الاثنين، 24 مارس 2025

عفوًا.. دولة.. بحد السيف

عفوًا.. دولة.. بحد السيف

بقلم: عبد الله إمام

الجمهورية الخميس 24 يناير 2002م - 15 ذو القعدة 1422هـ


كان قد مضى ما يقرب من قرن ونصف القرن علي هجرة الرسول تولى خلالها أمر المسلمين الخلفاء الراشدون.. وامتدت في عهدهم الفتوحات الإسلامية.. حتى انتهت الخلافة الراشدة نهاية مأساوية.. وقامت دولة حكمت تحت شعارات إسلامية، وابتعدت في جوهرها عن الإسلام.. وكانت نهايتها مأساوية أيضا.. عندما ظهر في الأفق العباسيون أقرب الناس إلى الرسول... والعلويون سلالة على بن أبي طالب الذين ضعفت شوكتهم، وتمزقوا إثر المحن التي عاشوها طوال عهد الدولة الأموية..


وقد بدأت الدولة الأموية تضعف، وتخف قبضتها فى عهد عمر بن عبد العزيز فأخذت قوى المعارضة تتنفس، وسرعان ما تحركت، وتنظمت في خلايا سرية شديدة الدقة..

وقد اختارت هذه التنظيمات أن تبدأ في منطقة نائية بعيدة عن الأعين والمتابعة وهي خراسان، وقد استغلت حبها لأهل البيت عمومًا، وتشيعها لعلي، وهم يذكرون أن الحسين قد تزوج من فارسية هي إبنة آخر ملوك آل ساسان فهم بذلك يكونون من سلالة الرسول وآل ساسان معًا، وأنهم يعانون من الأمويين الذين فرقوا بين العرب وغيرهم من المسلمين على غير القاعدة الإسلامية أنه لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى..

وقد بدأ التنظيم السرى بالدعاة الذين كانوا يطوفون بالولايات الإسلامية متنكرين وراء أعمال التجارة، وكان لكل داعية اثنى عشر نقيبًا يختارهم بنفسه، ولكل واحد منهم مجموعة من الأتباع والمريدين يصل عددهم إلى سبعين فردًا.. وانتشرت مجموعات وخلايا المريدين في كل المناطق وكلما انكشف واحد منهم تكاتفوا بضمانته، وإبعاد الشبهة عنه، وسجن بعضهم وعذبوا، ولكنهم لم يبوحوا بسر التنظيم..

وسط هذا الاضطهاد ظهر دور أبو مسلم الخراساني في التعبئة والاتصال والتنظيم، وكانت الدولة الأموية فى أضعف حالاتها.. واستغل أبو مسلم كل هذه العوامل وأضاف إليها سعيه للتفريق بين القبائل العربية وتمزيق وحدتها واتخذت الدعوة الجديدة طابعًا مختلفًا، هو الحرب أو الاستعداد لها.. وابو مسلم فارسى من الرقيق شديد الذكاء، أعتق وانضم إلى العباسيين، ولعب دورًا هامًا حتى ذاع صيته، وسوف نري أن الدولة الجديدة قد وقعت في نفس خطأ الأمويين بطريقة عكسية، فقد قربت أيضًا جانبًا من المسلمين، وأبعدت الجانب الآخر.. هذه المرة تقرب الفرس، وتبعد العرب.. قد اعتمدت الدولة العباسية على الفرس دون العرب.. وإن كانت قد احتفظت بهم في الواجهة فقط وكان ذلك ذكاء من المخططين منذ البداية..

وقد ظل أمر الدولة العباسية سرًا، حتى ألقى القبض في عهد آخر الأمويين على رسول يحمل رسالة الى «أبى مسلم» من إبراهيم الإمام يطلب إليه أن يقتل كل من يتكلم العربية في خراسان، ولما علم إبراهيم أنه سوف يُقتل عهد إلى أخيه «أبا العباس» وأوصاه بمتابعة الدعوة..

تسلم أبو العباس الوصية في وقت كانت أقصى ما يصل إليه علم وتفكير بنى أمية أن الدعوة هى لأهل بيت النبي دون تحديد..

