عفوًا.. المبايعة لأمير مجهول
بقلم: عبد الله إمام
الجمهورية الخميس 3 يناير 2002م - 19 شوال 1422هـ
خلافة رسول الله والتي تحولت في عهد الأمويين إلى ملكية وراثية احتفظت بشكل مبايعة المسلمين للخليفة الجديد، وقضت على مضمونها، فقد أهدرت حق الناس فى أن يختاروا أو حتى يكون لهم رأى.. فما لبث أن أصبحت البيعة بلا فائدة فكان أمير المؤمنين يطلب البيعة فى حياته لمن يخلفه وغالبًا يكون ابنه وقليلا ما يكون أخاه ثم بدأ يُوصى لمن بعده ولمن بعد بعده.. يعين من بعده اثنين من أمراء وأحيانًا ثلاثة وغالبًا ما كانوا يختلفون بعد وفاته ويتقاتلون أو يقوم واحد منهم بتغيير «الوصية» بحيث يرشح ابنه بدلا من أخيه.. أو أخاه المقرب منه بدلا من أخيه الآخر.. ثم أخذت البيعة لصغار السن أو للبعض من الذين انحرفوا بسلوكياتهم عن الإسلام..
هذه البيعة الشكلية كانت تؤخذ بالسيف أو بالذهب.. لشخص يعرفه الناس أو يسمعون به.. ثم جاءت فترة كانت تؤخذ البيعة للمجهول دون أن يعرف الناس من هو الشخص الذي يبايعونه.. ومن الغريب أن هذه الطريقة اتبعت مع أكثر الخلفاء عدلا ونزاهة والذى ترك علامة بارزة فى التاريخ الإسلامى بسيرته وتقواه وسعة أفقه وهو الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي بايعه الناس بالمصادفة رغم الإجماع على صفاته الحميدة وبأن الخلفاء ثلاثة هم «أبو بكر والعمران» عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز..
كان سليمان بن عبد الملك من خيار ملوك بني أمية تولى بعد أن أخذ له البيعة بعهد من أبيه بعد أخيه وكان فصيحًا نهى عن الغناء وأحيا الصلاة في مواعيدها وكان مُحبًا للطعام فأكل في مجلس واحد سبعين رمانة وخروفا وست دجاجات ومكوك من زبيب الطائف وكان سليمان مُختالا مُعجبًا بنفسه بجماله وشبابه يكثر من الوقوف أمام المرأة مُمتدحًا حسن هيئته مُرددًا «أن عمر كان فاروقا وعثمان كان حييا، والوليد جبارًا، وأنا الملك الشاب»..
كان عبد الملك بن مروان قد أوصى بالخلافة لولديه الوليد وسليمان وأخذ لهما البيعة وقد أراد الوليد أن يخلع أخاه سليمان ويولى ابنه فاعترض عمر بن عبد العزيز قائلًا «أن لسليمان في عنقنا بيعة» فحفظها له سليمان بعد أن تولى وجعله وزيرًا له..
وكان عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة فترك فيها من الأعمال الجليلة مازال عالقًا بذاكرة التاريخ وكان قد عزل عمال الحجاج بن يوسف الثقفى وأخرج من كان فى السجن ببغداد وأحيا الصلاة في مواعيدها وكان بنو أمية أماتوها بالتأخير..
عندما عزم سليمان أن يبايع لابنه الطفل نصحه رجاله أن يبايع لعمر بن عبد العزيز ثم بعده ابنه حتى يكون قد كبر واستحسن الفكرة فعمر شخصية لا خلاف عليها وله دين فى عنقه ولكنه خاف أن يرفض أخوته الذين كانوا يتطلعون الى توليه هذه الإمارة.. وقرر أن يجعل اختياره لعمر بن عبد العزيز مفاجأة لا يعرف عنها أحد شيئًا إلا بعد أن يموت وطلب قرطاسًا وكتب فيه العهد ودفعه إلى رجاء بن حيوة وقال له أخرج إلى الناس فيبايعوا على ما فيه مختومًا فخرج وقال للناس إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب، قالوا ومن فيه؟ أجابهم أنه مختوم ولا تخبروا بمن فيه حتى يموت قالوا: لا نبايع فقال: له أمير المؤمنين انطلق الى صاحب الشرطة والحرس فاجمع الناس وأمرهم بالبيعة فمن أبى فاضرب عنقه.
