عفوًا.. جنود من عسل
بقلم: عبد الله إمام
الجمهورية الخميس 8 نوفمبر 2001م - 22 شعبان 1422هـ
السياسة التي نادى بها ميكافيللى واشتهر بها منذ القرن الخامس عشر ووضعها فى كتابه الأمير أشهر الكتب فى تدريب الحكام على أن الغاية تبرر الوسيلة، وأنه على الحاكم إلا يلتزم بالشرف والأخلاق.. هذه السياسة طبقها معاوية فعلا، ووضعها في التنفيذ قبل ميكافيللي بقرون..
معاوية واحد من دهاة العرب.. وصفه عمر بن الخطاب بأنه كسرى، وقال عنه الرسول «لا أشبع الله بطنه»..
ويبدو أن الإسلام لم يكن استقر فى عقله ووجدانه على نحو ما حدث لصحابة رسول الله حتى أنه سأل النبى «ص» بعد أن أسلم «بأى شيء غلبتني يا محمد» ورد عليه «بالله.. غلبتك يا أبا سفيان»..
قاد أبو سفيان الحروب ضد النبى، وضد الإسلام، وكان صاحب القوافل القادمة من الشام والتى وقعت بسببها غزوة بدر، وكان جده رئيس الجيش النافر لحماية قريش.. أبوه صاحب العير، وجده صاحب النفير الذي يضرب به المثل «لا في العير ولا في النفير».
وقد أسلم هو وأبوه وأخوه وأمه هند يوم فتح مكة.. وكرمهم الرسول فقال «من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن»، ومع ذلك ظل المسلمون لا يرتاحون له فلا يقتربون منه، فلا هم يجالسونه ولا هم يصادقونه..
ابتسمت الدنيا لمعاوية بعد تولى عثمان، وأقام إمبراطورية بني أمية التي حكمت وتحكمت أكثر من تسعين عامًا حكم خلالها أربعة عشر خليفة وتوسعت في عهدها الفتوحات، وامتدت الدولة، ودخلتها أبهة الملك، وسطوته وعرفت التعقيدات والبروتوكولات والمراسم الملكية، وأقام معاوية حرسًا خاصًا، وبنى لنفسه مقصورة داخل المسجد يصلى فيها وحده، ويقف حارسان على رأسه فى ايديهما السيوف حتى لا يحدث له ما وقع «لعلى بن أبي طالب» من قتل وهو يصلى..
واشتهر معاوية الى جانب الدهاء بالعنف في الخصومة، والسخاء في شراء الأنصار حتى كون حزبًا من المستفيدين به والمنتفعين بوجوده.
واشترى عددًا من الضياع، وجعلها خالصة لنفسه، وأقطعها أهل بيته وخاصته وشيد لنفسه القصور في جميع الولايات الإسلامية.
وجعل معاوية خطبة الجمعة قبل الصلاة لأول مرة، ومازالت حتى اليوم، وكانت من قبل بعد الصلاة، ولكنه لاحظ أن الناس إذا صلوا انصرفوا لئلا يسمعوا السب والقذف فى حق «على»، لذلك قدم الخطبة على الصلاة..
بدأ معاوية تأسيس هذه الإمبراطورية بعد أن اتخذ من مقتل عثمان وسيلة لتدعيم نفوذه، واستقرار حكمه، ومحاربة أعدائه، ومد سطوته بالمال أحيانًا وبالسيف فى كثير من الأحيان، ورغم توسع الفتوحات الإسلامية في عصره فلم تكن لديه قيمة للبشر، وكان إنهاء حياة الإنسان عنده من أبسط الأمور..
وقد بايعته المدينة ومكة واليمن باستخدام أبشع الأساليب وأكثرها بعدًا عن الدين والأخلاق، بسبب السياسة فقد بعث إلى اليمن جيشًا من ثلاثة آلاف رجل على رأسه «بن أرطأه» وأوصاه وهو فى طريقه أن يمر بالمدينة فينهب كل ما يقدر عليه، ويخيف سكانها حتى يبايعوه، وفي طريقه قتل «خلقًا» كثيرًا فى المدينة «ما تركت مُحتلمًا إلا قتلته» وهكذا بايعه أهل المدينة... واتجه إلى مكة.. وبايعته بنفس الطريقة.. ثم ذهب الى اليمن وقتل أيضًا «خلقًا كثيرًا وكلما سمع عن شخص يؤيد على بن أبى طالب قتله.. وفر حاكم اليمن، وجاء حاكم جديد قتله «بن أرطأه» وقتل ابنه، وقابل عبد الله بن العباس فذبح طفلين له، وأصيبت أمهما بالجنون..