ويقول الشيخ الخضرى «إن هذه الدولة قامت باسم الدين والسلاح الذي استعمل فيها للتأثير في العقول هو إعادة الأمر لآل النبي محمد، ونزعه من آل مروان الذين وصفهم الداعون بما شاءوا من صفات النقص والبعد عن الدين.

«كان ذلك السلاح يصل إلى شغاف القلوب فيثيرها من مكمنها، خاصة وأن الكوفة وخراسان كانتا قبل مهدًا للتشيع وحب آل البيت، فقديمًا قامت بلاد العراق بنصرة على بن أبى طالب وقامت لتثأر بالحسين بن على وجاهدت في نصرة زيد بن الحسين وابنه يحيى، فلم تترك فرصة لذلك إلا انتهزتها ثم اختاروا بلاد خراسان لتكون مشرقًا لقوتهم، وكان الذين دخلوا في الإسلام من الفرس أقرب من غيرهم إلى التأثر بآراء الشيعة، لأنهم لا يفرقون بين خلافة وملك وكان الملك عندهم ينال بالإرث وهو منحة يمنحها الله للأسرة المالكة فمن عارضها فيه فهو خارج عليها يستحق المقت واللعنة فإذا ألقى إليهم في التعاليم أن بني أمية غصبوا أهل بيت النبى حقهم سهلت إلى ذلك إجابتهم واعتقدوا أن بني أمية يجب قتالهم وتخليص هذا الحق المقدس منهم، ولهذا كان من الوصايا التي بنيت عليها سياسة الدعوة العباسية:

«إن قُدرت ألا تبقى بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل» وهي وصية لم تلاحظ فيها العواقب البعيدة وإنما لوحظت فيها الفوائد العاجلة..

ويقول الدكتور حسين إبراهيم حسن: إن قتل الحسين كان قد آثار حماسة المسلمين فتوحدت صفوف الشيعة، وزادت الدعوة لآل على قوة، واشتد العداء بين الأمويين والعلويين الذين أثاروا الفتن والثورات في الولايات الإسلامية ثم حدثت هذه الحادثة الهامة في تاريخ الشيعة، وهي انتقال حق الامامة من بيت على إلى بيت العباس على يد أبى هاشم بن محمد بن الحنفية..

ففي سنة 98هـ استدعى الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك أبا هاشم وأكرم وفادته، وأظهر التودد له، ولكنه دبر أمر قتله خشية أن يدعو إلى نفسه فدس له من سمه، وقيل أن أبا هاشم لما شعر بدنو أجله، قصد محمدًا هذا، وأفضى إليه بأسرار الدعوة الهاشمية، ونزل له عن حقه في الإمامة وأمده بأسماء داعى دعاته في الكوفة، ومن يليه من الدعاة، كما سلمة رسائل يقدمها إليهم..

«بذلك تحول حق الإمامة من العلويين الى العباسيين، وكان المسلمون منذ وفاة الرسول لم يرشحوا للخلافة أحدًا من بنى هاشم إلا على بن أبي طالب وأولاده ولم تتجه الأنظار إلى العباس عم النبى بعد وفاته لأنه لم يكن من السابقين إلى الإسلام، ومن ثم لم يرشح للخلافة هو ولا أولاده من بعده..

وكانت العلاقة بين بنى هاشم علويين وعباسيين، تقوم على الود والصفاء وكان البيتان متحدين على العدو المشترك وهو بنو أمية، إلى أن انتقل حق الإمامة من العلويين إلى العباسيين بنزول أبي هاشم بن محمد بن الحنفية.

وكان العباسيون أكثر كفاية ونشاطًا في الناحية السياسية من العلويين، وأكثر تطلعًا منهم إلى النفوذ والسلطان، وقد قيل إن أبا هاشم إنما فعل ذلك لأنه لم يجد بين أفراد البيت العلوى من يستطيع النهوض بأعباء امامة المسلمين أضف الى ذلك اختلاف الشيعة الكيسانية أنصار أبى هاشم عن اعتقاد الشيعة الإمامية أنصار أولاد فاطمة، على أن هناك مسألة جديرة بالملاحظة وهي أن نزول أبي هاشم بن محمد بن الحنفية لا يمكن أن يعتبر نزولا من العلويين جميعًا، لأن فريقًا كبيرًا منهم ظل متمسكًا بعقائد الشيعة الإمامية بدليل قيامهم في وجه العباسيين بعد قيام دولتهم..

