الأحد، 21 مارس 2021

06 البنتاجون استعان بالقمر الصناعى وقرر: "إسرائيل هُزِمت"

6

البنتاجون استعان بالقمر الصناعى وقرر: "إسرائيل هُزِمت"

الأهرام الأحد 5 أكتوبر 1975م - 1 شوال 1395هـ


بالنسبة للموقف العالمى، ابتداء من يوم 6 أكتوبر، فقد ظل العالم كله مبلبلا ومنحازًا لوجهة نظر إسرائيل، بحكم تعوده على هذا الوضع لمدة ربع قرن.

صدق العالم بلاغات إسرائيل التي ادعت أنها ستطحن عظامنا وتكسر جماجمنا، وبالطبع لم يقتنع العالم بصحة بلاغاتنا على الأقل في أول يومين للمعركة، برغم أن أحمد إسماعيل كان متحفظًا في البلاغات التي كان بعضها يعلن عن خسائر في الدبابات الإسرائيلية أقل من الخسائر الحقيقية. فقد تعود أن يطلب التأكيد من أكثر من جهة، وعندما لا تتوافر لديه البيانات المشتركة كان يأخذ بالرقم الأقل. ولذلك إذا جمعنا خسائر الدبابات الإسرائيلية فسنجد أنها أكثر في الحقيقة بمائة أو مائة وخمسين دبابة على أقل تقدير.

أي أن أحمد إسماعيل استفاد من دروس هزيمة سنة 1967 التي لم تكن بلاغاتها سوى ادعاءات لشغل الرأي العام عن الحقيقة المرة أطول فترة ممكنة. وفى الحقيقة كانت تعليماتى لأحمد إسماعيل تنصل على وضع الحقيقة كاملة، بمرها وحلوها، أمام الشعب، وهى نفس التعليمات التي أصدرتها لعبد القادر حاتم(1)، بحكم إشرافه على الجانب الإعلامى. فقد آن الأوان لكى نعود شعبنا على سماع الحقيقة وتقبلها مهما كانت.

في اليوم الثالث من المعركة، بدأت الأمور تتكشف على حقيقتها للعالم الخارجي الذى بدأ يتسرب إليه الشك في حقيقة البلاغات الإسرائيلية، وبالتالي بدأ في الإنصات جديًا للبلاغات المصرية.

وكانت جولدا مائير - على ما اتضح بعد ذلك - قد اتصلت بواشنطن تليفونيًا وقالت لهم أن إسرائيل في حاجة إلى يومين فقط لتُحطم عظام العرب في مصر وسوريا، وبعد الانتهاء من هذه المهمة البسيطة ستُطالب إسرائيل أمريكا بأن تستعوض كل الأسلحة التي فقدتها في القضاء على العرب. وطمأنت مائير واشنطن بألا تقلق أمريكا على إسرائيل التي تعرف جيدًا كيف تتعامل مع العرب.

مضى يومان بعد مكالمة جولدا مائير، واتصلت إسرائيل تليفونيًا بواشنطن، لتقول أنها مازالت في حاجة إلى يومين آخرين للقضاء على العرب لأنها استخدمت اليومين الماضيين في التعبئة والحشد بسبب عيد الغفران(2) الذى عطل هذه العملية، خاصة وأن إسرائيل لم تعلن حالة التعبئة. وأكد ديان(3) في حديثه على حق إسرائيل في استعواض الأسلحة بعد القضاء على العرب في ظرف 48 ساعة.

وعندما زارنى كيسنجر(4) في القاهرة لأول مرة، أخبرنى بأن الشك قد تسرب إلى نفسه بعد مكالمة ديان، فطلب تقريرًا عن المعارك من البنتاجون(5)، ثم أجرى تحقيقًا مع وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية والبنتاجون، لتقصى الأسباب التي عجزت معها كل هذه الأجهزة العاتية عن التنبؤ بوقوع هذه المعارك الضارية في مثل هذه المنطقة الحساسة والحرجة.


رسالة استغاثة.. "أنقذوا إسرائيل"

في نهاية مهلة اليومين التي طلبها ديان استغاث السفير الإسرائيلي في واشنطن بوزارة الخارجية الأمريكية في رسالة عاجلة تصرخ: "أنقذوا إسرائيل".. وأعلن السفير أن إسرائيل فقدت أربعمائة دبابة على الجبهة المصرية والحالة في غاية الخطورة لأن الطريق أصبح مفتوحًا إلى تل أبيب. وانتهت الرسالة التاريخية عند هذا الحد.

