عفوًا.. وضاعت الهدنة المستحيلة
بقلم: عبد الله إمام
الجمهورية الخميس 15 نوفمبر 2001م - ٢٩ شعبان ١٤٢2هـ
وفي قسوة بالغة، بعد دفن أمير المؤمنين «على» فى الكوفة، قام عبد الله بن جعفر بقطع يدى القاتل ورجليه، وفقأ عينيه قبل أن يحرقوه..
وكان «على» قد أوصى بأن «يقتلوا قتلته»، ولا يعتدوا فالله لا يحب المعتدين ولكنهم لم يتبعوا وصية «على»، فقد غلبت عندهم شهوة الانتقام على منطق العقل والحكمة.
لقد دفع القتل السياسي إلى مزيد من القتل وحتى الآن ومنذ وفاة الرسول الكريم فإن آلاف المسلمين سقطوا قتلى وجرحى في حروب صغيرة وكبيرة دفعوا إليها بسبب النزاع على السلطة أو الخلافة حيث لم يرد في الإسلام نظام معين للحكم..
وكان «أبوبكر» قد سمى بخليفة رسول الله وأمر «عمر» ان تستبدل كلمة «خليفة» بعبارة أمير المؤمنين، وليس خليفة.. خليفة.. رسول الله.
لم يكن أمام أهل الكوفة بعد مقتل «على» سوى أن يبايعوا ابنه «الحسن» الذي قال عنه النبى «صلى الله عليه وسلم» «اللهم انى أحبه.. فأحبه» ووصفه هو وأخيه الحسين بأنهما «ريحانتاى من الدنيا وأنهما سيدا شباب أهل الجنة»، وعندما سئل النبى أى أهل بيتك أحب إليك قال: «الحسن والحسين».
لم يعرض الحسن نفسه على الناس ولم يطلب بيعتهم، وإنما دعا إلى هذه البيعة قيس بن سعد بن عبادة فبكى الناس واستجابوا وأخرج الحسن فأجلس للبيعة واشترط على الناس أن يسمعوا ويطيعوا ويحاربوا من حارب ويسالموا من سالم فلما سمع الناس منه تكراره لأمر السلم ارتابوا وظنوا انه يريد الصلح وقال بعضهم لبعض: «ليس هذا لكم بصاحب.. وانما هو صاحب صلح وقد مكث الحسن بعد البيعة حوالي شهرين لا يذكر الحرب ولا يظهر استعدادًا لها حتى ألح عليه رجاله أن يواصل ما كان فيه أبوه فنهض للحرب، وانضم إليه اثنا عشر ألفًا من الجند، وعندما اقتحم بعض الجند على الحسن خيمته وعنفوه على تردده طعنه رجل فلم يقتله ولما شفى من جرحه وتعجل السلم وعاد إلى الكوفة فاستقبل سفراء معاوية الذين أعطوه كل ما أراد..
وكان الحسن حليمًا وقورًا.. حج خمسة وعشرين مرة، عف اللسان، لم يقل فحشًا، ولم يرد حتى على مسبة، لكنه كان كثير الطلاق حتى قال أبوه «على»: يا أهل الكوفة لا تزوجوا الحسن فإنه رجل مطلاق، وقالت المصادر التاريخية إنه تزوج تسعين امرأة.
لقد تولى «الخلافة».. والنزاع ساخن فالحرب مشتعلة، وجيوش معاوية قوية، وحقنًا للدماء تفاوض مع معاوية.. على ألا يسب أباه «عليا» وأن يسدد ديونه، ويعطيه ما في بيت مال الكوفة، على أن تكون الخلافة له بعد معاوية أو تكون شورى بين المسلمين جميعًا.
وهكذا تنازل عن السلطة بإرادته، وخلع نفسه، بعد ستة شهور من خلافته ووقع اتفاقًا مكتوبًا، فقد أعطى معاوية ابن أخته طومارا «ورقًا» ختم في أسفله، وقال له اكتب ما شئت فجاء عبد الله بن الحارث بهذا التفويض إلى الحسن فكتب فيه الحسن: «هذا ما صالح عليه الحسن بن على معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيها بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين، وعلى أنه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده، وأن يكون الأمر شورى والناس آمنين حيث كانوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، وعلى ألا يبغى الحسن بن على غائلة سرًا ولا علانية، ولا يخيف أحد من أصحابه.. وشهد على الاتفاق عبد الله بن الحارث وعمرو بن سلمة»، وفى المسجد كان اجتماع لإعلان الاتفاق ومبايعة الحسن لمعاوية قال عمرو بن العاص لمعاوية لتأمر الحسن ليخطب فى الناس ويعلن مبايعته»..
