عفوًا.. الماجن... والناقص... والحمار
بقلم: عبد الله إمام
الجمهورية الخميس 10 يناير 2002م - 26 شوال 1422هـ
وكانت التنظيمات السياسية المعارضة قد تكونت وبدأت تنشط، ويتوسع عملها، وتستقطب الأنصار فى وقت زادت فيه صراعات السلطة، واقتتال الخلفاء الأمويين..
وفقا للإمام السيوطى - كتاب تاريخ الخلفاء - أنه تولى الحكم يزيد بن عبد الملك «وهو الخليفة الفاسق أبو العباس».. وكان فاسقًا شريبًا للخمر منتهكًا حرمات الله، أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه وخرجوا عليه ولما قتل وقطع رأسه، وجيء به ليزيد الناقص فنصبه على رمح، فنظر إليه أخوه سليمان بن يزيد فقال: «بُعدًا.. له، أشهد أنه كان شروبًا للخمر، وماجنًا فاسقًا، ولقد راودنى عن نفسي». وقال له الناس: ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكن ننقم عليك انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر واستخفافك بأمر الله..
وقال المعافى الجريري، جمعت شيئًا من أخبار الوليد، ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من خرقة وسخافته، وما صرح به من الالحاد في القرآن والكفر بالله..
وقال الذهبي «لم يصح عن الوليد كفر، ولا زندقة، بل اشتهر بالخمر والتلوط فخرجوا عليه لذلك».. وقد ورد في مسند أحمد حديث «ليكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد لهو أشد على هذه الأمة من فرعون على قومه»..
ألقى القبض على أحد قادة المعارضة، وكان ذا مكانة عالية، وبعد أن عذبه أمر أن يباع فى الأسواق.. وخوفًا من غضب الناس من هذا التصرف الشاذ والثورة عليه قرر أن يقضى عليه مرة واحدة فيقتله..
وقرر المسلمون التخلص منه، وحاصروه، فنادى «ألم أحسن إليكم قالوا... نعم.. ولكنك عمدت الى شيخنا وسيدنا خالد بن عبد الله، وقد عزله الخليفة من قبلك، وأخذ أمواله، ثم افرج عنه، فدفعته أنت الى البيع، ثم عذب حتى قتل شر قتله، فقال الوليد «اخلعونى من الإمارة، وولوا من شئتم ورفضوا الموافقة على أن يُخلع، وأصروا على ضرورة قتله وقطع رأسه وذهبوا الى القصر وانتهى يزيد بن خالد إلى الباب وقد وضع عليه سلسلة، فأمر بها فكسرت وكسر الباب، وخرج الوليد يسعي، ثم دخل بيتًا من بيوت القصر، ودخل عليه نحو ثلاثين رجلا، وهو واقف وبيده السيف، مُنكسًا رأسه لا ينظر اليهم، فضربه رجل منهم ضربة قتلته فسقط على الأرض، ثم اتجه اليه فقطع رأسه، فخرج به وانصرف الناس.. فبايع الناس ليزيد بن الوليد بن عبد الملك.
وهكذا تخلص الناس من الخليفة الذي أساء إلى الدين وأساء استخدام السلطة على ما يروى ابن قتيبة الدينورى فى كتابه الإمامة والسياسة في سطر واحد.. فقتل.. ثم قطعت رأسه، ولم يهتز أحد لهذا الحدث الخطر، وكأن الأمر لا يهمهم.. أبو خالد بن الوليد بن عبد الملك الذى تولى بدلا من ابن عمه عن طريق الوثوب على الخلافة.. وبخفه الدم والروح وتسرية عن النفس كانوا يسمونه «يزيد الناقص» لأنه أنقص مرتبات الجنود.. ولم يمض في الخلافة إلا ستة شهور فقط.. أدخل فيها تقليد خروج الحاكم بالسلاح في العيدين، عندما خرج في صفين من الخيل يركب عليها المسلحون من باب الحصن إلى المصلي، وقال في خطبته والله ما خرجت بطرًا ولا طمعًا ولا حرصًا على الدنيا ولا رغبة فى الملك انى لظلوم، لنفسى إن لم يرحمني ربي ولكني خرجت عضبًا لله ولدينه، وداعيًا إلى كتابه وسنة نبيه، لقد استخرت الله في أمرى ودعوت من أجابنى من أهلى وأهل ولايتى ويقول الامام السيوطى «إن الله أراح منه البلاد والعباد».
وكان يقول يا بني أمية اياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وأنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، وإن كنتم فاعلين فجنبوه النساء»..
وبويع بالخلافة أخوه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك لمدة سبعين ليلة حتى خرج عليه مروان بن محمد فهرب وخلع نفسه، وبايع مروان حتى يحافظ على حياته.
وكان مروان الحمار، وآخر خلفاء بني أمية، وسمى بالحمار لأنه كان لا يجف له «لبد» في محاربة الخارجين عليه..
كان يصل السير بالسير، ويصبر على مكاره الحرب، وكان يقال في المثل فلان أصبر من حمار في الحروب، فلذلك لقب به، وقيل: لأن العرب تسمى كل مائة سنة حمارًا، فلما قارب ملك بني أمية مائة سنه لقبوا مروان بالحمار.
وكان مشهورا بالفروسية والإقدام والرجولة، والدهاء، والعسف، فلما قتل الوليد، وهو حاكم على أرميناية، وبلغه ذلك دعا الى بيعة من رضيه المسلمون فبايعوه، فلما بلغه موت يزيد أنفق الخزائن، وسار فحارب إبراهيم فهزمه، وبويع مروان.
وفي وحشية شديدة يقول السيوطى انه لما استوثق له الأمر، فأول ما فعل أمر بنبش يزيد الناقص فأخرجه من قبره.. وصلبه لكونه قتل الوليد..