وعندئذ طلب كيسنجر جولدا مائير مباشرة بالتليفون وقال لها أن السفير الإسرائيلي في واشنطن قد أبلغه باستغاثة إسرائيل العاجلة وطلبها أربعمائة دبابة فورًا بدلا من الدبابات التي فقدتها على الجبهة المصرية. وأبلغها كيسنجر أيضًا أنه طلب تقريرًا عاجلا من البنتاجون الذى استعان بالقمر الصناعى في كتابة التقرير، وتشير كل الدلائل إلى أن المعركة على الجبهة المصرية تسير في غير صالح إسرائيل نهائيًا، وأن خسائر إسرائيل بلغت حدًا لا يُصدق فهل هذا صحيح؟ وهل صحيح أن إسرائيل طلبت النجدة السريعة؟؟.

أجابت جولدا مائير على كيسنجر بالإيجاب وأبلغته أن ديان طلب ذلك بناء على موافقة مجلس الوزراء الإسرائيلي. واعترفت بأن إسرائيل في انتظار الوصول الفوري للدبابات الجديدة حتى تنقذ إسرائيل نفسها من الهوة الرهيبة التي وقفت على حافتها وأوشكت على السقوط فيها بالفعل، بل أنها استخدمت تعبيرًا ذكره أليعازار(6) رئيس الأركان الإسرائيلي في مذكراته وهو: "إن إسرائيل في القاع In The Bottom".

عندئذ صرحها كيسنجر برأيه وقال لها أن على إسرائيل أيًا كانت النتيجة النهائية أن تجهز نفسها للأوضاع الجديدة المترتبة على هذه الهزيمة. ومع ذلك فستبذل أمريكا أقصى ما في وسعها لإنقاذ إسرائيل ومساعدتها بكل الوسائل الممكنة.

ولكن جولدا مائير حاولت المكابرة مرة أخرى بادعائها أن إسرائيل ما زالت قادرة على دق عظام العرب وطحن جماجمهم.

لم يقتنع كيسنجر بكلام مائير لأنه مُفكر استراتيجى يرى الواقع من خلال الحسابات الدقيقة وليس في ضوء ما يتمناه الآخرون. فطالما صدق هو نفسه الأسطورة الضخمة التي بنتها إسرائيل حول تفوقها الساحق وذراعها الطويلة التي يمكن أن تبطش بأية منطقة في العالم العربى مهما بعدت. ولكن عندما وصله تقرير البنتاجون، تأكدت لديه في الحال الأبعاد الأسطورية لعبور القناة واقتحام خط بارليف ودخول قوات مصرية رهيبة ضخمة على مدى 180 كيلو مترًا من بورسعيد إل السويس. وبرغم المانع المائى المستحيل، والتحصينات الإسرائيلية المنيعة، والجبهة الطويلة الشاسعة لم تحدث خسائر تُذكر للقوات المصرية. هذا في الوقت الذى خسرت فيه إسرائيل 400 دبابة في الأيام الأربعة الأولى وانكسر الصلف الإسرائيلي نهائيًا، وظهرت إسرائيل على حقيقتها عارية أمام العالم أجمع ليرى كم من الوقت خدعته وغررت به.

ولعل هذا هو السبب الرئيس الآن [عام 1975] في جهود إسرائيل المضنية لكى تزيح كيسنجر من الطريق بالقضاء على مستقبله السياسى. فهو الوحيد من المسئولين الأمريكيين الذى يعرف الأبعاد الحقيقية للمأساة الإسرائيلية، وهو الشاهد العيان الذى رأى اندحارهم وسقوطهم في الهوة التي طالما أعدوها ودفعوا إليها العرب دفعًا. ووجوده يُذكرهم دائمًا بالكابوس الذى رزحت تحته إسرائيل منذ ظهر السادس من أكتوبر 1973 ومازال يطبق على أنفاسها حتى الآن. ولكن إسرائيل تُصِر على سلوك النعامة التي تدفن رأسها في الرمال ظنًا منها أن الصياد لن يراها، وهو السلوك الذى يدفعنا إلى التخلص من كيسنجر ظنًا منها أنها بذلك يمكن أن تتخلص من وصمتها التي لحقت بها إلى الأبد.