وسوف نري بعد ذلك أن هذه الدولة الجديدة قد شهدت أعنف انشقاق بين جناحيها الأساسيين.. العلويين والعباسيين.. وأن هذا الانشقاق قد خضب بالدماء، وسيق إليه المسلمون في حروب دموية.

فما أن استقر الأمر للعباسيين، حتى بدأوا يدعمون سلطانهم، ونفوذهم ويقضون علي كل القوي المناوئة، أو التي يخشى منها.. وكان في مقدمة هذه القوى العلويون الذين ذاقوا مرارة الاضطهاد في جميع العهود..

لم تقم الدولة على الدعوة والدعاة كما بدأت فسرعان ما تحولت إلى دولة دموية.. قامت بحد السيف الذى اشهرته في وجوه أعدائها.. وأنصارها لا تفرقة بينهم في المواجهة والقتل..

وكان الضحايا.. من الأعداء، ومن الأنصار أيضًا..

واتبعت الدولة العباسية من وسائل الإرهاب وبشاعة الانتقام ما لم تقم به الدولة السابقة في وقت كان الظن أن هذه الدولة الجديدة أقرب إلى فهم الإسلام وإلى اتباع قواعده، ولكنها في حقيقة الأمر كانت أكثر ابتعادًا عن الإسلام وأكثر اتجاها إلى السياسة..

ورغم أن هذه الدولة الجديدة تُنسب إلي أهل بيت الرسول.. كانت لأغلب حُكامها مواقف وممارسات دينية سليمة فقد تمسكوا بالشكل، ولكنهم ابتعدوا في الحقيقة عن المضمون عن قواعد الإسلام الصحيح.. إذ انغمسوا في السياسة التي تتنافي مع كل القيم وكل القواعد والبعيدة عن الدين تمامًا فوصموا الدين بما هو برئ منه..

رغم الممارسة الفاجرة، والفساد والإفساد، والظلم والوحشية، وابتعادهم عن العدل فقد مزجوا الدين بالسياسة علي نحو مموج، وادعوا أنهم خلفاء الله بحيث لا يسائلهم أحد، فقد جاءتهم الخلافة عن طريق الوراثة.. وأجبروا الناس أن ينظروا إليهم علي أنهم أمراء دينيون، وأن حكومتهم - هذه - دينية.

ولما كانوا يميلوا الى الفرس، فقد أصبح نظام الحكم عندهم مماثلا لما كان في بلاد فارس.. وتولي الوزارة منهم من أصل فارسى، وأديرت الدولة بنفس نظام الإمبراطورية الفارسية واحتفلت بالأعياد الفارسية، وأحيط الخليفة بالرهبة والأبهة والعظمة. ينحنى أمامه من يدخل عليه ويقبل الأرض بين يديه، ودخلت الأزياء الفارسية البلاط، وبدت حكومة العباسيين ملكية وراثية استبدادية، ولأصباغ الصبغة الدينية علي الخليفة فقد ارتدى عند توليه أو حضوره الحفلات الدينية بردة النبي الكريم رمزًا دينيًا لا يخطئ أحد في فهم الأسباب التي دفعت إليه.. وتلقب الخليفة رسميًا بلقب الإمام الذي كان يطلق من قبل على من يؤم المسلمين فى الصلاة، أو يطلق على العلويين الذين كانوا يرون أنهم الأحق بالخلافة، وهكذا فإن العهد الجديد.. استند إلى نظرية ليس لها وجود في الإسلام علي الإطلاق، وهي نظرية الحق الالهي..

وقد استمرت هذه الخلافة حتى دخل «هولاكو التتارى» بغداد، واستقر في قصر المأمونية، وذبح السكان كما تذبح الشياة، وأحرق المدينة، وأتلف مساجدها وخرب شوارعها، وقتل آخر خلفائهم المعتصم وأولاده، ثم واصل التتار مسيرتهم..

كانت هذه النهاية بالقتل.. ولم تكن البداية مختلفة كثيرًا من حيث الممارسة.. فقد بدأت - الدولة - كما انتهت بالقتل وسفك الدماء...


صورة من المقال:



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.