الأحد، 21 مارس 2021

03 ذكريات الأيام الأولى بعد وفاة عبد الناصر

3

ذكريات الأيام الأولى بعد وفاة عبد الناصر

حرب الإشاعات التي سُلطت علىَ

الأهرام السبت 28 سبتمبر 1975م - 23 رمضان 1395هـ


اختلاف الشخصية

الوفاء لجمال عبد الناصر لا ينفى اختلاف طبيعة كل منا، كما بينت من قبل، فجمال عبد الناصر كان من الأشخاص الذين يعيشون على أعصابهم المشدودة دائمًا، وكانت النتيجة أن كل من يقترب منه كان يمتص هذا الإحساس المتوتر ويتشربه تمامًا، مما أدى إلى انعكاس هذا التوتر والقلق والتوجس على البلد كله، أما أنا فعلى النقيض من هذا تمامًا، فقد علمتنى طبيعتى الريفية الهادئة أن أتجنب كل ما من شأنه أن يوتر أعصابى بقدر الإمكان، ولكن مع الإصرار الموضوعى لتحقيق الهدف المنشود.. فأنا أحدد دائمًا ما أريده وما لا أريده، ولذلك فأنا مرتاح نفسيًا وعصبيًا لأننى لا أعلق حياتى بأمل قد لا يتحقق، ولا أخاف من طريق قد يصبح مسدودًا، لأننى أضع في اعتبارى دائمًا طرقًا عدة تؤدى إلى نفس الهدف.

وإذا كنت لا أحب العيش وأعصابى مشدودة، فبالتالى لا أحب لمن معى أن يعيش مشدودًا ومتوترًا هو الآخر، وحاولت إبراز هذه الحقيقة لكل من عاونونى بعد وفاة عبد الناصر، وخاصة لمن كانوا أقرب الناس إلى عبد الناصر، فقلت لهم في القناطر الخيرية، في إحدى المقابلات، أنهم كانوا يعيشون على أعصابهم بالقرب من عبد الناصر، فخافوا من الإجابة بالإيجاب، خوفً من أن يكون حديثى فخًا لانتزاع رأيهم في عبد الناصر، ولم يكن هذا قصدى بالطبع، فقد كنت أريد تبادل الحوار الصريح الحر الخالى من كل الحساسيات والرواسب، ولكن لأنهم يفكرون بطريقتهم الملتوية فقد امتنعوا عن الرد، وأكملت حديثى إليهم فقلت أننى شخصيًا كنت أعيش على أعصابى بالقرب من عبد الناصر.

وقد ناقشت مرة هذه القضية مع عبد الناصر، وكنا نسهر في منزلى.

قلت له أنه برغم الزمالة والصداقة والإخوة التي بيننا، فإنى أعيش معه على أعصابى بسبب أعصابه المتوترة دومًا.

فسألنى جمال: هل أنا أفتعل هذا التوتر؟

فقلت له: لا.. إنها طبيعتك وكيانك منذ كنا معًا في منقباد عام 1938 ولم نبلغ بعد سن العشرين..

ولذلك على الرغم من زمالتى وصداقتى وأخوتى ووفائى لعبد الناصر، لا يمكن أن أكون صورة مكررة منه نظرًا لاختلاف الكيان والطبيعة والنظرة إلى الحياة.

ومن هنا كان تنبيهى على من حولى بعد أن توليت رئاسة الجمهورية، إننى أختلف تمامًا عن عبد الناصر، وكنت أفسر لهم ذلك بقولى أن لكل إنسان حق العمل في موقعه دون خوف أو خشية من عزل أو تهديد، وطالما أننى لم أوضح لمثل هذا الإنسان خطأ يحتمل أن يكون قد وقع فيه، فهذا يعنى الضوء الأخضر بالاستمرار في عمله وتأديته على الوجه الأكمل، وعندما يرتكب إنسان خطأ ما سأستفسر عنه بمنتهى البساطة حتى يفسر لى الأسباب الموضوعية التي أدت إلى ارتكاب مثل هذا الخطأ، وله الحق الكامل في الدفاع عن نفسه، فلكل إنسان الحق في أن يواجه بما له وبما عليه قبل أن أتخذ أي قرار بشأن استمراره في معاونتى.

