يؤيد قرار الإعداد للحرب وهو الذى دفع رجالنا إلى الحرب وكان كلا منهم قد اتخذ لقرار بنفسه.. كل منهم يحارب لأنه يريد الحرب لا لأنه ينفذ قرارًا بالحرب.. وكان هذا هو ما حقق معجزة العبور..

وسأسجل تفاصيل كل هذه الأحداث في مذكراتى..

ولكن..

هل كنت أستطيع وسط كل ما يحيط بى من مسئوليات أن أجد الوقت الذى يسمح لى بأن أجلس لأكتب هذا التاريخ وكل هذه الذكريات.. إنها مهمة تحتاج إلى تفرغ كامل لا حق لى فيه إلا بعد أن يتسلم المسئولية من يتحملها بعدى.. وفى الوقت نفسه فإن تسجيل هذا التاريخ هو أيضًا مسئولية مفروضة على تجاه الجيل المسئول معى، والجيل الذى جاء بعدنا وبدأ هو الآخر يواجه المسئولية، ثم أيضًا تجاه جيل المستقبل، لأنها كلها أحداث ووقائع نعيشها يومًا بيوم، وكل يوم فيها مرتبط باليوم الذى سبقه واليوم الذى يأتي بعده..

وكانت الوسيلة الوحيدة أمامى هي أن أسجل على أشرطة تسجيل، لأنها وسيلة لا تتطلب الوقت الطويل الذى تتطلبه الكتابة بالقلم.. ورغم ذلك استغرقت وقتًا طويلا.. ليالى طويلة كثيرة كنت أشدها من خلال زحمة العمل لأجلس وأسجل، حتى أستغرق التسجيل عشرات الأشرطة، ولم أنته بعد من المرحلة التي حددتها وهى مرحلة الواقع الذى عشته منذ أن تحملت المسئولية كاملة..

وقد كنت خلال التسجيل أعتمد اعتمادًا كاملا على ذكرياتى مكتفيًا بالإشارة إلى الوثائق التي يمكن الرجوع إليها لتأكيد هذه الذكريات.. والاعتماد على الذكريات يفرض الانتقال غير المنظم بين الأحداث ويجعل التسلسل المنظم أمرًا مستحيلا لأن مجرد كلمة واحدة ترد على خاطرك قد تنقلك إلى ذكريات حادث آخر تنتهى من روايته لتعود مرة أخرى إلى الكلمة التي ذكرتك بهذا الحادث لذلك خطر لى أن أحتفظ بهذه الذكريات مسجلة على الأشرطة إلى أن أجد الوقت لأعيد تسجيلها مسلسلة تسلسلا مدروسًا في كتاب ولكننى وجدت أنها أوسع من أن يضمها كتاب واحد، إنها تحتاج إلى أكثر من كتاب وقد يحتاج إعدادها إلى شهور، في الوقت الذى أحس فيه بأن من حق الرأي العام الداخلى والعالمى أن يعرف كل تفاصيل الواقع الذى وصلنا إليه ونعيشه..

ومن هنا خطر لى خاطر ربما يعتبر حدثًا جديدً بالنسبة لوسائل العرض على الرأي العام.. ولم يسبق إليه أي مسئول في نشر مذكراته، وهو أن أترك ما سجلته على الأشرطة يُنقل إلى كلمات يضمها كتاب.. وهى بذلك تكون أقرب إلى تسجيل يوميات شخصية خاصة مع ما يضمه كل يوم من أحداث مختلفة ومواضيع متعددة، ثم أترك هذه اليوميات بعد جمعها في كتب إلى كل من يجد في نفسه القدرة على البحث أو الدرس كى يستجمع وثائقها وتفاصيل أحداثها ليضمها في كتاب آخر..

وأرى أن أشير في هذه الكلمة إلى أنى أحتفظ ببعض ما سجلته على الأشرطة بعيدًا عن النشر، حرصًا على المصلحة القومية العليا تجاه بعض الدول وليس هناك داع لإثارتها والتعرض لها من جديد خلال الظروف التي نمر بها ونعيشها اليوم، ولكنها كلها ستبقى مسجلة بحيث تُنشر إذا جد ما يدعو إلى نشرها أو ينشرها غيرى عندما تصبح ملكًا للتاريخ.

***

هذه هي الكلمة التي سجلها الرئيس السادات في مقدمة تسجيلاته التي استغرقت حتى الآن عشرة أشرطة كل شريط على وجهين ولم تنته بعد..

وفى مناسبة ذكرى وفاة جمال عبد الناصر وانتقال المسئولية إلى الرئيس أنور السادات استطاع "الأهرام" أن يستأذن سيادته في نشر جزء مما جاء في الشريط الأول الذى سجله ورى فيه ذكريات الأحداث الواقعة والاتجاهات السياسية التي شهدتها هذه الأيام..

 -----------

هوامش:

(1) جمال عبد الناصر: ولد جمال عبد الناصر حسين في ١٥ يناير ١٩١٨م فى ١٨ شارع قنوات فى حى باكوس الشعبى بالإسكندرية. وفى عام 1948 أسس حركة الضباط الأحرار التى قامت بثورة 23 يوليو 1952 ضد الملك فاروق وحكم أسرة محمد على.. دعم الثورات العربية فى الجزائر وليبيا واليمن.. إلخ.. وتوفى فى 28 سبتمبر 1970م.

(2) حسب الاستفتاء الذى أجرى في 23 يونيو 1956.. وقد تولى الحكم بعدها يومين في 25 يونيو 1956.

(3) فى عهد عبد الناصر تم بناء أكثر من 1200 مصنع.. وبعد هزيمة يونيو 67 تم استكمال بناء السد العالى فى موعده المحدد وبناء مجمع مصانع الألومنيوم فى نجع حمادى. - كان سعر الجنيه المصرى أكثر من اثنين ونصف دولار.. ونسبة البطالة صفر. - قام بحرب الاستنزاف والتى جعلت أمريكا تعرض مبادرة روجرز والتى وافق عليها عبد الناصر واستغل فترة وقف إطلاق النار فى بناء حائط الصواريخ. - أصبحت نسبة البطالة صفر ومرتب خريج الجامعة 18 جنيه وجرام الذهب يساوى 80 قرش اى المرتب يساوى بسعر اليوم 12 الف جنيه.

(4) محمد عاطف أنور السادات: الشقيق الأصغر للرئيس السادات.. ولد فى 13 مارس 1948م.. وتخرج من الكلية الجوية عام 1966م وأمضى عامين فى الاتحاد السوفيتى ضمن برنامج تدريبى على المقاتلات الجوية، وفى عامى 1969 و1970 شارك فى أول عمليات هجومية للقوات الجوية المصرية ضد المواقع الإسرائيلية فى اتجاه سيناء.. واستشهد فى حرب 6 أكتوبر 1973م.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.