الأحد، 16 مارس 2025

عفوًا.. معركة الخليفة الأول الصعبة

عفوًا.. معركة الخليفة الأول الصعبة

بقلم: عبد الله إمام

الجمهورية الخميس 27 سبتمبر 2001م - 10 رجب 1422هـ


الإسلام برئ من الإرهاب.. فهو دين الرحمة والتآلف.. وحرم قتل النفس التي كرمها الله وأعزها، ولكنه بسبب السياسة، ومحاولة اقحام الدين فيها، والنزاع على الحكم، والاقتتال بين الطامعين في السلطة وعلى المواقع السياسية.. كانت الحروب الدامية التي انساق إليها المسلمون منذ قرون عديدة بعد أن تنازعوا وتفرقوا وابتعدوا عن جوهر الدين.. ولقد وقعت خلافات وحروب في تاريخ الإسلام منذ البداية بسبب السياسة وإذا بدأنا بالخلاف على الحكم فإن الرسول الكريم كان قد حدد الخلافة من بعده بثلاثين عاما ثم يكون الملك، والأعوام الثلاثين بعده هي فترة الخلفاء الأربعة والحسن بن على بن أبي طالب.


ومن اللافت للذين يدرسون التاريخ الاسلامي، أن القتل والاقتتال كان لأسباب سياسية، وليس لاختلاف حول قضايا حول قضايا دينية أو فقهية.. ومن البداية لم يكن اختيار خليفة رسول الله سهلا.. فهناك من رأى حصر الخلافة في قبيلة قريش قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم فهى أكبر القبائل وأكثرها نفوذًا بينما رأى الأنصار أنهم أحق بالخلافة، وقال المهاجرون أنهم الأولى بها وكل لديه الأسباب والحجج والأسانيد، ومن رأى ابن خلدون انهم اختاروا من قريش «لأنها تستطيع سوق الناس الى ما يُراد منهم بعصا الغلب، فلا يخشى من أحد اختلاف عليهم».

وخاض أبو بكر معركة ضارية، كادت تستخدم فيها السيوف، إذ طرح الأنصار خليفة منهم وكان أقصى تنازلهم فى مواجهة المهاجرين أن يكون «منا أمير، ومنكم أمير».. فور انتقال الرسول العظيم إلى الرفيق الأعلى، وبينما كبار الصحابة فى بيته يجهزونه، أرسل عمر إلى أبى بكر يستدعيه للحضور سريعًا فرد أبو بكر «أنى مشتغل» وكرر عمر طلبه، فخرج أبو بكر متعجبًا ليقول له عمر: «أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول منا أمير ومن قريش أمير!! وأسرع أبو بكر ومعه عمر وأبو عبيدة إلى السقيفة..

في السقيفة دارت مناقشات حامية حسمها ابو بكر بخطاب سياسي ناضج أرضى الأنصار عندما قال: «أنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم فنحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور».

«فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار أخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء وأنصارنا على العدو، أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأنتم أجدر بالثناء من أهل الأرض جميعًا، فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء».

وتركت كلمات أبو بكر عن اختيار وزراء من الأنصار أثرا حسنًا، حتى قال لهم الحباب بن المنذر: «أن الناس فى فيئكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ولن يصدر الناس إلا على رأيكم، وأنتم أهل العز والثروة، وأولوا العدد والمنعة والتجربة، وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير».

احتدم الجدل والنقاش حتى كاد الأمر أن يفلت فحسمه عمر بن الخطاب ونادى بأعلى صوته «أبسط يدك يا أبا بكر» ومد أبو بكر يده فبايعه عمر وهو يقول: «ألم يأمر النبي بأن تصلى أنت يا أبا بكر بالمسلمين فأنت خليفة رسول الله فنحن نبايعك لنبايع خير من أحب رسول الله منا جميعًا».

وبايع أبو عبيدة وهو ابن عم سعد بن عباده الذي رشحه الأنصار منذ البداية وهو يقول: «إنك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة في أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك؟» عند ذلك ناداه الحباب بن المنذر: عققت.. ما أحوجك إلى ما صنعت.. أنفست الإمارة ابن عمك!

انفعل عمر بن الخطاب وارتفع صوته قائلا: اقتلوه قتله الله! ووجه إليه كلامًا عنيفًا. فهداه أبو بكر قائلا: «مهلا يا عمر وحسمًا للأمر فقد سارع أصحاب هذا المعارض الذي أغضبت كلماته عمر وطالب بقتله إلى حمله وإخراجه من السقيفة إلى منزله، فعكف فيه لا يخرج منه ابدًا، ورغم ما بذل معه من جهد حتى يقبل المبايعة فقد رفض بل واعتزل المؤيدين.. فكان لا يصلى ولا يحج معهم حتى مات أبو بكر..

هذه البيعة للخليفة الأول التي وصفها عمر بأنها كانت «فلتة».. تخلف عنها عدد من المهاجرين ومن الأنصار وأخذوا يؤيدون على بن ابي طالب، من أشهرهم العباس بن عبد المطلب، والزبير بن العوام، وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر».