هذا الاختلاف الأساسى بينى وبين عبد الناصر شرحته بالكامل لكل من حولى عندما توليت رئاسة الجمهورية، وأوضحت أن من المستحيل أن أصيغ من نفسى عبد الناصر آخر، فالذى كان يمكن أن تقبله مصر من عبد الناصر لا يمكن أن تقبله منى الآن، لقد أنشأ عبد الناصر علاقة ضخمة مع الشعب عبر معارك التحرير، وعبر انتصارات تمثلت في تأميم قناة السويس، وتحدى الاستعمار والدول الكبرى، وانتصر وهزم، وأصبح لكل نبضاته صدى عند الشعب الذى فوضه في كل أموره، ولذلك كان من الطبيعى أن يقبل منه كل شيء بناء على هذا التفويض.

أما بالنسبة لى، فإنى أتسائل: على أي أساس سيقبل منى الشعب ما كان يفعله عبد الناصر قبلى؟.. إن الشعب لم يعرف بعد عنى شيئًا بسبب الظل الذى أحاط بى طوال سنى الثورة، وبالتالي فمن المستحيل أن أطبق نفس الأسلوب الذى اتبعه عبد الناصر من قبل، لن أختلف معه على المبادئ، ولكن الأسلوب لابد أن يتغير.

وقد قلت ذلك مرارًا أن الشعب كان سيمنح ثقته المطلقة لأى اسم آخر سيتقدم للترشيح والاستفتاء، وليس اسمى أنا بالذات، فالقضية ليست قضية أشخاص بقدر ما هي قضية مصير مصر كلها، وخاصة أنها كانت تعيش وسط مرارة الهزيمة التي زادت مرارتها في فم مصر برحيل عبد الناصر الذى كن صدمة عنيفة مباغتة، وقعها علينا مثل وقع هزيمة يونيو عام 1967.


الخطة الدفاعية 200

وقد يكون عبد الناصر، بإحساسه الداخلى، قد حسب حساب توقع رحيله المفاجئ، رغم أن هذا التوقع لم يخطر على بالى أبدًا حتى أنى أوصيته أكثر من مرة على أولادى من بعدى، وقد برز هذا التوقع عند سفره إلى المغرب لحضور مؤتمر القمة العربى الذى عقد في ديسمبر عام 1969، ولم يكن له في ذلك الوقت نائب ينوب عنه في غيابه، ولذلك استدعانى إلى منزله يوم سفره صباحًا في 20 ديسمبر عام 1969(1)، وأخبرنى بأنه خائف من أن يحدث له أي شيء مما قد يؤدى بالبلد إلى متاهة لا عودة منها، وطلب منى أن أحلف اليمين كنائب لرئيس الجمهورية، وفعلا تم حلف اليمين في صالون بيته، وأذيع الخبر رسميًا بعد ذلك، وكان هذ الإجراء من عبد الناصر دليلا على رغبته في استمرار المسيرة في حالة حدوث أي شيء غير متوقع له.

ليس هذا فقط، بل أن بعد الناصر لم يعبأ بالهجمات التي شنتها مراكز القوى علىَ بعد تعيينى نائبًا لرئيس الجمهورية في 20 ديسمبر عام 1969، فقد رفضوا في دخيلة أنفسهم هذا التعيين وأطلقوا ضدى حربًا تركزت في الإشاعات التي عملوا على نشرها بكل الوسائل، وبسرعة عجيبة، حتى يتمكنوا من تشويه صورتى وهدمى تمامًا، وهى حرب بدأت قبل ذلك بوقت طويل وتجلت في مهزلة انتخابات اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكى عام 68 مما سأرويه مع أحداث تلك الفترة، ثم استمرت بشراسة أكبر بعد تعيينى نائبًا، وعلى سبيل المثال فعندما سافر عبد الناصر في صيف عام 1970 في رحلته الأخيرة إلى الاتحاد السوفيتى، نشرت مراكز القوى إشاعة تقول بأننى قمت باستغلال منصبى كنائب لرئيس الجمهورية وفرضت الحراسة على صاحب منزل بالهرم تمهيدًا لاستيلائى عليه بالقوة في غيبة عبد الناصر(2).