باستمرار المعركة دارت الدوائر على إسرائيل وبدأ العالم بتعاطف مع العرب، تمامًا مثلما كان متعاطفًا مع الإسرائيليين عام 1967. وهذا يرجع إلى الأسلوب الصادق والهادئ للدعاية العربية، والدقة الأمينة والموضوعية في البلاغات الصادرة، والقدرة القتالية التي حطمت أسطورة التفوق الإسرائيلي في ساعات معدودة.

فمثلا كان سلاح الطيران الإسرائيلي قبل المعركة لا يتمتع بالتفوق فقط، بل بالسيادة المطلقة على أجواء المنطقة كلها. ومع هذا فقط الإسرائيليون ثلث سلاح طيرانهم في الأيام الثلاثة الأولى من المعركة على الجبهتين المصرية والسورية.

وكانت الخسارة أفدح عندما فقدوا أفضل طياريهم المدربين، فقد كان الهجوم المسعور لطائراتهم وبالا عليهم إذ وقعوا في المصيدة التي نصبها لهم طيارونا بالاشتراك مع قوات الدفاع الجوى. وكانت طائراتنا من طراز ميج 17 ذات السرعة الأقل من الصوت قادرة على إسقاط طائرات الفانتوم الأمريكية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. وهذا يرجع إلى القضاء على خبرة الطيارين الإسرائيليين فى الموجات الأولى للهجوم، مما دفع بإسرائيل إلى تجنيد الطيارين الجدد على الفانتوم بحيث أصبحوا لقمة سائغة لطيارينا الخبراء المحترفين.

ولم يقتصر الأمر على ضياع خرافة السلاح الجوى الإسرائيلي، وتحطيم سمعة الجندى الإسرائيلي، بل أن شهرة المدرعات الإسرائيلية دُفِنت في الأوحال وهى تفر مذعورة أمام المدرعات المصرية لدرجة أن قائد المدرعات الإسرائيلية أبراهام مندلر(7) لقى حتفه على الجبهة المصرية بعد أن ظل يستغيث بالإشارات العاجلة ولكن لم يكن هناك في إسرائيل من ينجده أو حتى يسمع صرخاته المذعورة التي طغى عليها هدير المدرعات المصرية. وحكاية هذه الإشارات المتبادلة معروفة جدًا في إسرائيل ونشرت بالفعل هناك. وكان الإسرائيليون يتباهون بمدرعاتهم ويقولون أنها صُنِعت لتقهر وتتقدم، ولم ولن توجد المدرعات التي يمكن أن تعترض طريقها، وطالما قالوا أنها أحسن من البانزر الألماني التي حازت على شهرة مدوية في الدوائر العسكرية العالمية.

وقد طلبت إسرائيل من الولايات المتحدة العمل بأى شكل على إيقاف إطلاق النار حتى تسترد أنفاسها وتعاود الهجوم. ولكن الأمور سارت على غير ما تشتهى إسرائيل وتوالت الانتصارات المصرية يومًا بعد يوم.


السلام الروحى

لم أغير برنامجى اليومى على الإطلاق. كنت في المساء أجلس في شُرفة قصر الطاهرة أستمتع بمشاهدة القمر وهو يزداد جمالا ويكبر يومً بعد يوم، مثل انتصاراتنا تمامًا. بينما التليفون إلى جوارى والتقارير أمامى أتابعها أولا بأول، وغرفة العمليات المُصغرة في مكتبى بقصر الطاهرة نتابع على خرائطها الموقف من غرفة العمليات الرئيسية، والمشير إسماعيل على اتصال بى من حين لآخر من غرفة العمليات وكلها أخبار رائعة وانتصارات مدوية:

وقوع الأسرى ونشر صورهم في جميع أنحاء العالم.

ضرب اللواء 190 الذى كان من أروع لواءات إسرائيل المدرعة والذى كان يُعتبر في نظرهم رأس الحربة الذى يخترق أي حشد عسكرى مكثف. وكانت خطته أن يخترق ويندفع بعنف إلى أن يصل إلى ضفة القناة ويفصل قواتنا المسلحة عن بعضها البعض، ثم يشرعوا في تدميرها بعد تفتيتها تمهيدًا لإلقائها في القناة.