وحاول الخليفة أبو بكر استمالة العباس بن عبد المطلب.. وقيل أن هدفه إحداث فُرقة بينه وبين ابن أخيه على بن أبى طالب فعرض عليه أن يجعل له نصيبًا في بيت المال يكون له ولأولاده من بعده.. ورفض العباس قائلا: «إن كان هذا الأمر لنا فلا نرضى ببعضه دون بعض».

اجتمع عدد من كبار المسلمين مع على بن أبى طالب في دار زوجته فاطمة بنت رسول الله يدعون إلى مبايعته وقال له أحدهم: «فو الله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك»..

وتسرب إلى أبى بكر وعمر ما يدور في الاجتماع فصحبا عددًا من أنصارهما، وهجموا على الدار، وخرج لهم على ومعه السيف، ووقع اشتباك بسيط وتصدت فاطمة بنت الرسول مهددة: «والله لأخرجن او لأكشفن شعري ولأشكون الى الله» وإزاء هذا التهديد خرجوا. وظل المجتمعون أيامًا مُحاصرين في بيت على «حتى انسحب الواحد منهم بعد الآخر ليبايع الخليفة.

وذهب عمر إلى فريق من بنى هاشم يدعوهم للمبايعة فرفضوا، وخرج الزبير بن العوام إليه حاملا سيفه، فقال عمر لأصحابه خذوه، فتكاثروا عليه وأخذوا سيفه.. فذهب وبايع، أما على فعندما طلب منه مبايعة ابو بكر رفض قائلا: «لا أبايعكم وأنا أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليه بالقرابة من النبى صلى الله عليه وسلم، وتأخذونه من أهل البيت غصبًا، نحن أولى برسول الله حيًا وميتًا فانصفونا إن كنتم تؤمنون والا فبؤوا بالظلم وأنتم تعلمون».

ولم يعجب عمر رد على فقال له: «إنك لست متروكا حتى تبايع! ولكن أبو بكر قال له «إن لم تبايع.. فلا أكرهك».

وتوجه إليه أبو عبيدة ينصحه بالموافقة والمبايعة بحجة أنه حديث السن وهؤلاء ذوو تجرية وخبرة وأن أمامه فسحة من الوقت «ولكن يا ابن عم، أنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك، وليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالا واستطلاعا، فسلم لأبي بكر هذا الأمر، فإنك تعيش ويطل بك بقاء فأنها سوف تأتيك».

ورفض «على» هذا المنطق قائلا: «يا معشر المهاجرين.. لا تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره» وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأننا اهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، الدافع عنهم الأمور السيئة، والقاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بُعدًا».

سمعه شيخ كبير من الأنصار فقال: «لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا على قبل بيعتنا لأبي بكر ما اختلفت عليك».

ترك «على» الاجتماع غاضبًا، وذهب الى فاطمة فخرج بها من دارها وحملها على دابة ليلا، وأخذ يطوف بها مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به».

وكان «على» يرد بغضب متسائلا «أفكنت أدع لرسول الله» صلى الله عليه وسلم «فى بيته لا أدفنه واخرج أنازع الناس سلطانه!»

انتهز أبو سفيان فرصة الخلاف.. ويبدو أنه أراد أن يزيد النار اشتعالا فانحاز إلى جانب «على» قائلا: والله انى لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان أين الأذلان على والعباس!

وتصدى له «على» فاهمًا مقصده قائلا: «إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك طالما عاديت الإسلام وأهله».

لم تكن معركة اختيار خليفة رسول الله سهلة، والإسلام في عنفوانه ونقائه وصحابة رسول الله على قيد الحياة، وأبو بكر واحد من كبار الصحابة وأكثرهم ورعًا وتقوى، وهو والد أحب زوجات رسول الله إلى نفسه، وأول الرجال المسلمين، رجل بهذه الصفات لم يكن يستدعى أى خلاف وأي تنازع ولكن للسياسة والسلطة ملابساتها.

لم يكن الاختلاف حول أمور الدين، بل كان الخلاف على الحكم وهو أمر من أمور الدنيا، وعلى الإمارة، والوزارة وهى من أمور الدنيا ولابد أن نشير هنا إلى أن الخلاف في ذلك الوقت المبكر كان فى مجمله حضاريًا حتى بمفاهيم زمننا المعاصر.

وتوفى أبو بكر في أغسطس سنة ٦٣٤، وعمره ثلاثة وستون عامًا، وأقام عمر الصلاة عليه، ودُفن إلى جانب النبى صلى الله عليه وسلم...

ويصف الإمام السيوطى وفاة الخليفة أبو بكر الصديق قائلا «إن أبو بكر والحارث بن كلدة، كانا يأكلان خريرة أهديت لأبى بكر، فقال الحارث لأبي بكر: ارفع يدك يا خليفة رسول الله والله إن فيها لسم سنة، وأنا وأنت نموت في يوم واحد، فرفع يده، ولا زالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انتهاء السنة»..

وقيل أن اليهود هم الذين وضعوا له السم.. ولأسباب سياسية أيضًا، وكانت معركة استخلاف أبو بكر هي المعركة السياسية الأولى بعد انتقال رسول الله بداية انقسامات ظلت كامنة لفترة، ولكنها سرعان ما تفجرت في مراحل تالية..

صورة من المقال:



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.