خاف معاوية من تأثير الحسن فى الناس إذا تكلم فرد على عمرو: «لا حاجة لذلك» فقال له عمرو: «ولكني أريد ذلك ليبدو عجزه فإنه لا يدرى هذه الأمور» كان يتصور أن الحسن غير قادر على مخاطبة الناس، ولكن ما حدث هو العكس، وقال معاوية «قم يا حسن وكلم الناس بما جرى بيننا»..
وصعد «الحسن» إلى المنبر ليعلن «لقد كانت لى فى رقبتكم بيعة، تحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت وقد سالمت معاوية، وبايعته فبايعوه».
سمع معاوية بيعته على الملأ، وترك العراق مطمئنًا أن الأمور قد استتبت وعاد إلى الشام.. كان هذا الصلح بمثابة هدنة ابتهج بها أنصار معاوية حتى أطلقوا اسم عام الجماعة على تلك السنة التي وقعت فيها حيث توحد المسلمون، وتصالح المتقاتلون على مقعد الرئاسة فى الدولة الإسلامية، ولكن الحسن وشيعة «على» لم يرضوا على تصرفه، فلم يقبلوا منه المبايعة، ولا الصلح ولا الهدنة، واعتبروها عارًا عليهم، وبينما رفض أنصار الحسن هذا الصلح واثقين أنه صلح مستحيل فهم لا يقبلون معاوية، ولا يحبونه، ولا يثقون فيه، وقد تحمل الحسن الكثير من كلمات اللوم والتقريع بسبب هذا الاتفاق وبدأ بعض أنصاره ينفضون من حوله، وكانوا يقولون له «يا عار المؤمنين» ويرد عليهم «العار خير من النار» وقال له واحد منهم « يا مذل المؤمنين «فرد عليه» والله لأن تذلوا وتعانوا أحب إلى من أن تغزوا وتقتلوا».
كان معاوية أيضًا بعيد النظر فوقع اتفاقًا يعرف جيدًا أنه لن ينفذه.. فلن يسمح أبدًا لأحد من أسرة «على» أن يكون أميرًا للمؤمنين أو أن تخرج الامارة من «بني أمية».
وتمضى السياسة في طريقها بعيدًا عن الدين، بل وعن كل القيم، وينقض معاوية الهدنة بطريقة علنية ولكنها ملتوية.
لقد تعهد ضمنيًا وشفويًا أن يترك الإمامة من بعده إلى الحسن.. ووافق الحسن ولأنه صغير السن.. فتصور أنه سوف يأتى عليه الدور ليحل مكان معاوية، وفقًا لهذا الاتفاق ولشروط الصلح، وبذلك تصور الحسن ان تعود الخلافة إلى بيت النبوة، وإلى أبناء «على بن أبي طالب».
وكان معاوية قد أطلق الضوء الأخضر للنيل من «على» ونهش سيرته ومتابعة اتباعه ومقاتلة أنصاره، وأعطى تعليماته إلى المساجد بأن يسب «على» في خطب الأئمة، وبدأت المنابر تشتم «عليًا» ما وسعها إلى ذلك سبيلا، لم تكن هذه الحملة دينية بل سياسية، ولم تكن الاعتراضات فقهية بل سياسية، وسب وقذف علنى بمفهوم هذه الأيام.
وفكر «معاوية» أن يتخلص من الأمر كله.. فيقضي نهائيًا على «الحسن» بعد أن وقف على المنبر ليبايعه، ويتنازل له عن الزعامة، وطائعًا مختارًا ووقع معه اتفاقًا بين بنوده ألا يسب «على» ولا أسرته، وأن يترك للمسلمين بعده حق الاختيار، وتحمل فى سبيل ذلك نقدًا وسخط اتباعه، بل ان الحسن ترك «الكوفة» وعاد ليقيم فى المدينة المنورة وهو شبه معتزل للسياسة.