وتصادف في ذلك الوقت أن أصبت بالنوبة القلبية التي تحدثت عنها من قبل، فذهبت إلى قرية ميت أبو الكوم(3) طلبًا للشفاء والاستجمام، فقد فرض على الأطباء أن ألزم الفراش، وجاء توقيت هذه النوبة القلبية بعد عودة عبد الناصر من الاتحاد السوفيتى فانتهزت مراكز القوى الفرصة وملأت البلد بالإشاعات التي تؤكد وجود خلاف بينى وبين عبد الناصر، بدليل اعتكافى بعيدًا في قريتى، ولم يعبأ عبد الناصر بهذه الإشاعات وزارنى في ميت أبو الكوم وأخبرنى بأن الناس تقول بأن هناك خلافًا بينى وبينه، بدليل أن المريض الحقيقى لابد وأن يمكث في القاهرة قرب العلاج والدواء.

فقلت لعبد لناصر: إننى أعتبر قريتى جزءًا من علاجى، وأن اليوم الذى أقضيه فيها خير من عشرة أيم أقضيها في القاهرة، وأنا لا أستطيع تجاهل العامل النفسى في أي مرض..

وبالفعل تم شفائى بفضل الله وعادت الأمور إلى مجراها الطبيعى بينى وبين عبد الناصر برغم مكائد مراكز القوى.

وقد أعلنت مراكز القوى هذه الحرب العشواء لأنها أدركت أن اتجاه عبد الناصر كله قد تركز في تسليمى المسئولية تدريجيًا، فقد حدث قبل ذلك أن دعانى عبد الناصر لحضور اجتماع عسكرى في مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة في مدينة نصر، وهو المبنى الذى أديرت منه حرب سنة 1967 المريرة، وفى غرفة القيادة وجدت أن الاجتماع مقصور على العسكريين فقط، ولم يكن هناك من المدنيين سوى عبد الناصر وأنا، ومعنى هذا واضح بالنسبة لاجتماع مقصور على قادة القوات المسلحة بالكامل وجميع الخبراء الروس بالكامل، وكان الاجتماع بخصوص خطتنا الدفاعية التي عرفت باسم الخطة 200.

استمعت مع عبد الناصر، على مدى سبع ساعات متصلة، إلى شرح القادة المسئولين لأدوارهم في الخطة، وأيضًا قام الخبراء الروس بتوضيح كل احتمالات الموقف، وانتهى القادة المصريون والخبراء السوفيت إلى سلامة الخطة الدفاعية واستكمالها مائة في المائة، لقد أراد عبد الناصر بدعوتى للاستماع إلى شرح الخطة أن أكون على بينة بكل الأمور حتى أشاركه مسئولية الدفاع عن مصر.

وأريد أن أسجل هنا أن الخطة الدفاعية 200 كانت هي كل ما تسلمته من عبد الناصر قبل رحيله. فلم يكن التخطيط لخطة الهجوم قد بدأ بعد(4). ولم يخرج الإعداد للمعركة في ذلك الوقت عن حدود الخطة الدفاعية عن جميع أنحاء الجمهورية، ولذلك كان همى الأساسى، بعد أن توليت رئاسة الجمهورية، مركزًا في الإعداد لخطة الهجوم التي نفذت في السادس من أكتوبر العظيم عام 1973.