وخاف الناس فبايعوا من فى الورقة دون أن يعرفوه.
ويروى رجاء بن حيوة الذى حمل رسالة أمير المؤمنين في خطاب مغلق الموقف قائلًا: انه استدعى كعب بن حامد العبسى رئيس الشرطة «وأرسلت ليجتمع أهل بيت أمير المؤمنين فاجتمعوا في مسجد دابق فقلت لهم: بايعوا قالوا: قد بايعنا مرة أنبايع أخرى فقلت لهم: هذه رغبة أمير المؤمنين فبايعوا على من عُهد إليه فى هذا الكتاب المختوم.. فبايعوا رجلا رجلا فلما بايعوا رأيت أنى قد أحكمت الأمر فقلت لهم ان الخليفة مات.. ومضيت أقرأ عليهم الكتاب».
وعندما علم عمر بن عبد العزيز بمبايعته أصابه الوجوم وقال «لقد صارت إلى وأنا كاره لها ثم صعد المنبر وقال «لقد ابتليت بهذا الأمر على غير رأى منى فيه وعلى غير مشورة من المسلمين وانى أخلع بيعة من يباعينى فاختاروا لأنفسكم..» واهتز المسجد من كلمات ترددت دون نفاق «اياك نختار يا أمير
المؤمنين»..
واندفعت الجموع نحو المسجد فى مهرجان حاشد يبايعون عمر بينما كان الرجل يجهش بالبكاء..
كان اختيارا صائبًا لما كان قد اشتهر عن عمر من تقوى وعدل وصلاح ولكن المسألة كانت تشير الى أن المبايعة تمت فى البداية على «بياض» فقد بايع الناس رجلا لم يعرفوا من هو.. لا اسمه ولا شكله ولا ملامحه..
سلموا بالخلافة لعمر بن عبد العزيز ولم يكن يطمع فيها وجاءوا اليه بالجياد المزركشة التي تُوحى بعظمة السلطة فرفضها وركب دابته وانصرف مع الناس.. ونزل في منزله وبدأ مرحلة من العدل والتقشف فقد كان دخله قبل الخلافة أربعين ألف دينار تركها ولم يبق له سوى أربعمائة فى السنة وتولى الإمارة وهو من الأثرياء ومات فقيرًا وكان يرتدى القميص بمائة دينار فتركه إلى قميص خشن بعشرة دنانير - أعلن أنه ضد نهب المال العام وصعد المنبر وقال للناس في خطبته «إنى لست بفارض ولكني منفذ ولست بمبتدع ولكني متبع وأن من حولكم الأمصار والمُدن إن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم وإن هم أبو افلست لكم بوال، ولست بخير من أحدكم ولكنى أكثركم حملًا»..
وقد وصف بأنه نجيب بني أمية وأنه يبعث يوم القيامة أمة وحدة وقد بدأ عدله بأسرته وأهل بيته فأخذ ما فى أيديهم واعتبر أموالهم مظالم وأنهم حصلوا عليها بطرق غير مشروعة فردوها إلى بيت المال..
ولما اشتهى التفاح وأهدى إليه رجل تفاحًا أعاده إليه بعد أن شمه قال: ما أطيب رائحته ارجعه يا غلام إلى الذي أرسله واشكره».. فقيل له كيف ترد هدية وقد قبل «النبى صلى الله عليه وسلم» الهدية فأجاب: إنها كانت للنبي هدية ولكنها اليوم لنا رشوة.. وذات مرة سخنوا له الماء فى المطبخ العام فاشترى حطبًا بدرهم وأرسله ثمنًا لتسخين المياه وبعث غلامه ليشوى له لحمًا فجاء به سريعًا وعرف أنه شواه فى المطبخ العام للمسلمين فرفض أن يأكل اللحم وتركه للغلام لأنه لم يرد أن يأكل لحما تم شواؤه بأموال المسلمين..
أقام عمر بن عبد العزيز العدل بين المسلمين وغير المسلمين فكان يصرف لفقراء غير المسلمين من بيت مال المسلمين ما يكفيهم.