وسبي لأول مرة النساء المسلمات، وباعهن فى السوق فيما سمى «يوم العورة» لأنه أجلس النساء المسلمات فى السوق كاشفات سيقانهن..
وكانت لمعاوية وسيلة شهيرة اعتمدها أسلوبًا أساسيًا للقتل، وهي القتل بوضع السم فى العسل.. وإعطائه لمن يريد التخلص منه ليتناوله حتى وهو جالس معه.. قتل العشرات بل والمئات عن طريق إطعامهم جرعات العسل المسموم، وكان لديه طبيب متخصص فى صنع خلطة السم في العسل، وكان يقول «إن الله بعث لنا جنودًا من عسل» إذ اعتمد فى القتل على جنود العسل بشكل أساسى للتخلص من أعدائه السياسيين، ومع أنه لم يهمل الوسائل الأخرى في إزهاق أرواح المسلمين..
تتبع معاوية بعد أن دانت له السلطة كل من حامت حولهم الشبهات بقتل عثمان أنصار - على وشيعته - فقتلهم جميعًا بطريقة وحشية بعيدة عن كل إنسانية.. ولم يكن الهدف قتلة عثمان والمشتبه فيهم بقدر ما كان القضاء على معارضيه السياسيين، وتعقب المشايعين لعلى بن أبي طالب..
كان عمرو الخزاعي أحد أربعة دخلوا الدار على عثمان ثم شايع «على» وحضر معاركه «الجمل وصفين والنهروان»، ثم هرب من معاوية بعد مقتل «على» حيث اختفى فى دار قرب الموصل، فأرسل معاوية إلى الوالي أن يبحث عنه ليقتله، وبعد البحث وجده الوالى ميتًا في الغار بعد أن لدغته حية فلم يسكت ولكنه قطع رأسه وهو ميت وأرسلها إلى معاوية، وكانت هذه أول رأس مقتولة تُسافر آلاف الأميال إلى حيث الخليفة.. فقد حقق سبقًا إجراميًا كان الأول فيه.. وكان معاوية قد ألقى القبض أيضًا على زوجة «عمرو الخزاعي» وهى «آمنة بنت الشريد» وحبسها فى سجن دمشق كرهينة حتى يظهر زوجها، فلما جاءته رأس زوجها ألقى بها في حجرها «فارتاعت لذلك ثم وضعته في حجرها، ووضعت يدها على جبينه ولثمت فاه وقالت» غيبتموه عنى طويلا ثم أهديتموه إلى قتيلا! وهكذا كان صاحب سبق فهو أيضًا.. أول حاكم يأخذ رهينة من أسرة شخص مطلوب حتى يسلم نفسه أو يقبض عليه، وكان أول حاكم حبس النساء بسبب ممارسات أزواجهن..
وليست هناك قسوة أكثر مما اتبعه معاوية نفسه مع الثلاثة الآخرين الذين عارضوه وشايعوا «على» وقيل أنهم اشتركوا في قتل عثمان..
كان «على» قد اختار «الأشتر» لولاية مصر، وعرف معاوية أنه سوف يصعب عليه بشراء هذا الحاكم الجديد أسوة بما اتبعه مع الحكام الذين اشتراهم من قبل، فأرسل إليه أحد رجاله بعد أن وعده إذا كفيتنى «الأشتر» لن آخذ منك خراجًا ما بقيت أنت وبقيت أنا.