هذا اللواء الإسرائيلي المشهور يُصاب قائده عساف ياجورى(8) بانهيار عصبى عندما ينظر حوله فيجد أنه فقد اللواء بأكمله في ثلث ساعة أي في عشرين دقيقة فقط لا غير واللواء المدرع الإسرائيلي حسب تنظيمهم يتكون من 120 دبابة. بل أن دبابته شخصيًا أصيبت واحترقت وخرج منها يجرى كالأرانب الجبلى المذعور. والمعروف أن لواء في القتال والاستمرار فيه لمدة أيام وأسابيع متصلة لا أن ينتهى أمره في عشرين دقيقة.


انتصار أبو سعدة

أما القائد المصرى الذى أخرج هذه المعركة الرائعة إلى حيز التنفيذ والوجود فاسمه حسن أبو سعدة الذى يُشكل مثلا أعلى للعسكرية المصرية الحديثة، ومن البراعم والقيادات الجديدة التي تخرجت في مدرسة أكتوبر العسكرية. وقد رُقى إلى رتبة لواء، وهو من القادة الذين سأكتب عنهم في وصيتى ألا يتركوا القوات المسلحة طوال حياتهم بما لهم من حنكة تكتيكية وخبرة واسعة وعلم متجدد واحتراف يُجيد كل أسرار المهنة. فلقد عرف هو ورجاله كيفية التعامل مع الإسرائيليين وهم في أوج غرورهم وصلفهم. انتصر أبو سعدة وقضى على اللواء 190 الإسرائيلي في ثلث ساعة، ولذلك عندما زرت الجبهة بعد ذلك طلبت من أولادنا المحافظة على هذا الرقم القياسى الذى لم يُسبِق له مثيل في التاريخ العسكرى..

----------------

هوامش:

(1) محمد عبد القادر حاتم: ولد فى 3 سبتمبر 1918م بقرية ششت الأنعام بمركز إيتاى البارود بمحافظة البحيرة.. حصل على بكالوريوس العلوم العسكرية من الكلية الحربية الملكية عام 1939م..  وضع البنية الأساسية للإعلام المصرى فى الخمسينيات، وأنشأ التلفزيون المصرى سنة 1960، كما شغل منصب وزير الثقافة عام 1962 ثم وزيرًا للإعلام عام 1971م.. توفى فى 7 يوليو 2015م.

(2) هو اليوم العاشر من شهر "تشريه"، الشهر الأول في التقويم اليهودى.. ونظرًا لأن اليهود يستخدمون الشهور القمرية مثلما هو الحال مع المسلمين فقد توافق يوم 10 تشريه (تشرين) 5734 مع يوم 10 رمضان 1393هـ

(3) موشيه ديان: ولد 20 مايو 1915م.. وزير الدفاع الإسرائيلى 5 يونيو 1967 حتى 3 يونيو 1974م.. فضلا عن مناصب أخرى.. توفى فى 16 أكتوبر 1981م

(4) هنرى ألفريد كيسنجر: سياسى وديبلوماسى أمريكى ولد فى 27 مايو 1923م.. شغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية ومستشار الأمن القومى الأمريكى فى ظل حكومة ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد.. حيث ظل فى منصب وزير الخارجية حتى 20 يناير 1977م.

(5) مبنى مقر وزارة الدفاع الأمريكية

(6) دافيد أليعازار: عسكرى إسرائيلى ولد فى 27 أغسطس 1925م.. عمل قائدًا لجبهة الجولان فى حرب 1967 ورئيسًا لأركان الجيش لإسرائيلى خلال حرب أكتوبر 1973.. توفى فى 15 أبريل 1976م

(7) أبراهام ألبرت ماندلر: ولد فى 3 مايو 1929 فى لينتس بالنمسا.. وقتل فى 13 أكتوبر 1973م فى سيناء بنيران المدفعية المصرية.

(8) عساف ياجورى: عسكرى إسرائيلى ولد فى 13 فبراير 1931م.. قاد كتيبة دبابات فى سيناء فى حرب أكتوبر 1973م وتم أسره فى معركة الفردان.. وقد أفرج عنه بعد 46 يومًا فى تبادل للأسرى.. توفى فى 18 مارس 2000م




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.