وقد كرهه بنو أمية لأنه شدد عليهم وانتزع من أيديهم كثيرًا مما اغتصبوه ولما طلبوا منه أن يرد عليهم ما انقطع عنهم قال لهم: لن يتسع مالي لكم وأما هذا المال فإن لكم فيه حقًا مثل سائر المسلمين.. فكما كان شديدًا على غيره كان شديدًا على نفسه فقررت العائلة التخلص منه بنفس الطريقة التي ابتكرها مؤسس الدولة الأموية للقضاء على الخصوم... فاستأجروا من يدس له السم. لأنه حرمهم امتيازاتهم التي حصلوا عليها نتيجة وضعهم السياسي كأسرة حاكمة وهكذا جاءوا بأحد العبيد واتفقوا معه أن يخلصهم منه بالقتل وهكذا اعطوه سما..
هذا الخليفة النموذج العادل كان مصيره القتل أيضًا لم ينج من ألاعيب السياسة عندما قضى على امتياز الأسرة الحاكمة.. فقد امتد القتل إلى داخل الأسرة هذه المرة ليس حفاظًا على مقعد السلطة ولكن لأنه قاوم الفساد حفاظًا على وضع متميز فى المجتمع وعلى أموال ينهبونها دون وجه حق..
وقال عمر «أنى أعلم الساعة التي سقيت فيها السم ونادى خادمه وقال له ويحك ما حملك أن تسقينى السم.. فقال: ألف دينار أعطيتها.. وأيضًا وعد أن أعتق إذا نفذت المهمة قال له: هاتها فجاء بالألف دينار استلمها منه عمر وبعث بها الى بيت المال وقال للغلام: اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك.. وأعتقه. وكان عمره تسع وثلاثين سنة ونصف السنة.
كان خلفاء بني أمية من الذين يشجعون التهجم على «ابن أبي طالب وأولاده» وجميعهم يعين من يخلفه كولي للعهد شذ عن هذه القاعدة عمر بن عبد العزيز الذي تولى إمارة المؤمنين ثلاثين شهرًا وترك من بعده أولاده وهم تسعة ذكور لم يوص لأحد منهم فقد أراد أن يعود الأمر إلى المسلمين ليختاروا من يولوه عليهم وفقا للأولويات التى وضعها الأمير من قبله.. وكان رافضًا لسياسة الأمويين ومما يُذكر له أنه أوقف اللعنات والشتائم والسباب الذى كان يوجه الى «على بن أبي طالب» وأسرته من فوق المنابر وجعل مكان مصطلحات الشتم كلمات مازالت تردد فى كل صلاة جمعة على منابر المساجد فى العالم الإسلامى كله هي «إن الله ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون» لتحل مكان ألفاظ سباب في «على بن أبي طالب» وأسرته يختم بها خطيب الجمعة خطبته..
تولى من بعده يزيد بن عبد الملك وفق عهد أخيه سليمان.. وكان كريمًا ولكنه سار على نهج عمر من العدل والنزاهة فقط أربعين يومًا ثم تراجع فلم يطق أن يطبق العدل وأن يكون متقشفًا أكثر من هذه الفترة البسيطة وخرج عليه يزيد بن المهلب فحاربه حتى قتل في كربلاء حتى قيل أن بني أمية ضحوا بالدين في كربلاء وضحوا بالكرم في كربلاء أيضًا... وتولى هشام بن عبد الملك إمارة المؤمنين وكان يكره الدماء ويرفض العنف...
كان عمر بن عبد العزيز إحدى العلامات البارزة فى العصر الأموى بل في تاريخ الإسلام ولكن القضية أنه جاء بالمصادفة.. وأن الناس بايعوه دون أن يعرفوا اسم الشخص الذي يبايعون له.. القضية هنا في نظام الحكم في الإسلام.. تأكيدًا على البيعة كانت بعد الخلافة الراشدة شكلية.. وهو درس للذين مازالوا يحلمون ويرون أن الخلافة هى النظام المعتمد للحكم في الإسلام وهم يعرفون أنها تحولت إلى مسألة شكلية وقضية صورية وأن الحاكم كان يفرض من يريد ويأخذ له بيعة شكلية.. وصورية لا قيمة لها في المفهوم الصحيح لاختيار أى قائد فضلًا عن أن يكون حاكمًا لدولة تنتمى إلى رسالة خاتم النبيين.
كان عمر بن عبد العزيز عظيمًا.. وأحد مظاهر عظمته أن كشف صورية نظام ما سمى خطأ «بالخلافة»..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.