دبر معاوية مؤامرة ليختفى الحسن نهائيًا من الصورة فإن مجرد وجوده يؤرقه لذلك قرر أن يقتله، واستطاع ان يتفق مع إحدى زوجاته «جعدة بنت الأشعت» على قتله بأن تدس له السم، وقال لها ثمن قتل الحسن مائة ألف درهم، وزواجك من ابنى يزيد وكان يستعد ليوليه الحكم.. والزوجة التي وقع الاختيار عليها كان أبوها قد ارتد عن الإسلام بعد وفاة النبي، وكان بعد ذلك ممن ألزموا «عليًا» بقبول التحكيم، ثم وقف إلى جانب «على» وكانت ابنته ذات تطلعات إلى أن تكون زوجة لولى العهد.. الحاكم الذي سيأتي ويخلف معاوية في السلطة..
كان الاختيار مدروسًا بعناية.. وكان الطلب للتخلص من «الحسن» ضروريًا، فإن أى شخص من بني أمية لن يصبح أبدا وليًا للعهد دون متاعب، والحسن على قيد الحياة، ليس لأن معاوية قد التزم ولا لأنه وقع اتفاقًا مكتوبًا مع الحسن بأن يجعل الأمر من بعده شورى ولكن لأن المسلمين لن يوافقوا على أن يبايعوا أى أحد ويتركوا الحسن.. ولم يكن الحسين قد ظهر في الصورة بعد.. ووضعت «جعدة» السم لزوجها لمدة أربعين يومًا بطريقة مدروسة تضمن القضاء عليه دون أن تظهر حتى أنه قال «سقيت السم ثلاث مرات ولم أسق مثل هذه.. اني لأضع كبدى».. بعد مقتل «الحسن» طالبت الزوجة القاتلة معاوية بالثمن وفقًا للاتفاق فدفع لها المال، ورفض أن يزوجها من ابنه يزيد «لأننا لم نرضاك للحسن، فهل نرضاك ليزيد»، «وانى لأضن بيزيد».
كان واضحًا انه لن يأمن أن يزوج ابنه من امرأة قاتلة قتلت زوجها بالمال فلا ضمان أن تكرره مع يزيد، ويقول الإمام الدينورى «فلما كانت سنة احدى وخمسين مرض الحسن بن على مرضه الذي مات فيه فأرسل عامل المدينة يخبره بشكاية الحسن، فرد عليه معاوية «إن استطعت ألا يمضى يوم يمر بي إلا أن يأتينى خبره فافعل» فلم يزل يكتب إليه بحاله حتى توفى فكتب إليه بذلك، فلما أتاه الخبر أظهر فرحًا وسرورًا حتى سجد وسجد من كان معه، ولما سمع ذلك عبد الله بن عباس وكان بالشام دخل على معاوية، فلما جلس قال معاوية مبتهجًا «يا ابن عباس هلك الحسن بن على».
وربما تأكد الحسن بأن معاوية هو الذى وراء قتله بالسم، ولكنه - وكان شديد التسامح - لم يشأ أن تشتعل حرب بين شيعته ورجاله وبين معاوية فعندما سأله أخوه الحسين «من سقاك يا أخى» رد عليه «لم سؤالك هذا، اتريد أن تقاتلهم.. اتركهم إلى الله عز وجل».
«ويا أخي إذا مت فأطلب إلى عائشة أن أدفن مع النبي، فإذا قبلت فادفني في بيتها، وما أظن القوم إلا سيمنعوك، فإن فعلوا فلا تراجعهم في ذلك، وادفني في بقيع الغرقد».
ورفض بنو أمية ان يُدفن الحسن على مقربة من جده رسول الله، وأقام نساء بنى هاشم عليه النواح شهرًا، ولبسوا الحداد عليه سنة، ولما علمت عائشة خرجت معترضة، وركبت بغلة شهباء وقالت بيتى لا أذن فيه لأحد، فأتا القاسم بن محمد بن أبى بكر فقال لها: يا عمة.. ما غسلنا رءوسنا من يوم الجمل الأحمر، وأتريدين ان يقال يوم البغلة الشهباء؟.. فرجعت.
لم يكن القتل أبدًا من الإسلام.. لكنه بسبب التنازع على مقعد السلطة، وقعت كل هذه الجرائم. وهكذا فإن تحويل الدين إلى سياسة أدى إلى جرائم كثيرة من قبل.. ومن بعد..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.