ثم انه لم يتهن بالخلافة، لكثرة من خرج عليه من كل جانب إلى سنة اثنتين وثلاثين، فخرج عليه بنو العباس».
ووفقا للأمام السيوطى أنه: «لما قُتِل مروان الحمار قطع رأسه ووجه به الى عبد الله بن علي، فنظر إليه، وغفل، فجاءت، هرة فاقتلعت لسانه وجعلت تمضغه، فقال عبد الله بن علي: لو لم يرنا الدهر من عجائبه إلا لسان مروان في فم هرة لكفانا ذلك».
كان مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية الذى اشتهر عصرهم بأنه عصر القتل.. والاغتيال.. والاضطهاد لأهل بيت النبي، وقتل الكثير من أحفاد على بن أبي طالب...
ولم يمر الأمر سهلا، فبعد ١٤ خليفة أمويًا زالت دولة الأمويين، واختلف المؤرخون في أسباب نهايتها.. ولكنهم يتفقون جميعًا في ذكر المجازر الوحشية التى ارتكبها أغلب خلفائهم.. ليس بسبب الدين.. ولكن بسبب السياسة..
وقد رصد المسعودى - كتاب مروج الذهب - أسباب نهاية الأمويين فقال «سئل بعض شيوخ بني أمية عقب زوال الملك عنهم إلى بني عباس ما كان سبب زوال ملككم؟ فقال إنا شغلنا بلذاتنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا، فظلمنا رعايانا فيئسوا من إنصافنا، وتمنوا الراحة منا، وتحويل على أهل خراجنا فتخلوا عنا، وخربت ضياعنا، فخلت بيوت أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا، وأمضوا أمورًا دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا، فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعادينا فتظاهروا معهم على حربنا، وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا».
وكان نشاط الأحزاب السياسية السرية المعارضة قد بدأ يتزايد في مواجهة بني أمية، وكانت هذه الأحزاب قد بدأت منذ مقتل الامام الحسين وكان لها دور كبير فى انتهاء الدولة الاموية حيث رأوا أن محاربة بني أمية هو جهاد في سبيل الدين..
ويقول د. إبراهيم حسن - كتاب تاريخ الإسلام - إن معارضي بني أمية كانوا يستندون إلى سيرة يزيد الأول، ويزيد الثاني، والوليد الثاني من الخلفاء الأمويين ولا سيما ما كان منهم من هتك حرمة المدينة المنورة في عهد يزيد، واتخاذهم المقاصير لتحجب الرؤية عن الناس..
وكانت الإمامة - وهى القيادة العليا للمسلمين - أولى المسائل التي تهم بني أمية ومقرهم بلاد الشام، فهم أهل الدولة الإسلامية لذلك الحين لاجتماع أكثر المسلمين عليهم، خاصة بعد نزول الحسن عن الخلافة لمعاوية، وكانوا يزعمون أنهم الراشدون، وأنهم أصحاب الحق في الأخذ بثأر عثمان والمطالبة بدمه، وكان ينادون حكومة الأمويين، ويتفقون ضد أهل المدينة وهم انصار النبي، وحزب الشيعة وهم أنصار اهل البيت، وحزب الخوارج وهم الجمهوريون الذين يقومون باختيار الخلفاء من بين الأكفاء، فقد أثارت سياسة تولية العهد شخصين يلى أحدهما الآخر عوامل المنافسة، وغرست بذور الشقاق، ولم يكن الأمر يتم لأحد أبناء الخليفة حتى يعمل على إقصاء الآخر من ولاية العهد، وإحلال أحد أولاده مكانه، ومما زاد الحالة سوءًا أن النزاع امتد الى القواد ومسئولى الولايات، وقد بعث الأمويون روح العصبية التي حاول الإسلام أن يقضى عليها، ولما مات معاوية تفككت الوحدة العربية في بلاد الشام، ولما توفى عمر بن عبد العزيز، وفى عهد يزيد بن عبد الملك اشتعلت نيران العصبية بين عرب الشام وعرب الجنوب، وانحاز الخليفة لعرب الشمال، وقد انتهى الصراع بقتل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وقتل أهل بيته اليمنيين الذين كان دورهم هامًا ومؤثرًا فى الدولة، وكذلك آثار قتل خالد بن عبد الله العشرى والى العراق - وهو يمنى - في عهد هشام بن عبد الملك كراهية اليمنيين حتى اعتبره بعض المؤرخين من أقوى الأسباب التي عجلت بسقوط الدولة الأموية... سقطت الدولة الأموية التي قامت علميًا منذ تولى عثمان بن عفان، والتي خدمت الإسلام بما قدمته من فتوحات عظيمة ووسعت قاعدة الإسلام فأدخلت فى دين الله دولا وإمبراطوريات، كما أنها نشرت أيضًا الفساد، وقامت الدولة العباسية التى تنتسب الى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وظن المسلمون أنهم قد تخلصوا من الألاعيب السياسية، وأنهم سوف يتجهون إلى حكم يحافظ على نقاء الإسلام.... شورى صحيحة... تحافظ على الشريعة الغراء وعلى كرامة الانسان وحقوقه.. ولكنهم واجهوا سنوات صعبة وعصيبة، وبدأ عصر جديد من القتل السياسى والذبح الوحشي.
ونحن نسرد تاريخ الذين انحرفوا بالدين نحو السياسة، لا نسعى لجلد أنفسنا فلم ننفرد بهذه الممارسات القمعية والعنيفة.. فقد كانت أوروبا تشهد صراعات أشد عنفًا.. وقتالا أكثر وحشية.. وكانت الخلافات دينية قبل أن تكون صراعًا على السلطة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.