ذهب الرجل الى «الأشتر»، وهو فى طريقه الى مصر، استطاع أن يدس له السم ويقتله.. وعين «على» بدلا منه محمد بن أبى بكر الصديق، فلم يرحمه معاوية هو الآخر وقتله بوحشية مُقززه لا يتصورها أحد.. فلم يشفع له أنه أنكر قتل عثمان ولم يشفع له أنه ابن أول خليفة للمسلمين، وأنه شقيق عائشة زوجة الرسول.. وكان «على» قد ولاه على مصر، فأرسل جيشه لمحاربته حتى ظفر به وقتله، وذبح حمارًا وشق جوفه، ووضعه فيه، ثم أوقد نارًا في الحمار المقتول والجثة بداخله.. لقد أحرق جثمان ابن الخليفة الأول في جوف حمار ميت.... أى ابتعاد عن الإنسانية.. هذا؟؟
امتد القتل بمعاوية من الذين يعارضونه، أو يهددون سلطته إلى الذين يعارضون ظلم الحكام الذين وضعهم على رأس الولايات، وأصبحوا رجاله وجزءًا من منظومة حكمه، أو الذين يتحدثون عن «على» بالخير أو يرفضون شتمه، فعندما اعترض «حجر بن عدى» على سياسة زياد بن ابيه والى الكوفة ورفض سب «على» ألقى القبض عليه، وبعث به إلى معاوية ومعه أربعة عشر رجلا في سلاسل من حديد، يحرسهم مائة جندي، وعرض عليهم معاوية أن يتبرأوا من «على» فرفضوا فحفرت لهم قبور أمام أعينهم، وحامل السيف يطيح برؤسهم فردًا فردًا من بينهم «حجر»..
وكان «حجر» صحابيا جليلا حتى أن السيدة عائشة عاتبت معاوية على قتله.. وكان أحد رجال معاوية قد اعترض على قتلهم، ونصحه بوسيلة أفضل «أن يتركهم فى السجن حتى يلحقهم الطاعون».. أى أن يقتلهم بطريقة أخرى غير السيف والسم..
ويقال إن معاوية عندما كان يعانى سكرات الموت كان يردد «ويل لى من حجر وأصحابه»، وكان حجر قد طلب الصلاة وقال «أنا لم اجزع وأنا أرى سيفًا مشهورًا، وكفنًا منشورًا، وقبرًا محفورًا».
كان عبد الرحمن بن عديس قائد الذين قدموا من مصر لحصار عثمان، وواحدًا من الذين حضروا بيعة الرضوان تحت الشجرة، الذين لا يجوز قتلهم لأن الله رضى عنهم، ونزلت فيهم الآية الكريمة «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة»..
وكان معاوية قد ألقى القبض عليه وسجنه في «الخليل» بفلسطين، واستطاع الهرب من السجن، ولكن رجال معاوية لحقوا به في الطريق وأمسكوه، ولما هم واحد منهم بقتله، قال له «ويحك.. اتق الله في دمي فإني من أصحاب الشجرة ورد عليه القاتل بسخرية «الشجرة.. بالخليل كثير من الشجر».. و.. و.. وقتله.. وعندما وقف في المسجد في دهاء ليُمهد لولاية ابنه يزيد ويُعلن مُدعيًا أنه يبحث عمن يحل مكانه خطب يقول: «كبرت سنى وقرب أجلى وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظامًا لكم».. اتجهت أنظار الناس إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والى حمص، فقد نهض بالإقليم وهو أيضًا محبوب، وقبل ذلك فإنه صاحب تاريخ.. لأنه ابن خالد بن الوليد سيف الله المسلول وخاف منه معاوية، وظن أن الناس سوف يبايعونه، وأنه مُنافس قوى لابنه يزيد لذلك قرر التخلص منه.. فدس عليه من سقاه سما.. فمات ضمن المئات الذين قتلهم.. لما مرض معاوية.. مرض الموت أوصى ابنه يزيد قائلا أنظر إلى أهل الحجاز، منهم أصلك وعترتك فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عندك فتعاهده وأنظر أهل العراق، فإن سألوك عزل عامل فى كل يوم فاعزله، فإن عزل عامل واحد أهون من سل مائة ألف سيف، لا تدرى على من تكون الدائرة، ثم أنظر الى أهل الشام فاجعلهم الشعار لا الدثار لست أخاف عليك إلا ثلاثة الحسين بن على، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر..
ومات معاوية وعمره 77 عاما في شهر رجب سنة ٦٠ هجرية بعد حكم ما يقرب من عشرين عاما حج فيها مرتين فقط.. واتبع يزيد وصايا أبيه بالضبط..
صورة من المقال:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.