------------------

هوامش:

(1) السبت 11 شوال 1389هـ

(2) يحكى سامى شرف فى الجزء الخامس من مذكراته "سنوات وايام مع جمال عبد الناصر" صفحة 1277 و1278:

(لقد تبلور فى صيف 1970 اتجاهًا لدى عائلة السيد أنور السادات، وكان وقتها نائبًا لرئيس الجمهورية أن يترك منزله فى الهرم والبحث عن مقر إقامة بديل وجديد. وفى أحد الأيام اتصل السادات بأمين هويدى وكان وقتها وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء والمسئول عن القرارات الوزارية بما فى ذلك قرارات فرض الحراسة، وطلب إليه إعداد قرار بفرض الحراسة على قصر اللواء صلاح الموجى وأضاف أن لديه معلومات بأن الموجى يمتلك ثروة غير مشروعة، وأن موقفه ليس فوق مستوى الشبهات.

وعندما بحثنا هذا الموضوع فى لقائنا الثلاثى اليومى - أمين وشعراوى وسامى - اتضح أن السيدة جيهان السادات أثناء بحثها عن مقر جديد لإقامتهم شاهدت هذا القصر وذهبت لزيارته أكثر من مرة ووقع اختيارها عليه وطلبت من نائب الرئيس ترتيب انتقالها إليه.)

(كان الرئيس جمال عبد الناصر فى هذا الوقت فى موسكو وبعثت له ببرقية بالموضوع حتى أتحصن برأيه. وطلب أمين هويدى من جانبه من السادات التريث لحين عودة الرئيس أو يصل رده على الرسالة التى بعث بها سمى إليه، لكن السادات بادر بإصدار أوامره بوضع القصر تحت الحراسة، ولم يتطرق إلى باقى ثروة الموجى.....

وعندما عاد الرئيس جمال عبد الناصر وأثناء مرافقة السادات له فى السيارة من المطار إلى منشية البكرى عنفه الرئيس جمال عبد الناصر على تصرفه هذا وأعلن له رفضه لهذا الأسلوب وأمر بإعادة القصر لصاحبه فورًا، وفى نفس الوقت طلب أن يخصص للسادات مقر بديل هو فيلا "كاسترو" المطلة على النيل فى الجيزة والتى أصبحت بعد ذلك مقر إقامة السادات رئيسًا ثم قام بنقل مليكته له خلال توليه رئاسة الجمهورية بعد ذلك)

(3) ميت أبو الكوم إحدى قرى مركز تلا التابع لمحافظة المنوفية وهى القرية التى ولد فيها محمد أنور السادات.

(4) يؤكد الفريق أول محمد فوزى في كتابه (الإعداد لمعركة التحرير 1967-1970) على وجود الخطة الهجومية جرانيت التي تم تدريب القوات المصرية عليها في نهاية عهد عبد الناصر أي عام 1970م: (وكان الرئيس عبد الناصر قد طلب استعراضًا أخيرًا للمخطط أثناء إجازة قصيرة قضاها في مرسى مطروح في منتصف شهر سبتمبر ١٩٧٠، وقد رافقتُه ومعي خرائط وقرارات الخطة الهجومية جرانيت).. بينما يذكر الفريق عبد المنعم خليل فى مذكراته (حروب مصر المعاصرة): (وضعت القيادة العامة للقوات المسلحة خطة هجومية في الأشهر الأولى من عام ١٩٧١ سميت "الخطة جرانيت") أي بعد وفاة عبد الناصر.

بينما نجد في خطاب الرئيس جمال عبد الناصر يوم 25 يونيو 1970 فى المؤتمر الشعبى بالمدينة الرياضية ببنى غازى.. يقول عن الطيران الإسرائيلى:

(إنهم يركزون غاراتهم على منطقة القنال حتى لا يمكنوا الجيش المصرى من أن يعبئ قواته وأن يحشد جنوده ليعبر القنال ويهجم، ولأنهم يعلمون أن الجيش المصرى استكمل تدريباته للعبور، فإذا وجد الفرصة حتى يحصل على تعادل جوى فلن تمنعه قوة فى الدنيا من العبور.)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.